العراق القشة التي قصمت ظهر البعير، علاء الأعرجي

العراق: القشة التي قصمت ظهر البعير، نشرت في صحيفة "القدس العربي"(لندن)، في 8-9/9/2007، كتابها علاء الدين الأعرجي.


هل ستتحطم سفينة الإمبراطورية المتجبرة على صخور العراق؟

هل سقوط أمريكا يعني سقوط الحضارة الحديثة؟

السفينة الآيلة إلى الغرق

"سفينتنا تواجه بحرا هائجا، ويجب أن تغير مسارها"، يقول لي هاملتون ( 6/12/ 2006)، الرئيس المشارك مع جيمس بيكر، للفريق الذي شكله الكونغرس، للقيام بـ"دراسة قضية العراق". والسؤال الكبير والخطير هو: هل ستتحطم هذه السفينة ، التي دفعتها رياح الطمع بالسيطرة على ثروات العراق بل المنطقة بكاملها، فضلا عن تأمين مستقبل إسرائيل وأمنها وسيطرتها على المنطقة العربية نهائيا، والغرور بالقوة والجبروت، دفعتها هذه الأسباب غير المعلنة، إلى هذه الرحلة التي اعتبرها الرئيس بوش نزهة بحرية مثيرة في مياه الخليج العربي الهادئة والدافئة، يجرب خلالها آخر مبتكرات أمريكا من "الألعاب النارية"؟؛ أقول: هل ستتحطم هذه السفينة الباذخة والمجهزة بآخر معدات التدمير الحديثة، على سواحل العراق الصخرية الوعرة، قبل أن يتمكن ربانها الماهر والحائر، من تغيير مسارها كما يريد هاملتون ؟ ذلك لان تغيير المسار قد يبدو شاقا جدا، أو ربما مستحيلا، بعد أن دخلت السفينة في متاهات تيارات "الخليج" الجارفة والخطرة، حيث تتكاثر الشِعاب الحادة، في وقت تواجه فيه أعاصير كاسحة، أدت إلى تعرضها لأضرار جسيمة، فتصدّعتْ أركانها واختل توازنها. . .!

روبرت فيسك في صحيفة إنديـبندنت البريطانية (7/12/2006)، يؤكد حقيقة هذه السفينة المعطوبة والآيلة إلى الغرق تحت عنوان"الإمبراطورية الرومانية تسقط وتستـنجد بإيران و سورية "

تقرير بيكر – هاملتون بشأن الحرب على العراق، له دلالات عميقة وصريحة، تدخل معظمها في خانة الفشل، وربما اليأس من إنقاذ أمريكا من المستنقع الذي وقعت فيه في العراق. وبهذا الصدد يقول روبرت فيسك، في نفس المقال،" إن أمريكا لم تعد تهتم بمصير العراقيين، بل بخروجها من هذه المحنة ببعض من ماء الوجه. فهل ستتمكن من ذلك؟"

الإمبراطورية الأمريكية العظمى تندحر أمام عصابات متمردة

أمريكا هذه الدولة العظمى بجيوشها ومعداتها وأسلحتها الخرافية، التي لا يشق لها غبار، تندحر أمام حركة مقاومة أو "إرهاب"، سمها ما شئت، وفي كل الأحوال تتكون من "عصابات" من "المتمردين insurgents"، كما يسمونهم. هذه هزيمة تتجاوز بمراحل كبيرة هزيمتها في فيتنام(أصبح عدد القتلى من الجنود الأمريكيين الرسميين فقط3690 قتيلا تقريبا، منذ بداية الحرب على العراق بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين والمرضى بالانهيار العصبي). فقد كانت أمريكا تواجه هناك جيشا نظاميا عظيما ودولة قائمة فعلا في فيتنام الشمالية، يدعمها ويساعدها بالمال والسلاح كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، كعملاقين دوليين، مما قد يبرر، إلى حد ما، فشلها في ذلك الوقت. أما "المقاومة" العراقية (أو المتمردون كما يطلقون عليهم) فهي عصابات متفرقة، تحارب بمعدات خفيفة، وليس وراءها قوى عظمى، مع ذلك فهي منظمة، مؤثرة و كاسحة، إلى حد جعلت القوة الأمريكية الضاربة تقف عاجزة عن قهرها خلال أكثر من أربعة أعوام. بل إلى حد أصبح جميع "الديمقراطيين" الذين يشكلون الأغلبية في الكونغرس الأمريكي ، وعدد من "الجمهوريين"، يطالبون الإدارة الأمريكية بالانسحاب من العراق، بأشكال قد تختلف في تفصيلاتها، ولكنها تتفق في نتائجها. كما أكد تقرير هاملتون- بيكر (دراسة العراق) على وجوب الانسحاب الكامل من العراق، وعدم الاحتفاظ بأية قواعد عسكرية دائمة في العراق، والتأكيد عمليا على عدم نية أمريكا بالاستيلاء على نفط العراق.

ويمكن أن نستنج من هذا التقرير أن سياسة الإدارة الأمريكية الخارجية، خصوصا فيما يتعلق بالعراق وأفغانستان وفلسطين، قد فشلت، وليس هناك أمل في إنقاذها إلا إذا تغيرت، استراتيجيتها 180 درجة. ومع ذلك لم يأخذ الرئيس بوش بالتوصيات التي وردت في التقرير لأنه غير مستعد لتغيير سياسته. بل على العكس من ذلك ركب رأسه وأرسل قرابة العشرين ألفا من القوات الأمريكية الإضافية إلى العراق. وصرح أن استراتيجيته صحيحة. إلا أن أمريكا تنازلت أخيرا بالجلوس مع إيران وسورية، بل عقدت قبل فترة قصيرة (8/8/2007 ) مؤتمرا في دمشق لمعالجة الأمن العراقي، الأمر الذي يدل على تخبط الإدارة الأمريكية في سياستها. كما أن أمريكا راحت تستنجد بالأمم المتحدة لإنقاذها من محنتها بعد أن كانت تتحاشى تدخلها سابقا، بل خالفتها صراحة، قولا، كما صرح الرئيس بوش قبيل الحرب على العراق، وحقيقة حينما شن الحرب عليها. (انظر أدناه خلاصة تقرير ديفد وولكر، المراقب العام الأمريكي للنفقات، الصادر مؤخرا(15/8/2007) بنفس المعنى).

كل ذلك، هل يدل على قرب أجل أكبر وأقوى دولة في التاريخ؟

وعلى نطاق أوسع ، يمكن أن نطرح هذا السؤال الأخطر: هل يعني ذلك بداية النهاية لسقوط الحضارة الغربية عموما؟

لذلك سنستعرض بسرعة آراء بعض من فلاسفة التاريخ في هذا الشأن.

دورة حياة الحضارات من ابن خلدون إلى توينبي إلى كنيدي

منذ أكثر من ستة قرون أكتشف ابن خلدون، الذي احتفلنا بذكراه المئوية السادسة في العام الماضي( توفى في عام 1406)، حقيقة تاريخية مهمة، ظلت تؤكد نفسها عمليا، عبر التاريخ البشري، ونظريا خلال الدراسات التاريخية التي أجريت على الحضارات، منذ ظهور أول الحضارات المعروفة في وادي الرافدين، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة ، ابتداء من الحضارة السومرية، وهي أقدم حضارة بشرية معروفة، كما يقول نوح كريمر، في كتابه "التاريخ يبدأ في سومر The History Begins at Sumer". وتقضي هذه الحقيقة بأن للحضارة عمرا معينا، يشبه أعمار البشر: ولادة، طفولة، شباب، شيخوخة، وفاة. وبعد عدة قرون من ظهور دراسة ابن خلدون، قام باحثون غربيون، بتناول نفس الموضوع تقريبا، من أشهرهم أزولد شبنغلر الألماني وأرنولد توينبي البريطاني.

ففي دراسته الشاملة التي صدرت أول مرة في عام 1920، في ميونيخ (المانيا)، تحت عنوان"انحلال الغرب The Decline of the West "، توقع " أزولد اشبنغلر"، تدهور الحضارة الغربية بما فيها الأمريكية. وهو يعود ليؤكد نظرية ابن خلدون في مراحل الحضارة (التي يربطها ابن خلدون بالدولة): الولادة والطفولة المبكرة فالشباب ثم خريف العمر حيث تجني الحضارة حصيلة منجزاتها الكبرى ، ثم تبدأ بالتدهور فالانحطاط فالموت.

وجدير بالذكر، أن اشبنغلر يرى أن الحضارة العربية الإسلامية استطاعت أن تنسق بين حضارات هرمة في المنطقة، أهمها الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية ودولة الحميرين اليهودية في الجنوب. ويقول"إن هذا العالم المشتت الأطراف، لم يستطع أن يشعر بوحدته إلا على يد الإسلام. وهذا هو سر نجاحه الهائل السريع".

أما توينبي فيعتبر ابن خلدون من أعظم المفكرين في التاريخ، ويرى في كتابه الموسوعي الذي يتألف من 13 مجلدا، تحت عنوان"دراسة للتاريخ Study of History " أن أربع عشرة حضارة قد بادت، من مجموع 21 حضارة مرت في التاريخ، أما الحضارة الغربية فيقول إن مصيرها غير معروف حتى الآن.

ويتوقع بول كنيدي، الذي نشر كتابه" نهوض وسقوط القوى العظمىRise and Fall of the Great Powers The " منذ عشرين عاما، أن تخضع أمريكا، كدولة إمبريالية، لنفس مصير الإمبراطوريات العظمى التي نهضت ثم هبطت ابتداء من سقوط القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، في عام 1453، ثم نهوض الإمبراطورية العثمانية فسقوطها، إلى نهوض الإمبراطورية البريطانية في العصر الفكتوري، ثم تدهورها. وهو يرى أن أمريكا تتعرض اليوم لنفس الخطر الذي تعرضت له القوى العظمى سابقا . وذلك بسبب ما يمكن أن أسماه " التوسع الإمبريالي المفرط imperial overstretch" .ويقول"إن على صانعي القرار في الولايات المتحدة أن يواجهوا الحقيقة المرة والثابتة في أن النتيجة النهائية لمصالح والتزامات هذه الدولة اليوم، تتجاوز كثيرا قدرات البلد على تحملها والدفاع عنها جميعا"(ص515، ط 1987). وهذا ما يحدث اليوم فعلا لهذه الدولة العظمى. وقد تنبأ كنيدي قبل الحرب على العراق، أن أمريكا ستواجه مقاومة شعبية قادرة على إلحاق الهزيمة بها.

إن ما ذكره كنيدي حول التوسع الإمبريالي المفرط، ينسجم تماما مع التقرير الذي صدر مؤخرا(15/8/2007) من المراقب العام الأمريكي للنفقات، ديفد وولكر الذي يتضمن تقييما كئيبا لمستقبل البلاد. فبعد أن يفصِّل أبعاد الأزمة المالية الخانقة التي تتعرض لها أمريكا من خلال ديونها المتزايدة وعجز الميزانية الهائل، فضلا عن إشارته إلى حادثة انهيار الجسر الكبير على نهر المسسيبي، وما تحتاجه بلاده من مئات البلايين من الدولارات لإصلاح الجسور والبنية التحتية، يقارن الوضع الذي تتعرض له أمريكا بالوضع الذي كانت عليه الإمبراطورية الرومانية قبيل سقوطها. فيقول إن هناك "تشابها صاعقا بين الحالة الراهنة التي تمر بها الولايات المتحدة والعوامل التي أطاحت بروما بما فيها "انحدار مستوى القيم الأخلاقية والكياسة السياسية في الداخل، والمبالغة في الثقة بالنفس(وهو تعبير مخفف لمعنى الغطرسة) والمبالغة في التوسع العسكري في الأراضي الأجنبية، واللامبالاة المالية التي توليها الحكومة المركزية". وهذا يتطابق أيضا مع ما أشار إليه روبرت فيسك أعلاه.

ونعود لنطرح السؤال بصيغة محددة أكثر: هل أن فشل أمريكا في العراق سيشكل بداية سقوط الحضارة الحديثة عموما؟

اختلاف الحضارة الحديثة عن الحضارات السابقة

وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نلاحظ عدة نقاط، من أهمها أن هذه الحضارة، قد تختلف عن بقية الحضارات التي سبقتها، نوعيا وجذريا، من عدة جوانب :

1- أنها لم تعد حضارة غربية حصرا، بل أصبحت حضارة عالمية، إلى حد كبير، بدليل انتقال الكثير من خصائصها، سواء السطحية أو الجذرية، إلى الكثير من المجتمعات المعاصرة. فقد عمّت السطحية الاستهلاكية منها، جميع أصقاع العالم تقريبا، ولاسيما العربية الغنية. كما توطدت خصائصها الجذرية الإنتاجية والتنظيمية، في بعض بلدان الشرق الأقصى، ومنها اليابان وبلدان النمور الآسيوية، وهي في طريقها إلى الهند والصين، مثلا ، وربما إلى مجتمعات أخرى. وأصبحت العولمة، في بعض جوانبها الاستهلاكية على الأقل، ابتداء من استخدامات الطاقة الحرارية فالكهربائية المتعددة، إلى وسائط النقل الحديثة ووسائل الاتصالات والمعلومات بما فيها الكومبيوترات الشخصية. . . حقيقة واقعة يستخدمها عموم الناس في مختلف أصقاع العالم.

2- أنها حضارة لها وجوه وسمات متعددة، ومتناقضة كل التناقض أحيانا، فمنها الصالح ومنها الطالح، بالمفهوم الإنساني المطلق. ففي وجهها الأول يدخل، بين أمور أخرى، تقدم البشرية ، بوجه عام، ولاسيما من حيث السعي لتوفير وسائل العيش الكريم للجماهير والقضاء على أخطر الأمراض التي كانت تفتك بالبشر،(باستثناء أمراض الأيدز والسرطان، التي ما تزال مستعصية) وتعميم وسائل المواصلات السريعة والمريحة، ووسائط الاتصالات والتخاطب ونشر المعلومات والمعارف والأفكار، الأمر الذي لم يكن متاحا في السابق، ونشر مبادئ حقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير والديمقراطية والحكم الصالح وحرية محاسبة الزعيم المنتخب وتغييره. أما في وجهها الطالح أو الكالح، فيتجلى في كثير من الأمور منها:

أ: الحروب الكاسحة، التي تستخدم فيها أسلحة الإبادة الجماعية، التي أدت إلى الفتك بالملايين وتشريدهم، كما حدث بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001. كما يتجلى ذلك الوجه الطالح أيضا في القدرة على إفناء مئات الآلاف في لحظات ، كما حدث فعلا في نيكاراغوا وناغازاكي؛

ب: تلويث البيئة الطبيعية وارتفاع درجات حرارة الأرض بسبب الغازات المنبعثة من المركبات والمصانع، وما يتبع ذلك من كوارث طبيعية وبشرية هائلة، قد تفضي إلى انقراض الأجناس . علما أن أمريكا مسؤولة عن أكثر من خمسين في المائة من هذا التلوث، ومع ذلك ترفض تصديق معاهدة "كيوتو" في المحافظة على البيئة ؛

ج: قيام رموزها (ولاسيما أمريكا) باستغلال ثروات الشعوب الضعيفة والمتخلفة، بل نهب مواردها الطبيعية والبشرية، والكيل بمكيالين في السياسة الخارجية، بل تشجيع النظم الاستبدادية الحليفة ورفض النظم الديمقراطية المعادية لها. وانتهاك حقوق الإنسان في الأحوال التي توافق مصالح القوة الأعظم( في أبوغريب وغوانتنامو، مثلا)، وخضوع السياسة العامة للبلدان الصناعية لمصالح المؤسسات المالية والصناعية الكبرى والشركات العملاقة التي تستحوذ على معظم المرافق الإعلامية والمعلوماتية والمؤسسات غير الحكومية. ووجود فجوة كبيرة بين الطبقة الصغيرة المرفهة والطبقات الكبيرة المحرومة، أحيانا، أو المسحوقة أو المعدمة، أحيانا أخرى، في بعض البلدان الفقيرة أو المتخلفة، ولاسيما الآسيوية والأفريقية.

لذلك نرى أن الإدارة الأمريكية، وبالتالي أمريكا، تمثل الوجه البشع من الحضارة الحديثة ، لأنها تخالف الكثير من مبادئها الأساسية لاسيما المتعلقة بحقوق الإنسان والمساواة بين البشر والعدالة الاجتماعية، فضلا عن مخالفتها الصارخة للتشريعات الدولية الإنسانية المثبتة في وثائق الأمم المتحدة. بل هي تتناقض مع تلك الحضارة لأنها تؤيد وتدعم وتسلح أخطر وأشرس نظام عنصري قام على اغتصاب حق شعب آخر في الوجود وتقرير المصير، ويستند على التعصب الديني، ورفض الرأي الآخر، ونعني به إسرائيل، كما هو واضح.

3- ومن جهة أخرى، فإن من مميزات الحضارة الحديثة أنها قادرة، في الغالب، على ترميم الذات وتضميد الجراح من الداخل، وذلك لوجود مبادئ أساسية تظل قائمة ومؤسسات أهلية أو شعبية وأكاديمية حرة ومؤثرة ، وهذه تعتمد على المبادئ الديمقراطية الأساسية في حرية الفكر والتعبير والنشر، التي تستطيع المعارضة من خلالها أن تقوم بدورها في النقد عن طريق وسائط الإعلام الحرة أو المعارضة للنظام ، بل المؤيدة للحكومة التي تضطر لنشر ومناقشة ما يحدث على صعيد الشارع. لذلك تتغير الإدارة وتـُتداول السلطة. كما يحدث فعلا اليوم في أمريكا، مثلا، حينما فشل الجمهوريون وربح الديمقراطيون في انتخابات الكونغرس التي جرت في العام الماضي، فأصبحوا يمثلون الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ. ومع ذلك فإن هذا الشـَق الذي أحدثته الإدارة الأمريكية في غزوها للعراق سيصعب رتقه ، حتى على الإدارة الديمقراطية، إذا نجحت في انتخابات الرئاسة العام القادم. بل يبدو لي من خلال متابعتي لمناقشات وتصريحات المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، أنهم قليلو الحيلة أمام الورطة التي وقعت فيها أمريكا. فالبقاء في العراق كارثة والخروج منه كارثة اكبر، بالنسبة لأمريكا. كما أن هناك عقبة كأداء تقف أمام جميع العاملين في الحقل السياسي الأمريكي في السلطتين التنفيذية والتشريعية وهو اللوبي الصهيوني في واشنطن الذي يضع مصلحة إسرائيل فوق مصلحة أمريكا والشعب الأمريكي، ومع ذلك لا يجرأ أحد أن يمسه، ناهيك عن تحديه.

4- وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الحضارة، التي أصبحت عالمية، كما أسلفنا، تتميز عن غيرها من الحضارات السابقة بكونها تتجدد باستمرار. فعلى وجه العموم، وصلت الحضارات الأخرى الماضية مراحل متقدمة نسبيا، اعتـُبرت القمة في زمانها ، ثم توقـفت وركدت فأسِنت، ثم انحدرت تدريجيا إلى الأسفل. أما الحضارة الحديثة، فإنها قائمة أصلا على التغيير والتطوير. فنحن نشهد ثورة علمية أو معرفية تتفجر وتتسارع كل بضعة عقود، ابتداء من الثورات الصناعية المتعاقبة، إلى ثورات الإعلام والتحكم، إلى ثورات غزو الفضاء الخارجي واكتشاف أسرار الكون إلى حل ألغاز الشفرة الحياتية الـ "Genome ". بل اصبح العالم يتقدم علميا ومعرفيا في كل عقد بما يوازي تقدمه ألف عام مضى ، على وجه التقريب والتبسيط . وتبعا للتغيرات العلمية والتكنولوجية والمعرفية يتغير "العقل المجتمعي"، بما فيه من عادات وأعراف وآراء، وتتغير بالتالي المبادئ والقيم والمعتقدات.

والخلاصة، فإن هذه الحضارة تحمل عناصر تقدمها وتطورها ، وفي ذات الوقت تحمل عناصر انهيارها ودمارها، ويعتمد بقاؤها أو عدمه، على تغلب كفة أحد العناصر على كفة العناصر الأخرى.

ومع ذلك، أرى أن ليس للعرب خلاص مما هم فيه إلا بالأخذ بالحضارة الحديثة في جوانبها الأساسية: لاسيما العلم والمعرفة والصناعة الثقيلة وحرية الفكر والتعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلا عن تنظيماتها ومؤسستها الأساسية، وذلك لمحاربة الغرب بنفس أسلحته، كما ينصح به أرنولد توينبي البريطاني في كتابه "العالم والغرب".

والسؤال الأخير الذي يتعلق بنفس الموضوع، نطرحه على المثقفين والمفكرين العرب هو: هل ستنجح الحركات الإسلامية الجهادية المتطرفة، في ترويض أمريكا وربما قهر إسرائيل، على المدى البعيد ؟ وإذا نجحت فعلا، كما يبدو حتى الآن ، فماذا ستكون النتيجة!!؟؟