الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب الثاني)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثاني: محاولات أخيرة للإجهـاز علي الجـريح

الفصل الأول: قانون الجمعيات

مقـدمـة

اعتقد الإخوان ، واعتقد أكثر الناس بأن معاناتهم ومعاناة الإخوان قد آن لها أن تنتهي بعد أن عملوا بكل جهودهم علي إسقاط السعديين وتم ذلك بنجاح " الوفد " في الانتخابات ، وتقديمه ليتسلم زمام الحكم غير منازع بالأغلبية الساحقة التي أولوه إياها ، وهي أغلبية تكاد تكون إجماعا .. لاسيما وأن حصوله علي هذه الأغلبية قد جاءه علي يأس ، وكانت قد سدت أمامه السبل . ولم يأل المسئولون في الوفد جهدا في قطع العهود علي أنفسهم وعلي حكومتهم المستقيلة ألا يبقوا من عهد السعديين علي أثره ، وأن يردوا إلي الشعب وإلي الإخوان المسلمين كل ما سلب من حقوقهم ، وأن يعوضوهم عما أصابهم . وكان الجميع يعرفون أن الورقة الرابحة الوحيدة التي لعب بها الوفد في هذه الانتخابات ضد خصومه إنما هي ورقة الإخوان المسلمين ، وهي التي جعلته يكتسح اكتساحا ، وجعلت مرشحي خصومه يتوارون من الناس خجلا ، وجعلتهم سخرية للناخبين .

وتسلم الوفد بكل جدارة أزمة الحكم . وأخذ الناس يتطلعون أن توافيهم الإذاعة وتطالعهم الصحف في صبيحة اليوم التالي بالنبأ المرتقب الذي ترتقبه كل نفس في البلاد وهو إلغاء الأحكام العرفية بكل ما نجم عنها وما ترتب عليها ... ولكن طال أمد الانتظار ، ومرت الأيام تباعا دون أن يحقق للناس ما يأملون .. فكثر القيل والقال ، واستبد بالناس القلق ، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم ، ويوجهون الأسئلة المشوبة بالغضب إلي ممثليهم في مجلس النواب .. ووجد سكرتير الوفد ووزير الداخلية الأستاذ فؤاد سراج الدين أن لابد من إجابة علي هذه الأسئلة الملحة ، فصرح سيادته في 18 يناير 1950 بالتصريح التالي :

" أن الوزارة قبل أن تقدم علي رفع الأحكام العرفية ستنتظر حتى تسن قوانين لحماية البلاد ولحماية الأمن ، ومن ضمنها تشريع خاص بالجمعيات ينظمها ويجعلها لا تحيد عن الطريق الذي أنشئت من أجله ، ومن بينها الجمعيات التي تنشأ لأغراض دينية بحتة " .

تصريح فاجأ الناس ودهمهم وصدمهم وخيب أمالهم ، وزعزع ثقتهم في هذا الحزب لنقضه عهوده أثناء الانتخابات . وهذا التصريح المخيب للآمال يضطرنا إلي أن ترجع القارئ قليلا إلي الوراء .. إلي عهد السعديين لنفتش عن أواصر القربى التي ربطت بين حزب الوفد وبينهم ، والتي تدلنا علي أنهما – ولا اختلفا في المظهر فإنهما يستقيان من معين آسن واحد . قدمنا أن إبراهيم عبد الهادي حين آذنت الدورة الأخيرة لبرلمانه بانتهاء ، واستقر في علمه أنه مهما طال الزمن وهو علي رأس الوزارة فلابد أنه مواجه يوما من الأيام ترفع فيه الأحكام العرفية .. ولما كانت الإجراءات الشاذة المعلنة علي الإخوان المسلمين مرتبطة بوجود هذه الأحكام – نها مستمدة منها – فلابد لتأييد هذه الإجراءات من تشريع يسن بالطريق " الديمقراطي " يتضمن كل هذه الإجراءات والقيود .. ومثل هذا التشريع " الديمقراطي " يتطلب أن تضع الحكومة مشروع هذا القانون ، وتضمنه ما تشاء من قيود وشروط ، ثم تعرضه علي مجلس النواب فمجلس الشيوخ .. فإذا وافقنا عليه وقعه الملك وصار قانونا نافذ المفعول يلتزم به الشعب وتحكم به المحاكم . ولما كان التشريع لا يكون تشريعا حتى تكون له صفة العموم ، فلا يجوز أن يسن تشريع لفتة خاصة من الشعب أو لطائفة معينة منه ، فكان لابد من البحث عن صيغة يكون المقصود منها تقييد نشاط الإخوان المسلمين ووضع العقبات في طريقهم وتأخذ في نفس الوقت صفة العموم ... وكان أن تمخض تفكير مستشاريه القانونيين عن سن تشريع للجمعيات عامة .

وطلب عبد الهادي من حكومته وضع المشروع . فوضعته في الإطار الذي يروقه ويستوفي كل ما انطوت عليه جوانحه من ظلام وحقد .. وأحيل المشروع إلي مجلسالنواب ، الذي أحاله بدوره – كالمعتاد – إلي هيئة تضم لجنتي الشئون الداخلية والعمل .. وكانت هذه الهيئة تفهم أن مهمتها تقتصر علي تبرير ما تضمنه المشروع من أحكام جائرة ، واستحداث مواد جديدة تضيفها إلي المشروع تزيده جورا وظلما وخروجا علي العرف والدستور والقانون .. وإن سمت ذلك تأكيدا للحريات وحفاظا علي الدستور . ولم يتعجل عبد الهادي برلمانه في نظر المشروع وإقراره – ولو شاء أنتم له بذلك في يوم وليلة – بل تمهل – كما قلنا من قبل – لأنه كان واثقا من أن خمس سنوات طوالا هيفي انتظاره ليقضيها علي رأس الحكومة القادمة ببرلمانه الجديد . وأتمت هذه الهيئة البرلمانية تقريرها عن هذا المشروع في النصف الأول من شهر يوليو 1949 ، وتوطئة لعرضه علي مجلس النواب فمجلسالشيوخ .. وقد رأينا أن نطلع القارئ علي ملخص لهذا التقرير حتى يري بنفسه ما كان يعده هذا العهد البغيض للإخوان المسلمين خاصة وللشعب عامة من أغلال تشل يديه ورجليه ، و تكمم أنفاسه ، وتقتل إنسانيته ، وتلغي شخصيته : مشروع قانون الجمعيات في عهد عبد الهادي وتعديلات لجنة النواب عليه

" انتهت الهيئة المكونة من لجنة الشئون الداخلية ولجنة الشئون الاجتماعية والعمل في مجلس النواب من نظر القانون الخاص بالجمعيات ،وأدخلت عليه بعض التعديلات . وفيما يلي نص تقرير اللجنة :

دعا منطق الحوادث إلي وجوب تلاقي النقص في التشريع لتنظيم الجمعيات . فلا يظل أمر تكوينها فوضي ، تندس فيها العناصر الخطرة فتنحرف بها عن الطريق السوي ، وتطوح بها إلي هوة الجريمة السحيقة فتقوض أركان الأمن والنظام . فالتحرر في أمر تكوينها ، والتأكد من أنها أمينة علي الغرض الذي قامت من أجله أمر لا جدال فيه ، لتأمن الجرائم التي تدبر في الخفاء ، والتي لو تركت لاستشري خطرها ، وهزت كيان الأمة هزا فتعوقها من اللحاق بركب التقدم والازدهار الذي أخذت نفسها به . وهذا التشريع إنما هو استكمال حق مقرر بمقتضي الدستور ، والذي مؤداه : " أن للمصريين حق تكوين الجمعيات . وكيفية استعمال هذا الحق يبينها الدستور " . لم يتعرض هذا المشروع للجمعيات إلا بالقدر اللازم لوقاية الأمن والنظام ، لذا تراه لا يتعرض للجمعيات التي ترمي للربح المادي لأعضائها ، ولا للجمعيات والمؤسسات المنظمة بقوانين أخري ، ولا للهيئات المركزية للأحزاب السياسية الحالية لوضوح أغراض تلك الأحزاب ، ولقيامها منذ فجر الحركة الوطنية – وإن كان يجدر وضع تشريع خاص بها أسوة بما هو منبع في أكثر البلاد الأجنبية ، لما لها من أكبر الأثر في حياة البلاد البرلمانية والاجتماعية .

•استصدار إذن :

وقد نص علي اشتراط استصدار إذن في حالة انضمام الموظفين والطلبة للجمعيات يكون من رئيس المصلحة بالنسبة للأولين ومن دور التعليم بالنسبة للآخرين ، حتى لا يكون التحاق الموظف بجمعية مدعاة لأضرار أهونها عدم قيامه بعمله علي خير وجه ، وللطالب انصرافه عن الدرس والتحصيل ، فتنضب ثروة الأمة المرتقبة من جهود شبابها المدخر الذين ينعقد عليهم مستقبلها ومجدها .

•مقر ثابت :

وقد فرض المشروع علي الجمعيات إخطار المحافظة أو المديرية عند إنشائها وموافاتها بالبيانات التي يهم السلطات العلم بها ، فإذا لم تعترض المحافظة أو المديرية في المدة المقررة كان للجمعية الحق أن تباشر عملها . كما نص علي أن يكون لتلك الجمعية مقر ثابت توجد فيه جميع أوراقها ، وأن تنشئ سجلات تدون فيها جميع قراراتها وكل ما يتعلق بنشاطها لتكون واضحة الغرض ، بينة المرمي ، وليسهل علي رجال الأمن أمر الإشراف علي تلك الأغراض ووسائل تحقيقها .

•قرار الحل :

والجمعية التي لا تلتزم أحكام هذا المشروع ، أو التي ترتكب مخالفة جسيمة ، أو تحيد عن هدفها ، تستهدف لقرار الحل من مجلس الوزراء . كذلك إذا قامت الجمعية بتدوين بيانات غير مطابقة للحقيقة في الإبلاغ أوالأخطار ، أو إذا قامت بما يخالف الآداب والنظام العام ، أو تعدت أغراضها الأساسية . ولا يعفي هذا من تطبيق العقوبات الأشد المنصوص عليها في القوانين الأخرى .

وقد رأت الهيئة في المادة (3) إشراك رئيس الجمعية في المسئولية عن الأحكام المنوه عنها في المادة الثالثة إمعانا في الحيطة والحذر ، فقد لا يكون الرئيس من الداعين إلي تأسيس الجمعية أو المؤسسين لها أو عضوا في مجلس إدارتها فيفلت من المسئولية المقررة في تلك المادة . كما أضافت الهيئة فقرة أخيرة إلي المادة (14) هذا نصها :

" إذا كان مرتكب هذه الجرائم كلها أو بعضها من الداعين لتأسيس الجمعية أو المؤسسين لها أو رئيسا لها أو عضوا في مجلس إدارتها حسب الأحوال ، وجب ألا تقل عقوبة الحبس عن ستة أشهر والغرامة عن مائة جنيه ، وذلك بفرض حد أدني لعقوبة من يرتكب جريمة من الجرائم المشار إليها في تلك المادة ؛ إذ أن مسئوليتهم في الواقع أشد ، وجريرتهم أنكي من باقي الأعضاء ، فلا أقل من أن ينص علي أخذهم بالشدة لضمان حد أدني لعقوبتهم فيكونون عبرة لغيرهم " . ولنفس السبب المتقدم أضافت الهيئة فقرة أخيرة للمادة (15) هي :

" فإذا كان مرتكب الجريمة من المنصوص عليهم في الفقرة الأخيرة من المادة السابقة وجب ألا تقل عقوبة الحبس عن شهر والغرامة عن عشرين جنيها " .

•رجال الضبط :

ورأت اللجنة بشأن المادة (16) الاكتفاء برجال الضبط القضائي في القيام بإثبات الجرائم التي ترتكب مخالفة لأحكام هذا القانون تمشيا مع نصوص مشروع قانون الإجراءات الجنائية .

•القضاء العادي :

ولاحظت اللجنة أنه قد يرد علي الخاطر لأول وهلة أن تقدير ركن العمد في تلك الجرائم وحق الحل كان يحسن إخضاعه للقضاء العادي أو الإداري تحقيقا للعدالة ، وتوكيدا للطمأنينة ، ودفعا لمظنتي الشطط والاضطهاد ، ولكن هذا الحق المعطي لمجلس الوزراء روعي فيه اتصاله بسياسة البلاد ومصيرها فوق اتصاله بأمنها ونظامها . فهو إذن مقرر لعلاج أمر يستدعي سرعة البت وقوة الحزم .. وهذا الحق لا يتأتي إلا لمجلس الوزراء المنوط به مصالح البلاد العليا ، ولا شك أنه في حكمه علي تلك الأمور سيكون مستهدفا الصالح العام وحده .

•قطع السبيل :

وقد أدي التشريع قطع السبيل علي الجمعيات التييصدر قرار بحلها من أن تعود بصورة من الصور ، وتحرز في ذلك بشتى الوسائل . كما أعطي مهلة شهرين للجمعيات التي يسري عليها أحكام هذا المشروع ومن انضم من الموظفين والطلبة إلي جمعية من الجمعيات لمراعاة تلك الأحكام ، واستيفاء البيانات والإجراءات التي أوجبها . وفي هذا المشروع دعم للأمن ، فينتشر علم الصفاء علي ربوع الوادي ، وتتضافر جهود الجمعيات لإقامة بناء مجده شامخا عزيز الجانب " .

هذا ما أعده عبد الهادي لتقييد الحريات

فما الذي فعله الوفد ؟

كان هذا هو تقرير الهيئة البرلمانية في عهد السعديين عن مشروع قانون الجمعيات الذي قدمه عبد الهادي إلي مجلس نوابه .. وكان مفروضا أن يعرض علي المجلس الذي كان سيسارع بكل قوة إلي قراره .. ولكن إرادة الله وقضاءه الذي لا يرد داهم عبد الهادي فجأة في يوم 26 يوليو 1949 بما لم يكن يحتسب ، فأقصي عن الحكم هو وجهازه الحكومي ، وهو في أوج سلطانه ، وعنفوانه تمكنه (         •   ) . وجاءت وزارة انتقالية برياسة حسين سري كانت مهمتها تجميد أعمال برلمان عبد الهادي حتى أصدرت مرسومًا في 5 نوفمبر بحله وحددت 2 يناير 1950 لإجراء انتخابات جديدة ، وأجريت الانتخابات التي تمخضت عن فوز حزب الوفد المكتسح الذي أشرنا إليه . وجاءت وزارة الوفد .. فانظر ماذا فعلت ، وماذا اتخذت من موقف .. موقف مثير للألم ، إزاء هذا الموضوع الخطير الذي كاد الناس يتهمون أسماعهم وأبصارهم حين رأوا تصرفات هذه الحكومة وسمعوا تصريحات المسئولين فيها .. ونحاول إن شاء الله في السطور التالية إحاطة القارئ علما بهذه التصريحات :

أولا : تصريح مذهل :

أصدرت الوزارة بلسان وزير داخليتها وسكرتير حزب الوفد التصريح الذي أشرنا إليه من قبل والذي صدم مشاعر الناس وأذهلهم .

ثانيا : الوفد يحمي ظهر عبد الهادي ويتحدي الشعب :

في 20 فبراير 1950 تقدمت حكومة الوفد إلي إلي مجلسالنواب بمشروع قانون لإلغاء الأحكام العرفية ، وكانت المادة الثانية منه تنص علي :

" عدم سماع أي دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في تصرفات الحاكم أو السلطة القائمة علي إجراء الأحكام العرفية " .

ومعني هذا النص أن تهدر حقوق جميع الذين أضيروا وعذبوا واضطهدوا وشردوا واعتدي عليهم وعلي أبنائهم وزوجاتهم وأهليهم ، فلا يكون لواحد من هؤلاء الحق في مقاضاة هذا الحاكم الظالم المعتدي حيث يحميه هذا النص ، ويجعله في حصانة من أن يطلب للمثول أمام القضاء . ولسنا ندري ما هي مصلحة حزب الوفد في حماية إجرام السعديين وتحصينهم ضد القضاء وضد من أضيروا من هذا الشعب الذي بوأهم مناصب الحكومة ليستردوا له حقوقه التي اغتصبها السعديون وداسوها بالنعال ؟ ولقد كان تضمين الحكومة مشروع القانون هذا النص صدمة للنواب الوفديين أنفسهم ، حتى أن أكثر من نائب منهم طالب بإلغاء هذه المادة . ولكن سراج الدين أصر عليها . فلما رأي الضغط شديدا من جانب النواب اقترح إبدالها بنص آخر تضمن نفس المعني بل إنه كان أشد إبرازا للمعني المرذول وهو : " أنه لا تسمع شكوى الشاكين أمام الجهة القضائية ضد أي عمل تولته السلطة القائمة علي إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها عملا بالسلطة المخولة لهم بمقتضي نظام الأحكام العرفية وفي حدود تلك الأحكام " .

وتكلم عدة نواب فعارضوا ذلك ، حتى أن العضو الدكتور محمد مندور – رحمه الله – استحلف النواب أن يؤيدوه في إعطاء الحق في مقاضاة الحكم العسكري وعماله إذا ثبت أنهم أساءوا استعمال السلطة التي خولت لهم . ولكن مصيبتنا في مصر هي أن مجالسنا النيابية التي كان مفروضا – كدأب البرلمانات – أن تكون رقيبة علي الحكومة ، لا يعرف أعضاؤها مهمة لهم إلا الولاء للحكومة ، والخضوع لها ، والتزلف إليها ، وخدمة أغراضها ، والتفاني في إرضائها مهما تعارض إرضاؤها مهما تعارض إرضاؤها مع مصلحة البلاد ومع حريات الشعب .. ولذا فقد نسي أعضاء هذا المجلس تعهداتهم لأهدل دوائهم الانتخابية ، ونسوا حق بلادهم ، وأعرضوا عن استخلاف زميلهم لهم ، وانطلقوا مؤيدين سيدهم وزير الداخلية .

•الوفد يستبقي الأمر العسكري بحل الإخوان :

أما المادة الثامنة من مشروع قانون إلغاء الأحكام العرفية ، فإنها تستبقي أو تنص علي استبقاء عدد من الأوامر العسكرية منها الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين .. وقد نوقشت هذه المادة طويلا في مجلس النواب ، نظرا لما فيها من تحد ظاهر لمشاعر الناخبين ، ومن حرج بالتالي لنواب هذا المجلس .. وطلب كثير من أعضاء المجلس بإلغاء هذا الأمر بالذات مباشرة ومن الآن . لكن سراج الدين وزير الداخلية وعبد الفتاح الطويل وزير العدل قررا أن هذا الأمر العسكري سيستمر حتى يصدر قانون الجمعيات – ومما قاله سراج الدين : " لقد كانت هذه الجماعة عليصلة طيبة بنا ، ولكننا لا ندري من الذي رج بها في ميدان السياسة ؟ " ثم طلب سراج ‘قفال باب المناقشة في هذا الموضوع . فصدع المجلس بالأمر .

ولما نظر مشروع قانون إلغاء الأحكام العرفية أمام اللجنة التشريعية بمجلس الشيوخ عدلت المادة الثامنة علي الوجه التالي . " استبقاء الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين لمدة سنة ، أو حتى يتم سن قانون الجمعيات أيهما تقدم . فإذا لم يصدر قانون الجمعيات في خلال هذه السنة ألغي الأمر العسكري تلقائيا " .

ثالثا : حادث تافه ولكن ذو دلالة :

في 29/3/1950 وقع حادث هي في حد ذاته تافه إلا أن له دلالات كبيرة ، ذلك أنه أمام مسجد المنيرة بالقاهرة – وهو مسجد كان يؤمه كثير من الإخوان في صلاة الجمعة – فبعد صلاة الجمعة في ذلك اليوم وزعت شارات الإخوان ... وقد قامت الحكومة لهذا الحادث التافه كأنه جريمة نكراء ، وأمرت الحكومة بإجراء تحقيق ، واعتبرت هذا التصرف مقصودا به إحراج حكومة الوفد مع الإخوان .. ولا ندري ما وجه الإحراج في هذا مع حكومة تعهدت من قبل أنها سترد للإخوان جميع حقوقهم حين تلي مناصب الحكم ؟! .

رابعا : الإخوان يبدون أستياءهم من مشروع القانون :

حين وجد الإخوان أن الحكومة مصممة علي سن قانون للجمعيات طلبوا إليها في 16/4/1950 أن تتمهل في إصداره ، وتعرضه أولا علي الهيئات والجمعيات لإبداء ملاحظاتها عليه قبل عرضه علي مجلس الوزراء والبرلمان ، وختم الإخوان مذكرتهم التي تقدموا بها إلي الحكومة بقولهم : " وكيفما كان الأمر قلن يتزحزح الإخوان عن أداء رسالتهم الكبرى كأصحاب دعوة تعمل لخير الوطن والإسلام " .

لم تستجب الحكومة لاقتراح الإخوان ، فتصدي أحد جهابذة القانون لمناقشة هذا المشروع عليصفحات الجرائد فنشرت " الأهرام " مقالا ضافيا للأستاذ حسن العشماوي باشا ، وهو وزير معارف سابق ومن كبار رجال القانون في مصر ، وكان عنوان المقال " حول تشريع الجمعيات " أثبت فيه أن القانون المزمع إصداره يتنافي مع الدستور ، وأن التشريع المصري في وضعه الحالي كفيل بضمان الأمن والنظام وعدم الانحراف عن النشاط المشروع ، وأنه كفل بذلك الحرية كما كفل الجزاء علي سوء استعمالها .

وبعد نشر هذا المقال بيومين نشر " الأهرام " الكلمة التالية : تلقينا كلمة من الأستاذين أحمد حسن الباقوري وكيل جمعية الإخوان المسلمين ومحمد طاهر الخشاب المحامي وعضو مكتب الإرشاد بالجمعية جاء فيها ما يلي :

" إذا كنا لا نملك حق الحديث عن الإخوان المسلمين ؛ لأن رئيس أية هيئة هو الذي يملك الحديث عنها ، لكن هناك أمورا دخلت في لب التفصيلات والخطط الجزئية ، وهي أشبه بالمبادئ العامة ، ويجوز لكل منتم إلي تلك الهيئة أن يتناولها بالحديث . ومن هذا الجانب نستطيع أن نقول : أن عودة الإخوان المسلمين حق لهم وليس منحة من أحد الناس . والإخوان المسلمون موجودون فعلا ، وهم يؤدون رسالتهم الخالصة في حدود ما يعتقدون أن فيه مصلحة لوطنهم – أداءكاملا لا ينقص منه عدم الاعتراف بهم من الناحية الرسمية . أما قانون الجمعيات الذي تزمع الحكومة – كما قال معالي وزير الداخلية – إصداره فقد قال أحد كبار رجال القانون قوله فيه . ولعل الحكومة تنصف نفسها فتعيد إلي الإخوان حقهم المسلوب كاملا " .

خامسًا : تواطؤ الأحزاب التقليدية :

كان هناك اتفاق بل تواطؤ بين جميع الأحزاب التقليدية بما فيها الحزب الوطني علي إصدار هذا التشريع القاتل للحريات , فتصدت حكومة الوفد – ناكثة عهودها – لمهمة إصداره ، ووقفت الأحزاب الأخرى موقف الشيطان الأخرس لا تتكلم ولا تعترض بل تؤيد من صميم قلبها كل خطوة تخطوها الحكومة ...

•اللجنة العليا للحزب الوطني تشجب المشروع :

ولم يبق بعد ذلك لا القلة القليلة من الأحرار من الشباب الذي يمثله حزب مصر الفتاة والمجموعة التي يرأسها فتحي رضوان وتضم محمد زهير جرانه ومصطفي المنزلاوي والدكتور نور الدين طراف والتي اعتبرها الحزب الوطني شاغبة عليه وأصدر هذا الحزب في 29 يناير 1950 قرارا بفصلها ، فأعلنت عن نفسها أنها " اللجنة العليا للحزب الوطني " وأنها صاحبة الحق في الكلام باسم الحزب الوطني ... وقد أصدرت هذه اللجنة بمناسبة تصميم الحكومة علي إصدار هذا التشريع بيانا في 8/2/1950 جاء فيه :

" ولذلك تري اللجنة أن التشريع الذي تنوي الحكومة إصداره لتحويل الأمر العسكري الرقيم 63 من إجراء اقتضته ضرورات النزاع القائم بين الحكومة السابقة وجماعة الإخوان المسلمين إلي قانون دائم ، هو تشريع مخالف لروح الدستور ، وأن الأحكام العرفية تعتبر باقية طالما أن هذا القانون لم يلغ ؛ لأن المصريين لم يحسوا بوطأة الحكم العرفي فيما يخص جملة فلسطين ، وإنما أحسوا بوطأته في حملة الحكومة ضد الإخوان المسلمين وأنصارهم ومن أخذ بشبهة الاتصال بهم أو معاونتهم . ولا يفوت اللجنة أن تشير إلي أن التشريع المزمع إصداره قد نص علي منح وزير الداخلية حتى مراقبة الأشخاص الذين كانوا معتقلين في ظل الأحكام العرفية الملغاة ، وأن من حق هؤلاء أن يعارضوا في قرار المراقبة أمام لجنة مكونة من رئيس محكمة ورئيس نيابة ومندوب عن قسم الرأي في مجلس الدولة . واللجنة – اللجنة العليا للحزب الوطني – تري أن مراقبة السياسيين هي ابتكار جديد تسبق به الدولة المصرية جميع الدول ، ولعل ذلك مما يصمنا في وقت تعلو فيه الصيحة للحرية في كل مكان . وتري اللجنة أن الحكومة قد أخطأها التوفيق حتى في اختيار الهيئة التي يعارض أمامها هؤلاء التعساء الذين اعتقلوا لشبهات وظنون ، والذين يراد استمرار تعذيبهم لنفس هذه الشبهات والظنون ، فقد كان ممكنا أن يلجئوا بشكاياتهم وظلاماتهم للمحاكم العادية علي اختلاف درجاتها فالحد من حقهم القانوني وخلق محاكم مصرية خصوصية يعيد إلي الذهن ذكريات الاحتلال البريطاني القديمة ، التي لا نظن أن الحكومة تود إحياءها .

لقد عاهدنا أنفسنا أن نخلص النصح للحكومة في هوادة ورفق ، وها نحن أولاء نناشدها مناشدة المواطن لأخيه أن تعدل عن إصدار هذا التشريع ، لتلتئم جروح الماضي ، ولتسدل علي مآسيه وآلامه ستارا كثيفا ، عسانا نستطيع أن نقف في وجه تدبره لنا الأيام من مخاطر صفا واحدا ، ملء قلوبنا الثقة بالوطن ، وبرحمة وعدل أبنائه " .

هذه هي مذكرة اللجنة العليا للحزب الوطني .. أما موقف مصر الفتاة فلعل سطورا تالية إن شاء الله تجليه .

سادسًا : مجلس الوزراء يصر ويقر مشروع القانون :

لم تعر الحكومة اقتراح الإخوان ولا نصيحة الناصحين اهتمامًا ، وفوجئ الشعب بإقرار مجلس الوزراء لمشروع القانون واحالته إلي مجلس النواب .. وقبل أن نعرض لما قوبل به هذا المشروع من مختلف الجهات ، تري أن نقتطف منه البنود الهامة حتى يوازن بين هذا المشروع وبين مشروع السعديين ، وربما خرج القارئ من الموازنة بالنتيجة المؤلمة ، وهي أن المشروعين مشروع واحد ، كانت ستقدمه يد أثيمة ملطخة بالدماء والعار ، وارتضت لنفسها أنها تربأ بنفسها أن ترضي بذلك .. وإليك أهم بنود هذا المشروع لم تتبعها بالمذكرة الإيضاحية له :

من مواد مشروع قانون الجمعيات لحكومة الوفد :

المادة الأولي – يسري هذا القانون علي الجمعيات التي تسعي إلي تحقيق أغراض اجتماعية أو دينية أو علمية أو أدبية إذا كان عدمد أعضائها يزيد علي عشرين شخصا طبيعيا .

المادة الثالثة – لا يجوز أن يشترك في تأسيس الجمعية أو ينضم إلي عضويتها :

(أ) المحكوم عليهم بعقوبة جنائية . (ب) المشتبه فيهم . (ج) القصر .

المادة الخامسة – يجوز للمحافظ بقرار سبب أن يعارض في إنشاء الجمعية أو فروعها خلال الثلاثين يوما التالية لوصول إخطارها إلي المحافظة .

المادة السادسة – يجب علي من يناط بهم إدارة الجمعية أن يخطروا المحافظ خلال ثلاثين يوما بكل تعديل في النظام وبالقرار الذي يصدر بحل الجمعية وأسبابه – وفي حالة عدم توفر حكم من أحكام هذا القانون يجوز للمحافظ أن يعارض في التعديل بقرار سبب خلال ثلاثين يوما من تاريخ الإخطار .

المادة السابعة – علي الجمعية أن تحتفظ في مركزها بالوثائق والأوراق والسجلات الخاصة بها والصور الفوتوغرافية للأعضاء وبمعلومات كاملة عن كل عضو ، وتدون محاضرها وحساباتها في دفاتر مفصلة .

المادة الثامنة – يحظر علي غير أعضاء الجمعية المقيدة أسماؤهم في سجلات أن يشتركوا في إدارتها أو في مداولات الجمعية العمومية .

المادة التاسعة – لا يجوز للجمعية أن تجاوز في نشاطها الغرض الذي أنشئت من أجله .

المادة العاشرة – يحظر علي الجمعية أن يكون لها تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية .

المادة الحادية عشر – مع عدم الإخلال بأحكام المادة 66 من القانون المدني يجوز لوزير الداخلية عند مخالفة أحكام المواد 3،6،7،8،9،10 أن يطلب حل الجمعية أو فروعها أو إبطال الإجراء المهالف . ويقدم الطلب إلي المحكمة الابتدائية التابع لها مركز الجمعية أو الفرع ويكون الحكم الصادر منها نهائيًا .

المادة الثالثة عشر – عقوبات بالحبس والغرامة 6 شهور ومائة جنيه لمن يخالف هذا القانون .

المادة السادسة عشرة – يكون لرجال الضبط القضائي في سبيل إثبات الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون أو القرارات المنفذة له حق الاطلاع علي دفاتر الجمعية وحساباتها وأوراقها .

المذكرة الإيضاحية للمشروع :

نصت المادة 21 من الدستور علي أن للمصريين حق تكوين الجمعيات وأن كيفية استعمال هذا الحق بينهما القانون ، وبناء علي هذا النص فإن حق المصريين في تكوين الجمعيات أصبح مقررا في الدستور بحيث لا يجوز المساس به . وإنما تكون مهمة المشرع مقصورة علي تنظيم استعمال هذا الحق ومراقبة السلطة التنفيذية لاستعماله ؛ ضمانا لعدم تجاوز الجمعيات في نشاطها الحد المشروع .

ثم قالت المذكرة : إنه يبدو أن القانون المدني بما تضمنه من أحكام خاصة بالجمعيات في المواد من 54 إلي 68 وفي المادة 79 قد سد فراغا في هذه الناحية ، وإنما الواقع أن هذا القانون لم يعن وما كان له أن يعني بأكثر من تنظيم الجمعيات عموما من الناحية المدنية وحقوق الأعضاء قبلها ، وكيفية التصرف في أموالها عند حلها ، وتتقيد حق ملكيتها في العقارات ، وتمتعها بالشخصية الاعتبارية بمجرد إنشائها وشهرها ، وما يترتب علي عدم الشهر ، وجواز إبطال القرارات التي تصدرها بالمخالفة للقانون أو لنظام الجمعية ، والجهة التي تصدر حكمها بإبطال هذه القرارات ، وكذلك جواز إبطال التصرفات التي يقوم بها مديرو الجمعية متجاوزين حدود اختصاصاتهم . وليس في هذه الأحكام أي غناء عن إصدار تشريع آخر بتنظيم هذه الجمعيات من حيث خضوعها لمراقبة السلطة التنفيذية ضمانا لعدم خروجها في نشاطها عن الحد المشروع ، والإتيان بما ينطوي علي إخلال بالنظام العام والأمن العام أو الآداب العامة مما يدخل في نطاق القانون العام . وتحقيقا لهذه الغاية قامت الحكومة بما وعدت به البرلمان في دور انعقاده السابق بوضع مشروع القانون المرافق ، وضمنته أحكاما تسري علي الجمعيات التي تنظم بقوانين خاصة ، ويجري العمل بمقتضاه جنبا إلي جنب مع تلك القوانين الخاصة .

وختمت المذكرة بالقول إنه من المفهوم أن أحكام القانون المدني في شأن الجمعيات تسري علي الجمعيات المنظمة بهذا المشروع باعتبارها أحكام القانون العام في هذا الشأن . ولتأكيد ذلك المعني بوضوح رؤي النص في المادة (17) علي أنه فيما عدا الأحكام الخاصة الواردة في هذا القانون تسري علي الجمعيات المنصوص عليها فيه أحكام القانون المدني ) .

ومن المفهوم كذلك أن هذا المشروع لا يسري علي الجمعيات السياسية وبعبارة أخري الأحزاب السياسية وذلك لأن هذه الأحزاب لها من الأهمية والخواص ما يجعلها محلا لتنظيم خاص بتشريع يصدر مستقبلا في المستقبل إذا رؤي لزوم ذلك – وهذا فضلا عن أن المصريين يمارسون حقوقهم السياسية التي خولها لهم الدستور في حدود القوانين القائمة ، وحسبنا أن نذكر أنهم يشتركون بمالهم من تشكيلات سياسية في حكم البلاد ، وفي توجيه سياستها عن طريق الاشتراك في الانتخابات العامة وفي البرلمان .

سابعا : قانون الجمعيات أمام لجنتي الشئون التشريعية والداخلية بمحلس النواب :

في 17/4/1950 عرضت الحكومة مشروع هذا القانون علي مجلس النواب فأحيل إلي لجنتي الشئون التشريعية والداخلية .. وطلبت الحكومة مناقشته في اليوم التالي .. فعارض بعضالنواب في هذا التعجل الذي لا داعي له . وفي يوم 18 منه بدأت اللجنة في مناقشته . وكان المفروض ألا تستغرق مناقشة مواد القانون السبع عشرة وقتا طويلا ، غير أن المعارضة التي قوبل بها القانون من فريق من الأعضاء أدت إلي تستغرق مناقشته سبع ساعات كاملة .. وقد عقدت اللجنة اجتماعين أحدهما في الصباح والآخر في المساء .

•الحكومة تهدد أعضاء اللجنتين :

ولما كانت المعارضة من الشدة حتى إنها دفعت ممثل الحكومة عبد الفتاح حسن بك وكيل وزارة الداخلية البرلماني إلي التهديد بأن الحكومة ستضطر إليسحب مشروع القانون في حالة رفض اللجنة له ، وتستعيض عن ذلك بحل الجمعيات بقرارات من مجلس الوزارء .

  • معارضة في المبدأ :

وقد حمل لواء المعارضة ثلاثة من أعضاء اللجنة هم الأساتذة فريد زعلوك الجندي بك ومحمود كمال أبو النصر . فقد أعلنوا في بدء الاجتماع أنهم يرفضون فكرة القانون من مبدئها ولا يقرونه علي الإطلاق ؛ لأنه يتنافي والحريات العامة . والدليل علي ذلك أن القانون المدني حدد طرق إنشاء الجمعيات المختلفة وكيفية التصرف في مواردها المالية ، كما أن قانون العقوبات نظم طرق المعاقبة علي ارتكاب الجرائم .. فلا محل إذن لاستصدار تشريع جديد خاص بالجمعيات والتخوف من إنشائها . وطلبوا من اللجنة أن تقرهم علي طلبهم الخاص برفض نظر هذا القانون .. غير أن بقية الأعضاءلم يوافقوا علي هذا الرأي .

•شروط العضوية :

وأخذت اللجنة في مناقشة مواد القانون مادة مادة ، وتوقفت طويلا عند المادة الثالثة الخاصة بشروط العضوية . واستغرقت المناقشة فيها أكثر من ساعتين كاملتين ، إذ طلب الأستاذعوضالجندي استثناء المحكوم عليهم في جرائم الرأي من عدم جواز اشتراكهم في الجمعيات . غير أن الحكومة رفضت الأخذ بهذا الرأي ، وقالت أن عقوبة جريمة الرأي لا تعتبر جناية ، أما العقوبات المشددة التي تنزل بالجرائم التي يرتكبها الهدامون كالشيوعيين وأمثالهم فلا يجوز التغاضي عنها والسماح لمن صدرت ضدهم أحكام لمثل هذه الأسباب بالاشتراك في الجمعيات .

•القصر وعدم جواز اشتراكهم :

وعارض الأستاذ فريد زعلوك في حرمان القصر والمشتبه فيهم من الاشتراك في الجمعيات . غير أن الحكومة خالفت هذا الرأي ، وأشار ممثلها إلي أن المجال متسع أمام القصر للاشتراك في الجمعيات المدرسية وما يشابهها . وأخيرا وافقت أغلبية اللجنة علي هذه المادة دون تعديل .

•كم الحل غير نهائي :

وتمت الموافقة بعد ذلك علي بقية المواد دون إدخال أي تعديل عليها ماعدا المادة الحادية عشرة التي كانت تنص علي أن يكون حكم المحكمة الخاص بحل الجمعيات نافذا ونهائيا ، إذ رأت اللجنة تعديلها فنصت علي أن يكون الحكم الذي تصدره المحكمة علي أي جمعية حكما غير نهائي وقابلا للاستئناف .

•حق الالتجاء لمجلس الدولة :

وقررت اللجنة أيضا إضافة مادة جديدة بعد المادة السادسة نص فيها علي أن اعتراص المحافظ أو المدير علي إنشاء الجمعية ، وكذلك اعتراضه علي كل تعديل في نظامها يمكن التظلم منه أمام مجلس الدولة .

•لأحزاب السياسية :

هذا وقد اعترض الأستاذفؤاد زعلوك علي عبارة وردت في نهاية المذكرة الإيضاحية للقانون يفهم منها أن الأحزاب السياسية ستكون محل تنظيم خاص بتشريع سيصدر مستقبلا في المستقبل إذا رؤي لزوم ذلك ، وطلب حذفهذه الفقرة من المذكرة فوافقت الحكومة وأقرت اللجنة علي ذلك .

•تسجيل رأي الأقلية :

هذا وستقوم اللجنة بوضع تقرير برأيها في مشروع القانون اليوم في الصباح ليعرض في الجلسة الخاصة التي سيعقدها مجلس النواب في مستء اليوم لهذا الغرض .

وقد اختارت اللجنة الأستاذ محمود فهمي جندية بك مقررا لرأي الأغلبية التي وافقت علي المشروع ، والأستاذ فريد زعلوك ليشرح رأي الأقلية التي رفضته . وكانت الحكومة – بعد أن حظيت من هذه اللجنة البرلمانية علي ما تبتغي مستقلة في سبيل ذلك كل ما كان متاحا لها من وسائل – كانت حريصة علي عرضالمشروع في نفس اليوم علي المجلس كله .

ثامنا – موقف الإخوان من القانون :

لم يقف الإخوان مكتوفي الأيديأمام هذا التدبير الذي قصد به قتلهم ووأد الحرية في البلاد ، فقد عقدوا اجتماعا طويلا مساء ذلك اليوم ونظروا فيه في مشروع القانون الذي يناقشه البرلمان في الغد علي وجه الاستعجال .

•فض العودة وإعداد مذكرة :

وانتهي اجتماعهم إلي قرار أعلنوا فيه رفضهم العودة في ظل هذا القانون وأنهم يكتفون بالتزام موقفهم الحالي ، بمعني أنهم مكونون فعلا ، ولا يضيرهم أن يحرم الشعب من امتداد دعوتهم للاستفادة بخيرها – كما أقر الاجتماع مذكرة ناقشوا فيها المشروع وضمنوها رأيهم فيه ، وقرروا إبلاغها إلي المسئولين وتوزيعها علي أعضاء مجلس النواب قبل نظرهم المشروع .

•نص مذكرة الإخوان :

إن الإخوان حين يبدون رأيهم في مشروع قانون الجمعيات لا يرمون من وراء ذلك حماية مصالحهم التي لا صلة لها بهذا القانون .. وإنما يريدون أن ينبهوا الشعب المصري إلي ما يحمله هذا المشروع من قيود فرضها علي حقوق الأفراد التي كفلها الدستور للمصريين في تكوين الجمعيات ، ومن حد من نشاط هذه الجمعيات ذات الأغراض السامية ، ومن وضع لها تحت سلطان الإدارة وتقلباتها إلي أبعد الحدود . ونريد أن يذكر نواب الأمة وشيوخها الذين سيتولون مناقشة هذا القانون موقفهم المجيد في أول الجلسة الماضية حين أريد أن يعبر القانون المجلس دون دراسة أو تمحيص . وليذكروا دائما أن كل قانون رجعي لن يقتصر ضرره علي جماعة من الأمة دون جماعة ، بل إن مساوئه ستمتد إلي جميع المصريين بما فيهم حضرات الشيوخ والنواب أنفسهم ، فإن سلطان الحكم إذا كان يعفي من كثير من المتاعب مؤقتا فإنه سلطان زائل . أما القانون الرجعي فباق أثره السيء في تعويق الأمة عن نهضتها .

وأنا لنتساءل أولا .. ما الداعي إلي إصدار هذا القانون ؟ والقانون المدني وما حوى من مواد تنظم الجمعيات وتراقب نشاطها كفيل بأن يحفظ لها حريتها في حدود القانون . وما نظنها بحاجة إلي إضافة قيود جديدة في صورة هذا المشروع المقدم من الحكومة آخيرا . ثم نتساءل ثانيا عن المقصود بعبارة " أغراض دينية " الواردة في المادة الأولي من المشروع ؟ .. فإنها علي هذا النحو لا تتفق مع الإسلام وهو دين الدولة الرسمي ؛ لأن الإسلام من العموم في معناه وشموله لكافة نواحي النشاط ، بحيث لا يتفق إطلاقا مع الفكرة الساندة في الغرب من التفريق بين الدين والتربية والسياسة . فإن كان قصد القانون من هذه العبارة – وهو مالا يتصور غيره – هي تلك التي تدعو إلي مكارم الأخلاق ، والتمسك بالفضائل فليحدد الشارع إذن هذا الغرضعلي أساس " الأغراض الخلقية " مثلا فيزيل اللبس ويتجنب ما قد يثور من اعتراض . ونظرة خاصة إلي نصوص هذا القانون تكشف عن العجلة التي صاحبت إعداده ، والرغبة في إصداره علي أي وضع ، حتى جاء مجافيا لأولويات المبادئ التشريعية ، منافيا لأبسط أسس العدالة ، مهدرًا للكثير من حريات الأفراد وحقوقهم .

أ – الشباب أحوج إلي التربية :

تنص المادة الثالثة من المشروع علي حرمان القصر أي الشبان من الانضمام إلي عضوية الجمعيات ذات الغرض الاجتماعي أو الخلقي أو الأدبي أو العلمي . وهذا التحريم أمر غير مفهوم وغير مقبول ؛ إذ أن الشباب أحوج الناس إلي الانضمام لجمعيات تلك أغراضها : تربيتهم وتنشر بينهم العلم . وكيف تستسيغ أن يحرم علي الشباب الانضمام لجمعيات تربوية وثقافية بينما يجور لهم قانونا الانضمام إلي الأحزاب السياسية ، التي تعرضهم للفساد ، وتزج بهم في مضمار الحزبية التي تضربهم دون أن تعود عليهم منها أية فائدة خلقية أو تربوية أو علمية .. هذا أمر غير مستساغ إلا إذا كان المقصود حماية مصالح الأحزاب دون الشباب . ولا يمكن أن يقبل الاحتجاج بأن القاصر غير مكتمل الأهلية . فهذه حجة لا صلة لها بالتربية والتثقيف عن طريق الجمعيات ، بل هو أدعي لإباحة انضمام القصر للجمعيات . فضلا عن أن تشريعاتنا تحمل القصر – وأهليتهم غير مكتملة – أمانة الوظائف العامة حتى الخطير منها مثل النيابة العامة .

ب – ما شأن وزير الداخلية ؟

يقضي المشروع بأو وزير الداخلية هو صاحب الإشراف علي الجمعيات ، إذ يطلب حلها ويصدر اللوائح التنفيذية للقانون الخاص بها . ولا ندري صلة الأغراض التي تسعي إليها هذه الجمعيات بوزارة الداخلية .. فكلها أغراض اجتماعية وخلقية وعلمية وأدبية يعم نفعها المجموع .. فكان من الطبيعي أن يكون الإشراف علي القانون الخاص بها لوزارة تشجعها وترعي مصالحها وتتفق وأغراضها كوزارة الشئون الاجتماعية ووزارة المعارف العمومية .

ج – البوليس :

إذا كان القانون قد نظم الجمعيات فيبضع مواد فقد قضي عليها في مادة واحدة ، ألا وهي المادة السادسة عشرة ، التي تجعل لرجال البوليس حق الاطلاع علي سجلات الجمعية وكافة أوراقها لإثبات المخالفات القانونية .. فهل يمكن أن تدلنا ، لحكومة علي الصلة بين البوليسوهذه الجمعيات ذات الأغراض السامية التي تتبع في تحقيق أغراضها أسسا علمية ؟ .. أما كان المنطق يقضي بترك هذا الاطلاع لفنيين متخصصين ؟ أم تري أريد أن يترك لرجال البوليس الذين يخدمون أغراضا حزبية وسياسية ؟ .

د – أسباب طلب الحل :

يبدو أن الغرض الأساسي من هذا المشروع هو منح الحكومات أوسع سلطة ممكنة في قتل الجمعيات بواسطة طلب حلها – ولا أدل علي ذلك من أن المادة الحادية عشرة أعطت وزير الداخلية الحق المطلق في طلب حل الجمعيات عند وقوع أي مخالفة للمواد 3 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 من القانون – أي أغلب نصوصه .. مع أن طلب حل الجمعية يجب أن يراعي فيه أنه طلب خطير واستثنائي يعادل طلب الإعدام للشخص الطبيعي . والمنطقي من الأمر أن يقصر طلب هذا الجزاء علي المخالفات الخطيرة لأحكام القانون والتي تسبب إلي الجمعية ذاتها .. أما المخالفات القانونية أو العرضية والتي ترجع إلي الأشخاص فيكفي فيها الحكم بإبطال الإجراء وتصحيح الوضع .

هـ - الحل بحكم نهائي :

وأريد أن أسأل أخيرا عن الداعي لجعل الحكم الذي يصدر من المحكمة الابتدائية بحل الجمعية بناء علي طلب وزير الداخلية حكما نهائيا لا يجوز الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن في الأحكام .. في حين أن العقوبات الأخرى التي نص عليها القانون في مادته الثالثة عشرة مثلا تسري عليها القواعد فيجوز الطعن فيها بالاستئناف حتى لو لم تكن العقوبة إلا بغرامة قروش معدودة . فهل يري واضع المشروع أن حل جمعية أي الحكم بإعدامها أمر أهون من حكم الغرامة .. فلا يترك الباب مفتوحا أمام الجمعية للطعن في الحكم لطرق الطعن التي قصد بها التشريع التأمين لسلامة الأحكام ؟

و – لا حاجة بنا للقانون إطلاقا :

إن الإخوان المسلمين وأن كانوا قد درسوا مشروع قانون الجمعيات وأدلوا برأيهم القانوني فيه ، فإنهم لا يزالون عند رأيهم من أن أوضاعنا التشريعية ليست بحاجة إطلاقا لصدور أي قانون يضيف جديدا إلي إلي ما ضم القانون المدني من نصوص كاملة لا تحتاج إلي مزيد .

تاسعا : محاولة أخيرة للإنقاذ :

في 19/4/1950 نشرت الصحف بيانا عما تم في مجلس النواب بالأمس تحت العنوان التالي :

" ثلاثة آلاف متظاهر من الإخوان المسلمين أمام مجلس النواب أمس " .

" فؤاد سراج الدين باشا يفند أقوال المعارضين للمشروع – المجلس يقر القانون " .

وكانت المظاهرة الإخوانية تهتف " الإسلام دين ودنيا " " الإسلام نظام لا يحتاج إلي نظام " " الإسلام قانون لا يحتاج إلي قانون " وهم يحملون المصاحف – وخطب الجموع صالح عشماوي ثم فريد عبد الخالق . ثم سمح لوفد منهم بمقابلة رئيس المجلس وتقديم مذكرة إليه ، وكان الوفد من صالح عشماوي وسعد الوليلي وفريد عبد الخالق وأمين إسماعيل .

•مناقشة في المجلس بين أحرار قلائل وحكومة مستبدة :

وأهم ما دار في المجلس من مناقشات في هذا اليوم هو الآتي :

قال الأستاذ فريد زعلوك : لا حاجة قط إلي هذا القانون المعروض علينا الآن مادام القانون المدني قد نص فيه علي تنظيم الجمعيات من الناحية المدنية ، كما أن القانون الجنائي قد نص فيه علي تنظيم الجمعيات من الناحية المدنية ، كما أن القانون الجنائي قد نص فيه علي تنظيم الجمعيات من الناحية الجنائية . أما الجرائم السياسية فشأنها كشأن الأحزاب السياسية التي لا تخضع لأي نوع من أنواع التنظيم أو الرقابة – وقال : أن الضمانات التي وردت في مشروع القانون ومنها رفع الأمر إلي مجلس الدولة ، تشبه رجلا نسرق نقوده ثم يقال له : اذهب إلي المحكمة – في حين أن الأصل ألا تسرق نقوده .

وتكلم الأستاذ عبد الحميد السنوسي فقال :

إن الهيئة التي بحثت مشروع القانون قالت في تقريرها أن هذا المشروع مماثل لأرقي التشريعات في العالم . وقد رجعت إلي القانون الانجليزي وإلي القانون البلجيكي وبعض القوانين الأجنبية فلم أجد فيها قانونا مماثلا أو شبيها بهذا القانون .. وقال : إن مجلس الدولة قد انحرف عن طريق الدستور بإقراره هذا التشريع . فقال عبد الفتاح حسن الوكيل البرلماني : لا أذيع سرا إذا قلت أن سعادة رئيس مجلس الدولة وواضع القانون المدني العام قد شارك في وضع نصوص مشروع المعروض عليكم . وتكلم الأستاذ إبراهيم شكري – مصر الفتاة – فقال :

إن هذا الاستعجال في نظر مشروع القانون ، والظروف التي تحتم أن يصدر في وقت معين ، قبل أن ينتهي تاريخ الأمر العسكري الذي حل جمعية الإخوان المسلمين .. يؤيد أنه تشريع الدستور ؛ لأنه قصد به تنظيم بوليسي للإشراف علي الجمعيات . وقال : أن معالي وزير الداخلية واثق من أن هذا المجلس يري ما يراه معاليه . وثار المجلس- كالمعتاد – وعد هذا الكلام إهانة له فاعتذر إبراهيم شكري . وانتهي الأمر بموافقة البرلمان بمجلسيه علي القانون .. واستغرقالموضوع كله منذ بدء تقديم المشروع إلي مجلس النواب حتى التصديق عليه من المجلسين الفترة من 18/4 حتى 25/4 .

•تعقيب علي هذا التشريع :

أوردنا هذا القانون ، وأوليناه اهتماما خاصا ، وفصلناه تفصيلا . مع أنه – وقد أراد الذين أوحوا به وأراد الذين تحملوا إصر تمريره بالخطوات التي جعلته قانونا ، أن يجملوه غلا دائما في عتق الشعب – أراد الله الذيبيده الأمر كله أن يئده حيا ، وأن يجعل الجهد الذي بذلوه في إنجازه كما قال في كتابه : " وقدمنا إلي ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا "

بعد إنجاز هذا القانون ، واستوائه تشريعا فعالا كما يقولون ، لم يستمتع الذين أنجزوه ولا الذين أوحوا به بيوم واحد ذاقوا فيه لذة ما كانوا يأملون من لذع ظهور الشعب بسياطه ... فلقد تعاظمت الأمور وتفاقمت ووجدت الحكومة نفسها في أمس الحاجة إليسند يسندها من يسندها من الشعب ، فتناست هزلها الذي كانت تهزله ، وراحت تلتمس من الشعب العون والتأييد والحماية والتسديد . فلم إذن كان اهتمامنا هذا الشديد بقانون لم يعمل به ، واندثر فيما اندثر من مئات القوانين ؟ ... لقد كان اهتمامنا لدواع منها :

أولا : الإلمام بالتاريخ : وهي فترة مرت بها الدعوة ، وكانت من أعصب فتراتها ، فكان لابد من الكتابة عنها والإبانة عما أحاط بها .. وهو أمر لا غني عنه .

ثانيا : لفت النظر إلي صفحات مطوية : فمن أخطر الأمور أن يهمل أصحاب الدعوات النظر في صفحات التاريخ المطوية ، وألا يولوا اهتمامهم إلا للصفحات المنشورة .. ظنا منهم أن صفحة ما كادت تفتح حتى طويت هي صفحة عقيم ، بدليل أنها كانت عديمة الأثر في أيامها ، فهي في غير أيامها أشد عدما .. في حين أن مثل هذه الصفحات لم تطو ؛ لأن أحداثا أكبر منها في أيامها طغت عليها وحجبتها ، ولكنها لا تلبث – وهي مستكنة – حين تجد البيئة المناسبة لنموها أن تنطلق من سباتها وتكشف عن أنيابها .

ثالثا : أن يتنبه أصحاب الدعوات إلي أن لمناصب الحكم سحرها الذي لا يقاوم ، فقد يكون الرجل كريما نبيلا ، يتدفق رقة ووطنية وإخلاصا .. فإذا احتل الحكم صار شيئا آخر ، ونسي ما كان يدعو إليه من قبل .

رابعا : أن يعرف دعاة الدعوة الإسلامية أن جميع القوى العاملة في ميدان السياسة والاجتماع – مهما اختلفت وجهاتها ، وتباينت مناهجها ، وناصب كل منها الآخر العداء – تتفق جميعا وتنسي خلافاتها في مواجهة الدعوة الإسلامية .

خامسا : إنها لحقيقة ثابتة ، جديرة بالاعتبار والتدبر .. تلك هي " أن التاريخ يعيد نفسه " وعلي المؤمنين الكيسين الفطنين أن ينتفعوا بهذه الحقيقة .

وتوضيحا لهذه الدواعي الخمسة تقول :

•الجولة الأولي لمحاولة فرض هذا التشريع الخانق :

ليست هذه هي المرة الأولي أو بالتعبير الأدق ليست هذه هي المحاولة الأولي التي حاولت فيها حكومة مصرية إنشاء القيود وخلق العقبات أمام تكوين الجمعيات .. فلقد بدأت هذه المحاولات وزارة الوفد التي تولت زمام الحكم في فبراير 1942 .. إذ وضعت هذه الحكومة مشروع قانون سمته " قانون تنظيم الجمعيات الخيرية " وعرضته علي مجلس وزرائها ثم علي مجلس نوابها . وناقشه هذا المجلس . وفي 20/6/1944 اعتمد هذا المجلس من هذا المشروع النص التالي :

" تعد جمعية خيرية كل جماعة من الأفراد تسعي إلي تحقيق غرض من أغراض البر ، سواء أكان ذلك عن طريق المعاونة المادية أو المعنوية . وتعد مؤسسة اجتماعية كل مؤسسة تنشأ بتخصيص مال لمدة غير معينة سواء أكانت هذه المؤسسة تقوم بأداءخدمة إنسانية أو دينية أو علمية أو فنية أو زراعية أو رياضية أو أي غرضآخر من أغراض النفع العام دون قصد إلي تحقيق ربح مادي لأعضائها – ويشترط في جميع الأحوال ألا تكون الجمعية أو المؤسسة ووسائلها في تحقيق هذه الأغراض مخالفة للنظام أو الأمن العام أو الآداب العامة " .

وأقبلت حكومة الوفد في 9/10/1944 قبل أن يستكمل مشروع القانون خطوات إصداره وجاءت حكومة السعديين برياسة أحمد ماهر الذي اغتيل فجاء من بعده النقراشي .. ومعروف أن وزارتنا الحزبية في مصر تأتي كل وزارة منها إلي الحكم وهمها الأول أن تنقض ما بنته سابقتها إن خيرا وإن شرا .. ولكن وزارة السعديين نقضت ما بناه الوفد في وزارته إلا " قانون تنظيم الجمعيات الخيرية " فإنها أبقت عليه " وتبنته ، وأخذت في استكمال خطواته ، حتى أصدرته علي نفسالأسس ، وبنفس الصياغة التي تركته بها الوزارة الوفدية وكل الذي فعلته وزارة السعديين أن عرضت علي البرلمان بقية المواد التي لم تكن قد عرضت بعد .

ووافق برلمان السعديين علي التشريع وأصدر قانونا في إبريل 1945 .. وكانت إحدى مواده تجعل الحكومة حق حل الجمعية إذا اشتغلت بالسياسة .. وهو بيت القصيد .. ولا شك في أن القارئ الكريم مدرك من مجرد ما أشرنا إليه من بنود هذا أنه إنما كان المقصود به هيئة واحدة وجمعية معينة .. أرادوا أن يقذفوا بها بعيدا عن ميدان السياسة ، ويضعوا كل أنشطتها تحت رقابتهم ، حتى يظل ميدان السياسة دولة بينهم ، محتكرا لهم ، خاليا إلا منهم . إن دخول عنصر الإخوان ميدان السياسة في مصر كان حديثل تاريخيا .. وكان مثار غضب وفزع لدي محتكري السياسة في مصر من رجال الأحزاب ، وخدام المستعمر ، وعباد القصر الملكي ... ذلك أن هذا العنصر الجديد أراد أن يجعل للسياسة مقاييس جديدة ، وأهدافا جديدة ، ووسائل جديدة ، لا يتقبلها هؤلاء المحتكرون ولا يستطيعونها .. فهو يطالب الساسة بالشجاعة في مواجهة الغاصب ، وبالتضحية بالمال والجهد والدم فضلا عن المناصب .. وهذه أمور لا قبل لهم بها ، وفيها قضاء علي آمالهم ، ومصادرة لشهواتهم .

ولهذا قرر هؤلاء المحتكرون أن يتعاونوا – والحكم في أيديهم – علي حصر هذه الهيئة الناشئة في أضيق نطاق ، وضربها تبدد شملها ، وتشغلها بنفسها ، وتقضي علي أحلامها .. وانتهي تفكيرهم إلي سن هذا القانون . ولا يعنينا أن نعترف بأن هذا القانون الذي بدأه الوفديون ، وأكمل إصداره السعديون ، كان تحديا صارخا لبناء دعوة الإخوان المسلمين .. ولقد شغلنا بأنفسنا فعلا عدة أشهر . فلقد واجهتنا به حكومة السعديين بعد إنجازه مباشرة سنة 1945 ، وخبرتنا بمقتضاه بين أن تكون جمعية خيرية تحت إشراف وزارة الشئون الاجتماعية أو أن تكون حزبا سياسيا . ووقف الأستاذ المرشد العام أمام هذه المواجهة حائرا فترة من الزمن وعقدت الهيئة التأسيسية أكثر من اجتماع لاتخاذ قرار في هذه المواجهة الخطيرة . وكان القرار الوحيد الذي اتخذته الهيئة بعد أول دراسة للقانون هو رفض فكرة الحزب السياسي ، وفوضت الهيئة الهيئة الأستاذ المرشد العام في اتخاذ ما يراه من قرار بعد ذلك ... واجتمع مكتب الإرشاد العام عشرات المرات ، وتباحث المتخصصون في القانون من الإخوان ، واستعان المرشد العام بالمتخصصين من غير الإخوان .. ومع ذلك ، وبعد كل هذه البحوث والاجتماعات ظل القرار الوحيد الذي أمكن اتخاذه هو قرار رفض الحزبية دون الوصول إليصيغة تخرجنا من الحيرة والحرج .. وأخيرا تفرغ الأستاذ المرشد إلي نفسه ، مسترشدا بما قدم إليه من بحوث ، ، مستعينا بما عوده ربه من هداية وبما يسكبه في نفسه من إلهام .. وخرج علينا بعد ذلك بمشروع انتشلنا به من وهدة الحيرة ، وقادنا به إلي برالأمان .. وعرض المشروع علي مكتب الإرشاد ثم عرض علي الهيئة التأسيسية فنال الثقة الكاملة . ومد الجميع ربهم أن وفق مرشدهم إلي هذا القرار الملهم المنقذ.

•الخطوط العريضة للقرار المنقذ :

وينبغي للقارئ الكريم أن يعلم أن هذا القرار من أخطر القرارات التي اتخذها الإخوان المسلمون في حياتهم العملية ، فكان فاصلا بين عهدين في تاريخهم ، وكان بمثابة تجربة قاسية كان علي الدعوة أن تخوضها وهي راغمة لتستبقي لنفسها حق مواصلة الحياة .. ولذا فإن القرار لم يقف عند حد تعديل في بعض مواد قانون الإخوان المسلمين ، بل تناول القانون الأساسي كله بالتغيير ، بحيث اتخذ صورة جديدة . وكان ذلك علي الوجه الآتي :

1 – تعريف الإسلام بأنه نظام شامل لجميع شئون الحياة ، وأهدافه النهوض بكل هذه الشئون .

2 – ما اختص من أهداف الإسلام بالشئون الاجتماعية تؤسس له هيئة مستقلة مركزها القاهرة تسمي " المركز العام لجمعيات البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين " لها أعضاؤها الذين يكونون جمعيتها العمومية ولها اشتراكاتها وماليتها الخاصة بها . ولها دفاترها وحساباتها التي تخصها – ويقوم أعضاء جمعيتها العمومية بانتخاب مجلس الإدارة الخاص بها . وتكون مسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية ، وتحت إشراف مندوبيها في جميع أعمالها وتصرفاتها – ولهذا المركز العام أن ينشئ فروعا تابعة له في مختلف الأحياء والبلاد ، وتكون فروعه مسجلة بوزارة الشئون الاجتماعية وتحت إشراف مندوبيها .

3 – أغراض الإسلام الأخرى التي لا تدخل في نطاق أعمال البر والخدمة الاجتماعية كنشر الدعوة الإسلامية ، وبث الروح الوطنية ، والقيام بالأعمال الاقتصادية .. تقوم بها " هيئة الإخوان المسلمين العامة " .

وبذلك تفادي الإخوان الشراك الذي نصبته الدولة لاصطيادهم ... وقد ذهل رجال القانون الحكوميون حين تلقوا رد الإخوان .. وكانوا يعتقدون أن الإخوان سيعجزون عن الجواب إلا أن يأتوا مذعنين ، فلقد أحكموا الخناق القانون حول عنقهم فإما الاستسلام وأما الاختناق وكلاهما فناء . وكانت هذه إحدى عبقريات حسن البنا التي أيأست أعداءه أن يستطيعوا النيل منه مهما أحكموا من خطط اصطياده .. مادامت هذه الخطط في حدود العرف والقانون ، فما كانت مشكلة يستعصي عليه حلها مهما تعاظم أمرها وتفاقم خطرها وتعقدت خيوطها وما ذلك إلا بتوفيق الله تعالي له . وكان هذا القانون محنة أجتازها الإخوان بسلام ، وتفادوا بمعونة الله وتوفيقه ما أعد لهم من مزالق ومهالك . ومنذ ذلك اليوم كنت تدخل المركز العام بالحلمية الجديدة فتجد علي يمينك في فنائه مبني صغيرا مستقلا ، عليه لافتة كتب عليها " المركز العام لجمعيات البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين " ولهذا المركز مجلس إدارة مستقل علي رأسه الأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن البنا – شقيق الأستاذ المرشد العام – وتجد القانون الخاص بهذا المركز مطبوعا في كتيب صغير مستقل ... كما أنك واجد في كل شعبة من شعب الإخوان تقريبا في مختلف البلاد فروعا للبر والخدمة الاجتماعية علي نسق هذا المركز وتابعة له . ولا أعتقد أن وزارة الشئون الاجتماعية تبعها في يوم من الأيام جمعيات لها عشر معشار ما كان لهذا المركز وفروعه من نشاط في ميادين البر والخدمة الاجتماعية من أنشطة صحية وثقافية ورياضية واجتماعية وإصلاحية وبر وإحسان .

•الجـولة الثانية :

وكانت هذه هي الجولة الأولي من جولات هذا النوع من الصراع . وقد رأي القارئ أنها لم تكن صراعا بين حزب معين وبين الإخوان ، بل كانت بين الباطل الحزبي كله علي اختلاف أحزابه وألوانه وبين الإخوان وحدهم ، فلقد اشترك في وضع هذا القانون حزب الوفد وحزب السعديين ومن معه من الأحزاب الأخرى .

ثم كانت الجولة الثانية .. وكانت بتدبير نفس المدبرين إلا أنها كانت نابعة هذه المرة من أحط ما في نفوسهم من خسة ونذالة ... فإذا قلنا – تجاوزا – أن الجولة الأولي كانت أشبه بالمواجهة بين خصمين ، فماذا نقول في جولة كانت إجهازا علي جريح ؟ ... هاجموا الإخوان هذه المرة وهم يترنحون من شدة طعنات حكومة غادرة متواطئة غاشمة ، ودماؤهم تتفجر من كل جانب ، ولا يجدون من يضمد لهم الجراح ...

إن الأعداء الشرفاء يترفعون عن شهر السلاح علي عدوهم إذا وقع مثخنا بالجراح ، ولكن الأخساء يهتبلونها فرصة فيتكابلون عليه وهو الرمق الأخير لا يدفع عن نفسه . وكانت الجولة الثانية من هذا النوع الخسيس الذي تأباه النفوس الشريفة .. أخذوا في سن هذا القانون والإخوان ممزقون كل ممزق ، بين معتقل ومسجون ومطارد ومعذب ، وبعد أن امتدت يد الغدر والخيانة إلي مرشدهم العام .

•هل هناك جولات أخري ؟

وقد رأيت أن أتناول بشيء من الإسهاب الحديث عن هذا القانون بجولتيه ، لتتضح أمام أعين هذا الجيل والأجيال القادمة صورة حقيقية غير مزيفة لطبيعة الرجال ، وطبيعة الزعماء ، وطبيعة المجتمعات في بلادنا .. حتى لا يتمادي بهم حسن الظن فيؤخذوا علي غرة ، وحتى لا ينخدعوا بالمظاهر المصطنعة ، والخطب الرنانة ، والأحاديث المنمقة .. ألا فليعلموا أن من ورائها نفوسا لا تنطوي إلا علي الأنانية والأثرة والغدر .. ولا هدف لها إلا التسلق علي أكتاف المخدوعين حتى يتسنموا لهذه السلطة فيخلفوا وعودهم ويستنكروا لماضيهم ولشعبهم ولوطنهم .. الإخلاص في نظرهم حينئذ إلي مظاهر الخضوع لهم والإذعان لأمرهم ، ومعني الوطنية إلي التفاني في خدمتهم والإشادة بفضلهم ، ومعني الشجاعة إلي الدفاع عن باطلهم وتبرير أخطائهم .. أما من خرج علي هذا الخط الذي حددوا به معاني الإخلاص والوطنية والشجاعة ، واستنكف أن يعيد أحدا من دون الله ، فإنه يعد خارجا وخحائنا وإرهابيا ، وتزرع أمامه الطرق بالعقبات ، وتكال له التهم ، وتلفق له العيوب ، ويلاحق بأساليب القهر والمطاردة .

وهذا الذي تستم قمة السلطة ، وذاق حلاوتها ، فتشبث بأسبابها لا يريد لها فراقا ... أول ما يلجأ إليه في محاربة من ارتفع علي أكتافهم – ويعلم أنهم لا يقبلون بآماله الجديدة – هو أن يستغل ما تتيحه له هذه السلطة من وسائل .. وأول هذه الوسائل هي التشريعات والقوانين ، التي تجعل الحلال حراما والحرام حلالا .. وهكذا تأتي جولات وجولات .. (   ) .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: المحاكمـات

مقـدمـة

كانت ثمرة السياسة الحاقدة الخرقاء التي انتهجتها الطغمة الحاكمة التي كانت واجهتها هي وزارات السعديين ، أن اضطربت أحوال البلاد ، وخيم عليها ظلام دامس ، لا يأمن فيه مواطن علي نفسه .. وكيف يأمن والحكومة التي وظيفتها أن تحميه وتوفر له أسباب الأمن رأي أنها صارت هي التي تدبر المؤامرات بل وترتكب الجرائم ... وأخطر من هذا وأدعي وأمر أن هذه الحكومة – وقد تلوثت يداها بدماء أفراد الشعب .. أضحت فريسة للوساوس والهواجس والأوهام ، فقد صور لها شعورها بجريمتها أن كل فرد يمشي في الشارع أو يأوي إلي بيت أو يدرس في معهد أو يلهو أو يتكلم مع أصدقائه ، خيل لها أن هؤلاء جميعا يعملون علي فضح جريمتها والكشف عن مؤامراتها .. فبثت عيونها في كل مكان يتتبعون السائرين ، ويتصنتون علي المتحدثين ، ويهاجمون الآمنين .. وتفرغت بكل مقوماتها وإمكاناتها لهذا الأسلوب المثير .

وتحولت صورة الموقف في مصر مع حكومة ترعي مصالح الشعب إلي حكومة تتحدي شعبا وتقف له بالمرصاد ، تبتدع كل يوم أسلوبا جديدا لاستفزازه وإثارته .. مدعية – زورا وبهتانا – أنه تحميه من الإخوان المسلمين ... فهل شكا إليها الشعب يوما من الإخوان المسلمين ؟ ... وهل الإخوان المسلمون إلا أبناء هذا الشعب وإخوته وأخواته وآباؤه وأمهاته وأعمامه وأخواله ؟ لم يكن الإخوان المسلمون فئة محدودة تعد علي الأصابع كما هو الحال في حزب السعديين وأمثالهم حتى يقال نها عصابة تفزع الناس في قرية من القرى أو في حيمن الأحياء ، فتقوم الحكومة بمحاصرتها حتى تقضي عليها وتوفر لهذه الجهات الأمن والأمان . وإنما الأمر آخر تماما ... الإخوان المسلمون فكرة وعقيدة سرت في قلوب الشعب من أقصاه إلي أقصاه .. دخلت كل بيت ، واستقرت في كل نفس ؛ لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها . وما من مكان دخلته هذه الفكرة إلا ولمس أهله والمقيمون فيه من آثارها ما سرهم وأسعدهم ، من تقريب بين النفوس ، وتثقيف للعقول ، وتصحيح للأبدان ، وتطهير للقلوب ، وأخذ بيد الضعيف ... فكيف يشكو الناس من هذا الفيض الرباني الذي غمرهم فنقلهم من الظلمات إلي النور ؟

لم يشك أحد من هذا الشعب المفتري عليه ، ولكن الذين شكوا هم سكان القصور في القبة وعابدين ، ومرضي النفوس من من الساسة المحترفين ، الذين رأوا في هذه الفكرة تدمير آمالهم ، وتحطيم رفاهيتهم القائمة علي استبعاد الشعب ، واستغلال جهوده نفسهم ... لم يكن بد أمام الشعب المغلوب علي أمره – ممثلا في شبابه الطاهر – إلا أن تثور نفسه إزاء الاستفزاز المستمر ، فيقدم علي أعمال يعلم أنها مهالك ، ولكنه يقدم عليها أملا في أن تضع جدا لهذا الاستفزاز المتوقح ، والظلم الجائر ، والاستبداد الفاجر . هي طبيعة النفوس البشرية .. لها طاقة محدودة من التحمل والصبر ، فإذا زاد الضغط علي حد التحمل انفجرت غير عابئة بشيء (             •  ) .

وقعت أحداثخطيرة .. كانت تعبيرا لرد الفعل لا ردا للفعل ، فإن رد الفعل الذي كان يجب أن يقع – وهو كما تقول القوانين يضاد الفعل ويساويه – أن تندلع في البلاد ثورة عاتية تقتلع الظلم والظالمين ... ولكن يبدو أن إرادة الله قدرت أن تؤجلها – كما يتضح ذلك في ثنايا الحديث عن المحاكمات – أو لعل هذه الثورة لم تكن قد استكملت بعد كل عناصر اندلاعها ، فكانت هذه الأحداث مقدمة لها ، ونذيرا بها ، وإرهاصا بقدومها .. وإذا أردنا أن نحصي هذه الأحداث ، هالتنا كثرة عددها ، ولذا فإننا نختار منها ما استطاعت أن تصل به تلك العصابة الحاكمة إلي الحد الذي صورته للشعب في صورة الإعداد للثورة عليها ، والعمل علي قلب نظام الحكم ، وشكلته في هيئة قضايا خطيرة ، أمضي القضاء الجنائي في نظرها بضع سنين ، وقامت الدنيا لها وقعدت لما أثير فيها من أسرار ومفاجآت . ولما كنا بصدد الحديث عن المحاكمات ، فنري عليما أولا وقبل الخوض فيها أن نعرض لقضية نسيت إلي الإخوان كهيئة زورا وبهتانا ؛ لأنها لم تكن إلا عملا فرديا ، وتصرفا شخصيا ، ووحي انفعال ذاتي ، كما ينفعل أي فرد من الناس علي آخر في الطريق أو في العمل أو في البيت نتيجة كلمة نابية أو تصرف يمسي كرامته .. فهل إذا أسفر هذا الانفعال عن ضرر يكون كل الجهة المتسبب إليها هذا الفرد مؤاخذ بآثار انفعاله ؟ ... كان هذا الانفعال الفردي ، وما نجم عنه من تصرف شخصي بحث هو ما سمي " قضية اغتيال الخازندار " .

قضية اغتيال الخازندار

وقعت هذه الجريمة في 22 فبراير 1948 . واتهم فيها طالبان من المنتسبين إلي الإخوان ... ولا أزال أذكر كيف وقع نبأ هذه الجريمة علي الأستاذ الإمام وعلينا جميعا موقع الصاعقة .. حتى أن الأستاذ – رحمه الله – تنهد طويلا وأخذ يشكو إلي الله من هذا التصرف الأحمق والحماس الأعمي الذي شبهه بإخلاص الدب لصاحبه ، إذ أراد أن يخلصه من مضايقة ذبابة علي وجهه وهو نائم ، فأتي بحجر ضخم وألقاه علي الذبابة فلم يصبها ولكنه قتل صاحبه . تبين فيما بعد أن هذين الشابين – وكانا بعد في الدراسة الثانوية – كانا صديقين لشابين في مثل سنهما من الإخوان هما حسين محمد عبد السميع ومحمود نفيس حمدي ، اتهما – في معمعان ثورة الشعب علي طغيان العسكريين الانجليز وتعديهم علي أفراد الشعب – بإلقاء قنبلة يدوية علي نادي الضباط الانجليز بالقاهرة في ليلة عيد الميلاد من عام 1947 ولم يصب أحد من هذه القنبلة ، ولم يقبض عليهما في مكان الحادث بل ضبطا في أثناء سيرهما . وتفتيشهما وجد في جيب الأول قنبلة لما سئل عنها قال إنه وجدها في الطريق . ولما عرضت هذه القنبلة علي ضابط استكشاف القنابل قدم تقريرا بأنها ليست من النوع الذي ألقيفي تلك الليلة .. وقد قدم هذان الشابان إلي محكمة الجنايات برياسة المستشار أحمد الخازندار بك فأصدرت حكمها في 18 يناير 1948 بحبس حسين عبد السميع ثلاث سنوات مع الشغل وغرامة مائة جنيه – وقد سبق أن أشرنا إلي هذه الحادثة في موضعها في الجزء الأول من هذا الكتاب .

وفي خلال ذلك العام نفسه عام 1947 كانت هناك أمام القضاء قضية هامة لجريمة بشعة مروعة وقعت في الإسكندرية وقد هزت أرجاء البلاد سميت بجريمة سفاح الإسكندرية وكان يدعي حسن قناوي . وقد راح ضحية هذه الجريمة أكثر من قتيل . وكانت دوافع ارتكاب جرائم القتل هذه دوافع جنسية قذرة .. وكانت تفاصيل هذه القضية وما دار في جلساتها من شهادات مما يزكم الأنوف ، ويؤذي المشاعر ، من بهيمية منحطة ووحشية مرعبة .. وكان ما تنقله الصحف مما يدور في جلسات هذه القضية يثير الذعر والاشمئزاز في نفس كل مصري ومصرية .. وتمني الشعب كله أن لو استطاع القضاء أن يخلص الإنسانية من هذا الوحش الكاسر الدنئ .. وطالب الأستاذ أنور حبيب وكيل النيابة في مرافعته برقية المتهم فجاء طلبه مترجما لشعور الناس جميعا في أنحاء البلاد . ولكن الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات برياسة أحمد الخازندار بك كان صدمة لمشاعر الناس ، فقد أصدرت المحكمة في 12 مارس 1947 علي سفاح الإسكندرية بسبع سنوات من الأشغال الشاقة ، تلقاها المتهم – كما جاء بالصحف في ذلك الوقت – بالابتسام بعد أن كان واجما . تبين أن هذين الشابين حنقا علي رئيس المحكمة ألا يراعي في حكمه الدوافع الوطنية النبيلة في القضية الأولي ، وأن يساوي بينها وبين الدوافع القذرة الأثيمة الثانية ، فأقدما علي ما أقدما عليه .

كانت هذه الجريمة في ذاتها – مع كل ما قيل فيها من اعتبارات وظروف – جريمة شائنة ، ولكنها بالنسبة للإخوان المسلمين – وهم متقيدون بالمثل الإسلامية العليا – كانت صدمة قاسية ، وكارثة أليمة ... وما كان الإخوان في ذلك الوقت يملكون إزاءها أكثر من أن يعلنوا استنكارهم أشد الاستنكار ، وتبرؤهم منها ومن مرتكبيها . ومع أن محاكمة الشابين أثبتت أنهما لم يستوحيا إقدامهما علي الجريمة من أية جهة غير تصورهما الشخصي ، ومع أن الفحص الطبي أثبتت أن بهما لوثة من الجنون ، وأصدرت المحكمة بناء علي ذلك حكمها عليهما بالأشغال الشاقة المؤبدة دون الإعدام ... مع كل هذا فإن هذه الجريمة تركت أثرها في نفوس الرأي العام بأن كل ذلك لم يكن كافيا لإبراء ذمة دعوة هي في نظر الناس أطهر من ماء السماء ... وليس معني هذا أن الرأي العام قد وصم الإخوان بهذه الجريمة ، أو اعتقد أن لهم فيها يدا ، وإنما كان يتمني ألا يكون مرتكبا هذه الجريمة قد انتسبا إلي هذه الدعوة في يوم من الأيام .. وكما أن هذا الشعور كان شعور الرأي العام فإنه أيضا كان شعور الإخوان أنفسهم لاسيما الأستاذ الإمام ، الذي دفعه هذا الشعور إلي إعداد العدة لإعادة النظر في صفوف المنتسبين إلي الدعوة ... ولولا معالجة الأحداث له لنفذ الخطة التي أعدها لذلك ، وإن كان المسئولون عن الدعوة من بعده قد وضعوا خطته هذه موضع التنفيذ .. مما يأتي بيانه في فصول قادمة إن شاء الله .

هذا بيان موجز غاية الإيجاز عن هذه القضية كان لابد من تقديمه قبل الحديث عن موضوع هذا الفصل – فإن هذه القضية – وأن لم تكن من قضايا الإخوان – إلا أنها كانت من أبعد القضايا أثرا في دعوة الإخوان المسلمين بحثي اتجهت بها اتجاها خاصا ، وشكلتها بتشكيل معين .

أهم القضايا المسماة بقضايا الإخوان

ثم نرجع إلي ما كنا بصدده مما تمخضت عنه جهود حكومة عبد الهادي إذ تمخضت عن عدد وافر من القضايا أهمها هذه الخمس :

1 – قضية اغتيال النقراشي.

2 – قضية محاولة نسف محكمة الاستئناف

3 – قضية السيارة الجيب.

4 – قضية الأوكار.

5 – قضية محاولة اغتيال حامد جوده (رئيس مجلس النواب).

وكل هذه القضايا وقعت أحداثها في عهد عبد الهادي ماعدا قضية السيارة الجيب فقد وقعت أحداثها في عهد النقراشي .. وقد تعارف الناس كما تعارفت الصحافة علي تسمية هذه القضايا الخمس بقضايا الإخوان .. وقد استغرق نظر هذه القضايا الفترة الزمنية ما بين أيام عبد الهادي سنة 1949 حتى بعد قيام الثورة إلي عام 1945 حيث لم يكن القضاء قد أنهي بعد نظر قضيتي حامد جوده والأوكار – أما القضايا الثلاثالأخرى فقد صدر حكم قضائي عسكري في اثنين منها وهما قضية اغتيال النقراشي وقضية محاولة نسف محكمة الاستئناف في عهد وزارة عبد الهادي .. أما القضية الباقية وهي قضية السيارة الجيب قد نقلت من القضاء العسكري بعد أن نظرها حينا إلي القضاء العادي حيث ألغيت الأحكام العرفية ، وأصدر القضاء حكمه فيها في عهد وزارة الوفد سنة 1951 .

وفي معالجتنا لموضوع المحاكمات لن نقصد إلي تناول هذه القضايا تناولا موضوعيا مفصلا ، وإنما سوف نقتصر في هذا التناول علي النواحي الشكلية منها .. تلك النواحي التي جعلت من هذه القضايا بدلا من أن تكون محاكمة لأفراد علي تهم وجهت إليهم .. جعلت منها محاكمة تاريخية لعهد ، ولأسلوب حكم ، ولفترة مظلمة من حياة هذه البلاد . ولهذا فقد حشدت حكومات ذلك العهد كل ما تملك من قوة ومال وسلطة وبطش ، وفرغت المسئولين فيها في جميع المواقع لجمع العناصر التي لابد من جمعها لخلق هذه القضايا وتكوينها .. وكانت غايتها من وراء ذلك أن تجد بين يديها آخر الأمر من أحكام القضاء ما يدفع الإخوان المسلمين بالجريمة ، فيكون هذا الدفع القضائي مبررا لما اتخذته ضدهم من إجراءات انتقامية شاذة فاجرة .. ويكون في هذا الإجهاز التام علي الجريح المثخن بالجراح ولكنه لا يزال يغالب الموت . ومع أن معالجتنا لهذه المحاكمات هي علي النحو الذي بيناه ، فإننا مطالبون مع ذلك بأن نضع بين يدي القارئ فكرة موجزة عن كل واحدة من هذه القضايا حتى يساير الحديث الذي نسوقه بعد ذلك فيما يتصل بها إن شاء الله .

نبذة موجزة عن هذه القضايا

1 – قضية اغتيال النقراشي

وقعت هذه الجريمة في 28 ديسمبر 1948 ، وقبض فيها علي الجاني عبد المجيد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري ... وحسب هذه القضية ما كتبناه في الفصول الأولي من هذا الجزء من الكتاب ، فقد أطلنا الحديث فيها عن ظروف هذه الجريمة وأسبابها ودواعيها وعن المسئول الحقيقي عن وقوعها – كما أشرنا إلي " بيان الناس " الذي أخذوه من الأستاذ الإمام بدعوى أنه وسيلة لتحسين العلاقات بين الإخوان والحكومة ، ولكنهم استعملوه لزلزلة عقيدة المتهم في هذه القضية .. وقد تزلزلت عقيدته فعلا فبعد أن اعترف بأنه أقدم علي هذه الجريمة من تلقاء نفسه تراجع وأخذ يتهم آخرين بالتأثير عليه .

قرار الاتهـام

وكان محمود منصور بك في ذلك الوقت هو النائب العام ، وكان من المتفانين في خدمة أغراض الطغمة الحاكمة ، حتى إنه كان يريد ضم جميع قضايا الإخوان في قضية واحدة ، وتقديمها إلي القضاء العسكري .. ولكن نظرا لطول التحقيق وكثرة عدد المتهمين ، مما يحتاج إلي وقت طويل في النسخ والاطلاع والاستعداد ، فقد رأوا أن الوقت لا يتسع لنظر هذه القضية في العام القضائي الحالي الذيينتهي في منتصف يونيه – وإن كان هذا لا يمنع من نظرها خلال العطلة ، علي اعتبار أن القضايا العسكرية من القضايا التي تنظر علي وجه الاستعجال ، فلا تحول العطلة القضائية دون نظرها – ولكن رئي أخيرا – لتعذر هذه الخطة – العدول عنها . واكتفي النائب العام بعد ذلك بضم المتهمين في قضية السيارة الجيب وقضية حامد جوده إلي المتهمين في قضية اغتيال النقراشي ، ووضع تقرير الاتهام في هذه القضية في 8 مايو 1949 ، وجعل المتهمين فيها 24 متهما ، منهم خمسة متهمون بالاشتراك في قتل النقراشي ، والتسعة عشر الباقون متهمون بالاتفاق الجنائي مع الخمسة للاستيلاء علي الحكم بالقوة ، وأصدر قرار الاتهام علي الصورة الآتية :

1 – عبد المجيد أحمد حسن سن 22 سنة طالب بكلية الطب البيطري بسجن الأجانب

2 – السيد فايز عبد المطلب سن 29 سنة مهندس ومقاول مدني بسجن مصر

3 – محمد مالك يوسف محمد مالك موظف بمطار القاهرة هارب

4 – عاطف عطية حلمي سن 25 سنة طالب بكلية الطب بسجن مصر

5 – سيد سابق محمد التهامي سن 24 سنة مقرئ دلائل بسجن مصر

6 – أحمد عادل كمال سن 33 سنة موظف بالبنك الأهلي بسجن مصر

7 – طاهر عماد الدين سن 25 سنة مهندس بشركة كوكينوس بسجن مصر

8 – إبراهيم محمود علي سن 30 سنة ترزي بسجن مصر

9 – مصطفي كمال عبد المجيد أيوب سن 26 سنة مكانيكي بسجن الأجانب

10 – مصطفي مشهور مشهور سن 27 سنة مهندس بالأرصاد الجوية بسجن مصر

11 – محمود السيد خليل الصباغ سن 28 سنة مهندس بالأرصاد الجوية بسجن مصر

12 – أحمد زكي حسن سن 25 سنة مدرس بمدرسة الجيزة الابتدائية بسجن مصر

13 – أحمد محمد حسنين سن 28 سنة مراقب حسابات شركة المعادن بسجن مصر

14 – محمد فرغلي النخيلي سن 29 سنة تاجر معادن بسجن مصر

15 – عبد الرحمن علي فراج السندي سن 32 سنة موظف بوزارة الزراعة بسجن مصر

16 – محمد حسني أحمد عبد الباقي سن 33 سنة عضو مجلس مديرية الجيزة بسجن مصر

17 – أحمد قدري البهي الحارتي سن 21 سنة مهندس بمصلحة الطيران المدني بسجن مصر

18 – محمد بكر سليمان سن 26 سنة نساج بشركة النيل للمنسوجات بسجن مصر

19 – أسعد السيد أحمد سن 26 سنة ميكانيكي بسجن مصر

20 – محمد سعد الدسن السنانيري سن 28 سنة مقاول نقل بسجن مصر

21 – علي محمد حسنين سن 27 سنة قوموسيونجي بسجن مصر

22 – سعد محمد جبر سن 28 سنة مهندس لاسلكي بسجن مصر

23 – محمد محمد فرغلي سن 42 سنة واعظ الإسماعيلية بسجن مصر

24 – محمد إبراهيم سويلم سن 22 سنة فـلاح بسجن مصر

الأول متهم بقتل النقراشي باشا والأربعة التالون اشتركوا معه بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة ، والجميع حتى 24 متهمون بالاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب الجنايات والجنح المذكورة بعد ، واتخاذها وسائل للوصول إلي استيلاء علي الحكم بالقوة . واتحدت إرادتهم علي الأعمال المسهلة والمجهزة لارتكابها .. وهذه الجرائم هي :

1 – قلب وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بواسطة عصابات مسلحة .. المادتين 87 ، 88 عقوبات .

2 – إتلاف سيارات وأسلحة الجيش المصري المعدة للدفاع عن البلاد ، الأمر المنطبق عليه المادة 81 عقوبات

3 – تخريب المنشآت الحكومية وأقسام ومراكز البوليسومحطات الإضاءة والمياه وغيرها – المادة 90 عقوبات

4 – قتل عدد كبير من المصريين والأجانب المبينة أسماؤهم بالكشف المرفق عمدا مع سبق الإصرار والترصد ، مما ينطبق عليه المواد 230 ، 231 ، 232 عقوبات .

5 – تعريض أموال الناس وحياتهم عمدا للخطر باستعمال القنابل والمفرقعات في عدد من السفارات والقنصليات الأجنبية وغيرها من الأماكن العامة والخاصة المأهولة بالسكان والمبينة بالكشف – المادة 258 عقوبات

6 – تعطيل وسائل النقل العامة بنسف قطارات السكة الحديدية وجسورها وخطوطها ونسف الطرق والكبارى العامة وسيارات الأوتوبيس ، وتعطيل القوى الكهربائية المولدة لحركة الترام – المادة 167 عقوبات .

7 – إتلاف الخطوط التلغرافية والتليفزيونية الحكومية عمدا في زمن الفتنة ، بقطع أسلاكها وقوائمها ونسف أدواتها – المادتين 165 ، 166 عقوبات .

8 – سرقة البنك الأهلي وبعض المحال التجارية بطريق الإكراه ، باقتحامها بأشخاص مسلحين .

9 – إتلاف مباني شركة قنال السويس .

10- قتل خيول البوليس عمدا .

11- إقامة واستعمال محطات إذاعة سرية .

ثم طلبت النيابة بناء علي مواد الأحكام العرفية إحالة القضية إلي المحكمة العسكرية .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قائمـة الشهـود

طائفة للشهادة في حادث قتل النقراشي باشا ، والطائفة الثانية عن حادث ضبط السيارة الجيب . والثالثة عن ضبط حافظة جلدية مع المتهم مصطفي مشهور وبها باقي أوراق الجماعة ، والرابعة عن ضبط محطة الإذاعة ، والخامسة عن ضبط أسلحة ومفرقعات في دكان السنانيري بمصر القديمة ، والسادسة عن ضبط أسلحة ومفرقعات وأوراق الجماعة الإرهابية في مزرعة الشيخ محمد محمد فرغليبالإسماعيلية . كما وجدت أوراق لتكوين جماعة لغرض التجسس علي جميع الأحزاب السياسية وغيرها من الهيئات كالبوليس السياسي ونقابات العمال وحزب العمال الاشتراكي . وقد بلغت ملفات التحقيق ألفي صفحة . وتولي التحقيق فيها محمود منصور باشا – الذي استحق أن ينعم عليه بالباشوية – ومعه كبار رجال النيابة – وتنظر القضية في دورة يوليو ويترافع فيها محمود منصور باشا بنفسه .

ومعذرة إلي القارئ ، فقد أتعبت نفسي بنقل كل هذه البنود ، ولابد أنه قد أرهق أيضا بقراءتها ، ولكني تحملت وإياه هذه المشقة مرة واحدة ، لأعفيه من قراءتها مرات بعد القضايا . فإن هذه البنود التي تفتق عنها ذهن موظف النيابة الذي وكل إليه أمر اختراعها هي التي تضمنتها قرارات الاتهام في جميع القضايا .. ولقد كان مؤسفًا ، وسنة سيئة ، اقتفت أثرها الحكومات التي جاءت بعد ذلك حين أرادت أن تنكل بخصومها السياسيين . وأحيلت هذه القضية إلي القضاء العسكري أمام دائرة عسكرية عليا برياسة محمد مختار عبد الله بك وعضوية غالب عطية بك ومحمد عبد العزيز كامل بك واثنين من العسكريين ، ومثل النيابة الأستاذمحمد عبد السلام .

طلب رد رئيس المحكمة

وقد تقدم المتهمان السابع السيد فايز والخامس عشر محمد نايل طالبين رد رئيس المحكمة .. فتنحي مؤقتا ونظر أسباب الرد العضوان الآخران في حجرة المداولة . وبعد ساعتين نطقت الهيئة برفض طلب الرد . وأخذ الدفاع علي رئيس المحكمة أنه قام بدور قاضي التحقيقفي هذه القضية مما يبطل هذا التحقيق ، ولكنه رفض رأي الدفاع وأصر عليمواصلة نظر القضية .. وكان لهذا الرجل مواقف غريبة في أثناء نظر هذه القضية سنشير إليها في موضعها إن شاء الله . وقد استمعت المحكمة فيمن استمعت إليهم من الشهود إلي عبد الرحمن عمار .. وقد ناقشه الدفاع في مذكرة الحل التي كان قد أعدها .. وألقي مرافعة النيابة محمد عزمي بك النائب العام فيذلك الوقت ، حيث سقطت في خلال هذه الفترة فجأة وزارة عبد الهادي ، فلم يعد لمحمود منصور مكان في الحكومة الجديدة التي أرادت أن تظهر للشعب بمظهر المطهر . وبدأت جلسات هذه القضية في 27/8/1949 وكانت آخر جلساتها في 25/9/1949 ، ومعني هذا أنها لم تستغرق إلا أقل من شهر . وصدر الحكم فيها في 9/10/1949 بإعدام المتهم الأول وبأحكام دون ذلك لبقية المتهمين ومنها البراءة لبعضهم .

2– قضية محاولة نسف محكمة الاستئناف

وهي تعتبر ملحقة بالقضية السابقة ؛ لأنها مرتبطة بها في ظروفها ودواعيها التي وضحناها من قبل . وقد وقعت هذه المحاولة في 12/1/1949 والمتهم فيها هو شفيق إبراهيم أنس سنه 22 سنة يعمل موظفا في أرشيف وزارة الزراعة .. وقد أراد أن ينسف المحكمة انتقاما لما كان يجري بين جدرانها من تزييف وتلفيق وإكراه وتعذيب لإخوانه .. علي أن أحدا لم يصب والحمد لله . وقد نظرت هذه القضية أمام نفسالمحكمة التي نظرت قضية اغتيال النقراشي . وكان ممثل الاتهام فيها هو محمد كامل القاويش.. ولم تستغرق المحاكمة إلا أياما قليلة صدر بعدها الحكم علي المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة .

3– قضية السيارة الجيب

في يوم 21/11/1948 نشرت الصحف نبأ أذاعته وزارة الداخلية يقول : إنه قد تم ضبط سيارة جيب بها كميات كبيرة جدا من المتفجرات الخطرة والأوراق في دائرة قسم الوايلي أمام أحد المنازل . وتبين أن راكبي السيارة الذين جروا وقبض عليهم من جماعة الإخوان المسلمين . وفي 25/9/1949 وضع النائب العام محمد عزمي بك تقرير الاتهام في هذه القضية ، فقدم 32 متهما بتهمة الاتفاق الجنائي علي قلب نظام الحكم – ولا داعي لإعادة إثبات البنود الأحد عشر التي دأبت النيابة علي رصها رصا في هذه القضايا أمام القضاء – أما المتهمون فهم :

1 - عبد الرحمن علي السندي 32 سنة موظف بوزارة الزراعة

2 - مصطفي مشهور 27 سنة مهندس بالأرصاد الجوية

3 - محمود الصباغ 28 سنة مهندس بالأرصاد الجوية

4 - أحمد زكي حسن 25 سنة مدرس ابتدائي

5 – أحمد محمد حسنين 28 سنة مراقب حسابات شركة المعادن

6 – محمد فرغلي النخيلي 29 سنة تاجر معادن

7 – أحمد قدري الحارتي 21 سنة مهندس بالطيران المدني

8 – محمد حسني عبد الباقي 33 سنة عضو مجلس مديرية الجيزة

9 – أحمد متولي حجازي 29 سنة تاجر راديو

10 – السيد فايز عبد المطلب 29 سنة مهندس ومقاول مباني

11 – أحمد عادل كمال 23 سنة موظف بالبنك الأهلي

12 – طاهر عماد الدين 25 سنة مهندس

13 – إبراهيم محمود علي 30 سنة تـرزي

14 – دكتور أحمد الملط 32 سنة طبيب بوزارة الصحة

15 – جمال الدين فوزي 39 سنة موظف بالبريد

16 – محمود حلمي فرغلي 27 سنة موظف بالداخلية

17 – محمد أحمد علي 25 سنة موظف بالأشغال

18 – عبد الرحمن عثمان 22 سنة طالب حقوق

19 – السيد إسماعيل شلبي 44 سنة تاجر

20 – محمد بكر سليمان 26 سنة نساج

21 – أسعد السيد أحمد 26 سنة ميكانيكي

22 – صلاح الدين عبد المتعال 18 سنة طالب ثانوي

23 – جمال الدين الشامي 26 سنة مهندس ري

24 – جلال الدين ياسين 24 سنة موظف وطالب بالتجارة

25 – محمد الطاهر حجازي 24 سنة طالب بالزراعة

26 – عبد العزيز البقلي 24 سنة تـرزي

27 – كمال القزاز 27 سنة نـجـار

28 – محمد سعد الدين السنانيري 27 سنة مقاول نقل

29 – علي حسنين الحريري 27 سنة قوموسيونجي

30 – محمد محمد فرغلي 42 سنة واعظ الإسماعيلية

31 – محمد إبراهيم سويلم 22 سنة فلاح بالإسماعيلية

32 – سليمان مصطفي عيسي 23 سنة فلاح بالإسماعيلية

وجاء في ملاحظات النيابة علي هذه القضية وجود رسم حارة اليهود ورسم للسفارتين الأمريكية والبريطانية وتقرير عن حسن رفعت باشا ( ويبدو أنه كان الأستاذ الأعظم للماسونية في ذلك الوقت ) ومحل إقامته والأشخاصالذين يترددون عليه والأمكنة التي يتردد هو عليها ، وتقرير عن نسف مصنع النيل للمنسوجات بشبرا .. وقد قرر المتهم محمد بكر سليمان أنه حرر هذه الأوراق بخطه ، وزعم أنه حررها من نسج الخيال لتحسين خطه . والملحوظة الأخيرة هي أنه ضبط في دار المركز العام للإخوان المسلمين مشروع اعترف المتهم سليمان مصطفيعيسي بأنه حرره ، وجاء فيه أنه يقترح أن يكون هذا النظام جمهوريا اشتراكيا ، وأن ينتخب مصطفي عيسي بأنه حرره ، وجاء فيه أنه يقترح أن يكون هذا النظام جمهوريا اشتراكيا ، وأن ينتخب رئيس الجمهورية لمدي الحياة . وقد أحيلت القضية إلي دائرة جنائية عسكرية عليا . ولما رفعت الأحكام العرفية أحيلت إلي دائرة جنايات عادية برياسة أحمد كامل بك وعضوية محمد عبد اللطيف بك وزكي شرف بك . ومثل النيابة محمد عبد السلام بك .. وعقدت هذه المحكمة لنظر هذه القضية جلسات متوالية . وكانت أول جلسة لنظرها في هذه الدائرة يوم 2/12/1950 . وقد استدعت المحكمة بناء علي طلب الدفاع في هذه القضية إبراهيم عبد الهادي واستجوبته باعتباره شاهدا ، كما استدعت كثيرين من كبار رجال الدولة وقواد الجيش ومن كبار رجالات العرب .

وفي أثناء نظر هذه القضية قام الأستاذ شمس الدين الشناوي – أحد أفراد هيئة الدفاع – بتقديم الوثيقة التي أشرنا إليها في فصل سابق ، فكانت مفاجأة اهتزت لها الأوساط البريطانية والدوائر السياسية ... وفي أثناء نظر هذه القضية في 26/2/1951 ، وتقرر النطق بالحكم يوم 17 مارس 1951 ، وبذلك يكون نظر هذه القضية قد استغرق أمام هذه الدائرة نحو ثلاثة أشهر ونصف شهر . وكان للحكم الذي أصدرته هذه المحكمة في هذه القضية ، ولحيثيات هذا الحكم ، دوى كبير في الأوساط القانونية والأوساط السياسية في مصر وفي خارج مصر .

4 – قضية محاولة الاعتداءعلي حامد جوده

رؤي في أول الأمر نظر هذه القضية وحدها . ونظرت عدة جلسات منها فعلا أمام محكمة عسكرية عليا – ولم يكن المقصود من هذا الحادث الذي وقع في 6 مايو 1949 هو حامد جودة ، بل كان المقصود هو إبراهيم عبد الهادي ، ولكن هذا تخلف عن موعده ، ومر حامد جوده فألقيت علي سيارته قنبلة وهو يمر عند جامع عمرو ، ولكنها لم تصبه . وقدمت النيابة عشرة متهمين في هذه القضية إلي القضاء العسكري وهم :

1 – مصطفي كمال عبد المجيد ( ميكانيكي )

2 – محمد نجيب جويفل ( طالب )

3 – عبد الفتاح ثروت ( راصد جوي )

4 – فتحي محمد علام ( طالب )

5 – سمير جلال شهبندر

6 – مصطفي محمد الجابري

7 – عبد الكريم محمد السيد ( عامل )

8 – محمد شحاته عبد الجواد ( طباع )

9 – سعيد جلال شهبندر ( طالب )

10 – علي صديق السيد فرج ( طالب )

والمحكمة العسكرية العليا التي نظرت هذه القضية في أول الأمر كانت برياسة رياض رزق الله بك وعضوية عبد المليجي بك وقطب عمر بك واثنين من العسكريين .. ثم أحيلت إلي دائرة عسكرية أخري برياسة مرسي فرحات بك وعضوية محمود صبري بك وعبد الرحمن جنينة بك واثنين من العسكريين . وقد ظلت هذه القضية تنظر أمام هذه الهيئة حتى جاءت وزارة الوفد وأسندت وزارة التموين إلي مرسي فرحات بك فأجلت جلساتها . ولما رفعت الأحكام العرفية أحيلت إلي دائرة جنائية غير عسكرية برياسة حسين طنطاوي بك .. وفي الجلسة الرابعة لهذه الدائرة وافقت المحكمة علي ضم هذه القضية إلي قضية الأوكار واعتبارهما قضية واحدة .. وسمعت هذه الدائرة الأستاذ حامد جوده باعتباره شاهدا . وفي أثناء نظر هذه القضية أمام المحكمة العسكرية الثانية وافقت المحكمة علي طلب للدفاع بضم ملف قضية اغتيال الأستاذ الإمام حسن البنا ، فكان هذا هو أول تحريك لهذه القضية .

5– قضية الأوكـار

هي قضية حشروا فيها كل من أرادوا حشره من الإخوان – الخطرين في نظرهم – وأسندوا إليهم تهما باتخاذهم أوكارا جمعوا فيها أسلحة وذخائر ومحطات إذاعة لقلب نظام الحكم .. وقد ضمت هذه القضية أكبر عدد من المتهمين حيث بلغ عددهم خمسين متهما وهم العشرة المتهمون في قضية حامد جوده ، مضافا إليهم من يأتي :

11 – حلمي محمد الفيومي 29 – محمد طه عبد النبي

12 – حسين حامد عوده 30 – عبد الفتاح محمد شوقي

13 – محمد محمود دعبس 31 – أحمد علي يوسف

14 – فؤاد أحد الصادق 32 – كمال عبد المجيد مرسي

15 – عبد الفتاح إسماعيل علم الدين 33 – حسن يوسف طويلة

16 – دسوقي إبراهيم ضيف 34 – مصطفي أمين البطاوي

17 – محمد عبد الحكيم عبد العليم 35 – محمد جلال إبراهيم سعده

18 – صلاح الدين أحمد علي 36 – صالح محمد محمد الجنايني

19 – إبراهيم عامر محمد 37 – يحيي أمين البطاوي

20 – محمد حلمي الكاشف 38 – مصطفي محمد محمود البساطي

21 – إسماعيل علي السيد 39 – سعد محمد جبر التميمي

22 – جمال الدين عطية محمد 40 – محمد عبد العزيز علي خالد

23 – وائل محمد زكي شاهين 41 – محمد عبد المتعال محمد مدني

24 – مختار حسين إبراهيم 42 – محمد نايل محمود إبراهيم

25 – محمود علي حطيبة 43 – محمود يونس الشربيني

26 – حسن أحمد يوسف 44 – عز الدين إبراهيم

27 – يوسف عبد المعطي شرك 45 – عصام الدين حامد الشربيني

28 – إبراهيم أحمد محرم 46 – يوسف علي يوسف

47 – أحمد محمد البساطي 48 – أحمد نجيب الفوال

49 – بيومي مرسي جعفر 50 – علي أحمد رياض

وجاء في تقرير النيابة أن هؤلاء المتهمين قد قبض عليهم في أوكار : وكر روضالفرج ووكر شبرا ووكر شارع السندوبي ووكر آخر بروض الفرج ووكر الجيزة ، وعثروا في هذه الأوكار علي محطة إذاعة وأسلحة وذخيرة ، واتهمتهم النيابة باتفاق جنائي لمحاولة قتل إبراهيم عبد الهادي . ومن هؤلاءالخمسين متهما أربعة أفلتوا من أيدي البوليس السياسي وتمكنوا من الهرب إليليبيا وهم : محمود يونس الشربيني وعز الدين إبراهيم ويوسف علي يوسف ومحمد جلال سعده . وقد قبض البوليس بعد نحو شهر في الإسكندرية علي أحدهم وهو يوسف علي يوسف – أما الثلاثة الآخرون فقد تمكنوا من الفرار إلي ليبيا قبل القبض عليهم . وقد نشرت الصحف صورهم بأمر الطغمة الحاكمة ، وطالبت الطغمة حكومة ليبيا بتسليمهم مهددة بقطع العلاقات إذا لم يسلموا ، ولكن عاهل ليبيا الملك إدريس السنوسي رفض تسليمهم ، فكان موقفا إسلاميا بطوليا لهذا الرجل العظيم .

وهذه القضية – قضية الأوكار – هي التي اغتال البوليس السياسي في أثناءتتبع الإخوان فيها الأخ الشهيد أحمد شرف الدين بأحد منازل حي روض الفرج . ولما ضمت هذه القضية وقضية محاولة اغتيال حامد جودة فيقضية واحدة أمام الدائرة التي يرأسها حسين طنطاويبك ، وافقت هذه الدائرة – بناء علي إلحاج الدفاع – علي تحقيقالتعذيب ... وجاءذكر " العسكري الأسود " في سياق ما ذكره المتهمون من ألوان التعذيب التي كانوا يسامونها مما نبسط الحديث عنه في صفحات قادمة إن شاء الله ... وقد افتضحت أساليب التعذيب في أثناء نظر هذه القضية بحيث صارت جريمة ثابتة بالأدلة المادية .

وهنا وفي جلسة يوم 9/6/1951 طالب الدفاع بالإجماع المحكمة بأن تفضل أولا في بطلان الإجراءات نظرا لما سمعته من شهادات قاطعة بحدوث التعذيب واشتراك النيابة في تزوير القضية . وأصر الدفاع بإجماع أعضائه علي هذا الطلب .. ثم عقدت الجلسة وقام رئيسالمحكمة وهو في حالة نفسية تسترعي النظر وقرر تأجيل القضية لدور مقبل ، بعد أن اتهم الدفاع بوضع العراقيل أمام المحكمة . وفي 24 أكتوبر 1951 عقدت المحكمة جلسة قررت فيها الإفراج عن 25 منهما وهم : سمير جلال شهبندر ومصطفي الجابري وسعيد شاهبندر وعلي صديق والمتهمين أرقام 12 و 13 و 19 و 21 و 22 و 23 و 24 و 25 و 26 و 27 و 29 و 30 و 31 و 32 و 36 و 39 و 40 و 41 و 42 و 45 و 47 – وكان قد افرج من قبل عن ستة من المتهمين . واستمر حبس 19 متهما هم الباقون . وأجلت القضية إلي دور مقبل .. وظلت القضية معلقة حتى أول أكتوبر 1954 حيث تقرر إعادة عرضها من جديد علي محكمة الجنايات . وكان هذا هو السبب في أن هذه القضية لم تتم جلساتها ولم يصدر فيها حكم حتى قامت الثورة في 23 يوليو 1952 .

هيئات الدفـاع
  • في قضية السيارة الجيب : المحامون الأساتذة ( مرتبون حسب ترتيب المتهمين ) :

محمود كامل - أحمد رشدي بك - عبده أبو شقة - حسن الجداوي - علي منصور

إبراهيم رياض - فتحي رضوان - الدكتور عزيز فهمي - زكي عريبي - يوسف حلمي

فهمي أبو غدير - عبد المجيد نافع - فهمي القلعاوي - مختار عبد العليم

علي حسين بك - علي بدوي بك - شمس الدين الشناوي - الدكتور مصطفي القللي بك

صلاح توفيق - جمال عبد الفتاح - طاهر الخشاب - محمد المسماري

إسماعيل وهبي - حسن العشماوي - حنفي عبود - هنري فارس

  • في قضية الأوكار وجودة : المحامون الأساتذة : ( بحسب ترتيب المتهمين أيضا ) :

عبد المجيد نافع - عبد الفتاح حسن - أحمد حسين - مختار عبد العليم

عمر التلمساني - طاهر الخشاب - عبد الرحمن الوكيل - الدكتور عزيز فهمي

جلال شاهين - فتحي رضوان - سامي عازر جبران - زكي البهنيهي بك

شمس الدين الشناوي -أحمد السادة - سمير حيدر

  • أما القضيتان الأخريان فكانت هيئة الدفاع فيهما بعض أفراد هاتين الهيئتين مضافا إليهم في قضية النقراشي محامون آخرون منهم الأساتذة محمود سليمان غنام وحنا أنطون وعطية البقلي.

علما بأن هيئات الدفاع في هذه القضايا قد ضمت أعظم المحامين وأكبر رجال القانون في مصر في تلك الأيام.

الفصل الثالث: معالم في هذه القضايا

إن القضايا التي استغرق نظرها أمام القضاء زهاء أربعة أعوام ، وملأت محاضرها عشرات الآلاف من الصفحات ، وتشعبت في كل اتجاه .. ليس من اليسير الإحاطة بكل ما دار فيها ، ولا الإلمام بكل ما تشعب منها ، ولكننا نحاول في هذا الفصل إن شاء الله التقاط عدة صور لأبرز المواقف في هذه القضايا ، بحيث يستطيع القارئ إذا هو أنعم النظر في هذه الصور أن تكون له رؤية واضحة لهذه القضايا . ولا يخفي علي القارئ أن هذه المحاكمات قد بدأت والمسئولون في الدولة ينظرون إلي الأفكار التي حاكموا عليها هذه المجموعة من الشباب علي أنها هي الكفر بعينه ، وهي الخبل والعته والجنون . وتعاقبت في هذه النظرة في هذه المحاكمات خمس حكومات مصرية .. وشايع الشعب هؤلاء المسئولين في نظرتهم ردحا من الزمن ، ولكن المحاكمات نفسها – بما دار فيها وبما تكشف في أثنائها – أخذت كل يوم تغير من نظرة الشعب .. فما كادت تنتهي المحاكمات حتى كان الشعب قد اقتنع تمام الاقتناع بأنه كان مضللا .. وحينئذ قام مع الجيش يوم 23 يوليو 1952 لتحقيق الأفكار التي حوكم من أجلها هؤلاء المتهمون ، والتي طالما تهكم عليا حكام البلاد .. وهكذا كانت هذه القضايا وما تكشف عنها من أفكار وبطولات وفدائية ووعي جديد نتيجة تكوين وتربية استمرت عشرين عاما .. كانت تمهيدا لابد منه لإعداد الشعب للقيام بالثورة وتغيير الأوضاع .

أولا – في قضية النقراشي

رأي رئيس المحكمة في القضية:

في جلسة 29/8/1949 جاء علي لسان بعض المحامين أن هذه القضية قضية سياسية ، فاعترض رئيس المحكمة علي ذلك وقال : أن هذه القضية قضية سياسية ، فتصدي له الأستاذ أحمد حسين وقال : إن هذه القضية سياسية مائة في المائة ، وأنا أطلب سماع أقوال إبراهيم عبد الهادي وحامد جوده وعبد الرحمن عزام لكي أبرهن علي أنني لست متعسفا ، وأقرر أنني أريد أن أصل إلي أكثر من أن شخصا قتل شخصا . وإني أحمل إبراهيم عبد الهادي والآخرين نتيجة هذه الجريمة .

تبجح عمار وانحياز رئيس المحكمة له

في جلسة 4/9/1949 استمعت المحكمة لشهود النفي ومنهم عبد الرحمن عمار . ومن أسئلة الدفاع له :

الدفاع – هل زارك الأستاذ البنا قبيل صدور أمر الحل بساعات ، وتحدث معك في شأن اجتماع سفراء انجلترا وأمريكا وفرنسا في 6 ديسمبر الماضي، وتقديمهم مذكرة بحل الإخوان ، وكان اجتماعهم في فايد؟

الرئيس – هل سفراء يجتمعون في وسط الصحراء ؟ بلاش يا عمار بك الإجابة

عمار – هذه المسألة في مذكرة سرية طبعها الإخوان بعد الحل لكي يظهروا النقراشي بأنه خاضع للتأثير الأجنبي ، وهي واقعة لا ظل لها في الحقيقة.

الدفاع – لقد أوردت في مذكرتك كثيرا من الحوادث منسوبة للإخوان ، مع حفظ التحقيقفيها أو صدور البراءة .. فكيف تفسر ذلك ؟

عمار – لم أكن مقيدا بالتصرفات القضائية التي تصدر في القضايا سواء بالبراءة أو الإدانة ، وإنما كنت أذكر الوقائع التي تنطق بها التحقيقات ، لأن لها دلالتها ومراميها ، فأنا أتصرف في هذا تصرف رجل الأمن .

ولما واجهه الدفاع بأنه كان يحضر في أثناء إجراء تحقيقات النيابة قال إنه حضر بعض التحقيقات لينفذ ما تشير به النيابة العمومية من إجراءات ، ونفي أنه شهد أو سمع أو اشترك في حوادث تعذيب للمتهمين . ولما واجهه الدفاع بأنه أورد في مذكرته حادث مقتل طالب شبين الكوم رغم أن هذا الطالب هو القتيل وهو من الإخوان المسلمين ، فرد علي ذلك بأنه أورد هذا الحادث في مذكرته ؛ لأن الاشتباك الذي نجم عنه الحادث كان الإخوان طرفا فيه .

وناقشة الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي فيما أورده في مذكرته من حادث اشتباك البوليس مع الجوالة وسأله : ألم تسمح إدارة الأمن العام للإخوان بإقامة حفلة في نفس المكان الذي حدث فيه صدام الجوالة ترضية لهم ؟ فقال عمار : لم يحصل .. ولو عرض علي لرفضته . فقال الأستاذ عبد الكريم منصور : ولكن الحفل أقيم فعلا وأنا حضرته .

وتعليقا علي شهادة عمار جاء في مرافعة الأستاذ علي منصور في جلسة 14/9/1949 ما يلي :

" وما وقعت الجريمة حتى احتدمت النيران التي كانت تأكل صدور معظم رجال الإدارة بالنسبة لهذه الجماعة ، وظهر منها أمام المحكمة الروح التي ما استطاع كبير رجال الأمن في ذلك العهد وهو عبد الرحمن عمار أن يخفيها ، فقد اندفع ملكيا أكثر من الملك ، ممثلا حقدا هو بعض ما كان في صدور أعوانه وأتباعه . ثم قال :

" إن النيابة صورت الإخوان في الصورة التي ارتأتها في نظرها ، وهي إدخال كل من مت لهذه الجماعة بصلة إلي داخل نطاق هذه الصورة .. وفي إمكان الدفاع أن يقارع قول النيابة في تكييف الإطار الخاص بالإخوان بأن يستشهد بأقوال ذات كبراء البلد ووزرائها يوما في الجماعة المكونة لهذا الإطار .. ولكنه (الدفاع) لا يقر مبدأ الجمع بين هذه القضية كقضية قتل مستقلة وبين غيرها حتى لا ينحدر إلي مبدأ أخذ هؤلاء المتهمين كجماعة . وهاجم علي منصور قرار الحل فقال : نبتت الجريمة في جو تمهيد الطعن في جماعة الإخوان ، وجني علي رئيس الوزراء في خلال ذلك سياسته ومريدوه . وأعقب الحادث تشريد وتشديد ، ثم تلت ذلك سلسلة من الوقائع والإجراءات التي تدور بين الترغيب والترهيب . فلا يضار المتهمون بما يعزي إليهم من انتمائهم لجماعة الإخوان . فلا تثريب علي هذه الحفنة من الشباب في انضوائها تحت لواء جمعية آزرتها يوما الطبقات المختلفة في البلد واحتضنها لفيف من الكبراء ذوى الرأي فينا . حتى أن مذكرة الحل التي بني عليها القرار الذي أنهي شكل الجماعة استندت إلي أمور كانت مبررة في نظر ولاة الأمور يوما ما ، وانتهت هذه الأمور رسميا وقانونا بما يؤخذ للجماعة لا عليها ، وهو أكثر حجية مما لهذه المذكرة من حجية".

أين قتلة حسن البنا ؟

طالب الأستاذ أحمد حسين بالتحقيق وكشف قتله حسن البنا ، والذين حاولوا قتل النحاس . وقال إنني أتهم السلطات بالتعصب الحزبي مقارنا بين تتبعها قتلة النقراشي وإغفالها ذلك في النحاس وحسن البنا . وطالب بإحضار عبد الهادي ومصطفي مرعي للشهادة لسؤالهما عن الظروف التي صدر فيها بيان الشيخ حسن البنا في وقت كان كل ما ينطق بكلمة يشتم منها رائحة النشاط للإخوان يرتكب جريمة . وقد كان البيان ثمرة مفاوضات طويلة متصلة بين الشيخ البنا وبين معالي مرعي بك وزير الدولة ، وكان أساسها أن يذيع الشيخ البنا هذا النداء تمهيدا للنظر في إعادة الإخوان بعد إدخال اصلاحات علي نظمهم . ولقد دهش الناس وقتئذ لصدور هذا البيان الذي يدل علي قرب عودة المياه إلي مجاريها بين البنا والحكومة .. فلما سألت واحدا من كبار السعديين العاملين عن تفسير هذا البيان وهل هو مقدمة لعودة الإخوان ؟ إذا به يقهقه ساخرا ويقول : لقد غررنا بحسن البنا لتحصل منه علي هذا البيان للتأثير به علي عبد المجيد من ناحية وليكون مقدمة لما سيحل بعد ذلك بحسن البنا " .

شخصية حسن البنا

وكان مسك الختام في هذه القضية كلمة ختم بها الدكتور عزيز فهمي مرافعته حيث قال : " ولقد افتري علي الشيخ حسن البنا كثيرون في حياته ، وظلمه كثيرون بعد قتله . ولكنه كان مؤمنا برسالته الإسلامية ، ولم يكن له مطمع سوي تحقيقها . لذلك لم يحقد رحمه الله يوما علي خصومه ، بل كان يتمثل بقول الرسول صلي الله عليه وسلم : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " . واغتاله المجرمون ، وليس في مصر من يجهلهم بعد أيام في أكبر شارع من شوارع العاصمة .. وخطف مشيعوه وأرسلوا إلي الطور .. وقيد الحادث ضد مجهول .. وأصبح الصباح وليس في بيته كسرة من الخبز يتزود بها أهله – ذلك هو الرجل وهذه رسالته . ولئن قتل في سبيلها فإن رسالته لم تمت بموته ، فهي خالدة ؛ لأنها رسالة الإسلام ، وإنها لأبقي علي الزمن الباقي من الزمن " .

ثانيا – في قضية السيارة الجيب

طلب الدفاع من المحكمة أن تأمر بتوزيع ملف القضية علي هيئة الدفاع مجانا نظرا لفداحة ثمنه ، وأكثر المتهمين لا يتحملون هذا الثمن ، وأجابت المحكمة الطلب .

علاقة هذه القضية بحرب فلسطين

قال الأستاذ طاهر الخشاب المحامي : حيث أن السيارة ضبطت في 15 نوفمبر 1948 أي بعد دخول حرب فلسطين ، فإننا نطلب شهودا كثيرين ليشهدوا بأن هذه الأسلحة كانت تجمع والصاغات كمال الدين حسين وصلاح سالم وحسن فهميواليوزباشيات معروف الحضري وخالد فوزي وصلاح متولي ، كما طلب مفتي فلسطين ومأمور مركز الحمام . وطلب إبراهيم عبد الهادي ليشهد علي أن البوليس السياسي أخذ المتهم عبد الرحمن عثمان المعترف لمقابلة عبد الهادي في صالونه الخاص بالقطار بمحطة القاهرة ، فقابله وركب معه حتى الإسكندرية .

(أ‌)من شهادة الشهود
= 1 – مصر جمهورية إسلامية =

في الجلسة الثانية في 4/12/1950 سمعت المحكمة أقوال الصاغ محمد الجزار والصاغ توفيق السعيد اللذين قالا أنهما وجدا في أوراق المركز العام مذكرة علي هيئة دستور مادته الأوليان مصر جمهورية إسلامية.

= 2 – شهادة إبراهيم عبد الهادي =

وفي الجلسة الرابعة في 19/12/1950 سمعت شهادة إبراهيم عبد الهادي – ولما كانت هذه الشهادة من أهم ما أدي من شهادات في هذه القضية بالرغم من كل ما فيها من اعتصام بالإنكار وحذق في المراوغة فإننا نثبتها بنصها لبالغ أهميتها :

المحكمة – عبد الرحمن عثمان أحد المتهمين في القضية يقول إنه أخذ من السجن إلي محطة القاهرة ، وأنه سافر معك إلي الإسكندرية ، واختليت به في صالونك الخاص . فإيه الحكاية ؟

الشاهد – قبل سفري إلي الإسكندرية بيوم ، وكان ذلك في شهر يوليه 1949 كنت أسأل عن مجريات التحقيق في القضية . فقيل لي أن أحد المتهمين له اعتراف جديد ، فطلبت اللواء أحمد طلعت بك وسألته عن هذا الاعتراف ، فقال إن هذا المتهم يعترف علي ابن خالته وهو نجل محمود يوسف باشا وكيل الخاصة الملكية وكان وقتئذ طالبا في الكلية الحربية أو البوليس ، فأحببت أن أسمع هذا الاعتراف من المتهم نفسه ، فطلبت إلي طلعت بك أن يحضره لي لأسمع أقواله . وفي اليوم التالي جد أمر استوجب سفري للإسكندرية ، فنزلت من مكتبي وقصدت إلي المحطة لأستقل قطار الظهر ، فلحق بي طلعت بك وذكرني برغبتي في مقابلة هذا المتهم ، وقال إنه جاء به إلي المحطة فطلبت إليه أن يحضره إلي في القطار . وفعلا ركب المتهم القطار واستمعت لاعترافه . ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك ، هل استمر في القطار مع الضابط المرافق له إلي الإسكندرية أم غادره في الطريق ؟

المحكمة – لماذا طلبتم سماع أقوال هذا المتهم ؟

الشاهد – لكي أوجه التعليمات اللازمة . فمثلا طلب إليَّ اعتقال الشخص الذي ذكره هذا المتهم فلم أوافق علي ذلك ، وأحببت أن اعرف الحكاية إيه.

محمود كامل المحامي – من الذي يعرض علي دولة الشاهد نتائج التحقيق وتطوراته ؟

الشاهد – (يجيب في حدة) لم يعرض علي أحد نتائج تحقيق ولا خلافه ، ولا يعرض علي شيء إلا حين اسأل أنا عن شيء . فلم يعرض الحكمدار علي حلقات التحقيق . وكل ما في الأمر لما يكون فيه حاجة مهمة اسأل أنا عنها أو يطلعوني عليها . ونفي دولته اختلاءه بالمتهم في القطار ، وقال أن أحمد طلعت بك كان حاضرا الاجتماع ، وكذلك نفي أنه تحدث مع المتهم في أي شيء آخر غير موضوع اعترافه . وقال إنه لا يعرف الأستاذ عبد الحكيم عابدين . زأجاب دولته علي سؤال خاص بتمويل جماعة الإخوان بأنه لا يذكر أنه سأل المتهم عبد الرحمن عثمان عن مصدر هذا التمويل ، وأنه لم يتحدث إليه بشأن حل الجماعة ، ولم يعرض عليه بعض المرطبات ، وإن كان قد قدم طعاما إلي متهم آخر في قضية أخري . وسئل الشاهد هل علم أن هناك تعذيبا وقع علي المتهمين فأجاب بالنفي وقال أن هذه مجرد إشاعات ، وهنا ذكر الأستاذ محمود كامل أن المتهم عبد الرحمن عثمان قال إنه في يوم 10 يوليو 1949 أثناء تولي دولتك الحكم جئ به إلي المحافظة وعذبه الضابط محمود طلعت والضابط محمد الجزار بوضع ساقيه في فلكة وضربه بالسياط . وأن الطبيب الشرعي أثبت الإصابات التي في جسمه . فهل سمعت دولتك بذلك ؟

فأجابه دولته – لم أسمع .

وذكر الدفاتع واقعة تعذيب أخري حدثت لهذا المتهم ، فنفي دولته حدوث أي تعذيب بعلمه ، وأنه لم يكن يحضر إلي المحافظة في أثناء التحقيق . وسئل دولته هل رأي مصطفي كمال عبد المجيد ؟

فقال : إنه في ليلة وقوع حادث محاولة الاعتداء علي الأستاذ حامد جودة قصد إلي قسم مصر القديمة ، فوجد هناك مصطفي كمال عبد المجيد . وبمجرد أن رأي دولته صاح مستغيثا به . فسأله دولته لماذا فعل ذلك فأجابه أنه فعل ذلك تحت تأثير العقيدة وأنه سيعترف بكل شيء . ثم صعد إلي الطابق العلوي وظل في القسم حتى حضر المحققون وباشروا التحقيق . وأقسم إبراهيم عبد الهادي يشرفه أن مصطفي كمال عبد المجيد لم يعذب أمامه . وقال دولته ردا علي سؤال إنه ذهب إلي المحافظة بضع مرات أثناء تحقيق قضية حامد جوده . والليلة الوحيدة التي سهر فيها بالمحافظة إلي الخامسة صباحا هي ليلة اعتقال محمد مالك .

وهنا أراد عبد الرحمن عثمان أن يوجه أسئلة إلي دولة الشاهد . فاعترضت المحكمة قائله أن لكل متهم محاميا يسأل عنه ما يشاء – فندخل سعادة محمد هاشم باشا المحامي ورجا المحكمة أن تفسح صدرها للمتهمين فهم أولي بالسؤال من المحامين – وبعد مناقشة سمحت المحكمة للمتهم بإلقاء أسئلته عليها أولا .. وتبين من إلقائها أن دولة الشاهد سبق أن سئل عنها وأجاب عليها وأكثر هذه الأسئلة كانت خاصة بتعذيب هذا المتهم . ثم سأله المتهم ألم تقل لي دولتك أن الشيخ حسن البنا قتل واسترحنا منه وأنت تدرس القانون ومن مصلحتك أن تنجو بنفسك وهذه قضية عسكرية

الشاهد – ما كانش فيه موجب لكل هذا .

وسأل الأستاذ زكي عريبي دولة الشاهد : تؤكد لنا دولتك أن النيابة لم تكن تتلقي وحيا ؟

الشاهد – نعم .. ثم قال إنه يأمر باعتقال شخص أو الإفراج عن شخص بحكم كونه حاكما عسكريا لا يعرف إن كان القبض نتيجة تحريات البوليس أو تحقيق النيابة ، إنما تعرض عليه أسماء مطلوب اعتقال أصحابها ، كان لابد أن يسأل عن سبب اعتقاله ، فالمسألة ليست مسألة توجيه النيابة ولكنها مسألة حفظ أمن البلاد . وسأل الأستاذ مختار عبد العليم دولة الشاهد عن سبب استغاثة مصطفي كمال عبد المجيد حين رآه في القسم .

الشاهد – كان يستغيث أنا عطشان . عايز أشرب (ضحك) . وأجاب علي سؤال بأنه لا يعرف جمال فوزي- وهو أحد المتهمين في القضية – ولا يذكر هذا الاسم . ولا يعرف أن كان أحمد طلعت بك استأذن النيابة في خروج عبد الرحمن عثمان من السجن أم لا . ونفي دولته أنه تحدث إلي الشيخ حسن البنا في شأن جمع الأسلحة في أثناء توليه رياسة الديوان الملكي . وقال أن كل ما حدث أن الشيخ حسن البنا كان يريد السفر إلي اليمن أثناء الثورة اليمنية فنصحه بالعدول عن ذلك .

وهنا انتهت شهادة إبراهيم عبد الهادي . وحدث أثناء خروجه من القاعة أن أخذ المتهمون يهتفون : " رحم الله شهيدا اعزل " و " يحيا الشعب ويسقط الظلم " . وقد غضبت المحكمة لهذا الهتاف وأنبت المتهمين عليه ، واعتذر الدكتور هاشم باشا بالنيابة عن المتهمين فصفحت المحكمة .

== طلب ممثل الاتهام للشهادة ==

وطلب الأستاذ زكي عريبي المحامي الاستشهاد بالأستاذ محمد عبد السلام بك ممثل النيابة في القضية عن واقعة خروج عبد الرحمن عثمان من السجن لمقابلة عبد الهادي ، إذ أنه ثابت في دفتر أحوال السجن أنه خرج للنيابة للتحقيق ، وعبثا حاول الأستاذ محمد عبد السلام ثنيه عن طلبه قائلا أنه سيعرض لهذه النقطة في مرافعته – كما طلب أعضاءمن الدفاع آخرون سماع ممثل النيابة كشاهد ، والسؤال الذي سيوجه إليه هو :

" بعد أن قابل المتهم عبد الهادي قال له الأستاذ محمد عبد السلام في اليوم التالي " هل قابلت الباشا ووعدك خيرا ؟ " كما أنه قال له " أن الباشا قابل مصطفي كمال عبد المجيد ووعده خيرا وإن شاء الله يعدك أنت الآخر خيرا " .. فطلبت المحكمة أن يجتمع الدفاع لإعداد الأسئلة المراد توجيهها إلي النيابة وتعرض علي المحكمة للنظر فيها .

.... وفي الجلسة التالية قررت المحكمة عدم الموافقة علي إدخال رئيس النيابة شاهدا في القضية .

= 3 – شهادة الصاغ محمود لبيب =

قرر أن التطوع لفلسطين يرجع إلي سنة 1947 عندما عينته الهيئة العربية العليا قائدا عاما لمنظمة الشباب الفلسطيني . وأراد الانجليز إخراجه من فلسطين فرفض ؛ لأنه عربي في أرض عربية . وفي عودته اتصل بالمفتي وبصالح حرب .. وانتهي تشاورهم إلي أن العرب لا ينقصهم العدد وإنما تنقصهم العدة .. فأخذت الهيئات العربية ومنها الإخوان في الحصول علي تصاريح بجمع السلاح . وقد بدأ المتطوعون أعمالهم في فلسطين تحت قيادته بمهاجمة قوافل اليهود ومستعمراتهم ونسف أنابيب المياه ، وهاجموا دير البلح لعجم قوة اليهود . الأستاذ زكي عريبي (محام مصري يهودي) – بلاش تسمية اليهود . قل الصهيونيين .

الشاهد – صحيح الصهيونيين استغفر الله .

وقال أن المتطوعين وزعوا أنفسهم علي المستعمرات الصهيونية ، فكان دخول الجيش المصري من رفح إلي غزة بدون إطلاق رصاصة واحدة . كما تمكن الفدائيون بقيادة الشهيد أحمد عبد العزيز من غزو هذه المستعمرات ، لدرجة أنهم دخلوا حدود القدس الجديدة بثلاثة كيلو مترات .. كل ذلك في 13 يوما . وروي كيف تمكن المتطوعون ببسالتهم قبل دخول الجيوش النظامية بثلاثة أيام من تدمير ثماني مصفحات يهودية ، وغنم أربع مصفحات ، كما غنموا كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة والمؤن .

== كيف سقطت رامات راحيل ؟ ==

وقال إنه في خلال معركة القدس رؤي وجوب الاستيلاء علي مستعمرة رامات راحيل التي كانت تمون القدس باللبن والدواجن . فتسلل الإخوان المتطوعون إليها ومعه فرقة اسمها (النهاده جعلوا ينهبون ويتشاجرون مع بعضهم ويثيرون الفوضي ، فانسحب الإخوان من المستعمرة وتمكن الأعداء من استردادها من جيش الملك عبد الله وعاد الإخوان واحتلوها للمرة الثانية ، وفوجئوا بجيش الملك عبد الله والنهادة الذين كانوا يقتتلون علي بقر المستعمرة ، وهو من النوع الهولاندي الكبير ، فترك الإخوان المزرعة مخلفين النهادة بقتل بعضهم بعضا للفوز ببقرة هولاندية . وعاد الإخوان للمرة الثالثة واحتلوا المستعمرة ، ولكنهم لم يفاجئوا هذه المرة بظهور جنود الملك عبد الله ؛ لأنهم يمكن " اختشوا علي دمهم " .

== محاولة لفك حصار الفالوجا ==

وقال إنه حدث في نوفمبر 1948 أن أرسل إليه عزام باشا (الأمين العام للجامعة العربية) وقابله باللواء أحمد منصور بك ضابط الاتصال ، وأخبره بأن إشارة وردت للجامعة العربية بضرورة إرسال كتيبتين من الإخوان بالذات لفك حصار الفالوجا . وتوجه به إلي صلاح صبري مدير مكتب وزير الحربية ، وتم الاتفاق علي عداد الكتيبتين . وأعد هو 1600 (ألف وستمائة متطوع) واحد من كل شعبة إخوانية في القطر ... ثم إذا به يفاجأ بأن النقراشي باشا رفض هذا الرأي . وقرر الشاهد أن الجيش المصري في فلسطين حدث أن طلب من الإخوان إمداده ببعض المتفجرات ؛ لأن الجيش لم يكن لديه سوي أسلحة انجليزية ، في حين أن المتطوعين كانوا يملكون أسلحة وذخائر ألمانية وإيطالية . وقرر أن هيئة الإخوان المسلمين وزرعت منشورات علي المتطوعين بالحث علي القتال والجهاد .

== قطار اللاجئين : ==

وقال الشاهد أن المتطوعين كانوا يقتسمون مئونتهم مع اللاجئين . ولقد رأوا أن يطلب من أهل الخير في جميع أنحاء القطر التبرع بما يفيض عن حاجتهم من مؤن وغيرها . وأعد لذلك قطار يدعي قطار اللاجئين . واستطاعوا أن يجمعوا من القاهرة في ليلة واحدة ما حمولته ألف عربة يد وعشرات السيارات ولكنهم فوجئوا بأن وزارة الداخلية منعت ذلك . فكانت صدمة حيث حظروا عملا إنسانيا خيريا .

ملحوظة : اللاجئون هم ضعاف الأسر الفلسطينية التي أخرجهم اليهود من ديارهم ففروا بأبنائهم ونسائهم وأطفالهم إلي القرى والمدن الفلسطينية التي يسيطر عليها الجيوش العربية وقوات المتطوعين .

== وسائل خاصة ==

وأجاب الشاهد بناء علي أسئلة من النيابة أنه بعد دخول الجيوش النظامية فلسطين كان الجيش يمد المتطوعين بالمؤن . أما الأسلحة فكانت ترسل إلي المتطوعين بوسائلهم الخاصة عن طريق الهيئة العربية العليا وغيرها لا عن طريق الهيئة العربية العليا وغيرها لا عن طريق الحكومة .

= 4 – شهادة اللواء أحمد المواوي بك =

كان اللواء أحمد المواوي أول قائد للجيش المصري في فلسطين . وجاء في شهادته ما يلي :

== جيش بلا معدات ==

قرر الشاهد أن هؤلاء المتطوعين كانت روحهم المعنوية قوية ، واشتركوا في معارك كثيرة ، وقاموا بانتزاع الألغام من النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية ، واستعملوا هذه الألغام ضد اليهود الذين تكبدوا بسببها الخسائر حتى أنهم تقدموا إلي مراقبي الهدنة الأولي شاكين . وكان هذا العمل من الإخوان له أهميته إذ لم يكن لدي الجيوش النظامية ألغام .

الرئيس – هذا شيء عجيب . كيف لا يكون لدي جيش ألغام ؟

الشاهد – من المعروف أن الجيش دخل الحرب بدون معدات .

ثم ذكر الشاهد كيف استمات الإخوان حتى استردوا العسلوج بعد أن فقدها الجيش ، وكانت رياسة الجيش قد أرسلت أمرا باستردادها مهما كان الثمن لخطورة موقعها . وأجاب علي سؤال عن الشروط التي يجب توفرها في رجل العصابات " الكوماندوز " فقال إنه يجب أن يكون مثل هؤلاء الرجال الأذكياء الذين يمتازون بالجرأة وحسن التصرف بسرعة ، ولا يعتمد الواحد منهم إلا علي نفسه .. هذا إليالمهارة في استعمال السلاح والتسلل والتخفي وتسلق الأشجار ، فضلا عن اعتياده علي أعمال الكشافة . وقال أن نظام الفرق الفدائية قد استحدث في الحرب الأخيرة وأصبح لا غني عنه .

المحكمة – هل في جيشنا هذه الفرق ؟

الشاهد – لا .. ولكن الفكرة موجودة .

== عشرة آلاف متطوع ==

وقرر الشاهد أن عدد المتطوعين كان حوالي عشرة آلاف شخص من مختلف البلدان والأديان ومعظمهم من الإخوان . وكانت الجامعة العربية هي التي تتولي مدهم بالسلاح ، وقد حدث مرة أن أعطيتهم بعض الذخيرة .

متطوع في المائة من عمره :

واستطرد قائلا : كان فيه مشايخ متطوعون عمر الواحد مئة سنة .

الرئيس – مائة سنة ويحارب .. ده تطوع لدخول الجنة بسرعة .

الشاهد – أن الروح المعنوية كانت عظيمة جدا حقا .

وقال أن أسلحة المتطوعين كانت مدافع خفيفة ورشاشة وتومي وقنابل يدوية إيطالية . ثم سمعت المحكمة شهادة اللواء فؤاد صادق باشا ثاني قائد للجيش المصري في فلسطين فكانت شهادته مطابقة لشهادة اللواء المواوي . وكانت شهادتهما قد أدليا بها في جلسة 20/12/1950 .

= 5 – شهادة الحاج عبد الرحمن علي =

وهو مقاول فلسطيني . وجاء في شهادته التي أدلي بها في جلسة 21/12/1950 أنه كلف من الهيئة العربية العليا بجمع الأسلحة من الصحراء الغربية من إبريل 1947 ، واستعان عليذلك ببعض الإخوان ، ومنهم الصباغ المتهم ، حتى منعه رجال الحدود من دخول الصحراء علي أثر مصادرة حكومة النقراشي باشا بمخازن الأسلحة . فما كان من سماحة مفتي فلسطين إلا أن راجع النقراشي باشا في هذه التصرفات ، فلم يبد النقراشي باشا استعداده لتسليمها إلا علي الحدود ، وحتى ذلك اليوم لم يتم . فرؤي أن يكون إرسال السلاح من مرسي مطروح عن طريق اللاذقية بدلا من العريش . وسأله الأستاذ مختار عبد العليم المحامي عن أسماء الأشخاص الذين كانوا يساعدونه فنفرس الشاهد في وجه المحامي وقال : أنت نفسك كنت منهم . وقرر أن الشهيد عبد القادر الحسيني كان يدرب المتطوعين في جهات عديدة بالقطر المصري كحلوان والهرم .

= 6 – شهادة السيد أمين الحسيني مفتي فلسطين =

سأله الأستاذ حسن العشماوي المحامي عن دور الإخوان في حرب فلسطين فأجاب بأن الإخوان كان لهم دور كبير منذ البداية ، فقاموا بالدعاية للقضية الفلسطينية منذ عام 1936 . وأثناء الجهاد جمعوا أسلحة وذخيرة واستمروا علي خدمة القضية بأقصي جهدهم . وقال : كانوا يعاونون المرحوم عبد القادر بك الحسيني في جمع الذخائر ويساهمون في دفع ثمنها ، ومنهم الصاغ (المتهم) فقد اشتري بثلاثة آلاف جنيه أسلحة وقام بتسليمها للهيئة العربية العليا ، كما استشهد فريق منهم في معركة القسطل . ولقد استمروا علي ذلك بعد دخول الجيوش النظامية ، كما استمرت الهيئة العربية في جمع الأسلحة ، فبعد دخول الجيوش العربية فلسطين زارني المرحوم الشيخ حسن البنا وقال لي ما ينم عن قلقه من موقف التخاذل الذي اتخذته جيوش بعض الدول العربية ، وما لمسه من دسائس تحاك في الظلام ، لتودي بقضية فلسطين بسبب الدسائس والتخاذل من " البعض " . وابتسم سعادة رئيس المحكمة لكلمة " البعض " فابتسم سماحة الشاهد بدوره .

== عشرة آلاف متطوع ==

ومضي سماحته يقول : أن الشيخ البنا قال إنه لابد من عمل حاسم ، وإنه سيقوم علي الفور بإعداد عشرة آلاف متطوع من الإخوان ليشتركوا مع المجاهدين في الميدان ، وإنه سيعرض الأمر علي الحكومة حتى تمدهم بالسلاح ، فإذا تعذر ذلك فإنه سيصدر أوامر إلي كل شعبة للإخوان بأن تتولي تسليح متطوعيها بسلاح تشتريه .

== لم يمكن إرسالهم ==

وتابع كلامه بقوله : إنه متأكد من أن الشيخ البنا كان مصمما علي تنفيذ هذه الفكرة ، وإنه في سبيل تنفيذها اتصل بكافة الشعب لتجمع الأسلحة ولتدريب المتطوعين . ويبدو أن العقبة كانت في أنه لم يكن من المستطاع إرسالهم . وقال : إن الإخوان عملوا علي شراء الأسلحة حتى بعد دخول الجيوش النظامية فلسطين ، وذلك بسبب خيبة الآمال في بعض الجيوش العربية لتخاذلها .

== لا تتوسل بالعنف ==

وسأله الأستاذ مختار عبد العليم عن رأيه في هيئة الإخوان المسلمين وأهدافها ووسائلها وعما إذا كان من بين وسائلها العنف والإرهاب ؟ فقال : أعتقد أن الإخوان المسلمين هيئة إسلامية تعتنق المبادئ الإسلامية وتحمل دعوتها . وتعمل علي إنشاء جبل علي مبادئ الإسلام وأخلاقه ، وذلك لصالح المسلمين وغير المسلمين ، ولا أعتقد أنها تتوسل بأي عمل يخالف الشرع كاستعمال العنف .

== كيف يمكن إنقاذ فلسطين ؟ ==

ووجه إليه الأستاذ مختار عبد العليم السؤال الآتي :

بوصفكم المسئول الأول عن القضية الفلسطينية هل يمكن أن تشرحوا لنا الطريقة المثلي لإنقاذفلسطين ؟

عضو اليمين – يعني الجهاد الشعبي هو الأفضل أم المجهود الحكومي ؟

الشاهد – إن اللجنة العسكرية المختصة قررت سنة 1947 الخطة المثلي ، وذلك في اجتماع الجامعة العربية في عالية بلبنان . وأسس هذه الخطة هي التمويل علي عرب فلسطين أنفسهم في الدفاع عنها ، علي أن تعاونهم الدول العربية بتسليحهم وتدريبهم وتحصين قراهم . أي تضعهم في نفس الوضع الموضوع فيه اليهود في فلسطين . ولقد وافق مجلس الجامعة علي تقرير هذه الخطة بالتعويل علي عرب فلسطين ثم المتطوعين ، أما الجيوش العربية فتقف علي الحدود مترقبة .

== لماذا عدل عن هذه الخطة ؟ ==

كانت هذه هي الخطة المثلي المتفق عليها .. ولكن حدث بعد ذلك أن قدمت إحدى الدول الأجنبية مذكرة تحتج فيها علي هذه الخطة . وبذلك أوقف تسليح عرب فلسطين وتدريبهم وتحصينهم ، وترتب علي ذلك العدول عن الخطة المثلي . ومضي سماحته فقال : إن كفاح فلسطين بين عقيدتين متعارضتين ، العقيدة العربية والعقيدة الصهيونية ، فالسلاح الأول في هذه المعركة إنما هو الإيمان والعقيدة .

ولقد فطن الأعداء إلي هذه الحقيقة ، فوجهوا كل همهم إلي أبعاد العناصر المؤمنة عن ميدان المعركة ، ثم ثنوا بالسعي لأبعاد الفريق الثاني في الأهمية وهم المتطوعون عن العرب كالإخوان وغيرهم ، وذلك حتى يخلو الميدان فلا يبقي فيه إلا الجنود النظامية . وبذلك استطاعوا أن يأمنوا .. إذ أبعدوا العناصر المصممة تصميما أبديا علي الكفاح . ثم أجاب سماحته بناء علي مناقشة الدفاع أنه لم يفهم من النقراشي باشا حقيقة الدافع إلي مصادرة السلاح ، وأن النقراشي باشا حقيقة الدافع إلي مصادرة السلاح ، وأن النقراشي باشلا لم يخبره أنه يخشي من تسرب جانب من أسلحة مخازن الهيئة العربية لاستعمالها في حوادث داخلية .

= 7 – شهادة صلاح أمين الحسيني =

وهو نجل سماحة مفتي فلسطين وطالب بكلية الحقوق . وقد قرر أن بعض الإخوان كانوا يقومون فعلا بجمع السلاح للهيئة العربية العليا ، وأن الهيئة تراقب استلامها حتى لا تتسرب إلي جهة أخري، وأنه اشترك في مشتري محطة كهربائية للهيئة .

= 8 – تقرير خبير الخطوط =

وهو الأستاذ محمد وهبي . انتدبته المحكمة خبيرا استشاريا لمضاهاة الأوراق المضبوطة بسيارة الجيب بخطوط المتهمين عبد الرحمن عثمان وإبراهيم سويلم ومحمد أحمد علي . فقدم تقريره إلي المحكمة ويقول فيه أن هذه الأوراق المضبوطة ليست بخطهم .

(ب) من المرافعـات

جاء في مرافعة النيابة تهجم علي هيئة الإخوان المسلمين في نقطتين :

الأولي – في موضوع اغتيال الخازندار بك والثانية في شعار الهيئة السيفان والمصحف والآية .

وجاء في مرافعة الأستاذ عبد المجيد نافع وكانت هي المرافعة الأولي رد علي النيابة في هذين التهجمين كما تعرضت المرافعة لنقاط أخري لها أهميتها . ونورد فيما يلي نتفا من هذه المرافعة .

= 1 – من مرافعة الأستاذ عبد المجيد نافع =

كان أول المترافعين من هيئة الدفاع في هذه القضية واستغرقت مرافعته عدة جلسات . وقد بدأ مرافعته في جلسة 16/1/1951 وجاء فيها :

== حسن قناوي والبواعث الوطنية ==

وإذا كان عبد الحافظ قد قتل الخازندار بك ، فما كان ذلك إلا لأن المتهم أخطأ النظر في الأمور ، وفي ذلك الحين كانت تدور مفاوضات بين مصر وانجلترا في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية وهي الجلاء الناجز ووحدة وادي النيل تحت التاج المصري .. واعتقد الشبان أنهم يستطيعون تقوية مركز المفاوض المصري حين يجلس علي المائدة الخضراء وجها لوجه مع المفاوض البريطاني ، فألقوا القنابل التي ألقوها (هذه قضية أخري غير التي أشرنا إليها قبلا وكانت في القاهرة) . ونظرت قضايا هذه القنابل أمام الخازندار بك وأصدر فيها أحكاما قاسية بلغت عشر سنوات في جريمة سياسية يحدوها باعث شريف هو تخليص مصر من الاستعمار .. وذلك في نفس الوقت الذي حكم فيه علي سفاح الإسكندرية حسن قناوي بالأشغال الشاقة سبع سنوات . ولا شك أن لهذه الأحكام ما يبررها من وجهة النظر القانونية تماما . ولكن الشبان الصغار الذين تختل لديهم الموازين لا يدركون ذلك .. ومع ذلك فإنه لا يوجد منطق في عدالة السماء والأرض بحمل الإخوان المسلمين مسئولية هذه الجرائم .

== عهد ملوث ==

إنه في الوقت الذي تسند فيه النيابة إلي الإخوان الجرائم التي عددتها ، يتوافد إلي الذهن مصرع الشهيد حسن البنا ، ينادي بأعلى الصوت وملء الفم : إن الدماء عالقة بهذا العهد ، وإن يده مخضية بدم الشهيد وغيره من الشهداء .

== الموت لحسن البنا ==

ولقد هدد بذلك في جنازة النقراشي باشا علي ملأ من الناس في هتافات مدوية . فكان الشبان يصيحون من حناجرهم في هتافات تدوي فتبلغ عنان السماء ، ويتوعدون بالويل والثبور وعظائم الأمور جماعة الإخوان المسلمين بل لقد كانوا يمون أفواههم بهتافات " الموت لحسن البنا " .

== تنفيذالوعيد ==

وكان هذا في ختام عام 1948 وبالتحديد في يوم وفاة المغفور له في 28 ديسمبر 1948 . وبعد ذلك في مستهل عام 1949 وبالتحديد يوم 12 فبراير 1949 استشهد حسن البنا الزعيم السياسي والروحي لجماعة الإخوان المسلمين علي باب جمعية الشبان المسلمين في ظروف غامضة تثير الشكوك والشبهات ، وتوحي إلي آية جهة أو آية جهات تتجه الشكوك وهذه الشبهات .

== السيفان والمصحف ==

تقول النيابة : أن حسن البنا جعل شعار الجماعة سيفين بينهما مصحف وزود الشعار بهذه الآية (  •    ) .. ولا يمكن أن يكون السيف رمزا للعنف وعنوانا للجريمة ، ولكنه رمز للقوة ؛ لأن الأمم الإسلامية لا ينبغي أن تكون مستضعفة أمام الاستعمار الأجنبي . والسيف رمز للحرب المعلنة . أما الجريمة فترتكب في الظلام وفي غفلة من الناس .

== الحمد لرب مقتدر ==

ثم تلا ما استشهدت به النيابة من قول حسن البنا " أنتم لستم جمعية خيرية محدودة المقاصد " فقال : إنه يقول لهم لستم جمعية خيرية .. وهذا صحيح فهم ليسوا جمعية مكارم الأخلاق ولا جمعية مواساة ولا جمعية عروة وثقي ولا جماعة الحمد لرب مقتدر ..

== لن تقتلوا دعوته ==

واستطرد فقال : إنهم قتلوا حسن البنا . ولكنهم لم ولن يستطيعوا أن يقتلوا دعوته في سبيل انتشال الإسلام مما وصل إليه من ذلة وخضوع وهو دين عزة وقوة .

== الشيخ المراغي يقرظه ==

يقول الشيخ المراغي عن حسن البنا " إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور علي دينه ، يفهم الوسط الذي يعيش فيه ، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية " .

== شهادة مكرم عبيد باشا ==

وقال مكرم عبيد باشا " إني لا أدري لماذا ثار جدل عنيف حول اشتراك الإخوان في السياسة وهم في ذلك ىعلي دينهم ، والدين هو المظهر الأول للسياسة الوطنية " .

== رئيس المحكمة يطلب قانون الإخوان ==

وبعد أن تحدث الأستاذ نافع طويلا عن نظم الإخوان وقوانينها طلب الرئيس قانون الجماعة ، فقدمه إليه الأستاذ طاهر الخشاب – واستطرد الأستاذ نافع في مرافعته فقال : إن حسن البنا لم يبغ إلي قلب نظام الحكم ، وإنما كان يقصد إلي إصلاح الحكم فحسب .. وهذا ما دل عليه في جميع خطبه ومقالاته ونصحه لإخوانه ، فقد قال : " لقد نادينا بدعوة الحكومات إلي عمل الإصلاح ؛ لأن الهوة بين الغني الفاحش والفقر المدقع اتسعت حتى كاد الشعب المصري يخرج عن طوره ، وقد عصرته تلك المظاهر الصاخبة التي يظهر بها الأغنياء وأغلب الناس يتضور جوعا وعربا ، وإنما لأقولها بأعلي صوتي وملء فمي : ارحموا الشعب يرحمكم خالقه ، فالشعب من حقه أن يعيش ولا أقل من أن يعيش " .

== الإسلام دين ودولة ==

وخلص من ذلك إليقوله : إن الإسلام دين ودولة يجمع بين سلطتين ، سلطة دينية وسلطة زمنية ، وهو قسمان معاملات وعبادات ، وهو يضع الأصول والكليات ، ويترك الجزئيات والتفاصيل تتطور مع تطور الأزمان – وما الفصل بين الدين والدولة ضلالة . وقد وضع القرآن أسس الحكم ، وتنظيم الحكومات والشعوب .

== الانجليز طلبوا حل الإخوان ==

واستهل مرافعته في يومها الثالث بالكلام عن العوامل التي دعت إلي حل الإخوان المسلمين فقال : إن السلطات البريطانية طلبت من الحكومة المصرية صراحة حل الإخوان . وقد طلبت ذلك من رفعة النحاس باشا في سنة 1942 وقوات المحور علي مشارف مصر ، ولكن النحاس باشا لم يذهب إلي المدي الذي ذهب إليه النقراشي باشا فاكتفي تحت ضغط ظروف الحرب بإغلاق الشعب وأبقي علي المركز العام .

== ضحك الأقدار ==

وقال : وفي عهد الظلم والظلام سنة 1949 عندما كان إبراهيم عبد الهادي باشا يعتقد أنه سيجري الانتخابات فيسود البلاد الخسف والهوان خمس سنوات أخري ، عمل جاهدا للتخلص من الإخوان ؛ لأنه عرف أن قوتهم اشتدت وأنهم سوف يكتسحونه في الانتخابات . ولذلك أمعن في تشريدهم وتعذيبهم حتى يذهب ريحهم ... ويقدرون وتضحك الأقدار . ثم ختم مرافعته بالحديث عن حقد السعديين حتى منعوا أحدا من تشييع جنازة حسن البنا .

= 2 – من مرافعة الأستاذ هنري فارس =

واتهم النيابة بالتحريف فقال : إنها حين نقلت كلام الأستاذ البنا أغفلت كلمة " وسلام " في قوله " نحن دعاة حق " كما أنها غيرت ميعاد ضبط السيارة الجيب بدلا من الساعة الثانية ظهرا جعلته الساعة الثالثة .

= 3 – من مرافعة الأستاذ شمس الدين الشناوي =

سبق لنا الإشارة إليها في فصل سابق ، وذكرنا فيه موضوع الوثيقة التي قدمها إلي المحكمة والتي تثبت أن القيادة البريطانية للجيش البريطاني في الشرق الأوسط طلبت إلي حكومة النقراشي حل الإخوان .

= 4 – من مرافعة الأستاذ حنفي عبود =

قال : أن حسن البنا قد نجح إلي حد بعيد في وضع المسمار الأول في نعش الاستعمار بأن ربي جيلا جديدا .

== الانجليز يخافون ==

وقال : وكان آية هذه الرسالة القوية ما سمعوه عن بلاء الإخوان في حرب فلسطين مما لفت نظر العالم المستعمر وبخاصة الانجليز فملأ الخوف قلوبهم ، واتجهت لذلك نيتهم إلي التخلص من هذه الجماعة عن طريق مخالب القط من رجالنا الرسميين .

== وثائق التاريخ ==

وقال : أننا إذا قلنا الانجليز فلا تحتاج إلي وثائق لإثبات ما نقول ؛ لأن بيدنا الوثيقة الكبرى التي لا يستطيعون الطعن فيها ألا وهي التاريخ .. وأن هذا التاريخ يحدثنا عن تدخلهم في فجر الحركة الوطنية لإقالة شيخ الأزهر ؛ لأنه أفتي بأن الدين يهدر دم كل كافر من أهل الكتاب إذا دخل ديارنا بدون أمان من الإمام . وقال : إن التجارب قد علمت الانجليز أن الروح الدينية خطر علي كيانهم ، فإذا ما رأوا هذه الروح من جديد في حركة الإخوان فلا غرابة في أن يطالبوا بالحل والتشتيت .

== عهد وصم نفسه بالفوضي ==

واستطرد فقال : إننا كنا في عهد عجيب وصم نفسه من أول يوم بأنه عهد الفوضي .. وأن من يرجع بذاكرته إلي يوم 9 من أكتوبر سنة 1944 ويذكر ما نشرته الصحف عقب إسناد الحكم إلي رجال ذلك العهد من أنهم ركبوا إلي دور الوزارات ولم ينتظروا حتى تفتح لهم الأبواب بل حطموها .. فسجلوا بأنفسهم علي أنفسهم ومن اللحظة الأولي بعدهم عن إدراك أصول الحكم الصالح وما يتطلبه من نظام ووقار ورزانة ، وكشفوا عن خفايا النفس وما انطوت عليه من فتنة وشهوة متعطشة إلي الكراسي . (بقصد أول وزارة للسعديين برياسة أحمد ماهر) .

= 5 – من مرافعة الأستاذ طاهر الخشاب =

جاء في مرافعته أن الإخوان اشتروا 800 فدان في نجع حمادي من الأراضي غير الصالحة للزراعة وحولوها إلي جنة .

= 6 – من مرافعة الأستاذ فتحي رضوان =

قال : إن الأستاذ البنا بعد أن صدر قرار الحل زاره أكثر من مرة ، فكان يرحب به . وكان الأستاذ البنا يشكو إليه ، ويكرر الشكوى ، فلا يسعني إلا أن أبتسم في وجهه ، لأنني أعلم أن الخلف بين الإخوان والسعديين لا يمكن أن يفلح فيه صلح أو مفاوضة . وأشار إلي الحقد الذي كانت تكنه حكومة تلك العهد علي كل من يناصر جماعة الإخوان .. وقال : إنه ذهب ذات يوم إلي قنا للمرافعة في إحدى القضايا ، فقابله أحد أصدقائه وقال له : أصحيح ما نسب إليك من أن الشيخ البنا قد زارك في ليلة مقتل النقراشي باشا وقال لك : لقد انتهي الأمر ورد إلينا اعتبارنا ؟ لقد أشيع هذا الكلام ووصل إلي مسامع رئيس الوزراء ، وقال إنه دهش لهذا الحديث .... قال : ونفيت هذا الحديث لمحدثي ولم أعلق علي الأمر أهمية ، حتى حدثني أحد الوزراء بعد ذلك بنفس هذه المعاني قائلا إنه لا يستطيع أن يدافع عنيلدي الحكومة بعد ذلك ؛ لأن رئيس الوزراء غاضب عليك لما نقل إليه من أمر هذا الحديث الذي أكد له أنك ممن يناصرون دعوة الإخوان .

== وطنية صادقة ==

وقال : إن التاريخ يشهد علي صدق وطنية المصريين . وإنه لم يحدث أن حوكم مصري ؛ لأنه خان وطنه ، وإنما للأسف الشديد يقدم المصريون للمحاكمة ؛ لأنهم أرادوا أن يقفوا في وجه الانجليز مطالبين بحقوقهم .

ثالثا – في قضية جودة والأوكار

لم تكن في هذه القضية معالم ذات بال فيما يتصل بالسياسة العامة والأفكار الوطنية والاجتماعية بخلاف القضية السابقة ولكن هذه القضية كانت ذات معلمين بارزين هما تحريك بل إحياء التحقيق في قضية اغتيال الأستاذ الإمام حسن البنا ثم فضح أساليب التعذيب .. وقد أفردنا لفضح أساليب التعذيب فصلا مستقلا ... ولذلك نقتصر في هذا المقام علي الإشارة إلي نقاط في هذه القضية أكثرها يتصل بقضية الأستاذ الإمام .

•طلب ضم قضية اغتيال الإمام :

الأستاذ نافع – (في جلسة 6/11/1949) اطلب ضم أوراق التحقيق في مصرع الشيخ حسن البنا .

رئيس المحكمة – ما هي الحكمة في ضم أرواق هذا التحقيق ؟

الأستاذ نافع – لقد اغتيل الشيخ البنا في 11 فبراير الماضي ، والحدث المنظور أمامنا وقع في 5 مايو . ومن الطبيعي أنني سأتعرض في دفاعي للباعث علي الجريمة ، ولقد كان الشيخ البنا مرشدا عاما للإخوان . ولقيام الشكوك حول موقف الحكومة من مصرعه وزنه في تقدير الباعث في قضيتنا وأنا لا أطلب ضم أوراق حادث مصرع الشيخ البنا فحسب بل أطلب نسخه وتوزيعه .. والشهود قد أدلوا بأن الهدف من الاعتداء لم يكن حامد جوده بل كان إبراهيم عبد الهادي .

إن الشيخ البنا قد قتل في ظروف غامضة للغاية للريبة ، وهناك شاهد في حادث مصرعه هو محمد الليثي أفندي (رئيس القسم الرياضي بجمعية الشبان المسلمين) فقد قرر عند سؤاله أنه عقب اغتيال الشيخ البنا أخبره علي الفور شخص برقم السيارة التي ارتكبت بها الجريمة . وأن المساعي بل الجهود قد بذلت من جانب البوليس السياسي بالوعد والوعيد والتهديد بأنه إذا لم ينزل عن هذا القول الخاص برقم السيارة فإنه سيكون فريسة للاعتقال .. وبرغم ذلك فقد أرشد الليثي أفندي عن رقم السيارة .. وتبين أنها خاصة برئيس القلم الجنائي بوزارة الداخلية وهو الضابط محمود عبد المجيد بك – وفجأة طويت أوراق التحقيق .. فالأمانة لموكلي عليَّ تتقاضاني أن أن ألحف في ضم هذه التحقيقات . الدكتور عزيز فهمي – أؤيد طلب ضم أوراق مصرع المرحوم الشيخ حسن البنا . وأن ما ذكره الأستاذ عبد المجيد نافع عن محمد الليثي أفندي جعل الليثي في خطر محقق ومن المحتمل قتله – وأنا أحمل في حالة وقوع اعتداء علي حياة الليثي أفندي المسئولية للصاغ الجزار وكذلك مدير المباحث الذي استخدمت سيارته في قتل المرحوم الشيخ حسن البنا . وحبذا لو رأت النيابة من جانبها أن تعمل علي حماية الليثي أفندي .

( وأحني الأستاذ فتحي مرسي ممثل النيابة رأسه بما معناه " حاضر " )

•طلب ضم نسخة من جريدة " المصري " المصادرة :

الأستاذ طاهر الخشاب – أطلب قسم نسخة جريدة " المصري " التي صدرت صباح يوم مقتل الشيخ البنا وصودرت الطبعة الأولي منها . وأؤكد أن هذه النسخة كان بها رقم السيارة التي ارتكبت بها الحادث فصودرت لذلك ، وظهرت الطبعة الأخرى وليس فيها رقم السيارة .

الرئيس – ما هي العلاقة بين ما تذكر والقضية .

الأستاذ طاهر الخشاب – إن جرائم القتل – وأنتم أئمة القانون – يبحث فيها عن الباعث . فإن كان صحيحا ما قيل من أن الحكومة هي التي دبرت اغتيال الشيخ البنا ، وأنها أهملت التحقيق ، وأنها تسترت علي المجرم بمصادره " المصري " مع أن فيه الدليل المادي الذي كان يمكن أن تسير وراءه النيابة .. فإن موقف الحكومة هذا يكشف لنا عن الباعث في هذه القضية . وأنا مصر علي طلب هذه النسخة . ثم قال : إن النيابة تقول عن حادث سليم زكي باشا أن شخصا أبلغ عن نفسه فحقق معه ، ولكني في المعتقل ، وقد دمر علي فيه جميع المتهمين وذكروا لي أن هذا الشخص أدلي باعترافات ، وبأسماء أشخاص خارجة عن المحضر الذي أثبت فيه أقواله ، وأتي بسلسلة من الشخصيات نتيجة تعذيبه .

الأستاذ البيطاش (ممثل النيابة أيضا) – لا لا .. لقد ذكر في أول بلاغه أنه ارتكب الحادث مع آخرين ذكر أسماءهم

الأستاذ الخشاب – أصر علي أنه اعترف علي أشخاص غير الواردين في بلاغه ، فبدأت الاعترافات تنتزع من هؤلاء الأشخاص .

•قضية الأستاذ الإمام تصور الجو الذي صدرت فيه الاعترافات :

الأستاذ عبد الفتاح حسن – إن الدفاع ثرجو علي الأخص ضم قضية مقتل الشيخ حسن البنا ؛ لأنها ليست متعلقة بالباعث في قضيتنا فحسب ، بل إنها تصور الجو الذي صدرت فيه الاعترافات . ومادام المحققون في قضية الشيخ البنا حاولوا أن يلتوي شاهد عن السبيل القويم ، فلا يكون هناك عجب إذا قيل أن هناك إجراءات قصد بها إبعاد التهمة عن الهيئة الحاكمة وقتئذ . ولقد فوجئنا باعترافات قال فيها كل معترف " ألقيت قنبلة انفجرت وقصدت بها الإصابة " وهذا الأسلوب لا يعرفه متهم ، وإنما يعرفه الذين يكيفون الواقعة ويصفون التهمة .. وتلك هي وظيفة النيابة العمومية ، فهذه الاعترافات لم يكن هؤلاء المتهمين ، بل هي قضية حكومة متمدينة أو غير متمدينة لم نر لها مثيلا في عصور الهمجية والوحشية – أن الذي قيل أن الهدف من هذه الجريمة التي نحن بصددها هو إبراهيم عبد الهادي ؛ لأن يده انغمست في جريمة مقتل الشيخ حسن البنا . ويجب أن أقرأ القضية وأبحثها بعناية لكي أرتب دفاعي كما ينبغي ، ويجوز أن أطلب إبراهيم عبد الهادي للشهادة ، وقد يوفي التحقيق بسماع شهادة آمثال محمد زكي علي ومصطفي مرعي وصالح حرب ومحمد الناغي ومصطفي الشوربجي .

الأستاذ سامي عازر – أطلب التصريح بإعلان شهود نفي وهم الواردة أسماؤهم في عريضة مصطفي الجابري السابق تقديمها قبل الجلسة ، ويضاف إليهم والد الشيخ حسن البنا ومعالي مكرم باشا لسماع شهادتهما عن الطريقة التي شيعت بها الجنازة ودفن بها القتيل . (استجابت المحكمة لهذا الطلب) .

•تليفونات جمعية الشبان المسلمين كانت مراقبة بأمر :

الأستاذ طاهر الخشاب – (في جلسة 5/12/1949) إن تليفونات جمعية الشبان المسلمين كانت موضوعة تحت المراقبة ، وأطلب ضم التقرير الذي أرسل إلي المراقبة في هذا الشأن في الفترة ما بين الساعة الخامسة مساء يوم اغتيال الشيخ حسن البنا إلي الساعة العاشرة من مساء اليوم التالي :

الرئيس – وما علاقة ذلك بالقضية ؟

الخشاب – أن قضية اغتيال البنا ضمت إلي قضيتنا .

الرئيس – ذلك ما قد يتناوله الدفاع عن الباعث .

الحشاب – ولكن الأهم أن أقدم مثلا علي تصرفات الحكومة في ذلك العهد – تلك الحكومة المفروض فيها المحافظة علي الأمن – والثابت في تحقيقات مقتل الشيخ البنا أنه وقت مصرعه كانت تليفونات جمعية الشبان المسلمين تدوي بأصوات رجال القلم السياسي تسأل عما إذا كان الشيخ البنا قضي نحبه أم لا يزال فيه نفس يتردد .

•الحاكم العسكري استغل الأحكام العرفية لمحاربة خصومه السياسيين :

الأستاذ فتحي رضوان - : دفع بعدم اختصاص المحكمة العسكرية بنظر الدعوى وأفاض في البحث القانوني) وجاء في دفعه : أن الدفاع يتهم الحاكم العسكري – ولا داعي لذكر اسمه) – بأنه خرج عن سلطته التي منحها أصدر أوامره لمحاربة خصومه السياسيين . ولقد أغناها ذلك الحاكم العسكري عن البرهنة علي صحة هذا الاتهام ، فقد أذاع عن طريق مكتبه ردا علي النحاس باشا رئيس الوفد ، فجعل يتكلم في بيانه عن عصابات الإخوان المسلمين لا عن عصابات الصهيونيين ، وعن الأسلحة والقنابل في أوكار الإخوان لا عن ذخائر وأسلحة الجيش المصري ، ولا لأنه مشغول البال بحركات جيشنا في الميدان ، وإنما ليحارب الإخوان المسلمين وغيرهم من خصومه السياسيين . ولا يصح إطلاقا أن يأتي رئيس وزراء علي خلافات سياسية مع غيره وهو في هذه الخلافات لا يريد أن يترك مقاعد الحكم .. حتى انتهي الأمر به إلي مايشبه الإقالة – لا يصح أن يسخر الأحكام العرفية في مآربه الشخصية . إن الشعب جميعه كان يعلم ، وكان مقتنعا بأن الأحكام العرفية لم تكن لسلامة الجيش بل إن هيكل باشا – وهو رئيس حزب مشارك بحق النصف في هذه الوزارة ، وهو أيضا رئيس مجلس الشيوخ أي رئيس الهيئة التشريعية – هذا المسئول الكبير قال قولا له قيمته القانونية لنا – فقد قال :

" إنه يعلن أنه دائما كان ضد الأحكام العرفية والرقابة علي الصحف . وضرب سعادته مثلا بأن الحكم في مسألة إعلان الأحكام العرفية إنما كان قائما علي المعلومات التي رأي رئيس مجلس الوزراء وقتئذشخصيا أن يلقيها علي زملائه الوزراء " . وعلق الأستاذ فتحي علي حديث هيكل باشا قائلا : إن سعادته يعلن ويعني أن الحاكم العسكري قال كلاما للوزراء فهموا منه أن الحالة في فلسطين تستدعي مد الأحكام العرفية ، وأنه استطاع بعد ذلك هيكل باشا أن يعرف أنهم كانوا مخدوعين ، وأن الحاكم العسكري أعطي لهم بيانات غير صحيحة . وقال الأستاذ فتحي : أن الحاكم العسكري في هذه الفترة (الانتخابات) في أجازة . ولا يجوز أن تنظر محكمة عسكرية دعوى في خلال هذه الأجازة . وقد قررت المحكمة ضم الدفع إلي الموضوع مع التصريح بتقديم مذكرات .

•من شهادة الأستاذ حامد جودة :

حضر في جلسة 18/12/1949 وقرر في شهادته أن المقصود بالاعتداء لم يكن هو بل كان إبراهيم عبد الهادي . وقال إنه لما وصل منزله اتصل بعبد الهادي ليحذره فوجده قد سبقه .

الأستاذ مختار عبد العليم – هل تتولي حضرتك الإشراف علي جريدة " الأساس " ؟

الشاهد – تقريبا .

الأستاذ مختار – هل تذكر أنه نشر بها مقال عقب مقتل النقراشي باشا بأنه يجب مقاومة العناصر الإرهابية بالطرق المشروعة وغير المشروعة ؟

الشاهد – مش متذكر .

الأستاذ مختار – ما السبب في اعتقادك أن المقصود بالحادث هو إبراهيم عبد الهادي ؟

الشاهد – لأنه هو الذييقاوم الإخوان المسلمين .

المحكمة – من الذي تعتقد أنه يقوم بهذه الحوادث ؟

الشاهد – الحوادث التي وقعت كانت من فعل خليط من الشيوعيين والصهيونيين والإخوان . وأن الثلاثة امتزجوا ببعض .

الخشاب – ما الدليل علي ذلك ؟

الشاهد – لأن جمعية الإخوان كانت تصرف مبالغ كبيرة .

ثم سأله المحامون عما إذا كان قد اتهم في حوادث قتل أو أوي مجرما فقال : أنا الذي سلمت الخط .

الفصل الرابع: البوليس السياسي والتعذيب

مقـدمة

أنشئ البوليس السياسي في مصر ليكون أداة لتثبيت أقداتم الاحتلال البريطاني فيها ، فهو من ناحية الشكل جهاز من أجهزة وزارة الداخلية المصرية ، وأعضاؤه ضباط وجنود وموظفون مصريون جنسية ، ولكن أعمالهم وجهودهم وأهواءهم وولاءهم للمستعمر ، الذي يعتقدون فيه ما يعتقد المؤمن في ربه . وكانت الرياسة الرسمية لهذا الجهاز في أول الأمر لغير المصريين ، فلما أبدت شخصيات من العاملين في هذا الجهاز من المصريين نضوجا في خيانة بلادهم وتفانيا في الإخلاص للقائم في السفارة البريطانية أسندت الرياسة الرسمية للمصريين ، فبذ هؤلاء الرؤساء المصريون أسلافهم الأجانب في التسلط الإجرامي علي الشرفاء من مواطنيهم تسلطا أذهل سادتهم الانجليز أنفسهم . والعجيب هو أن الحكومات المصرية المتعاقبة كانت تعلم عن هذا الجهاز هذه المعلومات ، ومع ذلك لم تجرؤ واحدة منها علي المساس به أو حتى علي الاحتجاج عليه ، بل أن بعضها كان يستخدمه في الكيد لمنافسيه علي كراسي الحكم .. ولم تكن السفارة البريطانية – صاحبة الجهاز الحقيقية – تعارض في ذلك ؛ لأن هذا كان لحسابها إذ هو في نطاق اللعبة التي اخترعتها ليلتهي بها الزعماء عن المطالبة بحقوق بلادهم .. ولكن الأساليب التي كان يتبعها الجهاز في هذه الحالة بالذات لم تكن تتعدي فض اجتماع عليه ، أو المصادرة عدد من صحيفة أو منشور أو مضايقة سياسي في تنقلاته .

وأعمال البوليس السياسي الآثمة – ومجرد وجوده إثم – كانت موضع سخط الشعب باعتباره أداة لتجسس عليه ، ونقل أخباره وتحركاته بل وهمساته إلي المستعمر .. ومع ذلك فإن هذا الجهاز كان يعتبر هذه الأعمال إن هي إلا مداعبات إذا قيست بما خول من سلطات لا حدود لها .. ولكن سادته الانجليز كانوا يرون أن ما بقي في هذا الشعب من رمق لا تستدعي مكافحته بأكثر من هذه المداعبات . فلما فوجئ المستعمر بحيوية مفاجئة في هذا الشعب ، نمت وترعرعت في غفلة منه نموا لم تعد الأساليب المعتادة كافية لمكافحته ، فإن وجود المستعمر نفسه أصبح مهددا أمام هذا النمو الفارع المباغث .. أخذ في استجماع قواته المصرية شكلا ليقابل بها السيل الجارف الجديد من الحيوية المتدفقة .. فأشار إلي حكومة عميلة حاقدة ، علي أن يهيئ رئيس هذه الحكومة لهم الجو المغلق بإعلان الأحكام العرفية ، وعلي أن تكون أبواب خزانة الدولة مفتوحة لهم علي مصاريعها ؛ لأن هذين معا – الجو المغلق والخزانة المفتوحة – هما الوقود الدافع لهم ، والمحرك لأحط الغرائز فيهم ؛ حتى يحققوا الغاية التي من أجلها أنشئ جهازهم ، وهو إزالة كل من شأنه أن يهدد وجود المستعمر أو يعكر صفوه . فاندفعوا بأحط غرائزهم اندفاع الذئاب الجائعة ، ففعلوا بالشباب الطاهر من الوطنيين المؤمنين الشرفاء ما يعجز الخيال عن تصوره من أساليب الإجرام ، وضروب الوحشية ، غير عابثين بشرف ولا مكترثين بعرف ولا قانون . وقد رأيت حين أفردت هذا الفصل لعرض هذه الأساليب الوحشية ألا أتدخل في وصفها بكلمات من عندي أو بعبارات من قلمي حتى لا أتزيد في الوصف ولا أقصر عنه .. ورأيت أن أدع هذا الوصف لأولئك الذين عانوا من هذه الوحشية ، وكانوا فرائس لهذه الوحوش الآدمية الضارية .

وليس معني ذلك أنني آتي في هذا الفصل علي كل من عانوا ولا علي كل ما عانوا – فهذا ما لا يتسع له الكتاب بجميع صفحاته – لكنني أجتزئ بقليل من كثير علي سبيل الأمثلة والنماذج التي يهتدي القارئ بها إلي ما وراءها .

أولا – في قضية النقراشي

• المتهم محمد مالك :

   في جلسة 29/8/1949 طلب المتهم محمد مالك من رئيس المحكمة السماح له بالكلام فقال : إنه لما اعتقل في الإسكندرية جاءوا به موثق اليدين والرجلين إلي المحافظة فقال له الأستاذ عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية " أنا عمار عدو الإخوان " ثم أمر رجال البوليس بتعذيبه . فانهالوا عليه بالضرب المبرح – ولما جئ به إلي القاهرة اجتمع عليه ضباط القسم السياسي ورفعوا رجليه بعد ربطهما وانهالوا عليه ضربا في كل جسده ، وكانوا يدوسون علي وجهه بأحذيتهم ، ثم شفعوا ذلك بلفحات من الكرابيج وكان يغني عليه ويود ألا يخرج من أغمائه حتى لا يشعر بهذا العذاب . وخيروه بين تأييد رواية عبد المجيد وبين التعذيب ، وأعدوا له حجرة تعذيب .. ولما أدركوا أنه لم يعد يستطيع المشي أجبروه علي أن يجري ، ولما لم يستطع الوقوف أرغموه أن يقف ساعات ، وكان يترك الأسابيع دون أن يغتسل أو يبدل ملابسه . وهنا وقفت والدة مالك وفي يدها رباط شاش وقالت أن ابنها كان كل جسده جروحا ، فأسكتها رئيس المحكمة .
   وكان مالك يروي بتأثر وحنق ويقول إنه عاجز عن تصور ما كان يعانيه من عذاب حتى تلفت أعصابه وكان يضرب بالحديد لعله ينطق ، وكان البوليس يوجه إليه كلمات مقذعة خبيثة ، واستعانوا بصغار إخوته ليرغموه علي الاعتراف . 
   فسأله الرئيس : ولما لم تخطر النيابة وقد حقق معك أكثر من مرة ؟ 
   مالك – بلغت إسماعيل عوض بك رئيس النيابة للا جدوي كما بلغت محمد عبد السلام بك . 
   محمد عبد السلام – عندما بلغني المتهم أحلته علي الكشف الطبي . دكتور عزيز فهمي لقد عذب أيضا بعد الكشف . 
   وقال مالك أنه لم ينج من التعذيب حتى في الشوارع أثناء ذهابه للتحقيق . 
   الرئيس – وكيف ذلك ؟ 
   الأستاذ أحمد حسين – ثابت أن المتهم كان يقاد إلي التحقيق وهو يرتدي جلبابا وحافي القدمين . 

• المتهم محمد نايل :

   وفي نفس الجلسة قال المتهم محمد نايل أمام المحكمة إنه كان يضرب علي قفاه من ضباط القلم السياسي وهو جالس في الغرفة المجاورة للمحقق ، وأنه أخذ بحجة التحقيق معه في النيابة واقتيد إليقسم عابدين ، حيث هدده رجال القلم السياسي بتشريح جسمه إذا لم يعترف . وقال إنه بعد أن نال ضربا مبرحا أخذ مكبلا إليغرفة الحكمدار ، فوجد فيها إبراهيم عبد الهادي باشا ، فدهش لوجوده .. ويظهر أن رئيس الوزراء لاحظ تلك النظرة فقال له " بتبص لي كده ليه ؟ انت عندك حاجة يا واد ؟ " ثم أمر بإخراجه حيث ضرب بالفلقه ... وقال المتهم أن لديه شاهدا علي هذا التعذيب وهو مان الله خان . 
   الرئيس – من ملوك أفغانستان ؟ 
   نايل – فعلا من الأسرة المالكة الأفغانية ، وكانت له قضية يعرفها القلم السياسي . 

• عدم إثبات الإصابات :

   وقال نايل إنه لما توجه إليسجن مصر ، رفض الطيب أن يثبت إصاباته . فلما ألح عليه اكتفي بوصفها " قراحات " . وقال إن هذه المعاملة الهمجية الظاهرة جعلته يطمع في حمي النيابة – وهو يعتقد أنه ستنصفه – ولكن لما استدعاه إسماعيل عوض بك رفض أن يسجل إصاباته بناء علي طلب القلم السياسي . 

• عمليات تعرف مزيفة :

   وقال إن عمليات التعرف عليه كانت مزيفة ، فإن الشخصين اللذين تعرفا عليه كانا قد أجلسا قبلا بجواره طيلة ساعة كاملة . 

• صمت مخجل :

   وقال أن هناك أشياء أخري يخجل من ذكرها أمام الناس . 
   وفي الجلسة التالية المنعقدة يوم 3/9/1949 بدأ الحديث الدكتور عزيز فهمي المحامي فقال : إن المحكمة تفضلت في الجلسة السابقة بالاستماع إلي أقوال المتهمين مالك ونايل ، وقد اتضح من هذه الأقوال أن بعض المتهمين كان هدفا للتعذيب لحملهم علي الإفضاءباعترافات معينة . وقد رأت المحكمة آثار هذا التعذيب علي أجسامهم ، ووصف الرئيس هذه الآثار بأنها لا تزول مع الزمن – واستطرد الدكتزر عزيز فقال : ولم يكن التعذيب جسمانيا فحسب ، بل كان البعض هدفا لجرائم من نوع آخر يمس أعراض المتهمين وأعراض أخواتهم وأمهاتهم وزوجاتهم ، كما أشار إلي ذلك كل من مالك ونايل وأمسكا اللسان عنها استحياء . ثم طلب الدكتور عزيز من الحكمة أن تسمع أقوال المتهمين فيما وقع عليهم من اعتداءات تمس الأعراض وتحقيقها لمحاكمة مرتكبيها طبقا للقانون . (ودارت مناقشة بين الدكتور عزيز ف ذلك وبين رئيس المحكمة رفض في نهايتها رئيس المحكمة طلبه بالتحقيق في التعذيب) . 

• لا حياء في القانون :

   وقال الدكتور عزيز : أن المتهمين يريدان الإدلاء بأقوال للمحكمة ، ومن حقهما أن يطلبا الاستماع إلي هذه الأقوال . ولقد منعتهما المحكمة في الجلسة الماضية من سرد ما ارتكب ضدهما ويمس الأعراض بحجة أنه يتضمن عبارات نابية ، مع أنه لا حياء في القانون كما أنه لا حياء في الدين .. وأصر الرئيس علي عدم سماع المتهمين . فتساءل الدكتور عزيز عما إذا كانت المحكمة ترفض سماع متهم ولا تريد أن تستنير .. وقال أن الجرائم التي أشار إليها المتهمان تحمل مرتكبيها مسئولية جنائية عقوبتها الأشغال الشاقة أو السجن ... ومع ذلك أصر الرئيس . 

• المتهم عبد الفتاح ثروت شاهدا :

   وفي خلال جلسة 3/9 هذه استمعت المحكمة إلي ثلاثة من المتهمين فيقضية السيارة الجيب – بناء عليرأي رئيس المحكمة – كشهود في هذه القضية ، ومن هؤلاء الشهود عبد الفتاح ثروت الذي قرر أنه راصد جوي . وما إن سألته المحكمة عن معلوماته في القضية حتى اندفع يروي قصة تعذيبه . وقد استهل كلامه قائلا إنهم عذبوه – وكشف للمحكمة عن آثار التعذيب في قدميه – ثم قال إنه ارتكبت معه أعمال منافية للآداب . 
   الرئيس – بس .. بس . 
   الدكتور عزيز – نريد أن نسمع الشاهد . 
   واستأنف الشاهد كلامه فقال إنه كان يعذب بالضرب في سجن الأجانب والمحافظة . وكانوا يجبرونه في حجرة التعذيب علي الوقوف من الصباح إلي المساءحتى لا ينام . كما قبضوا علي أقاربه ونكلوا بهم . 

• أصبحت محطما :

   واستطرد يقول : لا يمكن أن أصور الآلام التي قاسيتها .. لقد كنت في عملي الحكومي نشيطا ، أما الآن فقد تحطمت أعصابي ، وأصبحت فريسة للنوبات والاضطرابات ، ولم يعمل لي طبيب السجن شيئا .. وأنا أتناول أدوية من الخارج . 

• تعذيب أمام النائب العام :

   وقال : لقد كان رجال البوليس السياسي يحضرون التحقيق ويهددوني بعد تعذيبي ، وذلك أمام سعادة محمود منصور باشا النائب العام السابق وقد شكوت له فقال لي : 
   " لا تتعب نفسك بالشكوى فنحن نعرف والحكومة تعرف وسوف نشرحك " . 

• وأمام إبراهيم عبد الهادي :

   واستأنف يقول : وقاموا بضربي يوما ثلاث مرات في المحافظة ومرة في النيابة ، وأخذوني لإبراهيم عبد الهادي باشا فقال لي " تكلم أحسن لك علشان تطلع كما طلع غيرك " – وقال الشاهد : أنه لإنهيار أعصابه وقع علي أوراق لا يدري ما فيها . 
   وأجاب الشاهد علي سؤال لغنام بك المحامي بأنه دخل علي إبراهيم عبد الهادي باشا وملابسه ملوثة بالدماء فقال لي " يا ولد أنت عارف حتتكلم إزاي ولازم تقول كل حاجة " ثم أخرج بعدها إلي غرفة التعذيب . وقال : إنهم كانوا يفصحون له بأنهم يعرفون كل شيء عن عائلته فقالوا له أن أخته مريضة بالسكر وإنهم شردوا والده .. وقال أن البوليس طلب منه أن يذكر كلاما عن مالك وأن يتهمه بالاشتراك في الحادث . وأجاب علي سؤال آخر لغنام بك بأنه قابل إبراهيم عبد الهادي باشا ثلاث مرات . وكان البوليس يهمس في أذنه قبل المقابلة أن الباشا في يده كل شيء . وكان الباشا يلح عليه في أن يتكلم . وقد وافقت المحكمة علي إحالة الشاهد إلي الكشف الطبي . 

• الأستاذ علي منصور يطالب المحكمة بتحقيق التعذيب أو إيقاف المحاكمة :

   وقد طالب الأستاذ علي منصور المحكمة بتحقيق التعذيب أو إيقاف المحاكمة حتى تقوم النيابة بهذه المهمة حتى يري المحكمة ما يلقيه هذا التحقيق من ظل – وعقب علي النيابة أن التعذيب تم بحضورها .. كما هاجم تقرير الكشف الطبي علي " مالك " يث قرر أنها مجرد تسلخات بسيطة من أثر القيد الحديدي وأنها لا تحتاج إلي علاج بل تزول من نفسها علي مرور الأيام . وقال الأستاذ علي منصور : لقد جانب هذا التقرير الحقيقة مجانية سافرة ، إذ أن الآثار التي يكشف عنها " مالك " أمام المحكمة ليست بالتسلخات البسيطة ، ومنها ما هو بالفخذ مما لا يعقل أن يكون من القيد الحديدي . وقال إنه يتمسك بتحقيق التعذيب الثابت من الآثار المادية التي شاهدها الجميع في قاعة الجلسة ، كما أن لدي " مالك شهودا علي وقائع تعذيبه هم الدكتور جمال عامر والشيخ محمد جبر وسيد أفندي شامه ومحمد أفندي أمين حنفي . 

• يتهم البوليس السياسي بأنهم قتلوا متهما ودفنوه :

   ثم قال الأستاذ علي منصور : والدليل عليذلك أيضا أنه قد توفي بين أيدي الجلادين أحد الشقيقين أحمد عبد المنعم أو محمد عبد النبي ، وذلك بدار محافظة الإسكندرية حيث تولت الإدارة دفنوه في مكان مجهول ثم أخطرت أهله . واستطرد يقول : هي حقائق مقتطعة من كثير مما ثبت لدي ولا أستطيع بيانه خوفا علي مراكز من يعرفني بها . وفي هذا الكفاية أضعه أمام الضمائر الحية لحضرات المستشارين والضباط العظام لتقديرها . 

• الدكتور عزيز فهمي يقول " هذا التعذيب لم يقع مثله في القرون الوسطي " :

   في جلسة 26/9/1949 جاء في مرافعة الدكتور عزيز فهمي عن التعذيب قوله : " إن هذه الجرائم التي يتحدث عنها الناس في الأندية العامة والخاصة ، لم نسمع لها مثيلا من قبل ، فلقد كان عهد فلبيدس وبدر الدين ومن إليهما من الطغاة والمستبدين – الذين وصفت محكمة النقض والإبرام عهدهم بأنه كان إجراما في إجرام – عهدا إنسانيا بالنسبة لهذا العهد الأخير . ولقد كان فلبيدس وبدر الدين ومن إليهما ملائكة رحمة إذا قورنت جرائمهم بهذه الجرائم – القرون الوسطي أو في المجتمعات البدائية دون أن ينال مرتكبوها جزاءهم الصارم . 

ثانيا – في قضية السيارة الجيب

في جلسة 19/12/1950 استمعت المحكمة إلي ثلاثة من المتهمين في قضية الأوكار وجودة باعتبارهم شهود نفي في هذه القضية وهم سعد جبر التميمي ومصطفي كمال عبد المجيد وعبد الفتاح ثروت .

سعد جبر – ضربوني بالحذاء في وجهي
   قال إنه استأجر فيلا الزيتون ، ولم تكن الأجهزة التي بها هي لامحطة الإذاعة كما أذيع وإنما هي أدوات لمشروع تجاري خاص بتسجيل إسطوانات المطربين في مصر بدلا من الخارج . وقال إنه اعتدي عليه بالضرب حتى منتصف الليل علييد الصاغين (الرائدين) توفيق السعيد وعبد المجيد العشري والجاويش مصطفي التركي الذي كان يضربه بالحذاء في وجهه . 
مصطفي كمال – علقت كالذبيحة وشووني بالسجاير أمام عبد الهادي

قرر أن كل ما نسب إليه في التحقيقات هو من إملاء اللواء طلعت بك بعد تعذيبه – وقال علقوني في شباك القسم زي الذبيحة ، ولما صرخت شووني بالسجاير المولعة – وجاء إبراهيم عبد الهادي باشا فاستغثت به ولكنه لم يعبأ بي وأشار علي ضابط ضخم معه لمواصلة تعذيبي قائلا شرحوه . كما أنهم لم يسمحوا لي بالنوم أبدا . وقد حاصرني ضابطان كانا يبادراني بصفعي كلما همت عيني بالنوم وكانوا يجعلوني أوقع علي أوراق وأنا كالجثة الهامدة – وقد استغثت بحضرة المحقق محمد عبد السلام بك فلم يعبأ بي وتخلي عني .

عبد الفتاح ثروت مرة أخري

ولما كانت حالته لا تمكنه من أداء الشهادة واقفا فقد سمحت له المحكمة بالجلوس علي مقعد . وقد قرر أنه لم يعترف بأي شيء في التحقيق وأن التعذيب جعله فاقد الشعور .

جردوني من ملابسي

وروي بصوت مرتعش ضعيف صنوف التعذيب فقال : أن اللواء طلعت بك هدده بالتشريح إذا لم يعترف قائلا : أن البلد في أحكام عسكرية – ثم قال : وأخذوني إلي غرفة الضابطين العشري وفاروق كمال وجردوني من ملابسي ونزلوا في ضرب من تسعة مساء إلي أربعة صباحا .

الفلكة انكسرت

ولقد قسموا أنفسهم أربع مجموعات ، كل مجموعة من 12 عسكري وضابط ، ووضعوا رجلي في الفلكة واستمر الضرب حتى أن الفلكة انكسرت . ثم استعملوا كرابيج الهجانة .. ولما أفقت من أغمائي قال لي طلعت بك : هذه هي الجولة الأولي والبقية تأتي .

أمر بالموت

وأخذوني إلي إبراهيم عبد الهادي باشا فقال لي : أنا عندي أمر إني أموتك .. ثم أمر بموالاة تعذيبي . وكان التعذيب علي أربع درجات : بالضرب بالعصي والكرابيج ثم الكي بالنيران ، وأحضروا سيخ حديد محمي ولكن الضابط محمود طلعت طلب من الضباط أن يكفوا عني قائلا : ده صاحبي وسيعترف بكل شيء ... ثم نمت علي الأسفلت فكانوا يطرقون الباب حتى يهرب النوم من عيني . وما كانوا في حاجة إلي ذلك ؛ لأنني لم أكن أستطيع الرقاد علي أي جزء من جسمي المشوي كله .

اعتداء منكر

ثم طالبوني بالاعتراف وههدونيأن لم أفعل أن يعتدوا علي اعتداء منكرا . وفعلا تقدم واحد يريد الاعتداء علي .. فقلت له : أنا أعرف أنني لا أستطيع مقاومتك . وأنت يمكنك أن تفعل معي هذه الجريمة . ويمكنك أن تنجو من عقاب القانون .. ولكني أريد أن أقول لك قبل أن تبدأ : أن الله لن يترك هذه الجريمة بلا حساب ... فابتعد عني .

هاتوه أخرس : وظل تعذيبي .. وتلفت أعصابي .. وكنت لما أذهب إلي إسماعيل عوض رئيس النيابة وأشكو له يضرب الجرس ويأتي الحرس فيقول لهم هاتوه لي أخرس خالص .

أنا الحاكم العسكري

وجاءني إبراهيم عبد الهادي باشا 4 مرات وقالي : أنا أبهدلك وأبهدل أهلك ، وأنا الحاكم العسكري . كما جاء النائب العام محمود منصور باشا فلما تقدمت له شاكيا قال : أنا عارف كل حاجة وتركني .

حفظة الأم

وقال : إن من الغريب حقا أنني حينما حضرت اليوم لأداء الشهادة وجدت بعض رجال البوليس السياسي معهودا إليهم المحافظة علي الأمن . وكنت أعتقد أنهم الآن أمام المحاكمة لمعاقبتهم علي ما ارتكبوه من آثام .

الرئيس – هل طلبوا منك أقوالا معينة ؟

الشاهد – نعم .. أن أقول إنني أعرف مالك وعاطف وأنني مشترك في الاعتداء علي حامد جوده .

نوبة عصبية

وما كاد المتهم ينتهي من هذه العبارة حتى ارتجف بدنه وحملق في الهواء وأصيب بنوبة اغمائية ، وجعل يرسل شهيقا عصبيا مؤلما أبكي معظم الحاضرين في القاعة – وبادر رجال البوليس برش الماء علي وجهه ، كما خف إليه طبيب من الموجودين وحملوه إلي الخارج . وقد وافقت المحكمة علي إثبات ذلك في المحضر .

عبد المجيد نافع يقول : أقسم أن عبد الهادي كان يحضر التعذيب

تحدث الأستاذ عبد المجيد نافع في مرافعته عن الاعترافات والتعذيب فقال : أن التواتر يعتبر حجة . والذي تواتر علي الألسنة أن حوادث تعذيب مروعة كانت تقع بأوامر من إبراهيم عبد الهادي باشا أو علي الأقل بمعرفة منه أو علي أقل القليل كان يصادف هوي في نفسه . ولقد مثل إبراهيم عبد الهادي باشا إنسان ، وقد كان رئيس حكومة ووزير الداخلية فلا يعقل أن يعترف أمام الرأي العام بأنه كان يأمر بالتعذيب . لقد أقسم عبد الهادي باشا بشرفه أنه لم يشهد التعذيب . والدفاع يقول : " لقد قال لكم بروتس " ذلك " وبروتس " رجل شريف وكفي " .

يمين علي أقوال ضابط

ثم عاد الأستاذ نافع فقال : إنني أقسم يمينا ويمينا حقا بأنني سمعت من أحد كبار الضباط أن إبراهيم عبد الهادي باشا كان يحضر بنفسه عمليات التعذيب .

إلي متى هذا البوليس السياسي

ثم قال : أن البوليس السياسي قد استعمل من صنوف التعذيب للمتهمين ما لم يتصوره أحد . حتى أن هيئة الدفاع التي شكلت للدفاع فيقضية قنابل 6 مايو (ليست من قضايا الإخوان) كانوا يصرخون ظلما من تصرفات رجال البوليس السياسي ومنهم عبد الفتاح الطويل باشا ومحمود سليمان غنام بك وعمر بك وعبد الفتاح الشلقاني بك (منهم من تولوا منصب الوزارة بعد هذه القضية التي ترافعوا فيها ونرجو أن يعملوا شيئا لإصلاح هذه الحالة .

ثالثا – في قضية جودة والأوكار

   في 6/11/1949 أثبت الطبيب أن أحد المتهمين نزعت أظافره . 

• أمر عسكري بإخضاع سجن الاستئناف للبوليس السياسي :

   الأستاذ فتحي رضوان المحامي – أطلب من المحكمة أن تأذن لي بأن يسلمني المتهم الثاني التقرير الذي كتبه عن وقائع تعذيبه ومعذبيه وشهود التعذيب . علي أن يكون ذلك مباشرة دون أن تطلع النيابة علي هذا التقرير . وقد فهمت عند مقابلة المتهم في السجن أن أمرا عسكريا صدر لمدير مصلحة السجون يخرج رأي الاستئناف من سلطة مصلحة السجون ، ويخضعه للحاكم العسكري ، بمعني أن الحاكم رأي أن يدخل ضباط القسم السياسي سجن الاسئناف وكما يشاءون ، مع أن لائحة السجون تمنع دخول أحد إلا بإذن من النيابة . وأطلب ضم هذا الأمر العسكري فإن صدوره يعني أن الحاكم العسكري رأي أن الإجراءات العادية لا تمكنه من سير التحقيق علي النحو الذي يرتضيه . 
   الرئيس – ماذا يهم الدفاع من ذلك ؟ 
   فتحي رضوان – صدور هذا الأمر يدل علي أن المحقق ضاق ذرعا بالنظام العاديالمتبع في كل قضية وأن الاعترافات صدرت في ظل إجراءات شاذة مخالفة للقوانين . 
   الرئيس – ما هو رقم هذا الأمر ؟ 
   فتحي رضوان – لم أمكن من معرفة ذلك . 
   الرئيس – ألا تكون المسألة وهمية ؟ 
   عبد الفتاح حسن المحامي – إن الدفاع مصدق . وفتحي بك يذكر واقعة محددة في فترة معينة ، ومن حق المحكمة أن تسجيلها ، كما أن من حق الدفاع أن يبرز الظروف التيشابت هذه القضية ، ومن بينها العمل علي الوصلبين ضابط القلم السياسي وبين المتهمين فيسجن الاستئناف . 
   فتحر رضوان – أن واقعة هذا الأمر العسكري ليست مستنتجة أو مدعاة بل سمعتها من نفس موظفي السجن . وأطلب ضم قضية مقتل سليم زكي باشا حيث نسبت فيها لبعضالمتهمين اعترافات ثم رأت النيابة حفظ القضية مع وجود هذه الاعترافات . والدفاع يستفيد حين يقدم نموذجا من تحقيقات القضايا في ذلك العهد وظروف الاعترافات وحفظ القضايا رغم وجود اعترافات فيها . 
   عمر التلمساني المحامي – أطلب ضم قضية مقتل النقراشي باشا ؛ لأن موكلي (الثالث) كان شاهد نفي أثناء التحقيق فيها ، وقد أحيل وقتئذ علي الطبيب الشرعي فأثبت وجود آثار تعذيب به ، كما أطلب ضم ملف خدمته وأن يعرضها علي الذين تعرفوا عليه . وقد ناقشه الرئيس في هذا الطلب فتدخل في المناقشة الأستاذ عبد الفتاح حسن . 
   عبد الفتاح حسن – إن من مصلحة الدفاع أن يضم ملف خدمة المتهم حتى يتبين للمحكمة الموقرة مدي تزيد هؤلاء الأشخاص الذين عاونوا المحقق . وذلك رصيد نقدمه ؛ لأن دفاعنا سيستقي من هذا المعين ، وسنقدمه للتدليل علي الأكاذيب التي اكتنفت التحقيق . 
   الأستاذ مختار عبد العليم – أطلب إحالة موكلي (الرابع) إلي طبيب أخصائي في أمراض الأذن ؛ لأنه فقد سمعه وأصبح (أطرش) نتيجة تعذيبه . 
   الرئيس – لقد أحيل علي الكشف ولم يثبت به شيء . 
   مختار – الطبيب الشرعي فحص فقط الإصابات الظاهرة ، ولقد مضي علي إحداثها عدة شهور فامحت ، أما آثارها فباقية ومنها فقد المتهم سمعه . 
   عبد الفتاح حسن – إن الذي قام بالتحقيق في قضيتنا هذه هو المحامي العام – ولا أسميه –  حقق أيضا القضية المحدد لنظرها 15 الجاري بالإسكندرية " قضية إخفاء يوسف علي يوسف " وفي القضية المذكورة تقرير من الطبيب الشرعي بأن أحد المتهمين قد انتزعت أظافره انتزاعا ، وعلي الرغم من ذلك لم يثبت المحقق هذا في محاضر تحقيقه . 
   ومن حق الدفاع أن يحصل علي صورة من هذا التقرير الطبي حتى يشعر المحكمة بالدليل المادي بأن التحقيق الذي باشره شخص معين كان يغفل الوقائع الخاصة بالتعذيب حق الأظافر المنتزعة لا يمكن أن يكون تحقيقا أمينا . فأرجو أن تأذن لي المحكمة بصورة من هذا التقرير . ( وكان الدفاع قد طلب تقارير استشارية عن بعض المتهمين وقررت المحكمة إجابة جميع طلبات الدفاع ) . 

• مكافأة المتواطئين :

   في جلسة 5/3/1951 استمعت المحكمة إلي أقوال مصطفي كمال عبد المجيد ونجيب جويفل وبقية المتهمين . وكان من أقوال عبد الفتاح ثروت أن التعذيب يبتدئ بالفلقة والكرباج وينتهي بالقتل ، وأن إرهاب البوليس السياسي له بلغ حد استعداده ؛ لأن يعترف بأنه قتل النقراشي رغم اعتراف قاتله – واعترف شهود الإثبات وأكثرهم من جنود البوليس بأنهم قبضوا مكافآت سخية من إبراهيم عبد الهادي باشا . 

• رئيس النيابة زور التحقيق :

   وذكر أحد المتهمين في سياق أقواله بأن إسماعيل عوض بك رئيس النيابة والمحقق في قضية حامد جودة كان متخصصا في التزوير وقلب الحقائق ، فكان لا يثبت في محاضر التحقيق إلا ما يمليه عليه رجال القلم السياسي . 
   وهنا وقف الأستاذ صادق المهدي بك ممثل النيابة وقال إنه يحتج علي هذه الألفاظ التييتفوه بها المتهمون . وقال أن المحقق وهو مستشار الآن ينزه عن ذلك الكلام . وعلي أثر ذلك وقف الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي وقال : إن المتهم أن يحرج المحقق ، وله أن يهدم أدلة الاتهام بما يشاء .. ثم التفت إلي ممثل النيابة وقال : إني سوف أكون علي استعداد لتجريح حضرة ممثل الاتهام بالذات ، وإني سأهاجم ما استطعت المحقق في قضية حامد جودة بالذات ، بل إني سأهاجمكم أنتم . وإني أعتبر ذلك إنذار لكم . وأن الدفاع يعرف واجبه حق المعرفة وسوف يؤديه علي أكمل وجه . 

• وزير الزراعة مع متهم :

   في جلسة 12/3/1951 قال المتهم محمود محمد دعبس إنه بعد تعذيبه أدخلوه حجرة أخري وقالوا له : ستقابل الباشا .. فرأي عبد الهادي وبجواره شخص لا يعرفه ، فأشار عبد الهادي إلي هذا الشخص وقال له : هل تعرف هذا الشخص ؟ فقال لا . فقال إنه معالي وزير الزراعة أحمد عبد الغفار باشا – فتقدم نحوي وزير الزراعة وقال : نحن بلديات وأنا أعمل لمصلحتك ، والأجدر بك أن تعترف حتى تنقذ من هذا العذاب . ثم قال المتهم : ومن هذه الفترة وقف التعذيب ؛ لأني قريب الباشا . 

• البوليس يقيم في مسكنه مع أمه وأخته :

   وقال المتهم يوسف عبد المعطي أن ثلاثة من رجال البوليس السياسي أقاموا في مسكنه مع أمه وأخته لمدة أسبوعين بعد اعتقاله واعتقال والده – وقد أرسلت أخته (سن 12 سنة) برقيه إلي النائب العام تطالب بإخراج البوليس من الشقة ولكن عهد الإرهاب لم يستجب . 

• النائب العام يأمر بعدم إثبات الإصابات :

   وقال المتهم محمد نايل الطالب بالهندسة إنه لما عاد إلي سجن مصر – الذي كان يثبت وقتئذ إصابات كل من يرد إليه – حدثت أزمة استدعت حضور النائب العام السابق محمود منصور باشا الذي أصدر أمرا بألا يثبت السجن إصابات أي متهم . 

• عبد الهادي يكذب علي مجلس الشيوخ :

   وقال المتهم عصام الدين الشربيني وهو من طنطا : إن الضابط سعد الدين السنباطي رئيس القلم السياسي بطنطا اعتقله وعذبه ونقله إلي القاهرة وهدده بأن والده وفدي . وقال المتهم : بعد أن عذبت فيالقاهرة حملني الجنود وعرضوني علي إبراهيم عبد الهادي باشا وأنا محمول . وقد ذكرني هذا المنظر بالمناظر التي نراها في السينما عن رئيس العصابة وهو ينظر مزهوا إلي الضحية بين يدي أعوانه . 
   ثم قال المتهم : إن فؤاد سراج الدين باشا حين وصلته أنباء اعتقالنا قدم استجوابا في مجلس الشيوخ ، فأجاب عن الاستجواب إبراهيم عبد الهادي باشا معلنا في كذب جرئ صريح أنه لا أنا ولا أي واحد من أسرتنا في الاعتقال .. وقال المتهم أن ذلك ثابت في مضبطة مجلس الشيوخ ، وأني أطالب بضمها لتروا كيف أن رئيس وزراء بلد وحكامها العسكري ودكتاتورها قد كذب علي مجلس الشيوخ المحترمين . فهل يستبعد عليه أن يلفق لنا المتهم ؟ 

• هذا هو الطبيب الشرعي :

   ثم قال : لما أدخلت علي إسماعيل عوض بك رئيس النيابة حافي القدمين التمست منه أن يحيلني علي الطبيب الشرعي . فأظهر سعادته استجابة سريعة لهذا الطلب . وإذا به يستدعي الضابط أحمد طلعت بك ويقول : هذا هو الطبيب الشرعي . داويه يا أحمد بك – ومنذ تلك اللحظة (حرمت) أن أطالب بالطبيب الشرعي . 

• المطالبة بتحقيق التعذيب :

   في جلسة 9/4/1951 طلب المحامون أن تبدأ المحكمة بتحقيق التعذيب ، وعارضتهم النيابة . وقررت المحكمة النظر في طلب الدفاع بعد سماع الشهود . 

• تهافت البوليس علي المكافأة الحكومية :

   وفي جلسة 10/4/1951 استمعت المحكمة إليشاهد هو علي محمج علي الطالب بكلية الحقوق قال : إنه كان يسكن هو وبعض زملائه فيلا بمنطقة الهرم ثم نقلوا منها إلي فيلا مجاورة . وفي أول فبراير 1949 حضر شخص ومعه سمسار لاستئجار الفيلا فأرشده إلي صاحبها وتم العقد . وبعد مضي شهرين لاحظ الشاهد تغيب السكان ، فذهب ومعه بعض رفقائه للسؤال عنهم ، ولكنهم فوجئوا بوجود باب المسكن مفتوحا . فلما دخلوا لاستطلاع الأمر وجدوا في إحدى الحجرات أجهزة لاسلكية وأدوات أخري . 
   واستطرد الشاهد يقول إنهم ارتابوا في الأمر وتوجهوا فورا إليبندر الجيزة وأبلغوا المأمور فأحالهم إلي ضابط المباحث الذيشكرهم علي هذا البلاغ ونصحهم ألا يذكروا شيئا عنه ، وأنه سوف يجري التحقيق ويبعدهم عن الشبهات إذا ما قرروا هو ومن معه واستمروا في السجن خمسة عشر عاما . فاستدعت المحكمة ضابط المباحثوهو الملازم أول حسن أبو باشا فادعي أنه كلف بتفتيش المساكن المتطرفة وأنه هو الذي عثر علي هذه الفيلا . وهنا واجهت المحكمة هذا الضابط بالشاهد فأصر كل منهما علي أقواله . ولكن الشاهد لم يقنع بهذا وطلب من المحكمة أن يحلف الشاهد علي المصحف علي صحة أقواله . وأيده الدفاع ولكن النيابة اعترضت بأن هذا القسم لم يرد في القانون . 

• والدة متهم تربط بقيد واحد مع إحدى العاهرات :

   وقبل أن ينصرف هذا الضابط وقف المتهم صالح الجنايني وأشار إليه قائلا : أن هذا الضابط أحضرني إلي بندر الجيزة في 20 مايو 1949 وهددني بوجود مظروف سيؤدي بي إلي حبل المشنقة إذا لم أعترف . فلما أخبرته بأني لا أعرف شيئا ، أمر الجنود بإحضار والدتي – وكان قد استحضرها من بلدتي بمحافظة الشرقية ووضعت في الحجز – ولكني لم أصدق هذا حتى تبينت لي الحقيقة المرة ووجدت العسكري يدخلها علينا وهي مربوطة بقيد حديدي واحد مع إحدى العاهرات ، وكانت العاهرة عارية الثياب . فأشار إليها الضابط وقال لي : سوف نجعل والدتك كهذه العاهرة إذا لم تتكلم . واستطرد المتهم يقول : ثم أحضروا أخي الصغير – وهو كفيف البصر – ومعه ابن عمي – وهو مريضبالصرع – والدم ينزف منهما . وقال لي الضابط : أنظر بعينيك لتعرف مصيرك ومصير أهلك . ثم أخرجوني ودخلت علي المحقق الذي أعرض عني وانشغل بمكالمة تليفونية . ثم دخل هذا الضابط وأخرجني حيث نصبت لي فلقة من نوع جديد ابتكروه لي وتوالي التعذيب . وسئل الضابط عن صحة هذه الوقائع فأنكرها . 

• الدفاع يطلب سماع شهادة محققين في هذه القضية :

   وعلي إثر افتتاح الجلسة التالية للمحكمة في 13/4/1951 طلب أحمد حسين المحامي إعفاءه من الانتداب وتنازله عن التوكيل عن المتهمين ؛ لأنه لا يستطيع الاستمرار في القضية ما لم تأخذ المحكمة بما طلبه من إجراء تحقيق فيما تم من تعذيب – فرد عليه رئيس المحكمة بأن المحكمة وافقت علي طلبات المحامين . وزملاؤه تقدموا بحوالي خمسين شاهدا للتحقيق في وقائع التعذيب وطلبت منه تقديم ما عنده في هذا الشأن – فشكر المحكمة وطلب منها سماع أقوال الأستاذين عصام الدين حسونه وعدلي بغدادي وكيلي النيابة ؛ لأنهما اشتركا في تحقيق هذه القضية . فأجابته المحكمة إلي هذا الطلب . 

• هل هناك أدلة قانونية علي التعذيب ؟

   في جلسة 16/4/1951 قال رئيس المحكمة أن المحكمة قررت تحقيق هذه الوقائع بالفعل . وكل متهم يقدم دليلا علي تعذيبه فنحن علي استعداد لتحقيقه . 
   البهتيمي بك المحامي – المتهمون لا يستطيعون أن يقدموا أدلة ؛ لأن التعذيب كان يحصل بين أربعة جدران . وهم لا يستطيعون الاستشهاد بأحد خصوصا وأن المحيطين بهم كلهم من رجال البوليس . وكان الأطباء يدعون للكشف عليهم بعد عدة شهور من وقوع التعذيب ، مما يجعل الأطباء يثبتون آثار الإصابات وأن كانوا لا يستطيعوا الجزم بها . 
   الرئيس – إن المحكمة ستقدر كل ذلك . 

• كلهم خطرون :

   سألت المحكمة الضابط محمد الجزار عن وظيفتهم في هذه القضية ، فأجاب بأننا نبحث عن جميع الخطرين ونضبطهم . 
   الرئيس – من مِن هؤلاء كان خطرا ؟ 
   الجزار – اتضح أنهم كلهم كانوا خطرين . ولكن لا أذكر أحدا بالذات . 
   الرئيس – هل يعد من الخطرين في الكشوف الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي وهو ضرير والشيخ جبر التميمي وسنه 70 سنة والشيخ أحمد الشناويالقاضي الشرعي والشيخ إبراهيم عليسعده المدرس في كلية الشريعة ؟ 
   الجزار – ما أنا إلا ضابط . فلو أمر لي بضبط أحد فأنا أضبطه . 

• اغتيال البوليس السياسي أحمد شرف الدين :

   ادعي البوليس السياسي أن أحمد شرف الدين كان في وكر بشبرا وكان يحمل مدفعا رشاشا وجهه إلي القوة التي هاجمت الوكر – ودفاعا عن النفس ضربوه بالنار فقتلوه ولم يصب منهم أحد .. وقد دار النقاش حول هذا الحادث بين زكي البهتيمي بك وبين الجزار علي الوجه الآتي : 
   البهتيمي – هل كان أحمد شرف الدين يستعمل المدفع الرشاش في منزل روض الفرج ويوجهه إلي القوة في نفس الوقت ؟ 
   الجزار – نعم . 
   البهتيمي – وكيف لم يصب أحد من القوة ؟ 
   الجزار – هذه إرادة الله (ضحك) . 
   البهتيمي – بل هي بركة الإخوان تخلت عن الإخوان وحلت علي رجال البوليس – الواقع يا حضرة الصاغ أن المسألة غير معقولة . وقد فهمت أن استعمال المدفع الرشاش لا يحتاج تصويبه إلي أي مجهود فني إطلاقا . فكيف وشرف الدين كان ضابطا في الاحتياطي متمرنا علي استعمال هذا المدفع وغيره ؟ 

• خداع البوليس السياسي للشيخ جبر التميمي وعبد الرحمن عثمان :

   في جلسة 22/4/1951 استمعت المحكمة إلي شهادة أحمد طلعت الضابط بالبوليس السياسي .. فقدم للمحكمة ورقتين ، أحداهما مكتوب فيها شهادة من الشيخ محمد جبر التميمي أنه يثني علي حسن معاملة البوليس السياسي له – فأحضرته المحكمة وسألته فاعترف بأنه كتب هذه الورقة ولكنه قال : 
   ظللت في القسم حوالي عشرين يوما لم أطلب فيها . وكانوا يعرضون عليبين الفترة والأخرى المعذبين أمثال مالك وأحمد فؤاد الصادق . وكان في القسم معتقل من الإخوان اسمه علي إبراهيم كان يتولي تضميد جراح الإخوان . وقال الشيخ إجابة عليسؤال من المحكمة : إن الإخوان كانوا يؤخذون بغير سؤال ولا جواب . وأنا شخصيا كرهت كلمة " الله أكبر ولله الحمد " ؛ لأنها كانت تجر إلي جحيم لا نهاية له . وقال إنني لم أكتب هذه الشهادة إلا بعد أن طالبوها مني . 

• عبد الرحمن عثمان شاهدا :

   أما الورقة الأخرى فكانت عبارة عن خطاب موجه من المتهم عبد الرحمن عثمان إلي أهله مكتوبفيه : " إنني مرتاح وفي حالة جيدة وأطلب إرسال ملابس " فأحضرته المحكمة كشاهد في هذه القضية ، فاعترف بكتابة الورقة وقال : 
   إن الصاغ توفيق السعيد كان يستدعيني ليلا ، ومهمته تحطيم أعصابي . وبدعوى الإشفاق عليّوقد رأي ملابسي قد تمزقت أرشدني أن كتب خطابا لعائلتي بخصوص الملابس ، وكتبت الخطاب .. ومهما كان الإنسان في ضيق فلابد أن يخبر أهله أنه مرتاح – ولما كنت أعرف عن رجال القلم السياسي المكر والخداع طلبت من المحقق أن يسمح له بإرسال خطاب .. إذ كنت علي يقين بأن الخطاب السابق لن يرسل . وفعلا هذا هو الذي حصل ، وظل توفيق السعيد محتفظا بالخطاب حتى قدم للمحكمة ليكون دليلا علي أننا كنا مرتاحين في السجن . 

• جريمة خلقية :

   وقال المتهم عبد الرحمن عثمان : إنني أذكر يوم 11 يوليو ذهبت برفقة الملازم أول فاروق كامل وظللت ست ساعات في المحافظة ، واعتدي علي الصاغ العشري بالضرب ومعه عسكري أظن أنه رقي لدرجة الصول ويدعي حسب الله .. وما كان الضرب والتعذيب يحملاني علي الاعتراف وإنما التهديد بجريمة خلقية . وقد لمست في ذلك الوقت أن مبادئ القانون قد ديست . وفي 13 يوليو استدعاني المحقق محمد عبد السلام بك فظننته حصنا لي ، ولكني وجدته عونا لرجاتل السلطة التنفيذية علي . 

• اتهام عبد الهادي بقتل حسن البنا :

   وفي يوم 14 يوليو حضر الملازم كمال الرازي وأخرجني من السجن لتوصيلي إلي نيابة الاستئناف . ولكنني فوجئت بالصاغ محمد علي صالح والملازم فاروق كامل يصحباني إلي محطة القاهرة . وصعدت إلي القطار الذاهب إلي الإسكندرية . وبمجرد تحرك القطار أدخلني صالونا وجدت به إبراهيم عبد الهادي باشا – وأحب أن أسجل أن هذه المقابلة لم تكن كما زعم دولة الباشا بخصوص أحمد محمود يوسف ابن خالي ، وإنما كانت بخصوص التحقيقات نفسها وكان مع عبد الهادي باشا محاضر التحقيقات . وأخذ الباشا يسألني عدة أسئلة حتى يئس مني ؛ لأني لم أجبه علي شيء – فقال لي : ما رأيك في شعور الإخوان بعد قتل مرشدهم ؟ فقلت : إن شعورهم ينحصر في أن دولتك قاتل حسن البنا . فذهل الباشا ، وكان لهذا الرد وقع أليم في نفسه ، وطلب مني الإفصاح عن هذا القول فقلت له : 
   إننا نعلم جميعا أن الأنوار أمام جمعية الشبان المسلمين أطفئت ، وارتكبت الحادث بسيارة محمود بك عبد المجيد رئيس المباحث الجنائية ... فأطرق الباشا مليا ، وطلب لي مشروبا ساقع " ولكنني رفضت ؛ لأني كنت صائما في رمضان فأذن لي بالخروج فخرجت . 

• دماء علي الحائط :

   ثم قال : وقد فاتني أن أذكر أني حينما دخلت الحجرة رقم (12) في سجن الأجانب ، وجدت علي الحائط آثار دماء مشار إليها بقوس ومكتوب تحتها عبارات " لقد مزقوني إربا إربا ، وسعادتي في إيماني ، وإيماني في قلبي ، ولا سلطان لأحد علي قلبي " ومذيلة بإمضاء إسماعيل علي – وأظن أن آثار هذه الدماء موجودة حتى الآن . 

• النيابة تنتقل :

   وهنا طلب الدفاع أن تأمر المحكمة بتحقيق هذه الواقعة . فكلفت المحكمة الأستاذ صادق المهدي ممثل النيابة بالانتقال مع الشاهد وبصحبته الأستاذ أحمد السادة من هيئة الدفاع إلي السجن ومعاينة المكان وإثبات حالته . ثم طلبت المحكمة المتهم إسماعيل علي وواجهته بالشاهد ، فقرر أنه كان بهذه الحجرة وظل بها حوالي شهر ثم رحل بعد ذلك إليسجن مصر . وقال إنه كتب كلاما كثيرا وآيات قرآنية ومنها نفسالكلام الذي ذكره الشاهد . وقرر أنه كتب هذا الكلام بواسطة قطعة من زر جرس كان بالحجرة وحفر به هذا الكلام علي الحائط تحت الدم الذي كان يمسحه علي الحائط من آثار الضرب والتعذيب والجروح الموجودة بجسمه . وأضاف الشاهد بقوله : إني أتذكر أن هذا الكلام مكتوب عليالحائط علي يسار الداخل علي ارتفاع حوالي متر . وإني أنا شخصيا حفرت علي الحائط عبارة " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" . 

• نتيجة المعاينة :

   وجد أن كل ما قرره المتهم والشاهد صحيح ، حيث وجدت علي الحائط عبارة " أيتها العصبة الطاغية ، لكم الجسد البالي فمزقوه إن شئتم إربا إربا ، فإن ذلك لن يشفيني أبد أبدا ، ، لأن سعادتيفي إيماني ، وإيماني في قلبي ، وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا الله " وقد وقع علي ذلك بإمضاء إسماعيل علي . 
   ووجد بجوار هذه العبارة كلمات " إيذاءزائد صبر زائد بلاء زائد صبر زائد تعذيب زائد صبر يساوي نصر " – ووجدت آثار الدماءعلي الحائط في خطوط سوداء قاتمة اللون . ووجد أن مفتاح الجرسالذي أشار المتهم إلي أنه استخدمه في الحفر مخلوع من مكانه وقد ركب بدله جرس آخر – وقد حرر محضر بكل ذلك وختم علي الغرفة بالشمع الأحمر . 

• العسكري الأسود :

   هو أحد معالم ذلك العهد الدنس . وهو عار لا يمحي مهما طال الزمن . وهو الشخص الدنئ الذي رضي لنفسه أن يكون آلة فييد البوليس السياسي في تهديد المتهمين بهتك عرضهم لحملهم علي الاعتراف بما يريدون . وقد ذكره المتهمون أمام المحاكم التي حاكمتهم . ولكن الأدلة القانونية ، واسمه الحقيقي ، ومكان وجوده وقت المحاكمات ، لم يكن متوفرا ... ولكن جريدة أسبوعية كانت تصدر في ذلك الوقت وكانت ذات نشاط صحفي مبتكر تسمي جريدة " الجمهور المصري " تبنت هذا الموضوع ، وحملت علي عاتقها كشف سر هذا الشخص الدنئ .. وجازف اثنان من محرريها هنما الأستاذان إبراهيم البعثي وسعد زغلول وقاما برحلة يكتنفها الخطر ، بعد أن أثبتت تحرياتهما أن هذا العسكري قد سرح من البوليس وأنه مقيم في بلدته الأصلية " إدفو " . 
   واستطاع هذان الصحفيان – بطريقتهم الخاصة – أن يلتقيا بالعسكري الأسود في بلدته ، ونشرت جريدة " الجمهور المصري " اسم هذا الشخص ومحل إقامته .. وبناء علي ما نشر في هذه الجريدة أمرت المحكمة النيابة بإحضار لسماع أقواله باعتباره شاهدا . وفي جلسة 10/5/1951 حضر هذا الشخص واسمه " أمين محمود مرسي النقيب " فيسن دون الثلاثين ، وتمسك بالإنكار التام المطلق .. ولكن الدفاع كان قد علم بأن طكريقة إحضاره من بلدته وحضوره إلي النيابة قد تخللها مناورات خطيرة قام بها البوليس السياسي في القاهرة . وقد واجهه الدفاع بما أحرجه في كيفية تسفيره من بلدته إلي القاهرة ، وفي نزوله أول ما حضر عند ضابط من ضباط القلم السياسي اسمه مرتضي .. مع أنه كان يجب أن يسلم نفسه مباشرة إلي النيابة . وطلب الدفاع من المحكمة أن تسمع أقوال سعد زغلول الصحفي في جريدة " الجمهور المصري " فكان الموجود زميله بالجريدة الأستاذ البعثي فسمعت المحكمة أقواله علي سبيل الاستدلال فقال . 
   " إن زميلي سعد زغلول محاصر الآن بمنزل صديق له هو عبد الرحيم صدقي شقيق اليوزباشي مصطفي كمال صدقي . وقد عمد رجال البوليس إلي محاصرة زميلي حتى لا يحضر الجلسة ، ومنعوه من الخروج من المنزل بحجة أن أخوة العسكري الأسود ينوون قتله . ولازال أربعة من رجال البوليس السياسي يحاصرون المنزل حتى الآن . وكانت المحكمة قد سألت العسكري الأسود عن تاريخه في البوليس وعن كيفية لقائه بالأستاذين البعثي وسعد زغلول وعن كيفية حضوره وأجاب إجابات كان البوليس السياسي قد لقنها له قبل مثوله أمام المحكمة . 
   المحكمة – هل ما ذكره الشاهد الآن هو ما حصل في إدفو ؟ 
   البعثي – لا .. هناك اختلافات كثيرة في أقواله . أولا أن هذا العسكري قد ظل في المحافظة سنة كاملة لا ستة أشهر كما يقول – ثم إنه لم يكن يعرف شيئا عن القضية لدرجة أن أهالي بلدته جميعا لا يعرفون أن اسمه هو ما نشر في الجرائد ؛ لأنه مشهور باسم أمين النقيب . 

• حيدر باشا عاوز راجل صعيدي :

   وقد اهتديت في البلدة علي الشيخ يوسف ناظر المدرسة لعلاقة سابقة بيننا . ولما سألته عن أمين قال عندنا أمين الخطيب . فكلفته بإحضاره في منزل أحد أقارب الشيخ . ولما حضر كنت متحيرا كيف أبدأ الكلام معه . وفجأة انطلق زميلي سعد زغلول وقال له : يا أمين إن حيدر باشا في حاجة إليك ؛ لأنك رجل شهم وهو في حاجة إلي رجل صعيدي زيك . 

• اعترف بالتعذيب :

   ثم تحول الكلام إلي رجال القلم السياسي ، ووجدت منه أنه يميل إليضباط القلم السياسي ويعرف عنهم الكثير . حتى إنه يعرف أن الصاغ العشري نقل إلي البحيرة . ولما سألته عمن كان معه أثناء تعذيب الإخوان ذكر اسم مصطفي التركي وعسكري آخر بالفيوم ، وأنه هو وذلك العسكري كانا مكلفين بارتكاب جرائم تعذيب الإخوان . ولما توغلنا في الحديث ارتعش وبدت عليه علامات الاضطراب والتفت إلي وقال : أنا عارفك مش كده ؟ فقلت له أيوه أنا كنت أتردد علي المحافظة أحيانا – ومن هذا الوقت بدأ يتخوف ويتهرب من الحديث . وهنا ارتفع صوت العسكري ونظر إلي الأستاذ البعثي وقال : أنا خفت منك ؟ أنت يا سلام .. أمال كيف وصلتك المحطة وأنا خايف منك ؟ واستأنف الأستاذ البعثي كلامه فقال : أنا سألت شخصا في البلد عن أمين فقال لي : أن أمين هذا عفريت .. ده ينط علي البيوت . وأي واحدة تعجبه في البلد ينط عليها بالليل الساعة 12 منتصف الليل . 
   واستطرد يقول : أني فهمت أثناء حديثي مع العسكري في بلدته أنه يكره الإخوان جدا وحاقد عليهم لأقصي حدود الحقد ، وكان يسألني أثناء الحديث هل أحد من الإخوان يتهمني في القضية ، أنا علي كل حال كنت عبد المأمور ، وأنا مالي وإحنا في الأول خالص لم نفعل شيء مع الإخوان وإنما في الآخر الحقيقو نفذنا الأوامر ، وعملنا فيهم كتير خالص . وبعد قضاء هذه الفترة معه في البلدة طلب منا بإلحاح أن أن ننام عنده ليلة في البلدة ، ولكنا تخوفنا جدا وآثرنا السفر . وودعنا هو حتى مغادرة القطار . وعند قيام القطار من المحطة نظر إلي وقال : إذا جري لي حاجة أنت تكون المسئول .. وقد نفذنا بعمرنا . 

• شبكة ... وشبكة :

   وقد فاتتني نقطة وهي أن هناك محاميا سعديا اتصل بمأمور المركز لتهريب العسكري ووصا العسكري الساعة 12 ظهر يوم الخميس ، فعملنا عليه شبكة . كما عمل البوليس السياسي عليه شبكة هو الآخر . وكان البوليس علي اتصال به دائما . وقد عقد البوليس اجتماعا حضره الصاغ العشري قرر فيه قتل البعثي وسعد زغلول . 

• جهاز لكشف الكذب :

   ولما وجد الدفاع أن الشاهد معتصم بالإنكار المستمر وقف الأستاذ عبد الرحمن الوكيل المحامي وقال : إني أود أن أقدم للمحكمة الآن موضوعا هو الفريد من نوعه ، ولم يعرض علي القضاء المصري من قبل ... واستطرد يقول : أن هذه القضية من أخطر القضايا ، وإنها ترتكز علي نقطة وهي : هل هناك تعذيب أم لا . وهذا لا يثبت إلا من أقوال هذا الشاهد . وهناك من رجال القانون من كرسوا حياتهم وجهودهم لمعرفة حقيقة أقوال الشهود ومطابقتها للحقيقة . فنري الدكتور كيلر من شيكاغو ظل 45 عاما يبحث هذه المسألة حتى وصل إلي صنع جهاز يوضع عليه المتهم المراد أخذ أقواله ، ويبدأ في استجوابه ، فيعمل الجهاز علي تسجيل كل حركاته من ضغط الدم وحركات قلبه وأعصابه . وهناك شريط بالجهاز يسجل كل ما يدور من مناقشة . ومن حسن حظنا أن هذا الجهاز الفريد الذي اعتمد عليه القضاءفي أمريكا وقد وجد في مصر عند أحد المشتغلين بالمسائل النفسية ، وممكن أن تأمر المحكمة بوضع هذا الشاهد علي هذا الكرسي . 

• شهادة الضابط مصطفي كمال صدقي برؤيته التعذيب :

   وكان ضابطا بالجيش وحكم عليه بخمس سنوات بتهمة الاتفاق الجنائي وصدر عنه عفو ملكي . وقد قرر في جلسة 15/5/1951 أنه رأي المتهمين الإخوان وحدد أسماءهم يأتون محمولين والدماء تنزف من جروحهم وكان هو يضمدها. 

• شهادة جار لقسم مصر القديمة كشف كل ما جري بداخله :

   وهي من أهم ما أدلي به من شهادات ، فقد استمعت المحكمة في نفس الجلسة إلي الأستاذ عبد العزيز الشيري الموظف بوزارة الحربية وفي سن الستين ، يسكن بجوار قسم مصر القديمة ، بينه وبين القسم ستة أمتار . 
   المحكمة – هل كنت موجودا بالمنزل يوم حادث رئيس النواب السابق ؟ 
   الشاهد – نعم .. رجعت من مصر حوالي الساعة التاسعة مساء فوجدت سيارات كثيرة تقف علي جانبي الطريق وزعيقوهيصة . ولما دخلت المنزلسمعت صراخ ينبعث من حجرة سجن القسم الواقعة بجوار منزلي . فصعدت إلي سطح المنزل في الظلام لأتبين الأمر . فإذا بي ألاحظ أن الحجرة المنبعث منها الصوت مضاءة بنو قوي ، وفيها يقف إبراهيم عبد الهادي باشا وبجواه أفندي يمسك ورقة وقلما . وكثير من الضباط والعساكر ومعهم حزم وعصي وكرابيج ، بعضهم يتناوب ضرب شخص لم أتبينه ؛ لأنه كان تحت الشباك . 
   جهنم الحمراء – وكان هذا الشخص المضروبيصبح بأعلي صوته ويستغيث ، فلم أتمالك أعصابي فنزلت وخرجت من المنزل ولم أعد إليه إلا الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل . وعندما صعدت إلي سطح المنزل مرة أخري وجدت منظر جهنم الحمراء في الحجرة ، وظل هذا المنظر المؤلم حتى الفجر . 
   المحكمة – الثابت أن الحادثة كانت الساعة التاسعة وإبراهيم عبد الهادي باشا لم يكن موجودا في ذلك الوقت . 
   الشاهد – أنا كنت الساعة دي مأخوذا برهبة الموقف فلم أفكر في أن أنظر في ساعتي حتى أعرف الساعة كام بالضبط ، وعلي كل حال أنا انتابتني نوبة نومة ولازالت مؤثرة علي أعصابي حتى الآن – وفي صبيحة اليوم التالي منعت أولادي من الخروج لصلاة الجمعة . 
   وقد فوجئت بعد ذلك بهجوم رجال البوليس وتفتيش منزلي والقبض علي وعلي أولادي وهم طبيب ومحام وطالب بالهندسة وأودعنا جميعا القسم بالحجرة نفسها التي كان يجري بها التعذيب ، وكانت ملطخة بالدماء ، ثم أخرجونا منها وأعادونا مرة أخري ، ومكثنا بها عشرة أيام . 
   النيابة – كيف تبينت الحجرة ومن فيها ؟ 
   الشاهد – بمنظار مكبر كان معي ، وسمعت عبد الهادي باشا بأذني وهو يتفوه بألفاظ بذيئة أتنزه عن ذكرها الآن يتنزه عن ذكرها كل آدمي ، وكنت أسمعه يقول للشخص المطروح تحت الشباك : اخلع اللـ .. يا .. يا ... 
   شهود آخرون – وقد شهد شهود آخرون في هذه الجلسة بأنهم رأوا التعذيب وهم السادة : عمر السيد غانم وعبد الفتاح محمد وحسن الشافعي وفايد عبد المنعم . 

• البوليس السياسي يمنع إسعاف المعذبين :

   أما الدكتور عبد المجيد زاغو حكيمباشي بوليس مصر والدكتور محمد كمال قاسم طبيب الأمراض العصبية والعقلية لمصلحة السجون فقد شهدا في هذه الجلسة برؤيتهم المتهمين في حالات تستدعي الإسعاف ، وكان البوليس السياسي يمنعهما من إسعافهم . 

• شهادة اليوزباشي كمال صقر برؤيته التعذيب :

   المحكمة – هل عاصرت فترة تحقيق قضايا الإخوان ؟ 
   الشاهد – عاصرت معظمها ثم طلبت نقلي من القلم السياسي وأنا الآن بسواري بوليس مصر . 
   المحكمة – ما الداعي إلي طلب نقلك ؟ 
   الشاهد – لأني لم أوضع في الوضع اللائق بي والذي كنت أطمع فيه حيث كانت وظيفتي هي نقل المتهمين من مكان لآخر . 
   المحكمة – هل شاهدت وقائع التعذيب ؟ 
   الشاهد – رأيت بعض المتهمين معذبين ومضروبين ولكني لا أذكرهم بالضبط ، وإذا ذكرني أحدهم بأي واقعة فربما أتذكر كل شيء . 
   ( وهنا طلبت المحكمة من المتهمين الوقوف ، واستعرضهم الشاهد ) ثم أشار إلي مصطفي كمال عبد المجيد وقال أن هذا المتهم عندما كان يراد نقله إلي دورة المياه كان يحمل علي الأكتاف ؛ لأنه لم يكن يقوى علي الوقوف علي قدميه من آثار الضرب – ثم أشار إلي علي رياض وقال : أن هذا المتهم رأيته مستلقيا علي كنبة بحجرة أحد الضباط ورجليه مبتورة خالص – وأشار إلي نجيب جويفل وقال : رأيته ملقي علي الأرض بحجرة الصاغ العشري حوالي الساعة الرابعة مساءوالدم ينزف من جسمه . 
   المحكمة ألا تعرف من كان يشترك في التعذيب ؟ 
   الشاهد – ثلاثة أرباع الضباط كانوا يشتركون في التعذيب ، بل كان يجري التعذيب من المخبرين علي مرأي منهم . وأنا علي كل حال كنت من الضباط ولكن الحمد لله (ورفه يديه إليأعلي وسكت عن الكلام) . 
 شهادة رجال القضاءوالنيابة : 
   نظرا لما لشهادة رجال القضاء ورجال النيابة من اهمية خاص , ولما لها من دلالات خطيرة , فقد راينا ان نلفت نظر القارئ إليها بإفردها بعنوان خاص . 

• شهادة القاضي محمد أسعد محمود :

   سئل عن معلومات عن التعذيب حين كان يعمل وكلا للنائب العام سنة 1949 فقال : بعد أن أثبت إصابات يوسف عبد المعطي , تحادث معي الصاغ توفيق السعيد تليفونيا وأخبرني بإن القلم السياسي يتعجب ؛ لأني أثبت إصابات يوسف عبد المعطي , أنه بسبيل الذهاب إلي النائب العام ليشكوني إليه .. فأحسست وقتها كما قلت أن ضميرى كمحقق قد مس مسا عنيفا , وأن عوامل خارجية تريد أن تتسلل للتأثير على في عملي , فلم أتمالك نفسي من الغضب وقلت : ليشك من يشاء . وحضربعد قليل صلاح مرتجي بك وكيل النائب العام وقتئذ وأخبرتة بما حدث فقال لي : لاتهتم بذلك . ونتظرت ؛ لأن يحادثني التائب العام في ذلك ولكنه لم يفعل . والذى أستطيع الجزم به أنني بدأت  في التحقيق في قضية السيارة الجيب , وحيل بيني وبين الاستمرار فيها في 4 يناير . وسئل : هل تذكر اسم جمال الدين عطية كاتب التحقيق ؟ فقال أبوه .. إرضاء لضميرى أقول : في الفترة الأخيرة من عملي في قضية السيارة الجيب حرر معي التحقيق . وأذكر أنني دهشت عندما علمت بعد ذلك أنه ضبط في منزل من منازل الأوكار ؛ لأنه كان في استطاعته والمستندات في أن يتلفها أو يفعل ما يشاء , ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك . 

• شهادة الأستاذ عصام الدين حسونة :

   س – هل كنت وكيلا للنائب العام في سنة 1949 ؟ 
  جـ - نعم كنت أعاون النيابة في قضايا الإخوان . 
   س – هل تذكر أنك رأيت بعض المتهمين ممن لم تحقق معهم حضرتك ؟ 
  جـ - كنت أعمل في نفس الجناح الذي يعمل به حضرات المحققين في القضية . وكنت بحكم مكاني وعملي وثيق الصلة بالضباط الذين عهد إليهم بنقل المتهمين ، وبكتبة النيابة ، وبكل ما يتصل بهذه القضية . وكنت أسمع من هؤلاء جميعا يروون ما يقع علي المتهمين من تعذيب واعتداء ، وكنت أيضا أشهد بعيني بعض المتهمين مصابين بإصابات ظاهرة . 

• قصة وكيل النيابة عدلي بك بغدادي :

   ثم قال الأستاذ عصام : والدي أذكره من وقائع معينة حتى أغني الدفاع عن الأسئلة ، أنه في صباح ذات يوم سمعت من زملائي أن خلافا قام بين عدلي بك بغداديوبين إسماعيل بك عوض الأفوكاتو العمومي ؛ لأن الأستاذ عدلي وكيل النيابة شاهد في بعض المتهمين إصابات فأثبتها وطلب إحالتهم إلي الطبيب الشرعي ، فلم يوافق الأفوكاتو علي ذلك وأخذ عليه هذا العمل ، ولعل هذا الحديث وصل إلي جميع أعضاء الهيئة ؛ لأنه أذيع وقتئذ أن حضرة وكيل النيابة كان محل غضب وأنه نقل بسبب هذا . 

• الأفوكاتو العمومي يرفض إثبات الإصابات :

   (الأفوكاتو العمومي أي المحامي العام) وواصل الأستاذ عصام شهادته فقال : والواقعة الأخيرة التي أعلمها – ولعلها كانت في نفسي لجسامتها ولأني علمتها من مصدر ليس محل شك في اعتقادي – هي أن أحد المتهمين واسمه البساطي حمل إلي غرفة المحقق حملا لشدة إعيائه بسبب إصاباته ، وأن المحقق لم يصف حالته وكان المحقق هو الأفوكاتو العموميإسماعيل بك عوض . 

• مفاجأة :

   وقد سألت المحكمة الأستاذعصام عن المصدر الذي وصلت إليه منه هذه المعلومات فأجاب بقوله " في سبيل تحقيقالعدالة والمصلحة العامة أستبيح لنفسي أن أقول إنه حضرة الأستاذ فتحي مرسي ممثل النيابة في هذه القضية . 
   ممثل النيابة – أنا ؟ ! يظهر أن الذاكرة خانتك يا عصام بك . 

• كان يسب المتهمين :

   وسئل الأستاذ عصام ألم يسمع بأن إسماعيل بك عوض كان يسب المتهمين ؟ فأجاب بقوله " لم أسمع هذه الواقعة بالتحديد ، وإنما كان الحديث المتبادل بين كتبه النيابة ومن يتصل بالتحقيق أن مثل هذه الواقعة تقع أحيانا من هذا المحقق 

• معاملة الجواميس :

   وسئل هل يذكر بعد ضبط محمد مالك أنه سمع من أحد رجال البوليس أن تعذيبا غير طبيعي في بشاعته وقع عليه ؟ 
   فأجاب بقوله " نعم سمعت من أحد كبار رجال البوليس أن هذا المتهم ضربوه بما لو أصيبت به جاموسة لنفقت " . 
 صدام بين الدفاع والمحكمة : 
   عند هذا الحد من الشهادات المثيرة التي تقطع بأن هناك تعذيبا بشعا قد وقع علي المتهمين في هذه القضية ، لم تستطع هيئة الدفاع أن تسير في القضية السير العادي ، واضعة موضوع التعذيب علي الرف في صورة دفوع كما تريد المحكمة . 
   ففي جلسة 24/5/1951 وكان الدفاع من قبل قد طلب سماع أقوال محمود إسماعيل بك الذي كان يحقق القضية ثم نزعت منه وأسندت تحقيقاتها إلي إسماعيل عوض بك ، كما طلبوا سماع إسماعيل عوض بك أيضا – في هذه الجلسة قام الدكتور عزيز فهمي المحامي وقال : أنني مصر علي سماع شهادة محمود إسماعيل بك ولكنني لا أوافق علي سماع شهادة إسماعيل عوض بك ؛ لأن المتهم لا يسمع شاهدا ، وأن إسماعيل عوض بك ومحمود منصور باشا النائب العام السابق قد ارتكبا جرائم ومخالفات توقفهما موقف الاتهام . ونحن نترك للمتهمين الرأي بعد الانتهاء من القضية في رفع الدعوى العمومية ضد هذين الشخصين . ومضي الدكتور عزيز يقول : إن هذه القضية قد أساءت إلي سمعة مصر في الخارج إساءة بالغة ، ومازالت الصحف الأجنبية تتحدث عن العسكري الأسود وعن وقائع التعذيب ، وتصف التحقيقات بأوصاف لا تليق بالقضاء المصري ، إذ ذكرت إحدى الصحف الأوروبية أن التحقيقات التي أجريت في القضية لا تقارن إطلاقا بما كان يحدث في العصور الوسطي . 
   ولما رفضت المحكمة طلبات كان قد طلبها قرر الانسحاب من الدفاع . 

• الجلسة الأخيرة والحاسمة – تأجيل القضية لدور مقبل :

   وبعد أن سمعت المحكمة مرافعة النيابة وفي جلسة 10/6/1951 قام الأستاذ عبد المجيد نافع ، وقبل أن يبدأ دفاعه ، طالب بأن تفصل المحكمة في بطلان الإجراءات نظرا لما سمعته من شهادات قاطعة بحدوث التعذيب واشتراك النيابة في تزوير القضية ، وسمي إسماعيل عوض بك " إسماعيل ميكيافيللي " وأبرز شهادة القاضي محمد أسعد محمود وعضوي النيابة عدلي بغدادي وعصام الدين حسونة وتمسك بذلك . وقد أيده في ذلك الأستاذان أحمد حسين وفتحي رضوان . وقال أحمد حسين : 
   " إن الدفاع قبل أن تكون المحكمة رأيها في هذه القضية يسجل أن هذه القضية تحولت من اعتداء علي حامد جودة إلي قضية اعتداء علي الحريات العامة في شخص المتهمين . ونحن نقول أن هذا التحقيق مبني علي الجريمة ، وأن التعذيب وعدم إثباته في التحقيق هو جريمة التزوير بعينها ، ,هو تزوير وجرائم يقال عنها إنها تحقيق – فلم يكن هدف التحقيق الوصول إلي الحق وإنما هدفه هو تزييف الحق للوصول إلي هدف خاص " . 
   وانضم إليه جميع هيئة الدفاع – وقال الأستاذان شمس الدين الشناوي وأحمد السادة : 
   " لن يتكلم محام في موضوع القضية حتى يفصل في هذا الدفع الذي تقوم عليه القضية وإن الدفاع في هذا الطلب ليس متعسفا " . 
   وقال الأستاذ سمير حيدر : أن المحكمة كانت قد وعدت في جلسة 8 من إبريل الماضي بالأخذ بما طلب به الدفاع من حق التصدي للتهم الموجهة إلي المحققين . وقررت إرجاء الفصل في هذا الطلب لحين سماع شهادة شهود الإثبات ، وأنها ستقوم في خلال سماع هؤلاء الشهود بتنفيذ قرارها فيما يتبع مع هؤلاء الشهود المهتمين .. وأصبح الموقف معلقا مبتورا . ووقف الأستاذ طاهر الخشاب فأيد مطالبة المحكمة بحق التصدي وإلا فإن الدفاع سيستعمل حقه في رد أحد أعضاء المحكمة لقرابته بأحد الشهود الذين اتهموا بارتكاب التعذيب . وهنا فطن عضو اليسار إلي أنه هو المقصود . فقررت المحكمة رفع الجلسة للنظر في هذه الطلبات .. ثم عقدت الجلسة وقام رئيس المحكمة وهو في حالة نفسية تسترعي النظر وقرر تأجيل القضية لدور مقبل . ونحب أن نحيط القارئ علما بأن هذه القضية حين جاء ميعاد انعقاد جلسة للنظر فيها في دور مقبل . وكانت هناك مفاوضات تدور في خلال ذلك بين هيئة الدفاع وبين رياسة محكمة استئناف القاهرة – انعقدت جلستها لتقرر الإفراج عن عدد من المتهمين .. أما الحكم في القضية فلم يصدر إلا في سنة 1954 . 

• عودة إلي البوليس السياسي :

   بدأنا هذا الفصل بالإشارة إلي البوليس السياسي ونوهنا في التلفيق والتعذيب .. ثم كانت وقائع هذه القضايا برهانا ساطعا علي أن هذا البوليس هو دولة داخل الدولة ، وأنه يتعالي علي القانون ، ويري من حقه أن يسخر أجهزة الدولة لتنفيذ أغراضه ، لا يستثني منها أجهزة النيابة العامة والتحقيق .. وأنه في تعامله مع المواطنين لا يعترف بحقوق المواطنة ولا الإنسانية ولا الآدمية . ولم يكن الإخوان المسلمون أول من عاني من إرهاب هذا الجهاز ومن تسلطه وإجرامه ، بل عاني منه جميع من عملوا في حقل السياسة المصرية ، وإن كلان معاناة الإخوان هي أشد أنواع المعاناة ... غير أن هيئة من هذه الهيئات السياسية حين أتيح لها أن تتصدر منصة الحكم لم تجرؤ كما سبق القول علي مس هذا الجهاز أدني مساس . 
   وشاءت الأقدار أن يكون عرض هذه القضايا علي القضاء في أيام حكم حزب الوفد ، الذي كان أكبر عامل مهد له الطريق إلي الحكم هو ما ارتكبه البوليس السياسي من مآثم ضج لها الشعب وكفر بالقائمين علي الحكم في أيامها .. فلما جاءت حكومة الوفد انتظر الناس منها عملاً حاسمًا إزاء هذا الجهاز الإجرامي وطال انتظار الناس وهم يقرأون في الصحف كل يوم من وقائع قضايا الإخوان ما يفضح جرائمه ويكشف عن خفاياه ومآثمه . 

• الدفاع يطالب حكومة الوفد بإلغاء البوليس السياسي :

   وقد تردد هذا الشعور في ثنايا ما كان يدور في جلسات هذه المحاكم من مناقشات وما يلقي فيها من مرافعات ، ومع ذلك ما أشرنا إليه من قبل وما جاء علي لسان الأستاذ عبد المجيد نافع المحامي في جلسة 27 مارس 1950 في قضية الأوكار حيث قال : " إن البوليس السياسي في مصر هو منظمة انجليزية اسما ولحما ودما وعظاما ونخاعا . فالانجليز هم الذين أوجدوه . ولن تغب عن الذاكرة تلك المآسي التي مثلت علي المسرح السياسي منذ عصر قنبيدس إلي اليوم . ثم قال : في قضية قنابل 6 مايو ترافع فيها أصحاب المعالي والعزة عبد الفتاح الطويل باشا وسليمان غنام بك وعبد اللطيف محمود بك الوزراء ، وعبد الفتاح حسن بك الوكيل البرلماني وكامل يوسف صالح بك وكيل مجلس النواب ، والأستاذ مصطفي موسي عضو مجلس النواب كان مهتما .. وكل هؤلاء يجأرون بالشكوى من البوليس السياسي ، وحدثت مشادات في الجلسة حامية الوطيس .. وها هم الآن قد أصبحوا في الحكم . وبيدهم السلطات التشريعية والتنفيذية .. فلماذا لا يلغون القلم السياسي ؟! . 

• سؤال في مجلس النواب :

   وفي 16/4/1951 تقدم الأستاذ فوزي البرادعي عضو مجلس النواب إلي وزير الداخلية بالسؤال التالي : 
   " ما هي الإجراءات التي اتخذتها الوزارة حيال الجرائم التي ارتكبها رجال البوليس السياسي في القضايا التي نظرت أمام محاكم الجنايات والتي تنظر الآن ، واعترافات مالك السجين . وما هي الإجراءات التي تتخذها الوزارة لوقف هذا السيل من الجرائم مستقبلا ؟ " . ولكن حكومة الوفد كانت في ذلك الوقت منهمكة في إعداد تشريع يقيد حق تكوين الجمعيات الذي بسطنا الحديث فيه في فصل سابق – ومثل هذا التشريع يكون تنفيذه بطبيعة كونه قيدا علي الحرية موكولا إلي هذا الجهاز ... ولذا فإن الحكومة لم تعر سؤال النائب أدني اهتمام . 

• استجواب لوزير الداخلية :

   ولكن النواب الذين قطعوا العهود لناخبيهم علي أن يكون أول عمل لحكومتهم أن تستجيب لشعور الشعب وتطهر الأداة الحكومية من هذا الجهاز وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه ، بين شعب متلهف وحكومة معرضة ، أننستها مناصبها ما قطعت للشعب من وعود . 
             فلما رفعناهم إلي غاية العـلا               بأكتافنا حيث الأمور بهم تجـري 
             لووا رأسهم عنا وعن كل مبدأ              إليه دعوا إذ هم يعيشون في فقـر 
   وأخيرا تقدم عضو آخر من أعضاء مجلس النواب هو الأستاذ سليمان عبد الفتاح باستجواب لوزير الداخلية نوقش في جلسة المجلس يوم 14/5/1951 وهاك نص الأستجواب : 
   " إن قلم البوليس السياسي هو أثر من آثار الانجليز ، فقد أنشئ في عهد اللورد كرومر ليكون عونا للانجليز ، وسوط عذاب علي الوطنيين . وفي الميزانية حوالي مائتي ألف جنيه تنفق علي هذا البوليس السياسي كل عام . وقال النائب : إن البوليس السياسي أصبح نقمة علي هذه البلاد ، ويجب قبل أن نبدأ بجلاء الانجليز عن القنال أن نبدأ بجلاء البوليس السياسي عن مصر . 
   ثم قال : إنه يودع مكتب المجلس كشوفا بأسماء الموظفين الذين تولوا تعذيب المتهمين في القضايا السياسية . وأشار إلي حادث كوبري عباس . فذكر أن طلبة الجامعة خرجوا يوم 9 فبراير 1946 لإعلان غضبهم علي تهاون الحكومة في حقوق البلاد وفي تحقيق أهدافها الوطنية ، فصدرت الأوامر من موظف كبير مسئول مازال يشغل منصب وكيل وزارة (وهنا سئل من هو فقال : عبد الرحمن عمار بك) بفتح الكوبري والهجوم علي الطلبة بالمدافع الرشاشة والبنادقوالعصي ، وراح الطلبة يتساقطون في النيل كأوراقالشجر في أيام الخريف ، وأسفر الحادث عن إصابة 160 طالبا بعاهات مستديمة وفقد 28 طالبا لم يعرف مقرهم حتى الآن . 
   وتلا حضرته بيانا أصدره النحاس باشا حينذاك طالب فيه بضرورة معاقبة الموظفين الذين تسببوا في هذا الحادث وارتكبوا هذه الجرائم . ثم قرأ حيثيات حكم صادر في قضية تعويض أقامها طالب ضد الحكومة بسبب إصابته في المظاهرة . وتكلم عن محاولة اغتيال النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا وعن اغتيال الشيخ حسن البنا وعن حوادث التعذيب في قضايا مقتل النقراشي باشا وسيارة الجيب – وقال : 
   " أنه إذا عجز مصطفي النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا في ذلك الوقت عن إثبات الجرائم ، فليس مستحيلا عليهما الآن ... ولكن الأمور ظلت كما هي ، لم تحرك الحكومة ساكنا " . وتكلم عن خطاب وصله من متهم يصف فيه كيف عذبوه ، ثم جاءوا به بالعسكري الأسود فاضطر أن يعترف بما أملوه عليه . وروي النائب أن أحد رؤساء النيابة أثبت في محضره بعض حوادث التعذيب فكان جزاؤه النقل إلي جهة نائية بعد أن سحبوا منه التحقيق . وأن أحد وكلاء النيابة علم أن بعض المتهمين قد أوحي إليهم أن يقحموا اسم النحاس باشا في التحقيق حتى يستدعيه المحقق لسماع أقواله ، وعندئذ ترتكب جريمة ضده ، وعلي أثر ذلك اتصل وكيل النيابة بالنحاس باشا وحذره من الحضور ، فكان جزاؤه النقل إلي جهة نائية أيضا . 

• الحكومة تمالئ البوليس السياسي :

   وقال النائب : أن الحكومة تتعمد ممالأة هؤلاء الموظفين الذين ارتكبوا هذه الجرائم – ثم اقترح تأليف لجنة برلمانية لتحقيق هذه الجرائم وعرض تقريرها علي المجلس ، وطالب الحكومة من الآن بحل البوليس السياسي وبالتحقيق في جرائم التعذيب والقتل . 

• نتيجة الاستجواب :

   تكلم عبد الفتاح حسن بك مدافعا عن الحكومة وقال أن وزارة الداخلية قررت تأليف لجنة يكون واجبها الاطلاع علي جميع القضايا المحفوظة والتي ينطبق عليها وصف هذا الاستجواب ، لتحديد مسئولية الموظفين المشار إليهم . علي أن رد عبد الفتاح حسن هذا لم يكن أكثر من مسكن ، فإن أي إجراء إيجابي لم يتخذ حيال هذا الجهاز .