الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الأول - الباب الثاني)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثاني : فى ميدان العتبة الخضراء

مقدمة

كان من أثر البعثات الطلابية فى أنحاء البلاد أن انتشرت الدعوة واتسع نطاق الرقعة التي استجابت لها ، وتضاعف عدد أعضائها أضعافا كثيرة ، كل هذا فضلا عما سبق الإشارة إليه من انتشار الدعوة فى كليات الجامعة والمدارس والمعاهد والأزهر ، ولم تعد الدار بشارع الناصرية صالحة لاستيعاب هذا العدد الكبير من الناس ، وما يستتبعه من اجتماعات ومحاضرات ومؤتمرات وأوجه نشاط ؛ وكان لابد من البحث عن مقر للمركز العام يتسع لذلك ؛ وسرعان ما وفق الله إلى مكان بهذه المطالب ويمتاز بالميزات الآتية :

1- كثرة عدد حجراته واتساع مساحاتها فقد كان به سبع حجرات ، واحدة منها كانت مساحتها تبلغ مجموع مساحات جميع حجرات المركز العام السابق .

2- كان له (( فراندة )) تتسع لمئات الكراسي وتصلح لعقد المؤتمرات فضلا عن الاجتماعات والمحاضرات

3- كان موقعه أحسن موقع من حيث يقع فى ميدان العتبة الخضراء ، وكان إذ ذاك أعظم ميدان فى القاهرة وهو ملتقى المواصلات ومعترك التجارة ومهوى أفئدة أهل القاهرة والوافدين إليها من مختلف البلاد .

ويقع هذا المقر فى العمارة التي بها لوكاندة البرلمان التي كانت هي الأخرى معلما من معالم القاهرة .وقد اقتضى هذا الانتقال أن ينتقل الأستاذ المرشد من سكنه إلى مسكن قريب من المركز الجديد لأنه كان حريصا على قرب مسكنه من المركز العام فاتخذ مسكنا فى شارع محمد على .

وكان الإخوان إلى ما قبل الانتقال إلى هذا المقر الجديد من الضآلة فى العدد ، ومن الاختفاء فى المكان بحيث لم يكن يحب لهم حساب ، ولا يكاد يحس بوجودهم أحد ، وكانوا ذائبين فى المجتمع ، وكانت صلتهم بالقاهرة التي يعيشون فيها شبه مقطوعة فهي مقصورة على شعبهم القليلة فى منطقة القنال وما حولها ؛ وقد حاول الأستاذ المرشد سدى إشعار القاهرة بوجود الإخوان بمحاضرات يعلن عنها بدعوات وبمنشورات حتى وصل به الأمر إلى أنه انتهز فرصة إقبال شهر ربيع الأول فى تلك السنة فأعلن عن محاضرات يلقيها كل ليلة بالمركز العام فى الناصرية وطبع آلاف الإعلانات عن هذه السلسلة من المحاضرات ؛ وكنا نذهب جميعا كل ليلة إلى مسجد السيدة زينب نؤدي صلاة العشاء ثم نخرج من المسجد ونصطف صفوفا يتقدمنا الأستاذ المرشد ينشد نشيدا من أناشيد المولد النبوي ونحن نردده من بعده فى صوت جهوري جماعي يلفت النظر ، وكانت الفاصلة التي نرددها هي هذا البيت :

صلى الإله على النور الذى ظهرا  ::: لنا بشهر ربيع الأول أشهرا

وكان الناس يجتمعون فعلا علينا ، ويسيرون معنا فى الطريق ونحن ننشد بنغمة محبوبة وكان أفراد منا يوزعون الإعلانات على الناس والمحلات على الجانبين فى أثناء سير الموكب حتى إذا وصلنا إلى دار المركز العام لم يدخل معنا فيه إلا عددا قليل لا يسمن ولا يغنى من جوع ..

كان الانتقال إلى المقر الجديد طفرة بالنسبة لوضع الإخوان ولإمكانياتهم ، وتستطيع أن تقدر ضآلة هذه الإمكانيات إذا علمت أن الإخوان حتى ذلك الوقت لم يكونوا إلا مجموعة من الطلبة مهما ذكرنا عن تضاعفهم عددا فإنهم لا مورد لهم وبجانبهم عدد من صغار الموظفين هم أنفسهم الذين كانوا موجودين بالمركز العام لأول مرة زرته ... والمقر الجديد يحتاج إلى نفقات كثيرة فإيجاره أضعاف إيجار القديم ونفقات تأثيثه وأجر المياه والنور فيه وأجر الكراسي التي تلزم للحفلات والمحاضرات ... وهذه النفقات لا قبل لهذه المجموعة القليلة الفقيرة بها ... ولكن الأستاذ المرشد كان لا يعير النواحي المادية اهتماما ؛ فهو يقدم كل ما يملك ويعتقد بعد ذلك أن الله لن يخذله ؛ وكان الله سبحانه دائما يحقق أمله وصدق الله إذ يقول فى الحديث القدسي (( أنا عند حسن ظن عبدي بي )) .

وقد دفع الأستاذ المرشد بكل ما معه ، ولم يدخر أحد شيئا يستطيعه إلا قدمه ، ولم يتخلف إخوان الإسماعيلية وإخوان القنال عما تعودوه دائما ، فقد كانوا سندا وردءاً للأستاذ المرشد فى كل موقف شديد ، وأتم الله فضله وتم الانتقال ، وأثث المكان ، وأخذ الإقبال يزداد على المكان الجديد الذى وجدوا معه فيه سعة .

وكان الأستاذ يرمى من وراء هذه النقلة فى المكان التهيؤ لنقل الدعوة إلى طور جديد له السمات الثلاث الآتية باعتبارها أهدافا يجب تحقيقها :

1- إبراز الإخوان المسلمين باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية فى المجتمع المصري .

2- الأخذ بأساليب عملية قوية فى التكوين والتربية.

3- فضح مؤامرات الإنجليز والحكومة والانطلاق بقضية فلسطين .


الفصل الأول : إبراز الإخوان باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية فى المجتمع المصري

اتخذ الأستاذ المرشد لتحقيق هذا الغرض الأساليب الآتية :-

الأسلوب الأول : الشارة والمجلة

ما كان يستقر بنا المقام فى الدار الجديدة حتى دعانا الأستاذ المرشد إلى اجتماع وعرض علينا فكرته فى وجوب أن تكون لنا شارة مميزة ، ومجلة معبرة ، ووافقنا جميعا على الفكرة .

الشارة : اقترح كل منا هيئة معينه للشارة وانتهينا إلى أن يكون لنا نوعان من الشارات ؛ نوع يعلق على الصدر فى جانبه الأيسر ونوع يلبس فى إصبع اليد ، وقال لنا الأستاذ فكروا فى هيئة لكل من هذين النوعين من الشارات على أن يكون تفكيركم محصورا فى صيغة قرآنية ...

وقد أخذ الأستاذ بفكرتي فى هيئة شارة الصدر ؛ وهى أن تكون قطعة معدنية مستديرة فى مساحة القرش محدبة السطح ، يطلى سطحها بالميناء الزرقاء ، ويرسم عليها - رسما بارزا - سيفان متقاطعان يحملان على تقاطعهما مصحفا بلون أحمر ويكتب تحت تقاطع السيفين كلمة (( وأعدا )) وقد نال هذا الاقتراح استحسان الأستاذ والإخوان ؛ وتعلق هذه الشارة بدبوس ملحوم فى ظهرها .

وأما شارة الأصبع فكان مقترح هيئتها الأستاذ المرشد ؛ فرأى أن تكون دبلة من الفضة ذات عشرة أضلاع ، وينقش على ضلعين منها بالمينا السوداء كلمتا (( الإخوان المسلمون )) .

أسباب اختيار هذا الوضع لشارة الإصبع

يبدوا أن فكرة هذه الشارة بهذا الوضع كانت فكرة راودت الأستاذ المرشد من قديم ،حتى إنه حين عرض علينا موضوعأن نكون لنا شارة خاصة كان يريد أن نكون شارتنا هي هذه الشارة وحدها دون غيرها ، ذلك أن فكرتها كانت مختمرة فى ذهنه وأن دلالاتها كانت من الروعة بحيث يقتنع بها كل من سمعها أو لاحظها ونتلخص هذه الدلالات أو المعاني أو الخصائص فيما يأتي :-

أولا : أنها باعتبارها تلبس فى الإصبع فإنها تكون ملازمة لصاحبها فى كل وقت وفى كل مكان فى الليل والنهار وفى اليقظة وحين يلبس ملابسه وبعد أن يخلعها .

ثانيا : أنها مصنوعة من الفضة ، والتختم بخاتم من الفضة من السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث عليها .

ثالثا : أن كونها ذات عشرة أضلاع تذكر لابسها بآيات كريمة من القرآن تضفى على هذا الرقم لونا من القدسية فى حياة الناس فى الدنيا والآخرة وهناك بعض هذه الآيات :

أ - الوصايا العشر فى قوله تعالى

قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم (1) أن لا تشركوا به شيئا (2) وبالوالدين إحسانا (3) ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (4) ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ما بطن (5) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . (6) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده (7) وافوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها (8) وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى (9) وبعهد الله أوفوا . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . (10) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السيل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( الآيات 151،152،153من سورة الأنعام)

ب - الدرجات العشر فى قوله تعالى

(1) إن المسلمين والمسلمات (2) والمؤمنين والمؤمنات (3) والقانتين والقانتات (4) والصادقين والصادقات (5) والصابرين والصابرات(6) والخاشعين والخاشعات (7) والمتصدقين والمتصدقات (8) والصائمين والصائمات (9) والحافظين فروجهم والحافظات (10) والذاكرين الله كثيرا والذاكرات . أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما . (الآية 35 من سورة الأحزاب ) .

ج - فى صفات المؤمنين فى قوله تعالى

(1) التائبون (2) العابدون (3) الحامدون (4) السائحون (5) الراكعون (6) الساجدون (7) الآمرون بالمعروف (8) والناهون عن المنكر (9) والحافظون لحدود الله (10) وبشر المؤمنين . (الآية112 من سورة التوبة

د - مقومات البر فى قوله تعالى

ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر (1) من أمن بالله (2) واليوم الآخر (3) والملائكة (4) والكتاب (5) والنبيين (6) وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب (7) وأقام الصلاة (8) وآتى الزكاة (9) والموفون بعهدهم إذا عاهدوا (10) والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هو المتقون (الآية 177البقرة )

هـ - الأوامر العشر فى قوله تعالى

(1) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (2) وبالوالدين إحسانا (3) وبذي القربى (4) واليتامى (5) والمساكين (6) والجار ذي القربى (7) والجار الجنب (8) والصاحب بالجنب (9) وابن السبيل (10) وما ملكت أيمانكم . إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36النساء)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و - صفات المتذكرين فى قوله تعالى

إنما يتذكر (1) أولو الألباب (2) الذين يوفون بعهد الله (3) ولا ينقضوا الميثاق (4) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل (5) ويخشون ربهم (6) ويخافون سوء الحساب (7) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم (8) وأقاموا الصلاة (9) وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية (10) ويدرءون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار (19-22 الرعد) .

ونفذت الشارتان ، وانتشرنا انتشارا عظيما فى القاهرة والأقاليم . وصارت هاتان الشارتان مميزتين للإخوان وسط المجتمع .. وكان هذا المظهر بمثابة نزول بالدعوة إلى الميدان ، وهجوم صامت على الأفكار الأخرى ، هذا فضلا عما كان له من أثر فى تعريف الإخوان بعضهم ببعض حيثما التقوا .. وكثيرا ما كانت الشارة لافته نظر الكثيرين فتقدموا يستفسرون من معانيها فكان هذا الاستفسار فاتحة لشرح الدعوة لهم . كما أنها بدأت تشعر المجتمع والحكومة بأن هناك فئة جديدة ذات فكرة محددة تتصل بالدين قد وجدت بين ظهرانيهم . وعلى العموم فإن هذه الشارة كما كانت مميزة للإخوان فى المجتمع فإنها كانت سببا فى نشر الدعوة وتوضيحها ودفعها إلى الأمام سواء فى القاهرة أوفى الأقاليم .

المجلة

لسنا مع الأستاذ المرشد كذلك وتناولنا موضوع المجلة المعبرة ، وقد يسأل سائل فيقول : ألم تكن للإخوان مجلة تسمى مجلة الإخوان المسلمين ؟ فنقول بل كانت لنا مجلة ((الإخوان المسلمون )) ولكن هذه المجلة قد اصطبغت بصبغة خاصة فهي تقتصر على شرح علمي ومنطقي للدعوة قلما تخرج عن ذلك فتمس الأحداث الجارية فى البلاد إلا من بعيد ، وكانت أشبه بمجلة خاصة يقرأها الإخوان ليلموا بأخبار إخوانهم فى مختلف الجهات وليقر أو لتفسير آية أو حديث ، ويقرأوا مقالة للأستاذ المرشد توضح جانبا من جوانب الدعوة ، ولذا فإنها لم تكن تخرج عن نطاق الإخوان ... وليس معنى ذلك أنها لم تكن ذات غناء بل إنها كانت جانبا ضروريا للدعوة فى طورها الذى كانت تصدر فيه ؛ فقد كان الإخوان فى ذلك الوقت فى حاجة إلى استيضاح نواحي فكرتهم ، والتيقن من صحتها ، والتميز بينها وبين غيرها من النزاعات التي انتسبت إلى الإسلام وإلى أنها ذات كفاءة عملية فى المجتمع .

ولذا فإن هذه المجلة كانت وعاء كما قدمنا لمقالات متسلسلة كان يكتبها الأستاذ المرشد فيها تحت عنوان (( إلى أي شئ ندعو الناس )) وتحت عنوان ((دعوتنا )) وتحت عنوان (( هل نحن قوم عمليون )) كانت هذه المقالات تثبيتا للفكرة الإسلامية فى نفوس الإخوان ، ووسيلة ناجحة لإقناع كثير من الناس بالدعوة وقد جمعت هذه المقالات فى رسائل كل رسالة بعنوان من هذه العناوين وصارت فى جميع أطوار الدعوة وحتى اليوم إحدى وسائل توضيح معالم الدعوة والإقناع بها .

ومع ذلك فقد اعتور هذه المجلة عقبات أهمها قلة المال فقد كانت ضئيلة الانتشار ، ومعنى ذلك أنها كانت لقلة ما يطبع منها باهظة التكاليف ، كما أنها كانت خالية من الإعلانات ، وقد أدى ذلك إلى انقطاعها لاسيما بعد أن فقد الإخوان مطبعتهم ، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك فيما كتبت عن الأستاذ أحمد السراوى .

جلسنا نفكر فى اسم لمجلة نصدرها ، بعد أن شرح الأستاذ المرشد الوضع الذى ستكون عليه هذه المجلة ، وأنها ستكون مختلفة تماما عن سابقتها ، حيث تكون معبرة عن الطور الجديد الذى انتقلت إليه الدعوة ، واقترح كل منا عدة أسماء ولكن الأستاذ تمسك أيضا بأن يكون الاسم من القرآن ... واقترحنا عدة أسماء وردت فى القرآن ثم أستقر الرأي على أسم اقترحه الأستاذ هو (( النذير)) .

وينبغي أن اذكر بهذه المناسبة أن انتقلنا إلى الدار الجديدة هذه ، دفع إلينا بمجموعات كبيرة من الشباب كان منهم شاب أسمه (( صالح عشماوي )) كان أكبر منا قليلا لأنه كان قد تخرج فعلا فى كلية التجارة وكان له إيراد لا يحتاج معه إلى الالتحاق بوظيفة ، وقد وقع عليه اختيار الأستاذ المرشد ليكون رئيسا لتحرير هذه المجلة : ولا أدرى هل أختاره الأستاذ العمل لمجرد أنه شخص متفرغ ، أم لأنه توسم فيه مع ميزة التفرغ أنه كاتب يجيد الكتابة ، مع أنه لم يكن قد مضى على التحاقه بالدعوة إلا فترة قصيرة. وعلى كل ، فقد تكشف لنا حين صدرت المجلة أنه كاتب عظيم وأنه كان أهلا لهذه المهمة .

وصدرت مجلة النذير فى ثوب جديد ، وفى أسلوب جديد ؛ أسلوب ثوري ناقد ، لا يترك حدثا فى مصر ولا فى بلد عربي أو إسلامي إلا علق عليه من وجهة النظر الإسلامية تعليقا قويا . وبقدر ما كانت مجلة (( الإخوان المسلمون )) يحررها الأستاذ المرشد كلها تقريبا بنفسه ، فإنه ترك تحرير هذه المجلة لصالح متفرغا هو لما كان يتمنى أن يتفرغ له مما لا يستطيعه غيره .. واجتذبت (( النذير)) بأسلوبها القوى الثوري الكتاب الشباب الثائرين فكانت فى مجموعها شعلة ملتهبة ، وكان لفلسطين من مقالاتها نصيب الأسد ؛ وقد فضحت مقالاتها ألاعيب الاستعمار فى فلسطين وتخاذل الحكومة المصرية عن مد يد العون إلى أهل فلسطين ...

وقد انتشرت هذه المجلة انتشارا كبيرا فكان يوزع منها أكثر من عشرة أضعاف ما كان يوزع من المجلة السابقة . وكانت من الوسائل فى نشر الدعوة فى قطاعات كبيرة من الشباب الذى يميل بطبيعته إلى الثورة ... وكان مما سهل لهذه المجلة الطريق أن حروف الطباعة كانت ملك الإخوان وموجود بالدار ذلك أن الأستاذ المرشد كان حريصا - بعد أن وقع من الأستاذ السراوى ما وقع فى شأن المطبعة - أن يستبقى شيئا منها فاستطاع أن يبقى على الحروف .


الأسلوب الثاني : الاتصال بالتجمعات فى مصر

ولم يكن بمصر فى ذلك الوقت تجمعات ذات صبغة غير سياسية إلا (( نقابة معلمي التعليم الإلزامي )) حيث لم تكن قد تكونت نقابات مهنية ولا عمالية بعد ؛ فكانت هذه النقابة أكبر تجمع غير سياسي فى البلاد ، ويمتاز هذا التجمع بأنه تجمع مثقف ، وله فروع فى كل أنحاء القطر ، وكان أعضاؤه منتشرين فى العواصم والحواضر والمدن والقرى مهما نأت وصغرت .. ولم تكن هذه النقابة تجد فى مصر من يوليها عطفا ولا اهتماما .

كان الأستاذ المرشد يعرف كل ذلك عن النقابة ، وكان يحس نحوهم بعاطفة لأنه كان منهم فى يوم من الأيام ولأن هذه الفئة كانت فئة مطحونة من شدة ما كانت ترزح تحته من ظلم . فهذا المعلم - وكان المعلمون فى ذلك الوقت لا يعرفون إلا التفاني فى العمل والإخلاص فى أدائه - هذا المعلم كانت الحكومة تنظر إليه نظرة ازدراء فتمنحه أدنى مرتب لموظف فى الدولة ، وتحرم عليه الترقي مهما طالت سنواته فى العمل ... وقد انتهز الأستاذ سعة هذه الدار الجديدة ، وأوسع لهم فيها مكانا يعقدون فيه مؤتمراتهم وتعاون الإخوان معهم فى رفع مظالمهم إلى الحكام .

وهذه المجموعة الكبيرة من المعلمين - مع ما كانت ترمى به من ضيق الأفق وضحالة الثقافة ، أبرزت لنا فى مؤتمراتها بهذه الدار من الأدباء والخطباء والشعراء من يضاهئون الصفوة الممتازة من مشاهير الفنون فى مصر ؛ كم ألقوا من قصائد عصماء وخطب رنانة ؛ ولازالت تطن فى أذني حتى اليوم عبارة جاءت على لسان أحد خطبائهم إذ يقول : قولوا رئيس الوزراء (( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ؟ )) .. فكان من أروع ما سمعت من اقتباس .

أما الدعوة فقد اكتسبت الكثير من إفساح المجال فى دارها لمؤتمرات هذه النقابة العتيدة وتعاونها معهم ؛ فلقد شعر هؤلاء الناس بأن هذه الدعوة دعوتهم ، وأنها أجدر الدعوات بالانتماء إليها لأنهل هي وحدها التي فتحت صدرها لهم ولأنها هي دعوة القرآن ؛ فبعد أن كانت مؤتمراتهم عندنا يقتصر الحديث فيها على مطالبهم وشئونهم الخاصة ، رأينا هذه المؤتمرات تتناول شئون الدعوة كما يتناولها الإخوان أنفسهم ولازال عالقا بخاطري شطره من بيت قصيدة عامرة ألقاها أحد شعرائهم فى أحد هذه المؤتمرات وتناول دعوة الإخوان المسلمين ، وكيف أنها ملكت عليه مشاعره ، وصارت كل شئ فى حياته فيقول : يا ليت لي من بردها تكفيني .

وعن طريق هذه النقابة دخلت الدعوة كل مكان حتى النجوع والكفور ، فكان أعضاؤها هم حملة الراية حيثما كانوا ... وقد صاغت الدعوة منهم رجالا حملوا أعباء ، وخاضوا الغمرات ، وكانوا غرة فى جبين الدعوة الإسلامية وما وهنوا وما استكانوا .

كانت هذه الخطوة من الأستاذ المرشد من أعظم الخطوات المباركة التي أقدم عليها ، ودلت حقا على خبرته بالمجتمع الذى يعيش فيه وأعمق وأبعد مدى من خبرة قادة مصر فى ذلك العهد .


الأسلوب الثالث : عقد المؤتمرات الإخوانية

كانت المؤتمرات الإخوانية حتى ذلك العهد مؤتمرات موضعية ؛ كانت حفلات للتعارف أكثر منها مؤتمرات ذات قرارات إيجابية ، ولم يكن هذا تقصيرا من المؤتمرين ، وإنما كان جهد المقل حيث لم تكن الدعوة قد جاوزت منطقة القناة وما حولها ... أما والدعوة قد اتسع نطاقها حتى لم تعد تخلو مديرية (محافظة) من عدة شعب بها وبحواضرها كما أصبح للدعوة كيان بالقاهرة ، وصار لها معاقل فى الجامعة والأزهر وفى المعاهد والمدارس بل وصار لها صدى فى بلاد عربية أخرى فقد آن الأوان لعقد مؤتمرات لهؤلاء المستجيبين ولتلك الشعب المتناثرة فى أنحاء البلاد حتى تحس هذه الشعب برباط يربطها معا وحتى تتاح الفرصة لوجودها معا فى مكان واحد فتتعارف وتتفاعل وتوجه وننتج

ورأى الأستاذ المرشد أن يعقد مؤتمرين أحدهما للإخوان فى الوجه البحري والآخر للإخوان بالوجه القبلي وكانت نظريته فى ذلك أن يكون هذان المؤتمران مقدمة لمؤتمر عام للإخوان فى القطر كله يعقد فى القاهرة فيكون أسلوب التدرج هذا تمهيدا صالحا للمؤتمر العام حتى يكون عقدة محوطا بأسباب النجاح ورأى الأستاذ أن يعقد المؤتمر الأول فى المنصورة والآخر فى أسيوط .

1- مؤتمر المنصورة

وقد اختيرت المنصورة لتوسطها الوجه البحري . ومع أن هذا المؤتمر كان مؤتمرا فرعيا إلا أن القرارات التي اتخذت فيه كانت قرارات خطيرة بل إنها كانت أول قرارات ذات شأن يتخذها الإخوان منذ قيام دعوتهم إذ هي قرارات عملية ... ولعل الأستاذ المرشد رأى أن يخص هذه المؤتمرات الفرعية بهذه القرارات العملية دون المؤتمر العام المزمع عقده باعتبار المؤتمرات الفرعية مهما عظم أمرها فإن الروح العائلية تكون دائما مسيطرة عليها ، أما المؤتمر العام فهو مؤتمر مفتوح قد يغشاه من غير الإخوان من يزيدون عن حضوره من الإخوان عددا ولذا تكون قرارات المؤتمرات عامة تتصل بشئون الدولة وتعالج مشاكلها .

كان حديث الأستاذ المرشد فى هذا المؤتمر منصبا على موضوع واحد محدد هو وجوب تميز الإخوان وكان حديث الأستاذ فى هذا الموضوع مفاجأة لكثير من الحاضرين ؛ لأن الدعوة كانت حتى ذلك الوقت لا بالى أن يكون العضو فيها مصطبغا بصبغات أخرى سواء أكانت هذه الصبغات الأخرى اجتماعية أم دينية أم اقتصادية أم سياسية ... أما فى هذا المؤتمر فقد بدأت نغمة أخرى تضرب على وتر شديد مثير أخذ يهز السامعين هزا عنيفا ...

فهم الحاضرون من حديث الأستاذ الذي خاطب فيه العقول والقلوب أن دعوة الإخوان دعوة جامعة شاملة ينبغي لمن ينتسب إليها أن يرى فيها غناء عن غيرها ، وفهموا أن معنى ذلك هو أن يخير كل ذي مبدأ مع مبدأ الإخوان نفسه بين المبدأين ليختار أحدهما ويدع الآخر .

وتطرق الأستاذ فى حديثه عن التميز إلى نقطة هامة أخرى فقال إن تميز الإخوان يقتضيهم تكاليف قد لا يطالبون بها إذا لم يكونوا إخوانا ، فهذه الدعوة الجامعة الشاملة شاق طريقها ، ثقيل حملها لأنها الدعوة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، فينبغي أن يعد العاملون بها والحاملون أمانتها أنفسهم إعدادا خاصا بحيث يملكون زمام أنفسهم .

قد رشحوك لأمر لو فطنت لـه  ::: فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

فلنقاوم أنفسنا فيما تعارف عليه الناس من عادات تمكنت منهم حتى ملكت أعنتهم مع أنها أمور إذا لم تضر فإنها لا تنفع وضرب لذلك مثلا بالتدخين وطلب إلى الإخوان المدخنين أن يمنعوا عن التدخين وعن الكيوف بأنواعها وقال : خير عادة أن لا تكون أسير عادة .

وأذكر أنه كان من بين حاضري هذا المؤتمر الأخ الكريم الأستاذ محمد الهادي عطية وكان محاميا شرعيا كبيرا وأستاذا للشريعة فى كلية المقاصد الخيرية ببيروت وكان إذ ذاك فى سن يناهز الستين فرأيناه ينتصب واقفا حين سمع كلام الأستاذ المرشد ويخرج من جيبه علبة سجاير ويفتحها ويلقى بما فيها على الأرض ويدوسه بقدمه ويعلن أنه طلق التدخين منذ اللحظة . وقد أخبرني بعد خروجنا من المؤتمر أنه ظل يدخن أربعين عاما وكان يدخن فى ذلك الوقت فى اليوم الواحد أربعين سيجارة ... وقد كنت أنا حريصا على متابعة هذا الأخ الكريم لأعرف عواقب هذا الامتناع المفاجئ دون تدرج فأخبرني فى لقائي به بعد عدة أشهر بأن شيئا مما يشاع من انهيار أو صداع أو شئ من ذلك لم يصبه ... ومعنى هذا أن العزيمة الماضية وثقة المرء فى نفسه وفى سلامة الطريق الذي يسلكه كل ذلك يكسبه مناعة ضد العوارض التي تصيب ضعفاء العزيمة الذين يدفعون إلى طريق سلكوا فيه راغمين محرجين . سلكوا فيه ونفوسهم لازالت تتلفت إلى وراء بشوق ولهفة .

كان لهذا المؤتمر آثار بعيدة المدى سواء فى الناحية الشخصية حيث رأى الإخوان لأول مرة أن الدعوة تتدخل فى شئونهم الخاصة وفى عاداتهم وأمزجتهم . أو فى ناحية العامة فى علاقات الإخوان بالمجتمع الذي يعيشون فيه ويتكيفون حسب مصالحهم معه - لقد استغرق كل أخ من الإخوان وقتا طويلا فى مناقشة مقررات هذا المؤتمر مع نفسه حتى ركن إلى جانب من الجانبين . كما كان لهذا المؤتمر آثارا خارج المحيط الإخوانى سنعرض لها فى مكان آخر إن شاء الله .

2- مؤتمر أسيوط

لم أحضر هذا المؤتمر ولكن الإخوان الذين حضروه أخبروني بأنه كان صورة من مؤتمر المنصورة واتخذت فيه نفس القرارات .

صلاة العيد في الإسماعيلية

معذرة فى هذا الاستطراد فى رحلتنا من القاهرة لحضور مؤتمر المنصورة فقد اقترح الأستاذ المرشد أن نمر فى طريقنا على الإسماعيلية ، وقد صادف هذا الاقتراح هوى فى نفوس الجميع لأن للإسماعيلية مكانة خاصة فى نفوس الإخوان باعتبارها الحبيب الأول ومهوى الفؤاد

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى  ::: ما الحب إلا للحبيب الأول

وقد نزلنا الإسماعيلية ، وكانت هذه أول مرة فى حياتي ، ولم يكن أمامنا فرصة للتجول فيها لرؤية معالمها والإلمام بصورة كاملة عنها ، حيث كان المقرر أن نبيت بها تلك الليلة - وكانت ليلة عيد الفطر - ثم نصبح لنصلى فيها صلاة العيد ثم نستأنف سفرنا إلى المؤتمر . وقد قضينا بقية يوم وصولنا بدار المركز العام بها بين احتفاء إخوان الإسماعيلية بنا وبين كلمات الإعجاب التي كنا نزجيها إليهم . وكان من أجمل ما قيل فى هذا اللقاء كلمة الأخ محمد عبد الحميد أحمد - حيث قال : إن قيام الدعوة فى الإسماعيلية وهى معقل الاستعمار فى مصر يذكرنا بأن موسى الذي قضى على فرعون قد تربى فى بيته .

وبعد صلاة الفجر ، خرجنا متوهجين لصلاة العيد ، وقد عودهم الأستاذ المرشد على أدائها فى خارج المدينة فى مكان فسيح أشبه بالصحراء ، ولم أر فى حياتي صلاة عيد قبل هذه فى روعة هذه الصلاة ، إن المسلمين على بكرة أبيهم اتجهوا إلى هذا المكان فكل يسلك الشوارع التي تؤدى به إلى مكان الصلاة والكل يكبر تكبير العيد منذ يخرج من منزله حتى يصل إلى المكان فكل ، والتكبير بصوت جهوري فكنت ترى جميع شوارع المدينة تسيل بجموع المسلمين تصيح بالتكبير بصورة لا يملك الإنسان أمامها نفسه فترى الدموع تنهمر من العيون لروعة المنظر وروعة ما تسمعه .. وبعد أداء الصلاة لم يغادر أحد مكانه وقام الأستاذ المرشد فخطب الناس خطبة زلزلت القلوب وأبكت العيون ثم قام الناس جميعا يتصافحون ويتعانقون والكل متجه إلى الأستاذ المرشد ليصافحه .

والحق إن صلاة العيد إذا أديت على حقيقتها بهذا الأسلوب ، فإنها تكون أعظم مظاهرة إسلامية تحيى ميت المشاعر ، وتبعث الحياة فى نفوس الخاملين .. إنها بعث سنوي للأمة الإسلامية .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- المؤتمر الخامس

أطلق على هذا المؤتمر اسم ((المؤتمر الخامس )) على اعتبار أنه سبق بأربعة مؤتمرات عامة بمعنى أنها كانت تمثل فى كل منها شعب الإخوان التي كانت موجودة فى أوقات انعقادها ، ولكن هذه الشعب كانت كما سبق أن ذكرت - قليلة العدد وفى ركن محدد من أركان البلاد ، ولذا فإنها وإن كانت عامة لجمعها كل الشعب إلا أنها كانت موضعية فى حقيقتها ، ولعل هذا كان السبب فى أن المجتمع المصري لم يشعر بها ... أما هذا المؤتمر فهو فى حقيقة الأمر يعد المؤتمر العام الأول لأنه أول مؤتمر اشتمل على خصائص المؤتمرات العامة ...

وقد صادف عقد هذا المؤتمر مناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس دعوة الإخوان المسلمين فقد عقد فى عام 1357 هجرية الموافق 1938 ميلادية .. وقد رأى الأستاذ المرشد أن يعقده فى سراي آل لطف الله بالقاهرة مع أن هذا المكان باهظ التكاليف لكن الأستاذ اختاره لأنه كان فى ذلك الوقت المكان المرموق الذي تتجه إليه الأنظار - وهو المكان الذي عقده فيه المؤتمر البرلماني العالمي لمشكلة فلسطين ، وكان الأستاذ المرشد يعتبر هذا المؤتمر أول فرصة يواجه فيها المجتمع المصري والدولي بدعوته ، فأعد خطابا جامعا ضافيا ، وضح فيه غاية الإخوان وخصائص دعوتهم ، ووسائلهم وخطوات منهاجهم ، وموقفهم من الهيئات المختلفة . ونظرا لأهمية هذا الخطاب التاريخي والذي طبع فى رسالة خاصة والذي كان له ما بعده لأنه حدد المواقف بكل وضوح وصراحة فسنوجز للقارئ صورة مصغرة منه إذا لم يتح له أن يقرأ الخطاب بأكمله :

1 - بدأ الحديث يذكر الرجال الذين كانوا أول من فاتحهم بفكرته ووجد الاستجابة منهم فذكر أحمد تيمور باشا كما ذكر من أصدقائه الأستاذ أحمد السكري والأستاذ الشيخ حامد عسكرية والأستاذ الشيخ أحمد عبد الحميد .

2 - شرح نظرة الإخوان إلى الإسلام باعتباره الفكرة التي تضم كل المعاني الإصلاحية .

3 - قرر أن دعوة الإخوان دعوة سلفية سنية صوفية سياسية رياضية علمية ثقافية اقتصاديي اجتماعية.

4 - أشار إلى أن من خصائص دعوة الإخوان ما يأتي :

أ - البعد عن مواطن الخلاف

ب - البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان

ج - البعد عن الهيئات والأحزاب

د - التدرج فى الخطوات

ه - إيثار النواحي العملية على النواحي المظهرية

و - تواؤمها مع روح الشباب

ز - سرعة الانتشار فى المدن والقرى

5 - أشار إلى ستة من شباب الجامعة منذ سنوات ، وهبوا الله نفوسهم وجهودهم ، فأيدهم الله فإذا بالجامعة كلها من أنصار الإخوان المسلمين ، كما أشار بمثل ذلك إلى الأزهر .

6 - تحدث عن تساؤل المتسائلين ، هل فى عزم الإخوان أن يستخدموا القوة وأن يقوموا بثورة عامة ؟ فقال : إن وطنا كمصر جرب حظه فى الثورات فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون ـ أما الإخوان فإنهم سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها ، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة . وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا ، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون فى كرامة وعزة ، ويتحملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح . وأما الثورة فلا يكفر الإخوان المسلمون فيها ، ولا يعتمدون عليها ، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها . وإن كانوا يصارحون كل حكومة فى مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ، ولم يفكر أولو الأمر فى إصلاح عاجل سريع لهذه المشاكل ، فسيؤدى ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم ، ولكن من ضغط الظروف ، ومقتضيات الأحوال ، وإهمال المرافق . وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن وسيتفحل أمرها بمضي الأيام نذيرا من هذه النذر ، فليسرع المنقذون بالأعمال .

7 - وتكلم عن الإخوان المسلمين والحكم فقال : فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة ، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني ، فهم جنوده وأنصاره وأعوانه ، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم ، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله .

8 - وتكلم عن الإخوان المسلمين والوطنية فقال : ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية ، وأعظمهم نفعا لمواطنيه ، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين ، وكان الإخوان المسلمون أشد الناس حرصا على خير وطنهم ، وتفانيا فى خدمة قومهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة كل عزة ومجد وكل تقدم ورقى وكل فلاح ونجاح .

9 - وقال عن القومية العربية : الإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (( ألا إن العربية اللسان . ألا إن العربية اللسان )) ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لابد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته ، وإعزاز سلطانه ، ومن هنا كان على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها وهذا هو موقف الإخوان من الوحدة العربية .

10 - وقال عن الوحدة الإسلامية : الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة ، ويؤمنون بهذه الجامعة ، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام ، ينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله .

11 - وقال عن الوحدة العالمية : ولى أن أقول بعد هذا إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية ، لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) .

12 - ثم تناول الإخوان من الأحزاب السياسية فى مصر فقرر أن العلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها ، وانتهت الظروف التي أوجدتها ، ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون .

13 - واختتم كلامه بالحديث عن موقف الإخوان من دولة الاستعمار ، فبدأ بانجلترا ثم بفرنسا ثم بايطاليا وتكلم عن فلسطين وحيا مفتيها ورجاله ، وحذر الوفود الإسلامية فى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن من مكر انجلترا وخداعها وأشار إلى جرام الطليان فى طرابلس وفرنسا فى المغرب العربي ، ووجه كلامه إلى الإخوان بهذا الصدد فقال أيها الإخوان : هذا كلام يدمى القلوب ويفتت الأكباد ، وحسبي هذه الفواجع فى هذا البيان فتلك سلسلة لا آخر لها وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه للناس ، وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلا عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال ، فالموت خير من هذه الحياة ، حياة العبودية والرق والاستغلال . وأنتم إن فعلتم ذلك ، وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله (( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوى عزيز )) .


الأسلوب الرابع : الاحتكاك بالأحزاب والهيئات

لم يكن الاحتكاك بالأحزاب والهيئات من الأساليب التي يسعى الإخوان إلى إنتاجها ابتغاء التميز الذي يهدفون إليه ، ولكن هذا الاحتكاك دخل فى أساليب التميز رغم أنفهم .. لأن كل ما حرص عليه الإخوان فيما قرروه فى مؤتمراتهم إنما كان لمجرد حفظ كيانهم والاستجابة الكاملة لفكرتهم ، ولم يقصدوا فيما قصدوا مهاجمة غيرهم أو تجريح سواهم ... ولكن الذي حدث هو أن عددا من الإخوان فى مختلف البلاد - اقتناعا بمقررات مؤتمرات المنصورة وأسيوط والمؤتمر العام الخامس بالقاهرة - أخذوا ينحازون إلى دعوتهم بكل قلوبهم وعقولهم وبكل ما يملكون ، وتبين فيما بعد أن هذا الانحياز قد اعتبر من جانب بعض الأحزاب والهيئات اعتداء عليها وانتقاصا من أرضها ، مع أن دعوة الإخوان لم ترغم هؤلاء الذين انحازوا إليها على هذا الانحياز كما أنها لم تغرهم بأي نوع من أنواع الإغراء ، ذلك أنها لا تملك القليل ولا الكثير من وسائل الإرغام ولا وسائل الإغراء ، وإنما هو الإيمان والاقتناع .

والجهات التي آذتها المقررات الايجابية لمؤتمرات الإخوان جهات ثلاث : الأحزاب السياسية التقليدية والأحزاب السياسية الناشئة والهيئات الدينية .

أما الأحزاب التقليدية وهى فى ذلك الوقت الوفد والأحرار والدستوريون والسعديون ، فهذه أحزاب أوجدتها ظروف معينه وانتهت هذه الظروف وكان يجب أن تنتهي هذه الأحزاب بانتهائها ولكنها تشبثت بالبقاء دون أن يكون لها برامج محددة أو أساليب إصلاحية معينة ، ولم يكن لها جميعا إلا هدف واحد تسعى إليه هو الوصول إلى كراسي الحكم لا يبالون عن أي طريق يصلون ، وفى غضون هذا التهالك على الحكم ضيعت مصالح البلاد ، وديست كرامتها ، وتمكن المستعمر من رقاب أهلها ، وفقد الشعب الرؤية الصحيحة بعد أن استطاعت هذه الأحزاب قلب المفاهيم لكلمات تتصل بالروح الوطنية ، فاختفت من قاموس هذه الأحزاب كلمة المستعمر وحل محلها الحليف ، واختفت كلمة الثورة وحل محلها المفاوضة ، وزفوا إلى الشعب معاهدة الإذلال والاحتلال فى ثوب معاهدة الشرف والاستقلال . هذه الأحزاب بعيدة كل البعد عن دعوة الإخوان المسلمين ولا يكاد يكون بيننا وبينهم وجه شبه فى حين أن بيننا وبينهم كل أوجه الخلاف فنحن فى واد وهم فى واد آخر .

أما الأحزاب الناشئة والفتية

فهي جماعة مصر الفتاة .. ويأتي الحزب الوطني يتأرجح بين هذا النوع الفتى وبين النوع التقليدي فهو وإن كان أقدم الأحزاب تكوينا إلا أنه لا يزال يحتفظ بمبادئ محددة ورثها عن مؤسسه الأول مصطفى كامل لكن موجة الانحراف بالوطنية طغت عليه وسلبته فاعليته ولذا قلنا إنه يتأرجح بين النوع الفتى وبين النوع التقليدي ، والذي يهمنا فى هذا القسم هو جماعة مصر الفتاة وقد قدمت فى صدر هذه المذكرات نبذة عن هذه الجماعة وعن مؤسسها الأستاذ أحمد حسين .

وإذا كان الاحتكاك بيننا وبين الأحزاب التقليدية أمرا طبيعيا ، لأن الفروق بين فكرة الإخوان وبين شعارات هذه الأحزاب فروق شاسعة هي أقرب إلى أن تكون كالفرق بين الحق والباطل ، فإن القارئ بذلك فى غنى عن شرح أسباب الخلاف ونواحي التناقص ... أما مصر الفتاة باعتبارها هيئة تنزهت عن كثير من عيوب الأحزاب التقليدية ، فإن الاحتكاك بها يدعو القارئ إلى شئ من التأمل ، ويقتضى منا التبسط فى شرح نواحي الاختلاف بين فكرة الإخوان المسلمين وفكرة مصر الفتاة ، حيث يجمع بين الهيئتين من أوجه الشبه من الإخلاص والطهر ما يجعل الاحتكاك بينهما أمرا بعيد الاحتمال .

قدمت من قبل أنني منذ أول يوم لي بكلية الزراعة تعرفت فى المكان المعد للصلاة بالكلية على طالب يسبقني بسنتين فى الكلية اسمه محمود مكي وتوطدت الصداقة بيني وبينه ثم تبين لي بعد ذلك أنه هو رئيس طلبة مصر الفتاة بالكلية وبمرور الأيام تعرفت على زملائه بالكلية وتوطدت صلة الصداقة بيني وبينهم ، ذلك أنهم على شاكلتنا شباب طاهر مستقيم يرنوا إلى الإصلاح ...... وكانت مثل هذه الصلات تربط الإخوان فى جميع الكليات بزملائهم من أعضاء مصر الفتاة .

ودعوة الإخوان وإن كانت قد تأسست قبل مصر الفتاة ببضع سنين إلا أن مصر الفتاة سبقتنا إلى الجامعة فجذبت إليها مجموعات من الشباب الغض الذي كان متلهفا على فكرة جديدة يشعر فيها بجو جديد غير الجو المألوف من هذه الأحزاب التي جرح كل منها الآخر فأصبحت كلها مجرحة فى نظر الشباب . فلما أراد الله لدعوته أن تدق أبواب الجامعة ، كان علينا - نحن دعاتها - أن نعلنها للجميع. فكنت - كما يفعل إخوانى فى كلياتهم - انتهز الفرصة التي يكون الطلبة فيها يستجمون فى حدائق الكلية وأقف مع بعض الزملاء أتحدث عن فكرتنا فيلتف حولنا زملاء آخرون وتتسع دائرة الملتفين فأشرح لهم أهدافنا ووسائلنا فيتوجهون إلى بالأسئلة لاستيضاح ما يرغبون استيضاحه ، ويتناول الحديث برنامجنا فى الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعلاقات الدعوة ومواقفها من جميع الأفكار والمبادئ والهيئات والطوائف والدول ... وهذه المناقشات لابد أن ينتهي المشتركون فيها إلى موقف من ثلاثة مواقف ، أفراد اقتنعوا عقلا وعاطفة وهؤلاء يعلنون انضواءهم تحت لواء الدعوة ، وأفراد اقتنعوا عقلا ولم يقتنعوا عاطفة وهؤلاء يظلون فى موقف المراقب الذي يريد مزيدا من الإقناع ، وأفراد جاءوا لمجرد المجادلة والمكابرة وهؤلاء لا شأن لنا بهم ، وبالطائفتين الأولين تثرى الدعوة ويكثر أنصارها .

والمجاملات فى الصداقة أمر مطلوب إلا فى ألأفكار والمبادئ والعقائد ، فلم تكن صداقاتنا مع زملائنا من أعضاء مصر الفتاة تحملنا على مجاملتهم على حساب دعوتنا .... ولكن قيامنا بتقديم فكرتنا إلى زملائنا الطلبة فى الكليات كانت تغصب هؤلاء الأصدقاء لأنها بطبيعتها تحد من انتشار فكرتهم ولم يتعودوا من قبل على مثل ذلك . فقد على أن تكون لهم الغلبة دائما فهم يكسبون من أنصار غيرهم ولا يكتسب أحد من أنصارهم ، فإذا رأوا أن هذه القاعدة التي ألفوها قد تغيرت فإنهم يغضبون .

وكان لابد لنا فى ثنايا عرضنا لدعوتنا أن نتعرض للأفكار العنصرية التي كانت فى ذلك الوقت تسيطر على أفكار الشباب فى مصر وفى أوروبا حيث كانت ألمانيا تدعو بشعار يقول (( ألمانيا فوق الجميع )) وانجلترا تزهو بأن الإنجليز جنس متميز من أجناس العالم فهم (( الجنس الذي يجرى فى عروقه الدم الأزرق )) وتركيا كانت تحكمها (( جمعية تركيا الفتاة )) وشعار (( مصر فوق الجميع )) وإذ كان تعرضنا للشعارات الأوربية المشار إليها بالمهاجمة على اعتبار أنها تمييز عنصري لا يقره الإسلام ، كان السامعون يفهمون من تلقاء أنفسهم الرد على سؤالهم دون أن نجيبهم إجابة مباشرة

ولقد آتت الجهود التي بذلتاها فى عرض فكرتنا على زملائنا الطلبة فى الكليات أكلها ، فأقبلوا على الدعوة مهرولين ، ومن هؤلاء الذي أقبلوا من كان خالي الذهن من سائر الأفكار ، ومنهم من كان معتنقا فكرا معينا فلما حضر المناقشات ووضعت فيها الأفكار المختلفة موضع البحث ألم بأخطاء كانت خافية عليه واختار الفكر الأصوب لأنه كان باحثا عن الحقيقة لا متعصبا لشئ معين .

وتصادف أن كان من الفريق الأخير طالبان من كلية الزراعة كانا عضوين فى مجلس الجهاد الأعلى لمصر الفتاة هما جلال عنبر وزكى صالح ، ولما كان هذا المجلس هو الهيئة العليا لإدارة الحزب ، فكان لانتقال عضوين منه إلى دعوة الإخوان المسلمين رجة عنيفة فى أوساط مصر الفتاة ، اضطر الحزب معها إلى موالاة اجتماعاته لبحث الأمر ، وكلف المجلس الأعلى أحد أعضائه وكان طالبا مرموقا فى كلية الحقوق اسمه حمادة الناحل بالاتصال بهذين العضوين وإقناعهما بالرجوع ، واتصل بهما فعلا ودارت بينه وبينهما مناقشات ثم استدعاهما المجلس الأعلى مجتمعا للمناقشة .

ولقد كنت فى مناقشاتي مع شباب مصر الفتاة بالذات رفيقا غاية الرفق ، لأني كنت أرى فيهم مثلا عظيمة غير أنهم فى حاجة إلى قليل من التوجيه ، ولذا فقد كنت - حين أخبرني الأخوان الكريمان أن المجلس الأعلى قد حدد لهما جلسة لمناقشتهما - قلت لهما إننا لا نرى مانعا من أن تكونا معهم ومعنا فنحن نرى أنفسنا مكملين لما فى مصر الفتاة من نقص ... ولكن .. لما كانت مصر الفتاة فى ذلك الوقت فى أزهى أيامها ، وفى عنفوان قوتها ، عز عليها أن تقبل بهذا الوضع وقالوا لهما : من لم يكن لنا وحدنا كان علينا .

ومنذ هذه الحادثة بدأ مصر الفتاة ترى فى الإخوان المسلمين لأول مرة - على حداثة عهدهم بالجامعة - منافسا قويا ومزاحما خطيرا لا تسهل مهاجمته ، إذ ليس له عورات يهاجم منها ... ويجدر بي هنا أن أعيد وأكرر أن تنافسنا مع مصر الفتاة كان تنافسا من نوع كريم ، تنافسا بين نبلاء ، فمصر الفتاة كانت فى تنافسها معنا أكرم من أن تلجأ إلى أساليب الكذب والافتراء التي تستبيحها الأحزاب التقليدية ، لأن أعضاء مصر الفتاة كان أكثرهم من صفوة الشباب وخلاصة الأمة ... ومن الطريف أن أورد هنا بيتين من قصيدة نشرت فى ذلك الوقت مجلة النذير للأخ الكريم جلال عنبر - وكان شاعرا عذب الشعر - لخص فيها ما انتهى إليه موقفه فقال :

إن هذا الفتى الذي كان يدعـو

مصر فوق الجميع طول الزمان

طـلق اليوم مبدأ(( المجد للنيل ))

فناء لا مـبدأ الإخــوان

نبل ، وتحرك من جهة إلى جهة على أساس مبادئ وأهداف بعضها أنبل من بعض ، ليس فيها أهواء ولا جرى وراء منافع مادية .

كانت مهاجمتهم للإخوان مهاجمة بالعمل الإيجابي ، الذي تراءى لهم أنه العمل الذي سيتفوقون به على الإخوان فى ميدان الأعمال ، والعمل الذي سيشد الأنظار إليهم ، وسيقنع الشباب بأنهم أحق أن يلتف حولهم ، ويظهر الإخوان بمظهر المتقاعدين المتخاذلين ....


تحطيم الخمارات

فى صباح يوم من الأيام قرأنا فى الصحف أن جماعات من مصر الفتاة هاجمت عددا من الحانات فى القاهرة وحطمت واجهاتها وبعض محتوياتها ، وقد تم القبض على عدد من الجناة ويجرى التحقيق معهم .

وفهمت فى الحال أننا المقصودون بهذا العمل ، وأيد ذلك حين انتظمنا فى الدراسة فى ذلك اليوم أن انطلق طلبة مصر الفتاة يفخرون بهذا العمل الإيجابي ، ويتيهون به على الجميع ويتوجهون بهذا التيه إلى الإخوان ، بل ويفصحون عن ذلك صراحة فى حديثهم مع الطلبة الآخرين ...

ولما كان هذا الإجراء وهذا التحدي موجها إلى الإخوان بعامة وإلى إخوان كلية الزراعة بخاصة ، فقد رأيت فى موقف يقتضيني أن لا أقف مكتوف اليدين أمام التحدي لاسيما أن طلبة الكلية أحسوا بهذا التحدي وأخذوا ينتظرون منا ردا عليه ، ورأيت أن الرد الشفوي فى هذا الصدد لا يجدي لسببين : أحدهما : أن من غير المستطاع جمع الطلبة جميعا فى مكان واحد ليستمعوا ، والآخر : لأن الرد الشفوي تصاحبه عادة حالات انفعالية تجعل من العسير على التكلم جمع أطراف الموضوع والإحاطة به من جميع نواحيه ... وكانت مجلة النذير فى هذه الأيام قد انتشرت وذاع صيتها فى أوساط طلبة الكلية فرأيت أن يكون ردى مقالا على صفحات النذير ليكون إقناعا لإخواننا وزملائنا بالكلية ولجميع الكليات ومختلف الطوائف فى القاهرة وفى أنحاء البلاد .

وكان المقال على ما أذكر بعنوان (( تحطيم الخمارات )) وملخص ما جاء بالمقال هو أن الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الخلود فإنها لا تعتمد فى خطواتها على الارتجال أو الفطرة ، وإنما تعتمد على أساليب رصينة تتمشى مع العقل وتخضع للنواميس الكونية ... فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أول ما دعا إلى الوحدانية ونهى عن عبادة الأصنام ، ومع ذلك ظل فى مكة ثلاثة عشر عاما يصلى وهو ومن معه من المسلمين فى الكعبة والأصنام منصوبة فوقها يعبدها المشركون ، لم يفكر هو ومن معه من المسلمين فى تحطيم واحد منها ، ثم هاجر إلى المدينة مكرها ، وظل بها عددا من السنين يدعوا الناس إلى الإسلام حتى التف حوله الناس ، واشتد أزره ، وقوى ساعده ، ورأى فى نفسه وفى أتباعه الكفاءة لملاقاة المشركين بمكة ، فاتجه إليها فاتحا بعد ثماني سنوات من الهجرة ، وانتصر واستسلمت مكة بمن فيها دون قتال ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرم وأمر بتحطيم الأصنام فأنزلت من فوق الكعبة وحطمت واحدا وهو يقول (( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )) تحت سمع حماتها وبصرهم دون أن يحركوا ساكنا أو يرفعوا بذلك رأسا ،ودخل الجميع الإسلام دون حرب ولا دماء ... ولم تعد الأصنام إلى الأبد .

لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر عليه أن تعبد الأصنام وهو يصلى فى الكعبة وحاول تحطيمها فى أول دعوته ، ماذا عسى أن يكون قد حدث له ولدعوته ؟ ... إنه كان سيقتل هو ومن معه وتقتل معه دعوته وهى فى مهدها ، ولما كان هناك فى التاريخ دعوة للإسلام ...

ثم أشرت إلى أن هذا الإجراء من تحطيم للحانات وما أشبهه ليس مما يعجز الإخوان ، فإن عددا قليلا من قطاع الطرق يستطيعون أن يقوموا به ... ثم ما النتيجة من هذا العمل ؟ هل حرمت الخمر فى مصر ؟ هل أغلقت الحانات ؟ ... كل ما كان من نتائج هي أن الخمر استمرت كما هي مباحة ، ولم تغلق الحانات ، أما الحانات التي حطمت فقد عوضتها الحكومة من جيوبنا نحن المصريين بأضعاف قيمة ما تحطم من واجهاتها ومحتوياتها فجددت تجديدا زاد من عدد روادها ... ثم ألقى عدد من الشباب الطاهر البرئ الذي لم يحسن توجيهه فى السجون .. هذا عمل كالطبل الأجوف صوت ضخم يلفت الأنظار ثم تلتفت فلا ترى وراءه شيئا .

ووزعت (( النذير )) فى هذا الأسبوع توزيعا واسعا فالكل متلهف على معرفة موقفنا من التحدي فبقدر ما روجت مصر الفتاة لعملها هذا ووسعت من دائرة الفخر به انتشرت (( النذير )) .. كان لهذا المقال أثر كبير فى أوساط الشباب ، وكان صدمة لمصر الفتاة ، ألجم دعاتها ، وأفحم المتفاخرين من رجالها بل جعلهم يتوارون خجلا ... وبدأ الإخوان فى الكليات يرفعون رءوسهم ويتبوءون مكانهم ، ويواصلون مكاسبهم من المنتسبين لمصر الفتاة وغيرها .

وكان الذي فاجأ الناس أن قرءوا خطابا موجها من المرشد العام إلى وزير العدل يطالبه فيه بالإفراج عن المقبوض عليهم فى هذا الحدث لنيل مقصدهم ، ويحثه فيه على إصدار القوانين التي تطهر البلاد من المنكرات التي تثير النفوس المؤمنة وتحرج الصدور .


نحن والأحزاب التقليدية

لم تكن الأحزاب التقليدية حتى ذلك الوقت تقيم للإخوان وزنا ، لأنها ، لأنها أولا كانت تعتقد أن السلطة أو الحكم إنما هو دوله بينهم ، يتبادلونه واحدا بعد الآخر ، وأن كائنا من كان مهما قال ومهما فعل ، مادام لم ينازعهم السلطة والحكم فإنه لا يعنيهم أمره . وثانيا لأن رجال هذه الأحزاب لم يكونوا يفهمون الإسلام على أنه دين ودولة ... إلا أن حدثين حدثا فى تلك الأثناء أرغما هذه الأحزاب على أن تستفيق من غرور السلطة ، وتهبط من علياء بروجها العاجية ، بعد أن أحسوا ببوادر زلزال على الأرض هز بروجهم العاجية هزا .

أولهما : الصبغة الجديدة :

فإن كبار رجال الأحزاب فى الريف بدئوا يرون ظاهرة جديدة ، تلك أن أشخاصا . وإن كانوا قلة - ممن كانوا يصطبغون بصبغهم الحزبية ، بدئوا يرونهم يطرحون هذه الصبغة بحجة أنهم إخوان مسلمون . وكان المعهود حتى ذلك الوقت أن الذي يطرح صبغة حزب من الأحزاب لا يطرحها إلا ليصطبغ بصبغة حزب آخر يتوسم فيه زيارة انتفاع يعود عليه ... أما اطراح الحزبية عامة بدعوى أن الشخص من الإخوان المسلمين فإنها بدعة جديدة تستحق النظر !!

ثانيهما : أول مظاهرة إسلامية بالجامعة :

بدأت هذه الأحزاب تشعر بشئ من الضيق حين رأت هذه (( الجمعية )) أخذت تزحف نحو العاصمة (( القاهرة)) وتتشعب فيها أي تكون لها شعبا ، مع أن القاهرة كانت تعتبر لهذه الأحزاب حرما أمنا .. كيف لا وهى مقر الحكام ، ومترقبي الحكم ، ومقر دور الأحزاب التي كانت كعبة القاصدين من أنحاء البلاد .

يضاف إلى ذلك أن هذه الأحزاب فوجئت فى يوم من أوائل أيام تلك السنة (1938) بمظاهرة تخرج من الجامعة المصرية تضم أكثر من أربعة آلاف طالب ، تجوب شوارع الجيزة ، وتخترق شوارع القاهرة ، وتقطع شارع المنيل حتى تصل إلى مقر الأمير محمد على ولى العهد، والمظاهرة تهتف مطالبة بالحكم بالشريعة الإسلامية ... نعم إنها كانت بمناسبة الاحتجاج على الكتابين اللذين قررا على طلبة قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب وفيهما تهجم وسباب للنبي صلى الله عليه وسلم مما قد نبسط الكلام عنه فيما بعد إن شاء الله ... إلا أنها كانت مظاهرة إسلامية تدعو إلى الحكم بكتاب الله والشريعة الإسلامية .. نغمة جديدة ... ويطل عليها الأمير محمد على ويبادلها التحيات والعواطف ويعد بالعمل على إجابة مطالبها ... مثل هذه المظاهرة لم يكن يستطيع تسييرها ولا تدبيرها إلا حزب واحد فقط بعد إعداد كبير بل وبذل مادي سخي ذلك هو حزب الوفد .

كما أن حزب الوفد - بعد أن حلت فرق (( القمصان الزرقاء )) التي كان قد أنشأها - رأى لهذه ((الجمعية )) فرقا من القمصان الكاكى وإن كانت تسمى كشافة أو جوالة إلا أنها فرق لا تختلف عن فرقه التي حلت إلا فى لون القمصان وهذه الفرق فى نمو مستمر. إن هذه الجمعية تستحق أن يحسب لها حساب ، وتستحق أن ينظر إليها بعين الريبة ، وتستحق أن تعد العدة لمقاومتها ، ووقفها عند حد ، أو إزالتها من الوجود .

لم يثنهم عن هذا العزم أن الأستاذ المرشد كان يقول فى محاضرات الثلاثاء : إننا لسنا طلاب حكم وإنما نحن نطالب بالحكم بالشريعة الإسلامية ، من حكم بها من الحكام فإننا مستعدون أن نغسل على قدميه ... كما لم يثنهم أننا كنا فى الأقاليم نزور ممثليهم ، ونصل حبال الود معهم ، ونتعاون معهم على النهوض بأحوال البلاد من مواساة الفقراء والمساكين .

بدئوا خطتهم فى مهاجمة الدعوة بنشر آراء فاسدة عفي عليها الزمن واندثرت فيما اندثرت من أباطيل فإذا بنا نقرأ فى جريدة البلاغ وكانت جريدة حزب الوفد المسائية وكانت واسعة الانتشار مقالة عن كتاب (( الإسلام وأصول الحكم )) لعلى عبد الرازق تشيد فيه بمهاجمة صاحب الكتاب لفكرة أن الإسلام دين ودولة ... وقد لفت نظر الأستاذ المرشد إلى هذا المقال وعرضت عليه أن أكتب ردا عليه فأذن لي وكتبت الرد وطلبت إلى الجريدة نشره فى نفس المكان كما يقضى بذلك قانون المطبوعات واضطرت الجريدة لنشره .


محاولتهم الإيقاع بين الإخوان والحكومة

أخذت صحفهم تحاول إبراز جوالة الإخوان على أنها نظام عسكري ، والقانون يحرم على الهيئات الشعبية أن يكون لها نظام عسكري ، فيجب أن تلغى كما ألغيت فرق القمصان الزرقاء وفرق القمصان الخضراء ... وتقدم أحد محرري جريدة المصري - التي كانت فى أوائل أيامها وكانت لسان حال حزب الوفد - إلى الأستاذ المرشد بأسئلة وجهها إليه فى هذا الشأن وطلب منه الإجابة عليها .. وقد اعتقدوا أنهم بذلك قد أحرجوه وأنه سيتهرب من الإجابة فإذا به يجيب إجابة تخطت جرأتها وثبات الظنون...

وظهرت (( المصري )) فى اليوم التالي بعنوان بالخط العريض يملأ أعلى الصفحة الوسطى يقول : (( المرشد العام للإخوان المسلمين يقول : نعم أنا أدعو إلى تسليح الجيش المصري وإلى تسليح الشعب )) ( فى خلال تلك الأيام كان مجرد الحديث عن التسليح يعد جريمة لأن الجيش المصري نفسه كان محدد العدد وكان تحت رحمة لجنة عسكرية إنجليزية ) وفى تفاصيل الإجابات يقول : إن فرق الإخوان ليست فرقا عسكرية وإنما هي فرق جوالة مسجلة فى جمعية الكشافة الأهلية ، وليس معنى ذلك أنني راض عن هذا الوضع الذي ألزمتنا به قوانين البلاد بل إنني أرى من الواجب أن يكون جيشنا جيشا قويا ، وأن يسلح أعظم تسليح ، وأن تنشر الروح العسكرية فى الشعب وأن يسلح هذا الشعب حتى يستطيع أن يحرر بلاده من الاستعمار .

فرحت الأحزاب بهذه التصريحات الخطيرة التي خيل إليهم أنهم استطاعوا أن يجروا الأستاذ المرشد إلى الإدلاء بها حتى يحقق معه ويحال إلى المحاكمة وتلغى جمعيته باعتبارها حاجة على القانون .

وطلب الأستاذ المرشد للمثول أمام رئيس نيابة فى القاهرة كان معروفا عنه أنه يحب الإنجليز وقد أخبرني الأستاذ المرشد بذلك حين تسلم إعلان النيابة وقال لي : إنني أهدف من حديثي فى جريدة المصري إلى أن أطلب للتحقيق معي ، ويبدوا أنهم اختاروا هذا الرجل بالذات لما يعرفون عن ميوله إنجليزية .

ومثل الأستاذ المرشد أمام الأستاذ رفقي رئيس النيابة وفتح محضر التحقيق وظل رئيس النيابة يسأل والأستاذ يجيب ويفيض فى الإجابة ويتعب الرجل فأجل التحقيق إلى اليوم الثاني واستغرق التحقيق عدة أيام وملأ أكثر من مائة صفحة ، وقد انتهز الأستاذ المرشد فرصة التحقيق وأخذ يشرح دعوة الإخوان كما أبدى رأيه فى مختلف مرافق الدولة ، وكيفية إصلاحها ، فهو يهاجم الوضع ويشفع هجومه بالوسائل التي يمكن أن يصلح بها . وكان المحقق حريصا على أن يحصل من الأستاذ المرشد على اعتراف بما جاء على لسانه بجريدة المصري فيما يخص بالناحية العسكرية والتسليح فاعترف الأستاذ بكل كلمة نشرت وزاد على ذلك أنه يحمل الحكومة تبعة التقصير فى حق الجيش وفى حق الشعب لأنها لا تعمل على نشر الروح العسكرية والتسليح ذلك ، لأن الإسلام يدعو إلى القوة والحرية .

وانتهى التحقيق وكانت الأحزاب تنتظر انتهاءه بفارغ الصبر ، ليروا الأستاذ المرشد مكبلا بالأغلال مقدما إلى المحاكمة ، وكنا نحن الإخوان لا نقل عنهم اشتياقا إلى هذا الموقف ... وقد طلب الأستاذ المرشد من المحقق عند انتهاء التحقيق أن يأذن له بنسخة من أوراق التحقيق بحجة احتياجه إليها للدفاع عن نفسه أمام المحكمة فرفض المحقق .. وكان الدافع الحقيقي لطلب الأستاذ نسخة من التحقيق هو أنه كان يرى أن التحقيق هو إحدى الوثائق الرائعة لنشر الدعوة والإقناع بها ، وأذكر أننا حاولنا بعد ذلك الحصول على النسخة بطريقة غير رسمية .

وكانت المفاجأة لنا وللأحزاب أن صدر قرار بحفظ التحقيق ، وهو ما لم يكن متوقعا ، وكان أسفنا لذلك لا يقل عن أسف الأحزاب . وكل يغنى على ليلاه - وطبعا لم يكن الموعز بالحفظ هو الحكومة ، وإنما كان الانجليز لأنهم رأوا فى إثارة ما جاء بالتحقيق تنبيها للشعب وإيقاظا لآماله .


مؤامرة لاغتيال المرشد العام

سأورد هذه المؤامرة كما حدثت وقائعها بين يدي وتحت سمعي وبصري ، ولكنني لا أستطيع أن أجزم حتى اليوم هل كان تدبيرها والدافع إليها فرديا وشخصيا أم أن ذلك كان بإيعاز من الحزب نفسه ... كنت ومجموعة كبيرة من طلبه الإخوان ندرس فى الجيزة ونسكن فيها ، وكانت الجيزة فى ذلك الوقت - كغيرها من البلدان المصرية - مدينة ليست بالشاسعة الأرجاء ، وليست مكتظة بالسكان . وهى باعتبارها عاصمة إقليم زراعي ريفي فهي مدينة ريفية ، ولكن ينساب إليها التيار الحضري باعتبارها ضاحية من ضواحي القاهرة .... ومع أن الإخوان لم يكونوا بعد قد أنشئوا لهم شعبة يجتمعون فيها إلا أنها كانت نقطة ارتكاز للدعوة لا يستهان بها ؛ حيث كانت مساكن الإخوان الطلبة فيها شعبا بعدد هذه المساكن ، وكان إخوان القاهرة يعرفون هذه المساكن ويفدون إليها للزيارة ولمناقشة موضوعات تهم الدعوة .

وكان لحزب الوفد شخصية قويه فى الجيزة ممثلة فى محام شرعي شهير يدعى ع . ب . وهو من أهالي الجيزة وله منزل فخم بها أشبه بالقصر يطل على الشارع العمومي المؤدى إلى الهرم ، وكان من ذوى الأملاك وعضوا بمجلس النواب وعضوا بالهيئة الوفدية ومن أكبر أعيان الجيزة .

وكانت مناصب الشيخ وأبهته ، وما كان يحيط به نفسه من مظاهر الثراء ؛ وفى مقدمتها كثرة العاملين فى خدمته ، والمروجين له ؛ جعلته فى نظر الناس شيئا آخر غير عمله الرسمي .

ولم يكن الإخوان باعتبارهم أصحاب دعوة - يرون فى إنسان الخير الذي لا شر معه كما لا يرون فى إنسان الشر الذي لا خير معه ، ولذا فإنهم كانوا يتقدمون بدعوتهم إلى كل إنسان ؛ فإذا كان هذا الإنسان شيخا وأزهريا ومعمما كان أجدر أن يتقدموا إليه لاسيما وأهل الجيزة الأصليون الذين يعيشون فيها كابرا عن كابر قليلون ، والقليل من هؤلاء مثقفون ، والدعوة تتوخى الظفر بمثقفين حيث يكونون عادة أعمق فهما ، وأوسع أفقا ، وأقدر على إقناع غيرهم بما اقتنعوا به .

والدعوة موجودة بالجيزة منذ التحقنا بالكليات واتخذنا الجيزة سكنا لنا ، ومضى على ذلك سنتان وهذه هى السنة الثالثة ، ولكن لم يخطر ببالنا أن نتصل بهذا الشيخ وهو نائب المدينة وأبرز شخصياتها ، كما لم يخطر ببال الشيخ ونحن على قيد خطوات منه أن يتصل بنا ... ولكن شيئا جد فى الأمر جعل الشيخ يبحث عنا ، ويتقرب إلينا ، ويفسح لنا من وقته الثمين وداره الفارهة ... إن هذا الشئ الذي إنما هو المؤتمرات الإخوانية وما أسفرت عنه مما ألمحنا إليه ، وتصريحات الأستاذ فى جريدة المصري وما أحاط بها من ظروف ، وقد كان من أثر هذه المؤتمرات والتصريحات أن دعمت مركز الإخوان وفتحت للدعوة أبوابا كانت مغلقة انسابت منها إلى أوساط جديدة لم نكن نعرف عنها شيئا .

التقى بي عدد من زملائي الطلبة القاطنين بالجيزة وقالوا لي : إن الشيخ ع . ب . دعاهم إلى مكتبه فى منزله وعرض عليهم تكوين شعبة للإخوان بالجيزة ... وحين طرق سمعي هذا النبأ سرحت بخاطري فى أجواء متناقصة عشتها ؛ منها جو (( الوفد )) وجو (( الإخوان )) وجو (( مؤتمر المنصورة )) وجو هذا الشعب الطيب الفقير الغافل ، وجو(( الذئاب والشياطين )) التي تلبس مسوح الهررة والملائكة متحلية أمام هذا الشعب الطيب بما يضفيه عليها المنصب والثراء من حلى تأخذ بالأبصار .

كيف يكون هذا ؟ الوفد يصب فى الأقاليم جام غضبه على القلة القليلة من الإخوان الذين كانوا أعضاء فى الوفد ثم أعلنوا تجردهم لدعوة الإخوان ، والوفد الذي يتآمر عن طريق جريدته (( المصري )) ليوقع بين الإخوان والحكومة إيقاعا لا يؤدى إلا إلى نسف الدعوة نسفا لولا لطف الله وحياطته لدعوته ..

كيف يستقيم هذا مع تقدم الشيخ نائب الجيزة وعضو الهيئة الوفدية إلى الإخوان فجأة يقترح عليهم تكوين شعبة للإخوان بالجيزة ، ويقول له الإخوان : إذن نبحث عن مكان للشعبة فيقول : لا داعي للبحث ، تنشأ هنا فى منزلي ؟!!! ... لقد أحسست أن وراء الأمر شيئا مريبا ... ولكنى لم أبد للإخوان شيئا مما دار فى خاطري ، وعزمت على لقاء الرجل والاستماع إليه ، وملاحظة ما يدور حوله ... وقابلت الرجل ووجدت منه استعدادا كبيرا بل تهافتا على إنشاء الشعبة ، واحتضانها ، والتكفل بكل ما يلزم من نفقات ... وأحضر لافتة كتب عليها اسم الشعبة ، وعلقها على الدور الأرضي من منزله ، وجعل الاجتماعات فى مكتبه ، وقد واظبت على هذه الاجتماعات فترة من الزمن ألممت فيها بالكثير مما كنت حريصا على الإلمام به ، مما ضاعف ما فى نفسي من شكوك .

وكلفت مجموعة من الإخوان المتمرسين بالتعرف على اتجاهات المجتمعات بالنسبة للإخوان ؛ وهى مجموعة متخصصة لها القدرة على التكيف بجو الهيئة المطلوب معرفة اتجاهها تكيفا يشعر المسئولين بهذه الهيئة أنهم أخلص العاملين لها ؛ وبذلك يغشون الجلسات المضروب حولها نطاق السرية ، ويظهرون بذلك على أدق أسرارها .

وقد أكد لي هؤلاء ما كان يتردد فى نفسي من شكوك ؛ وأخبرني أن الشيخ ورجاله سيقيمون للأستاذ المرشد حفلا كبيرا بمناسبة لا أذكرها الآن - لعلها كانت المولد أو الهجرة أو الإسراء ، وأنهم سيحاولون فى خلال هذا الحفل إحداث شغب وفى غمرة هذا الشغب يغتالون الأستاذ المرشد .

وفعلا طلب الشيخ أن يقام حفل كبير لهذه المناسبة وأصر على دعوة الأستاذ المرشد إليه متكفلا هو بكل نفقات الحفل ، وما كان الإخوان ليرفضوا عرضا كهذا ، وحدد الموعد ، ووجهت الدعوات لحضور أهل الجيزة ، ووجهت الدعوة إلى الأستاذ المرشد .

وأرسيت قواعد سرادق فخم كبير ، ولم يبق على ليلة الحفل إلا ليلة واحدة ، ولم أكن قد قابلت الأستاذ المرشد فى خلال الأسبوع السابق لانشغالي بالجيزة ، وبما يعده الناس الطيبون من أمور فى الخلفاء والله يكتب ما يبيتون ... ذهبت إلى المركز العام فى تلك الليلة وقابلت الأستاذ المرشد على انفراد وطلبت إليه لا يحضر هذا الحفل ، وألححت عليه فى ذلك ، فتعجب وسألني عن السبب ، فقلت له : لا داعي لمعرفة السبب ولكنى أرجو منك بحق الدعوة عليك أن لا تحضر هذا الحفل ؛ فأصر على حضوره ما لم يعرف السبب فقلت له : إن القوم وضعوا خطة لاغتيالك وقصصت عليه القصة ... فضحك وقال لي يا محمود أنخاف الموت ؟... كيف نخاف الموت ونحن نعلم الناس لا يخافوا الموت ؟ والله لأحضرن إن شاء الله هذا الحفل .. وأظننى بكيت حينئذ وتركته .

تركته وسارعت بالاجتماع مع مجموعة من الإخوان المسئولين من الجيزة والقاهرة ، وأخبرتهم بما كان بيني وبين الأستاذ وقلت لهم لابد إذن من وضع خطة محكمة، فنحن نعرف الأشخاص الذين وكل إليهم تنفيذ المؤامرة ونعرف مهمة كل منهم .... ووضعت الخطة وهى تتلخص فى قيام جوالة الإخوان بإحكام الرقابة على تنظيم الحفل . وبدأ الحفل ، وانتظر المدبرون أن يحدث شئ مما بيتوه ولكن شيئا لم يحدث ، ورأوا بأعينهم رجالهم الذين أعدوهم للقيام بأدوارهم ، ثابتين على مقاعدهم كأنما سمروا عليها ، وكأنما خيطت شفاههم أو سدت أفواههم ، ولا يستطيعون حتى أن يتلفتوا يمينا ولا شمالا فأحسوا بفشلهم ، وشعروا بأن الإخوان قد كشفوا مخططهم فلم يستطع الشيخ بعد هذا الفشل إلا أن يحاول الغض من قدر الأستاذ المرشد بأن قدم قبله عددا كبيرا من زملائه وأصدقائه ممن يعتقد أنهم من قوة البيان والقدرة الخطابية بحيث لا يكون للأستاذ المرشد بعدهم قيمة ، ثم إنه عمل على أن يشغل الوقت بهذا العدد الكبير من الخطباء بحيث يستنزفون يقظة الحاضرين ؛ فلا يجد الأستاذ إذا قام بعدهم استعداد لسماعه ، أو انتباها لكلامه ، بل إنه اعتقد أنهم لتأخر الوقت الذي يحين فيه دوره سيكون أكثر الحاضرين قد سئموا الاستماع وسيخرجون ويتركونه .

ونفذت هذه الخطة الجديدة بمهارة ، وكثر الخطباء وتعددوا ، وأطالوا قاصدين وأملوا وأسأموا ، وأخذ الكرى بمجامع الأجفان ، وترنح الجالسون نائمين على مقاعدهم ، حتى إذا ما تحقق للشيخ ما أراد وقد قارب الليل على الانتصاف قدم الأستاذ المرشد ؛ فوقف وحمد الله وأثنى عليه ثم نزع ببيتين أو ثلاثة أبيات من الشعر القديم وما كاد ينتهي من البيت الثالث حتى رقصت مشاعر الحاضرين ولا أكاد أذكر من هذه الأبيات الآن إلا شطرة من بيت تقول (( لأنت اليوم أحسن منك أمس )) لعبت هذه الأبيات حين ألقاها بقلوب النائمين فاستيقظت طربا ، وكأنما استيقظوا على حلم جميل .

وظل الأستاذ يهدر من قلب مفعم متأجج ، يقذف بشآبيب من نور تشق طريقها إلى ظلمات النفوس فتبددها ، وكأنما يتلقى من على أنوار السماء ، وظل كذلك ساعة وأكثر من ساعة ، وتكبير الناس قد بلغ عنان السماء ، حتى إذا ختم كلمته ، قام الناس مقبلين عليه ، ولقد رأيت شابا فى ربيع العمر من أهل الجيزة يقول له : أأنت حسن البنا أقسم بالله إنك لست حسن البنا ، إنما أنت ملك .

وهكذا انتهت الليلة (( بنصر الله . ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم . وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )) (( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا )) ....

وبدأ الشيخ منذ ذلك اليوم يتراجع فى حماسه المصطنع للإخوان ، ويتملص وينسحب حتى رجع إلى حقيقته ورفعت اللافتة التي كان يعلم الله ماذا يقصد من ورائها ، واكتسبت الدعوة عن طريق هذا الرجل ، ورغم أنفه ، خلقا كثيرين ، ما كانوا ليتصلوا بالدعوة لولا ما كان من أمره . وإن الله - كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر (( والله من ورائهم محيط )) .


نحن والهيئات الدينية

يمكن حصر الهيئات الدينية فى مصر فى ثلاث فئات : الصوفية والسنية والخيرية . وحديثنا مما يتصل بالموضوع الذي نعالجه سيكون مقصورا على الفئتين الأولين دون الثالثة لأن هذه بطبيعتها لا تقوم على أساس تصور معين للفكرة الإسلامية ، ثم إن أعمالها التي قامت من أجلها كانت مستوعبة ضمن أعمال شعب الإخوان فى كل مكان . كانت أولى خصائص دعوة الإخوان منذ أول يوم وستظل كذلك بإذن الله (( البعد عن مواطن الخلاف )) وخير توضيح لهذه الخصيصة ما ضمنه الأستاذ المرشد خطابه الجامع فى المؤتمر الخامس حيث قال :

(( فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي ؛ فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف فى الفرعيات أمر ضروري ، لابد منه ، إذ أن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف فى فهمها وتصورها العقول والأفهام . لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم ، ومازال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة ؛ وما أحكم الإمام مالك رضي الله عنه حين قال لأبى جعفر المنصور وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى الأمصار ، وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم على رأى واحد تكون فتنة ( وليس العيب فى الخلاف ولكن العيب فى التعصب للرأي ، والحجر على عقول الناس وأدائهم - هذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة ، وحسب الناس أن يجتمعوا ( على ما يصير به المسلم مسلما ) . كما قال زيد رضي الله عنه . وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة يريدون أن ينشروا فكرتهم فى بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها )) .

ومقتضى هذه النظرة أن ندعو المسلمين إلى مالا خلاف عليه وندع جانبا ما فيه خلاف ، ولكن هذه النظرة وإن لقيت الاستجابة والترحيب من أكثر الناس إلا قوبلت باعتراض ومقاومة من أقوام من الفئتين المشار إليهما آنفا .


أولا : الصوفية

الأصل فى الصوفية أخذ النفس بأسلوب يطهرها من أدرانها ويزكيها ويصقلها فيرقى بها فى مدارج الكمال الإنساني حتى يكون المسلم أداة نافعة لنفسه ولذويه وللمجتمع ؛ وعلى هذه الأسس الرفيعة نشأت فكرة الصوفية وهى فكرة يقرأها الإسلام ويعمل لنشرها ويحث عليها ؛ لأنها بهذا الأسلوب أساس لكل إصلاح ، ودعامة لكل نهضة ، وضمان لكل نجاح . ولا بأس أن يتصدى لتربية النفوس بهذا الأسلوب رجال أوتوا مقدرة على التربية والتوجيه ، ومن هنا نشأت مدارس أو باللفظ الاصطلاحي نشأت طرق صوفية لكل طريقة شيخ ومريدون أو تلاميذ :

وكلهم من رسول الله ملتمس  :: غرفا من البحر أو رشفا من الديم

ونحن - الإخوان المسلمين - نعتبر أسلوب التربية الروحية أساس دعوتنا لأن تكوين الفرد المسلم متوقف على الأخذ بأكبر نصيب من هذا الأسلوب مع مداومة الأخذ به ، واللجوء إليه ، والاستمداد من فيضه .

ولكن ليس معنى ذلك أن ينقطع المسلم لهذا الأسلوب ، وينعزل عن المجتمع لا يبالى ما ينال هذا المجتمع من خير وما يصيبه من مصائب .. وليس معنى ذلك أن يتخذ هذا الأسلوب وسيلة للارتزاق وجمع المال ، والتسلط على الناس ، وكسب الصيت والشهرة .

ومما يؤسف له أن بعض مشايخ الطرق قد انحرفوا بأتباعهم عن الطريق السوي واتخذوا طرقهم وسائل لألوان من هذه الأغراض المادية المشوهة لسمعة الصوفية والدين نفسه ، ومنهم من أراد أن ينعزل بمريديه عن المجتمع .

وهذان النوعان من الانحراف - مع أنهما طرفا نقيض هما اللذان اعترضا طريقنا فى الدعوة وراحا يعلنان الحرب علينا مادمنا لا نقرهما ولا نرضى سبيلهما سبيلا ؛ أما دعاة العزلة فقد أحسوا بأن تيار العمل الإسلامي الإيجابي قد استدرج عددا كبيرا من أنصارهم الذين كانوا يعتقدون أن العزلة هي السبيل الأقوام لتحيل ثواب الله ورضاه ؛ فلما عرضت عليهم الفكرة الإسلامية بشمولها وإحاطتها بكل شئ عرفوا أنهم لم يكونوا على شئ فى انتهاجهم سبيل العزلة ، فخرجوا من عزلتهم ، وساروا مع الركب حتى صاروا فى المقدمة .

وأما الآخرون من المشايخ الذين اتخذوا الصوفية مرتزقا ، ووسيلة إلى الكسب المادي ، وسبيلا إلى استغلال جهل المسلمين وسذاجتهم فهؤلاء مفسدون فى الأرض وكان لنا معهم دور ؛ حيث كان انتشار الدعوة فى مكان بمثابة إعلان حرب على هؤلاء ، فالدعوة بطبيعتها تثقف معتنقها وتوسع مداركه وتعطيه مقياسا يقيس به الأمور فيعرف به الخير والشر ويعرف به الحق والباطل . ويعتبر هؤلاء المشايخ تفتيح أذهان الناس وتنوير عقولهم إعلان حرب عليهم .... وهؤلاء المشايخ يجدون الطريق أمامهم ممهدا فى الأرياف والأقاليم حيث السذاجة وطيبة القلب وحسن الظن والأمية والجهل ؛ وسأعرض بين يدي القارئ مثالا واقعيا وكانت وقائعه معي شخصيا بين القاهرة ورشيد :

تعرف على هذا الشيخ ، ولا أدرى كيف تعرف على ، فقد كنت فى ذلك الوقت فى القاهرة أغشى كل مكان واتصل بكل المجتمعات حتى المقاهي البلدية فى أحشاء القاهرة لأعرض الدعوة على كل مجتمع بالأسلوب الذي يناسبه وكان الكثيرون من مختلف الأوساط يستجيبون للدعوة وكان ملتقاي معه فى البيت الذي أسكنه فى الجيزة ؛ فكان يزورني ويبيت عندي .

كان هذا (( الشيخ )) شابا ، لا يكبرني بسنوات قلائل ، وكان وسيما يلبس ملابس المشايخ من القماش الأبيض الناصع من قمة رأسه إلى إخمص قدمه ، وكان يدعى الشيخ (م . ف ) من صان الحجر وكان متوقد الذهن ، مشتعل الذكاء وإن كان حظه من التعليم ضئيلا ، وكان سريع الخاطر ألمعيا ألوفا كثيرة المعارف والأصدقاء ... وقد لاحظت أن أصدقاءه من طبقة الأغنياء المتعلمين ، وقد عرفني بعدد منهم فى القاهرة والجيزة .

وقد أثار عجبي أن أصدقاء هؤلاء أو قل مريديه يسكنون الشقق الفخمة والفلل الفارهة وعندهم الرياش والخدم ويعيشون فى بذخ ، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون الشيخ ضيفه الدائم ويلحون عليه أمامي إلحاح الملتمس من بركانه ، ومع ذلك فقد كان يأبى الاستجابة لهم ، ويؤثرني عليهم ، وهو يعلم أن سكنى ومعيشتي دون ذلك ، وأنه لن يجد الراحة عندي كما يجدها عندهم .

وكان مما سرني منه أنه كان حين يعرفني بأحد هؤلاء ، يعرفه بي باعتباري من الإخوان المسلمين ويفاخر بذلك ويثنى ويأخذ فى شرح الدعوة لهم ... كما كان يعجبني منه أنه لم يكن يربطني بنفسه فى غدواته وروحاته . باعتباره ضيفا عندي - بل كان يقوم من الصباح فلا أراه إلا بالليل ، اللهم إلا الساعات القلائل التي كان يصحبنى فيها لتعريفي بأصدقائه هؤلاء الأثرياء .

وليس معنى أنه كان يلوذ بي أنه كان دائم الوجود عندي ، وإنما كان يلوذ بي فى فترات تردده على القاهرة فقد تردد على القاهرة فقد تردد عليها خلال تلك السنة نحو ثلاث مرات ، يمكث فى كل مره نحو أسبوع ، وكان حين يعزم على السفر يقول إنه مسافر لحضور مولد سيدي كذا فى بلدة كذا .

وجاءت إجازة الصيف ، وسافرت إلى رشيد لقضاء فترة بها ، وبعد وصولي إليها بأيام وبينما أنا فى منزلنا جاءني شاب لا أعرفه وقال إنه موفد من قبل الشيخ (م.ف) . وقد أرسلني إليك لأخبرك أنه حضر اليوم إلى رشيد وهو موجود الآن بقهوة كذا ويرجو أن يراك هناك . فقلت للشاب اذهب وأحضره معك إلى هنا ، فذهب ثم جاء يقول إن الشيخ يشكرك ويرجو أن يراك فى المقهى ... وذهبت إلى المقهى والتقيت به مرحبا وعاتبته على عدم إجابته دعوتي إياه للمنزل فشكر .. ولاحظت أن أصحاب المقهى وروادها من العمال يحتفون بالشيخ ... ثم كانت المفاجأة

قال لي : أتعرف لماذا جئت بالذات إلى رشيد ؟ .. لزيارة أخيك .. قال هذا أحد الواجبات لكن الذي جاء بي فى هذا الوقت بالذات وفجأة أنني رأيت فى المنام ؛ وقص على رؤيا ملخصها أن (( سيدي على المحلى )) المدفون فى أكبر مسجد فى رشيد - جاءه فى المنام وعاتبه على أنه لم يحي له مولدا وحدد له يوم كذا موعدا للمولد - وهذا اليوم المحدد يوافق اليوم التالي لحضور الشيخ وانتهى من قصته وطلب إلى أن أعينه على هذه المهمة حتى يفي بوعده للولي .... وهنا بدأ الخلاف - لأول مرة - بيني وبينه ، ونصحته بأن يعدل عن هذا العزم ، فرأيت منه إصرارا ، فرجوته بحق ما بيني وبينه من صداقه أن يعدل فرفض بإصرار ؛ فأخذت أشرح له أن هذا يتعارض مع اتجاهي ، وأن البلاد كثيرة ولا داعي لاختيار رشيد لأن فى هذا الإصرار تحديا لي وهو مالا أنتظره منه ، فلم يخفف ذلك كله من إصراره .

فقلت له : إن معنى هذا أنك لن تجد منى المعونة التي تطلبها فقال : إنك إذا لم تعنى فأهل الخير غيرك كثيرون . فقلت له : إنك بإقامتك هذا المولد ستمتهن حرمة المسجد ، وستجعل منه ساحة للفجور حيث يجتمع حولك السفلة من الرجال والنساء والأطفال ممن لا يعرفون للمسجد حرمة ولا يجتمعون إلا على اللهو واللعب والفسق والفجور ، وأنت فى غنى عن أن تكون سببا فى ذلك فاتق الله وأعدل عن عزمك .

لم يزده ذلك كله إلا تمسكا برأيه وإصرارا على عزمه ، ويبدو أنه رأى فى رواد هذا المقهى من الأميين والبسطاء عينة مشجعة ......

وافترقنا وتركته فى المقهى ونحن على خلاف شديد بل على تناقض مؤلم . واستعدت الماضي ففهمت حل اللغز الذي طالما حيرني حين كان يؤثرني بالمبيت عندي رافضا إجابة رجاء مريديه الأثرياء فى المبيت عندهم ، وفهمت لماذا كان يشيد بي وبدعوة الإخوان أمامهم ؛ لقد كان هذا طعما ألقاه ليصطادني به فى الوقت المناسب ، ومقدمة لما يحدثني الآن بشأنه ... وأسفت أشد الأسف أن يجعل هذا (( الشيخ )) هدفه من تعرفه بي أن يجعلني سلما يتسلق عليه ليصل إلى رشيد ؛ المدينة الهادئة الواعدة التي لم يطرقها (( شيخ )) من قبل ليستغلها باسم الدين ويقيم لأحد من أوليائها مولدا ... ومعنى أن يقيم شيخ فى بلد من البلاد مولدا أنه أضاف إلى موارده السنوية موردا جديدا مما سيجبيه من أهالي هذا البلد باسم المولد من فقرائها وأغنيائها ومما سيقدمه السذج رجالا ونساء إلى الشيخ من قرابين لعلاج ما استعصى من مشاكلهم وأمراضهم!!

جمعت إخوان شعبة رشيد ، وشرحت لهم علاقتي بهذا الرجل ، وما كان بيني وبينه ، وما فاجأني به من عزمه على إقامة مولد برشيد ، وبينت لهم خطورة السكوت على ذلك .. والإخوان حيث كانوا يفهمون فكرتهم وعلى ضوء هذه الفكرة يبدون رأيهم فيما يعرض لهم من أمور وستجدهم جميعا دون اتصال فيما بينهم رأيا واحدا واتجاها واحدا ... واتفقنا على الوقوف فى وجهه آخذين فى اعتبارنا ذكاء هذا الشاب وقوة دهائه .

وبدأ الشيخ فأعد لنفسه مجلسا بالمسجد بجانب مقصورة المدفون وسط المسجد . وعلق فوق مجلسه أنوارا ساطعة جعلت الليل نهارا ، واتصل ببعض من جاءوا يتعرفون عليه من أهل البلد ممن بهرهم المنظر وطلب من كل منهم طلبا سارعوا إلى تلبيته فبعضهم أرسل مئات الأرغفة ، وبعضهم أرسل إليه الشاي وبعضهم أرسل السكر وبعضهم أرسل إليه نقودا .. ومد الرجل الموائد ، وتوافد عليه حثالة الناس ممن لم يغشوا المساجد من قبل ... وأخذ الشيخ يشنع على الإخوان فيخرج من جيبه إحدى بطاقات الدعاية للدعوة كان قد حصل منى عليها من قبل وكان يعتز بها ولكنها الآن يعرضها ويقول للناس : انظروا : إنهم يقولون لهم مبادئ .. إذن هم حزب وليسوا دعوة دينية ... والتف حول الشيخ فى هذه الليلة - وهى الليلة الأولى من سبع ليال أعلن عنها - محبو السهر فى المقاهي التي لا يجدون فيها من الفوضى والتهريج ما يجدونه هنا مما يبعث النشوة فى نفوسهم ... وتوافد الشباب المتسكع ، والنساء الساقطات على المسجد يأكلون ويشربون ويعبثون ؛ وهو مع ذلك كله ، ووسط ذلك كله يقيم حلقة الذكر وهو جالس وسطها يغذى المترنحين فيها بين الفينة والفينة بكلمة أو صيحة .

ووضع الإخوان خطة حكيمة كان من نتيجتها أن أنفض الناس من حول الشيخ فوجد نفسه وحيدا مما أيأسه من هذا البلد فغادره إلى غير رجعة ووقى الله رشيد أن نكون فريسة لدجالين يتخذون الدين وسيلة لإضلال الناس وابتزاز أموالهم .


ثانيا : السنية

وهذه الفئة كانت تمثلها هيئة واحدة تسمى (( الجمعية الشرعية )) ثم انشقت عنها جماعة أخرى سمت نفسها (( جمعية أنصار السنة المحمدية )) . وتركز الجمعيتان على تنقية العقيدة الإسلامية مما علق بها من شوائب وعلى مقاومة البدع وإحياء السنن ، وتختلفان فيما بينهما فى نظرة كل منهما إلى كيفية تنقية العقيدة مما قد نرجئ الإشارة إليه إلى وقت آخر ... ولهاتين الجمعيتين أنصار كثيرون فى القاهرة وفى طوائف المثقفين وفى طلبة الجامعة ممن لقنوا هذه الأفكار فى بلادهم قبل التحاقهم بالجامعة . والأفكار التي قامت من أجلها هاتان الجمعيتان أفكار طيبة لاشك فيها ، ولكن تصورها فى أدمغة من يحملونها إلى الناس ثم نصور المنقولة إليهم لها بعد ذلك أنشأ ما أدى إلى التطرف والتحريف فى كثير من الأحيان (( وما آفة الأخبار إلا رواتها )) ..

وسأضع بين يدي القارئ مثالين يوضحان هذا المعنى الذي أومأت إليه وكنت فى المثالين أحد الشاهدين :

الجمعية الشرعية

فى عام 1939 كنت أسكن فى ضاحية بجانب الجامعة تسمى (( بين السرايات )) وكنت أصلى الجمعة دائما فى القاهرة لكنني اضطررت مرة إلى الصلاة فى هذه الضاحية فدخلت مسجدا قريبا من سكنى فإذا به أحد مساجد الجمعية الشرعية ، وصعد المنبر شيخ معمم ذو لحية طويلة وخطب الناس ... فماذا كان موضوع الخطبة فى تلك الأيام التي كانت فيها فلسطين شعلة من النيران وكان الإنجليز يقتحمون بيوت المسلمين ويحطمون كل ما فيها ويمزقون ما بها من مصاحف ويطأونها بأحذيتهم ، ويأخذون المجاهدين ويسومونهم ألوان العذاب ويطردون المسلمين والمسلمات من بيوتهم ليسلموها لليهود ....

كان موضوع الخطبة : قراءة سورة الكهف فى المساجد يوم الجمعة ... وأفرغ الخطيب جهده فى تقرير أمر عجيب ، هو أن قراءة سورة الكهف فى المساجد يوم الجمعة كفر ، ولم يكتف سيادته بل قال : لا أقول إنها كفر بالنعمة بل كفر بالله ورسوله بحيث لا يقبل الله من فاعلها صرفا ولا نصرا .... وقد أحسست أن موجة استياء قد عمت المصلين حتى إن بعضهم بدأ يفكر فى جذب الخطيب من فوق المنبر وكادت تحدث فى المسجد فتنة .

جمعية أنصار السنة

فى خلال هذه السنة أوفى السنة التي قبلها كنت فى الإجازة الصيفية وكنت فى موطني رشيد ، وكان عندي صديق كان طالبا فى إحدى كليات الأزهر وكان ضيفا عندي لأنه من بلدة أخرى ..وقد رأى أن نتربص بعد صلاة العصر على كورنيش النيل ، وبينما نحن نسير فى هذا الطريق والجو هادئ وممتع رأى صديقي رجلا قادما يبدو أنه قطع الطريق الذي بدأنا فيه ثم قفل راجعا فقال لي إن هذا الرجل القادم صديق له ، والتقينا به فإذا به شاب فى ربيع العمر معمم وذو لحية عريضة فتعانقا وصافحته .. وأخذ صديقي يعتب عليه فى انقطاعه الطويل عنه ، فاعتذر قائلا ، إنني كنت نزيل المستشفى مدة تزيد على الشهر ولم أغادرها إلا منذ أيام ، فسأله صديقي عن سبب دخوله المستشفى فقال : السبب هو جهل هذا الشعب وسوء أدبه ووقاحته فسأله صديقي وما علاقة هذا بدخولك المستشفى ؟ .. قال : أوفدتني الجمعية فى الإسكندرية لألقى درسا فى مسجد ( حدده ) بالرمل ، فجعلت موضوع الدرس (( الصلاة فى النعلين )) فقلت للناس إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى نعليه فقال لي أحد الحاضرين : لم تكن الشوارع فى مكة والمدينة بها من النجاسات مثل ما فى شوارعنا ثم إنهم كانوا يصلون على الحصى ... قال فقلت لهم : هذه سنة وعلينا أن نقتدي بالرسول وأن نصلى فى نعالنا ندلكها ثلاث مرات ثم ندخل المسجد بها ونصلى فيها فقامت اعتراضات كثيرة من أنحاء المسجد فوقفت وأمسكت بنعلي وقلت لهم : أليس هذا نعلى ؟ .. قالوا : بلى قلت : انظروا وأخذت أدلك بهما وجهي وأقول : لكي تقتنعوا . فرأيتهم قد قاموا وهجموا على بنعالهم وظلوا يضربوني بها حتى فقدت رشدي ولم أدر إلا وأنا بالمستشفى ومعظم أجزاء رأسي ووجهي وذراعي وظهري وصدري عليها الأربطة .

فأخذ صديقي يواسيه حتى طيب خاطره ثم سأله عما جاء به إلى رشيد فقال إن الجمعية أوفدته لإلقاء درس بمسجد المحلى ... فأحسست كأن الله عز وجل أتاح لي فرصة اللقاء مع هذا الداعية الأحمق لأعفى أهل بلدي رشيد من غوائل حمقه . واتصلت بإخواني فى الشعبة فحالوا بين الرجل وبين الاتصال بالجماهير حتى رجع إلى جمعيته عازما على أن لا يعود إلى رشيد مرة أخرى .

أما فى الجامعة فقد كان زملاؤنا الطلبة من أعضاء هاتين الجمعيتين ينتقدوننا قائلين : كان عليكم قبل أن تدعوا إلى ما تدعون إليه أن تدعوا أولا إلى تصحيح العقيدة ومحاربة البدع .. وقد كان لنا مع زملائنا هؤلاء مناقشات مستفيضة وجلسات طويلة انتهت آخر الأمر باستجابتهم للدعوة واقتناعهم بأسلوبها وفكرتها ، فصاروا من أقوى الإخوان إيمانا وأثبتهم على العهد وأجرئهم فى الحق وأصبرهم على مكارهه .

ولم يكن ردنا على إخواننا هؤلاء فى خلال هذه الفترة من حياة الدعوة ردا موضوعيا بحيث نناقش فيه تفاصيل العقيدة وتوصيف البدعة بل كنا نقول لهم : انظروا إلى العالم الإسلامي بجميع أجزائه هل ترون فيه بلدا واحدا حرا طليقا أم أنه جميعا مستعبد رازح تحت أثقال من الاستعمار ؟ إن مثلنا ومثلكم كمثل أسرة ورثت بيتا شبت فيه النيران ؛ فهل يتجادل الورثة فى كيفية اقتسام البيت وترتيب أثاثه أم يلقون بحقوقهم فى الاقتسام جانبا ويتفرغون متحدين أولا لمكافحة النيران ؟ ....

وقبل أن نختم الحديث عما كان من علاقات بيننا وبين الهيئات الدينية فمن حق هذه الهيئات أن نقرر أن الخلاف بيننا وبينها لم يكن خلافا عميق الجذور كذلك الذي كان بيننا وبين سواهم من القطاعات وإنما كان خلافا أخويا كانت الغيرة على الإسلام الباعث من ورائه ، وإذا كان من صور منفرة فإنها لم تكن إلا من أفراد معينين أو مجموعات محددة لا ينبغي اتخاذها أساسا فى الحكم على هذه الهيئات العتيدة التي يرجع إليها فضل كبير فى إثراء الدعوة بأكرم مجموعة من رجالها وأنصارها .

الأسلوب الخامس : الاتصال بزعماء المسلمين فى مصر والخارج

بدأت الجهات التي نعمل باسم الإسلام الرسمي منها وغير الرسمي تحس بوجود الإخوان . وأخذ المجاهدون القدامى يتنسمون فى الإخوان روح التضحية المؤمنة التي طالما افتقدوها ؛ فأخذوا يأوون إلى كنف الدعوة بطرق مختلفة ليس بينها الطريقة العلنية الظاهرة .

التقى الأستاذ المرشد فى تلك الحقبة من المجاهدين القدامى عزيز المصري ومحمود لبيب وعبد الرحمن عزام وصالح حرب ومحب الدين الخطيب ... وأذكر يوم زار عبد الرحمن عزام الأستاذ المرشد بهذه الدار أنني كنت فرحا ،لأنني كنت أعلم الكثير عن هذا الرجل أيام سياحتي فى مركز أبى المطامير حيث مكثت نحو شهر أنتقل بين كبار رجالاته وشيوخه الذين كان لهم تاريخ مازال مجهولا هذا الشاب عبد الرحمن عزام وإيمانه وبسالته وتضحيته .....

ولما كنت أعلم عن اتصاله بالسنوسية ، وحرصا منى على تجلية فكرة الإخوان له ، كتبت فى مجلة النذير مقالا عن السنوسية - والسنوسية دعوة قام بها السيد أحمد الشريف السنوسي فى ليبيا وكانت تقوم على التصوف والجهاد ، وكان لها أتباع كثيرون هم الذين قاوموا الاستعمار الايطالي المؤيد بالنفوذ البريطاني وكان منهم عمر المختار ، وصار منهم عبد الرحمن عزام حين أعلنت إيطاليا الحرب على المجاهدين السنوسيين فترك عبد الرحمن عزام دراسته فى كلية الطب فى مصر وتطوع مع المجاهدين السنوسيين وأبلى أعظم بلاء - وقد تحدثت فى هذا المقال عن تسلسل قيادات الدعوة الإسلامية فى العصر الحديث ومنها جمال الدين الأفغاني ثم الإخوان المسلمون ، ووازنت بين هذه الأطوار للدعوة الإسلامية ؛ وأثبت أن دعوة الإخوان قد استوعبت الدعوتين وزادت عليهما بنظام أشمل ، وقيادة أشد إحكاما وأبعد نظرا .

وعزيز المصري كان من قواد الجيش المصري الذين لم يطلق الإنجليز وجودهم فيه ، وكان هذا الرجل من المؤمنين بالفكرة الإسلامية وبالدولة الإسلامية العالمية ، وقد عمل مع الترك أيام الخلافة العثمانية باعتبارها رمزا للدولة الإسلامية وله فى ذلك المجال تاريخ مجيد ... وعلى شاكلة عزيز المصري كان صالح حرب فقد كان هو أيضا غصة فى حلق الإنجليز ... وقد توفى فى تلك السنة الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين فرشح الأستاذ المرشد اللواء صالح حرب خلفا له . ومحب الدين الخطيب كاتب إسلامي أشرت إليه فى صدر هذه المذكرات ، وكان بلا شك أعظم كاتب صحفي إسلامي فى مصر ، وكان من أوسع الناس علما وخبرة بالتاريخ الإسلامي والحركات الإسلامية القديم منها والحديث .

أما محمود لبيب فكان زميلا لعزيز المصري وصالح حرب ، وله جولات فى تركيا مركز الخلافة ، وله إحاطة بتاريخ الحركات العسكرية السري منها والعلني ، وكان يمتاز بأنه رجل عمل ، عميق الإيمان ... وقد قطع حياته العسكرية عند رتبة الصاغ ( الرائد ) وكرس حياته بعد ذلك للعمل الصامت للدعوة الإسلامية ... وله فى دعوة الإخوان آثار بعيدة المدى سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله .

أما شمال أفريقيا وهو المغرب العربي وإن كانت الظروف السياسية لم تتح لمقابلات بين المجاهدين فيه وبين الإخوان فإن الإخوان كانوا حريصين على مراسلة هؤلاء المجاهدين للتعرف على حقائق الأحوال عندهم فكانت هناك مراسلات بيننا وبين عبد الحميد بن باديس فى الجزائر الذي كان يتزعم حركة لمقاومة خطة ( فرنسة ) الجزائريين للقضاء على عروبتهم وإسلامهم ، فكون جمعية جعلت مهمتها إنشاء مدارس إسلامية وكانت السلطات الفرنسية تلاحق هذه المدارس بالقوانين الجائزة التي تضيق الخناق عليها وتضع العقبات فى طريق إنشائها وفى طريق الملتحقين بها والمتخرجين فيها ....

وكانت هناك مراسلات بيننا وبين المجاهدين فى مراكش مثل علال الفاسى وحزبه الذين كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسي ويقاومون (( الظهير البربري )) وهو قانون أصدره الفرنسيون بذروا به بذور الشقاق بين عنصري الأمة المغربية التي تتكون من العنصر البربري وهم سكان البلاد الأصليون ، والعنصر العربي وهم السكان الفاتحون ... ولما كان طبيعة الإسلام تقضى على النعرات القبلية والدعوات العرقية فقد أنصهر العنصران فى بوتقة الإسلام وخرج من الانصهار شعب لا يعرف انتماء إلا إلى الإسلام فجاء الغزاة الفرنسيون ليوقظوا ما أماته الإسلام من التعالي بالآباء والأجداد ... وقد استمات هؤلاء المجاهدون من كلا العنصرين فى مقاومة هذه الفتنة وكان صدى هذه المقاومة لا يحس به فى مصر إلا الإخوان المسلمون ولا يظهر أثره إلا على صفحات مجلاتنا .

ولا داعي هنا لذكر مفتى فلسطين وزعمائها ومجاهديها فهذه قضية تبنتها الدعوة عند إنشائها يوم كان ساسة مصر وزعماؤها يعلنون أنهم ليسوا مسئولين عن هذه القضية ولا يعنيهم أمرها .

ولقد كان المجاهدون فى خارج مصر يشعرون أن قد صار لهم بوجود الإخوان موئل ومكان وصدر مفتوح ذراعاه دائما يتلقاهم فى شوق وحب ، فكانت وسائلهم تنهال على المركز العام .. ولا أنسى يوم سمحت سلطات الاستعمار للأمير شكيب أرسلان - وكان منفيا من بلاده سورية بأمر الفرنسيين إلى سويسرا ، وسمح له بالرجوع إلى سورية فرأى أن يمر على مصر - لم يكن مسموحا له بالإقامة فيها - فأبرق إلى الإخوان بموعد مروره ، فتلقاه الأستاذ المرشد والإخوان وتعانق الجميع كأنما كانوا أصدقاء منذ نعومة الأظفار مع أن أحدا منهم لم ير الآخر من قبل (( ولكن الشكوك أقارب )) .

والأمير شكيب أرسلان ليس أميرا بالمعنى المتعارف عليه من الانتساب إلى بيت مالك ؛ وإنما أمره قلمه ؛ فهو كاتب لا يشق له غبار وقد لقب بأمير البيان . وهو بلا شك أقوى قلم كتب عن الإسلام والدعوة الإسلامية .. لم أقرأ مما كتب عن القرآن والدعوة الإسلامية أقوى ولا أنفذ إلى لب المعاني مما كتب الأمير شكيب فى مقدمة كتابه (( حاضر العالم الإسلامي )) .

وإذا كتب مؤرخ عن الدعوة الإسلامية العصر الحديث فلابد أنه سيكتب عن كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) لأنه أوسع وأوضح وأجمع ما كتب عن هذا الموضوع . والأصل فى هذا الكتاب رحلة قام بها مستشرق أمريكي يدعى (( ستودارد)) طاف فيها بأنحاء العالم الإسلامي وكتب عما شاهده رسالة أو كتيبا صغيرا سماه (( حاضر العالم الإسلامي )) فجاء الأمير شكيب وعلق على ما جاء بهذه الرسالة فجاء التعليق أكثر من عشرين ضعفا للرسالة وكان التعليق أعظم من الكتاب حتى إن الكتاب كله كان معروفا ومنسوبا إلى الأمير شكيب .. والكتاب مرجع لا ينبغي لمن يرشح نفسه أن يكون داعية للإسلام أن يغفل قراءته . وقد كنت استعرته من الأستاذ المرشد وقرأته - وهو يقع فى أربعة أجزاء - ولخصته فى كراسة فقدت فيما فقد .


مقابلة المرشد لمحمد محمود باشا

محمد محمود باشا من الشخصيات التي غمطت حقها لأن استمساكها بالمثل وتعلقها بأهداف النبل وترفعها عن الدنايا ، جعلها حصادا سهلا لجحافل تجار السياسة ، وموطئا لينا لمواكب النفاق ومزوري التاريخ وعباد الحكم .... كان رجلا من عظماء مصر الذين ساهموا فى جميع أطوار الجهاد الوطني ، وفى مقدمة المجاهدين ، ولكنه كان ذا دين وخلق ، فأبى أن يتاجر بجهاده كما تاجر زملاء له .

ورث المجد عن آبائه ، وكان على أعلى درجة من الثقافة الغربية ، ولكنه مع ذلك كان حريصا على آداب الإسلام وتقاليد القرية ... فمع توليه رياسة الوزارة أكثر من مرة لم يؤثر عنه أنه أعطى الدنية فى وطنه ، كما لم يؤثر عنه أنه جعل زوجته أو بناته عرضة لا عين الناس ولا نهبا لنظراتهم ؛ بل عاش ما عاش - رحمه الله - وعاشت زوجته وبناته من بعده ما عشن لم تنهشهن عين مصري ولا أجنبي .

ولم أكن أعلم عن هذا الرجل إلا ما نوهت عنه مما فيه الكفاية أن يجعل صاحبه موضع التقدير والتبجيل والاحترام - كما لم يكن غيري من الناس يعلم عنه أكثر من ذلك - حتى كنت فى إحدى رحلاتي لنشر الدعوة فى إقليم البحيرة فى أواخر الثلاثينيات وقضيت فترة منها فى مركز أبى المطامير ، واتصلت هناك بشيوخ القبائل ورجالات المنطقة فكشفوا لي فى ثنايا أحاديثهم عن صفحة مجيدة مطمورة من تاريخ هذا الرجل ، عمل أعداؤه على حجبها عن الشعب ، ولم يحاول هو الكشف عنها مع أنه كان قادرا على ذلك فقد تولى رياسة الوزارة أكثر من مرة - كما قدمت - مكتفيا بما عند الله .


قال لي هؤلاء الشيوخ

لما أعلنت إيطاليا الحرب علي المسلمين في ليبيا ، شدد الانجليز قبضتهم علي مصر حتى تقطع الصلة بينها وبين ليبيا فلا يتسرب إلي ليبيا من مصر شيء من المساعدة المادية أو الأدبية في خلال تلك الملحمة غير المتكافئة حتى يتم لإيطاليا افتراس ليبيا والقضاء التام علي المجاهدين فيها .. وكان للانجليز في كل محافظة في مصر موظفون من الانجليز يشغلون المناصب الحساسة فيها حتى يكونوا عيونًا علي الموظفين المصريين الكبار والصغار . وكان محافظ البحيرة في ذلك الوقت هو محمد باشا ؛ فرأي الرجل أن وقوف المصريين موقفاً سلبيًا من إخوانهم في ليبيا لا يليق ولا يقره عرف ولا دين ؛ فاتصل سرًا بشيوخ مركز أبي المطامير علي أن يعدوا قوافل من الطعام والسلاح والذخيرة ليرسلوها إلي المجاهدين في ليبيا من طرق غير مطروقة ، وكلما أعدوا قافلة أخبروه قبل إطلاقها في الطريق حتى يرسل إليها من يلقي القبض عليهم ويودعهم الحجز في المحافظة إلي أن تصل القافلة بسلام ... فإذا ضبط الانجليز قافلة من هذه القوافل لم يكن هؤلاء الشيوخ مسئولين عنها لأنهم كانوا في الحجز قبل ميعاد ضبطها .

وفي سنة 1938 كان هذا الرجل رئيسًا للوزراء . وكان معنا في ذلك الوقت أخ كريم – أنسيت اسمه – كان موظفاً كبيرًا في وزارة الزراعة وكان صديقاً حميماً لمحمد محمود باشا ... ولشدة إعجاب هذا الأخ بشخصية الأستاذ المرشد أكثر من الحديث عنه لصديقه رئيس الوزراء حتى أغواه بأن يقابله ولكنه اشترط أن تكون المقابلة برياسة الوزارة وأن لا تزيد علي ربع ساعة لكثرة شواغله وارتباطاته ... وتمت المقابلة وتناقش الرجل مع الأستاذ المرشد في مواضيع شتى حتى انتهت ربع ساعة فقام الأستاذ مستأذنًا فرفض الإذن له حتى انتهي الربع الثاني والثالث وهكذا إلي ساعتين كاملتين ... وقام رئيس الوزراء فودعه بنفسه ... فلما قابله صديقه قال له محمد محمود باشا :

" والله لولا العرف والتقاليد لعينت هذا الرجل وزيرًا للخارجية ، وأنا موقف أنه سيجعل لمصر في ظرف أشهر معدودة مكانة مرموقة بين دول العالم " . وناهيك بالعرف والتقاليد في تلك الأيام ... إنها كانت أقوي من القوانين ؛ فلم تكن المناصب الوزارية يتبادلها إلا أشخاص معينون لا يقلون عن سن معينة ، ومن أسر معينة .. وكان الأستاذ في ذلك الوقت شابًا في حوالي الثلاثين ومدرسًا في مدرسة ابتدائية .


لقاء المرشد العام بالملك فاروق

كان الملك فاروق في ذلك الوقت في مستهل أيامه فقد تولي العرش في عام 1938 ، وكان الناس يتوسمون الخير في الملك الشاب ... وكان الأستاذ المرشد يري أن أقصر طريق لتحقيق أهداف الدعوة ، والأخذ بالأسلوب الإسلامي في إصلاح البلاد إنما يكون بالاتصال بهذا الملك الشاب وإقناعه بالدعوة ... ومعني هذا الإقناع أن يوقن بأن انتهاءه لهذه الدعوة سيصلح البلاد ويحفظ له عرشه .

وفي سبيل إبراز هذه الفكرة إلي حيز الواقع اتصل المرشد برجل محايد كان يأنس في رجاحة عقله وفي صدق وطنيته ونزاهته ، وكان في نفس الوقت من أقرب الشخصيات إلي الملك حيث كان أستاذه من قبل ؛ فذلك هو " علي ماهر " ... وكان علي ماهر من القلائل الذين يتفهمون فكرة الإخوان ويقدرونها كما يقدرون الأستاذ المرشد كل التقدير ، وكان يعرف غير قليل عن قوة الصف الإخواني وتماسكه وكان يري ما كان يراه الأستاذ المرشد من أن أقرب الطرق وأسلمها لإصلاح هذا البلد هو في إقناع الملك بدعوة الإخوان وانتمائه لفكرتهم واستناده إلي صفهم . وكان الإخوان قد أقاموا في صيف ذلك العام معسكراً ضخمًا في "الدخيلة" بجاني الإسكندرية وكان الإخوان من مختلف البلاد يفدون إلي هذا المعسكر ليقيموا فيه أيامًا يرجعون إلي بلادهم ليفد غيرهم ... وكان الأستاذ المرشد شبه مقيم بهذا المعسكر الذي كان مقررًا أن يستمر شهرًا ...

ولقد زرت المعسكر في أواخر الشهر الذي كان محددًا له ضمن مجموعة من إخوان رشيد ، وكنت عازمًا علي قضاء سحابة النهار ثم مغادرته مساء لكن الأستاذ أصر علي بقائنا ثلاثة أيام فنزلنا علي أمره ، ولم أكن أعرف سبب إصراره ولكن تبين لي بعد ذلك أنه كان لأمر هام . كنت أعرف رأي الأستاذ المرشد فيما يتصل بالملك ، ولكني لم أكن أعرف أن استبقاءنا كان ذا علاقة بهذا الشأن حتى جاء اليوم الثالث من فترة بقائنا – وكان يوم جمعة – فإذا بالأستاذ يطلب منا جميعًا أن نرتدي زى الجوالة . ورأيناه قد ارتدي الزى قبلنا ، ثم أخبرنا أن الملك سيؤدي اليوم صلاة الجمعة في مسجد سيدي جابر وبأننا سنكون في استقباله أمام المسجد وبأننا ستصل الجمعة معه ؛ وفهمت بعد ذلك أن هذا الأمر قد اتفق عليه من قبل ، ورتبت خطواته بين علي ماهر والأستاذ المرشد . وقد وضح هذا وضوحًا تامًا ، حين ذهبنا إلي المسجد واصطففنا أمامه وكنا أكثر من مائة جوال يتقدمنا المرشد بملابس الجوالة ، وحضر الركب الملكي يتقدمه الملك بجانبه علي ماهر – وكان في ذلك الوقت رئيسًا للديوان الملكي فيما أذكر – فحييناه هاتفين له وللإسلام ؛ فأخذ علي ماهر بيد الأستاذ المرشد وقدمه للملك فسلم عليه الأستاذ مصافحًا باحترام دون تقبيل يده كما كان العرف في ذلك الوقت – ودون انحناء .

رجعنا بعد صلاة الجمعة إلي معسكرنا ، وكان الأستاذ يشعر بالرضا النفسي لأنه أحس أنه خطا الخطوة الأولي التي كان علي الداعية المصلح أن يبدأ بها ، ثم لا عليه بعد ذلك إن هي لقيت استجابة أم لقيت إعراضًا .. المهم أنه أعذر إلي الله وإلي الناس وإلي التاريخ ... حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يقول : لو أن هذا الداعية عرض دعوته علي ولي الأمر قبل أن يسلك بها هذه المسالك . وكنا نعتقد في ذلك الوقت بسذاجتنا وحسن ظننا أن الله تعالي قد اختصر لنا الطريق ، واختار لنا غير ذات الشوكة ، وأن هذا الشاب الذي يبدو وادعًا في مظهره ، وبجانبه الرجل العاقل علي ماهر لابد أنه سيتجه اتجاهًا إسلاميًا فيسعد ويسعد الناس ... ولم نكن نعلم ما خبأه القدر لنا كدعوة ولهذا الشاب كملك طائش مغامر ... وكأنه قد غاب عنا أن حاشية هذا الشاب . وإن كان فيها علي ماهر فإن فيها ألف شيطان .

الفصل الثاني : الأخذ بأساليب عملية في التكوين والتربية ونشر الدعوة :

كان أسلوب التربية في دار الناصرية يتمثل في درس كان يلقيه الأستاذ المرشد ليلة في الأسبوع في مسجد الدار الصغير ، ويحضر هذا الدرس من شاء من الإخوان فقد يحضر مرة عدد قليل وقد يكثر حاضروه في مرة أخري ، وكان هذا الدرس يستغرق نحو الساعة ... ثم تحول هذا الدرس فترة من الزمن إلي درس في تلاوة القرآن ، ولا أنسي أنني أفدت من هذا الدرس في التلاوة وكان يقرأ سورة يونس هي كلمة "يهدي" فقد كنت أقرأها بغير تشديد الدال وذلك في قوله تعالي " أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي " .

وكان أكثر وقت الأستاذ المرشد يقضيه في إقناع شخص أو شخصين بالدعوة ، وكذلك كنا نفعل ، وتستطيع أن تقول إن هذه الفترة كانت طور الدعوة الفردية ، حيث لم يكن ممكنًا أن تقوم تنظيمات علي غير أشخاص ؛ فمادام العنصر الضروري غير موجود وهو الأشخاص المؤمنون بالفكرة الإسلامية المستعدون للعمل لها ، والبذل في سبيلها ، فلا تنظيم ولا تكتيك ... والواجب الذي تفرضه المرحلة هو بذل الجهد لتوفير العنصر الأساسي .

وقبيل الانتقال إلي الدار الجديدة كانت الدعوة قد أثمرت وآتت أكلها سواء في ذلك القاهرة والأقاليم – وقد أشرت إلي ذلك في سياق البعثات الطلابية التي أوفدها الأستاذ المرشد إلي الأقاليم في نهاية العام الدراسي 1936- فلما تم الانتقال إلي الدار الجديدة حيث الموقع والسعة تدفق الشباب إلي الدار ؛ فلما وجدت المادة الخام كان علي الصانع الماهر أن ينتفع بها أتم الانتفاع ، وأن يصهرها في بوتقته ، ويستخلص منها المعدن النقي بعد أن يقشع عنه ما كان يخالطه من شوائب ، وكان عليه أن يصوغ من هذا المعدن ما ينفع الناس .

فلما توفرت المادة الخام بدأ الصائغ الصناع صياغتها بالأساليب التالية :


الأسلوب الأول : نظام الكتائب

نظام الكتائب نظام فريد مبتكر ، ولعل الأستاذ المرشد قد اشتقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يجمع المؤمنين به في ذلك الوقت المبكر – وكانوا قلة – فيبثهم ما عنده ، ويفضي إليهم بذات نفسه ويأخذهم بأسلوب من التربية الروحية العالية حتى خرج من تلك الدار المتواضعة من كانوا أعلام الهدي ومن حملوا شعلة النور الإسلامي فأضاءوا بها جنبات الدنيا .... وهذا النظام بين مختلف أنظمة التكوين بعد نظام التكوين المركز وأسلوب التربية العميقة المباشر لأنه وحده هو النظام الذي يجد فيه الموجه والموجه نفسيهما متجردين متفرغين كل منهما للآخر وجهًا لوجه لا تشغل أيًا منهما عن نفسه ولا عن صاحب شاغله فيكون القلب والعقل معًا في أسمي حالات التهيؤ للتلقي والإلقاء وبالتعبير الحديث للاستقبال والإرسال .

وكان في نية الأستاذ المرشد أنه يتدرج في إنشاء الكتائب حتى يسلك فيها كل إخوان المركز العام علي أن يقوم هو بنفسه فيه بدور التوجيه والتربية ، فبدأ أول خطوة فيه بأن جمع من الرعيل الأول أربعين أخاً كانوا هم الكتيبة الأولي ثم لبث أن جمع أربعين آخرين فكانوا الكتيبة الثانية وكان النظام يقتضي أن تتم كل كتيبة أربعين أسبوعًا .

ويتلخص نظام الكتيبة في الآتي :

1 – تبيت الكتيبة ليلة في الأسبوع في المركز العام ويبيت معهم الأستاذ المرشد .

2 – يصلون مع الأستاذ المرشد المغرب والعشاء .

3 – يتناولون طعام العشاء معًا طعامًا رمزيًا .

4 – يتذاكرون معًا ويتسامرون .

5 – بعد صلاة العشاء بوقت قصير ، وفي لحظة محددة ينامون علي الأرض في حجرة واحدة واسعة ، ويتخذ كل منهم حذاءه وسادة له وينام الأستاذ المرشد معهم علي نفس الهيئة .

6 – يستيقظون قبل الفجر بساعتين ويتوضئون ويتهجدون بعض ركعات فرادي .

7 – نطفأ الأنوار ويجلسون منصتين إلي تلاوة نحو جزء من القرآن الكريم يتلوه قارئ الكتيبة وكان الدكتور محمد أحمد سليمان .

8 – يضاء النور ويستمعون إلي درس من الأستاذ المرشد في التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية مع عرض لتاريخ الدعوات والدعاة ، وبيان مواطن الضعف في كل منها وفي كل منهم ، وما يقابل ذلك في الدعوة الإسلامية وكيف يتجنب الداعية مواطن الضعف التي عصفت بسابقيه .

9 – فترة قبيل الفجر للاستغفار .

10- أذان الفجر ثم صلاة الفجر خلف الأستاذ المرشد .

11- توزيع الورد القرآني علي أعضاء الكتيبة وقيام الأستاذ المرشد بتفسيره تمهيدًا لحفظه ، والورد القرآني هو ورقة يجمع فيها الأستاذ المرشد الآيات القرآنية ذات الهدف الواحد ، فورد للإيمان وورد للوفاء وورد للجهاد وورد للتفكر وهكذا ، وسأحاول عرض بعض أمثلة من هذه الأوردة في نهاية الكتابة عن هذا الأسلوب من أساليب التربية إن شاء الله .

12- فإذا طلعت الشمس قرأ الجميع معا في صوت خافت " الوظيفة " وهي أدعية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية كان يدعو بها النبي صلي الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسي .

13- إفطار بسيط ثم يتجه كل منهم إلي عمله .

ويلحق بنظام الكتيبة أيضًا ما يلي :

(أ‌)شعار هذا النظام هو " كل وأنت شبعان ونم وأنت مستيقظ " ومعني هذا الشعار الطاعة التامة ، و الالتزام الكامل بالنظام المقرر فقد يكون إلزام نفسك بالأكل وأنت شبعان أثقل علي نفسك من إلزامك بالامتناع عن الأكل وأنت جائع وكذلك نومك وأنت مستيقظ أصعب من استيقاظك وأنت نائم .

(ب) ومن شعار هذا النظام الامتناع عن تناول المكيفات من شاي وقهوة فضلا عن الدخان .

(ج) كان يوزع علي كل فرد من أعضاء الكتيبة في أول كل شهر كشف يسمي استمارة المحاسبة ، وهو يضم عشرين سؤالاً يجيب عليها الفرد كل ليلة حين يأوي إلي فراشه " بنعم أو "بلا " كتابة أمام كل سؤال وفي خانة اليوم حيث يضم لكشف ثلاثين خانة لشهر كامل – وفي نهاية الشهر يجمع عدد " لا " وعدد " نعم " فإذا رجحت " نعم " حمد الله وطلب منه التوفيق إلي الزيادة منها وإذا رجحت " لا " أسف وندم واستغفر الله وجدد التوبة وحاول مراقبة نفسه فيها حددته له الاستمارة من مواطن الضعف في نفسه وفي تصرفاته .

(د) كان يوزع علي أفراد الكتيبة رسالة تسمي " المنهج العلمي " وهي تضم أسماء مجموعة مختارة من الكتب في كل فن من فنون العلوم الإسلامية والتاريخية والتربوية ، ويطلب من عضو الكتيبة أن يقرأ ما يستطيع من هذه الكتب لتزوده بذخيرة من المعلومات تنير له الطريق في دعوته ، وتجعله أهلا لقيادة الدعوة في مختلف الأماكن والظروف .

ولا شك في أن نظام الكتائب هذا هو النظام الأمثل للتربية لأنه يجمع كل وسائل التربية الحديثة التي تحدثت عنها الكتب العلمية المتخصصة ، والتي تدرس علي أنها ترف علمي يحلق بدارسه في آفاق الخيال ؛ جمعها هذا النظام وأخرجها إلي حيز الوجود ، وطبقها تطبيقاً دقيقاً رائعًا ، و صقل بها نفوسًا ، وثقف بها عقولاً ، وسما بأرواح أصحابها سموًا ملائكيًا ، مع مزج هذه النفوس معًا بوتقة واحدة هي بوتقة الفكرة الإسلامية مزجًا صاغ منها صفا متراصًا متماسكًا . ومن تمام روعة هذا النظام أنه لم يكن يقتصر تأثيره علي الليلة التي كانت محددة للمبيت ؛ وإنما كان أثره ممتدًا طيلة الأسبوع ، فكشف المحاسبة أو استمارة المحاسبة كان لابد من ملء خاناتها كل ليلة ، والورد القرآني كان يحفظ ويكرر صباح كل يوم والوظيفة كانت تقرأ كل يوم في الصباح وفي المساء .

وإذا علمنا أن ليالي الكتائب لم تكن كلها تقضي بدار المركز العام بل كان الكثير منها يقضي خارجه ، فقد قضينا بعض هذه الليالي في مدرسة خاصة في شبرا – لا أذكر اسمها الآن – وكنا نصل الفجر في مسجد الخازندار القريب من المدرسة . وأذكر بهذه المناسبة أن الناس تعودوا أن يقرأ الإمام في فجر الجمعة آيات من سورة السجدة تبدأ بقوله تعالي : " وقالوا إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد " وكان الأستاذ المرشد قد تعود أن يقرأ بنا الفجر في هذا المسجد وأخذ في قراءة السورة من أولها – وكان يصلي معنا كثيرون من أهل الحي ممن اعتادوا الصلاة في المسجد – تعالت أصولات المأمومين يقولون " وقالوا إذا ضللنا " ظنًا منهم أن الإمام نسي أن اليوم يوم الجمعة فقرأ بسورة أخري . كما قضينا بعض الليالي خارج القاهرة ، وقد قضينا إحدى هذه الليالي في ضاحية بجانب المعادي اسمها " البساتين " وفي صباح تلك الليلة باشرنا أنواعًا من الرياضة منها ركوب الخيل .

وكان من روعة هذا النظام أننا كنا نري قائدنا وإمامنا لا يتميز عنا بشيء في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا منام بل كان هو أكثرنا تضحية حيث كنا في ذلك الوقت عزابًا وكان هو يترك بينه وزوجته وأولاده ، الأمر الذي زادنا حبًا له وإجلالاً . وأثر هذا النظام وروعته لا يكاد يحس بعمقها في النفوس ، ولا بامتزاجها بالقلب إلا من كابده وعاناه . وحسبك أن تتصور إنسانًا خرج من بيته مهاجرًا إلي مكان ما ، وفي هذا المكان تجرد من مظاهر الدنيا فاتخذ الأرض فراشه ، وحذاءه وسادته ثم في وقت السحر قام من نومه وتوضأ وناجي ربه في سجوده ثم استمع في هدأة الظلام إلي جزء من القرآن يتلوه متجرد مثله ثم أصغي بعد ذلك إلي حديث من قائد متجرد يبثه ما في نفسه ، ويهدي إليه خلاصة تجربته ، ويذكره بفضل ربه ، ويتركه بعد ذلك يستغفر ربه ويتوب إلي خالقه حتى يؤذن الفجر . وبعد صلاة الفجر ، في هذا الجو الروحي ، وضمن هذه الجماعة الواعية المتجردة تزاول رياضة بدنية عادية داخل الدور إن كان المبيت في الدور – أو رياضة قوية كالسباق وركوب الخيل والمصارعة إن كان المبيت في صاحية خارج الدور .

ثم لا يزال عضو الكتيبة في كل يوم من أيام الأسبوع يعد نفسه للإجابة علي أسئلة استمارة المحاسبة التي لابد أن يقف بين يديها كل ليلة قبل أن يأوي إلي فراشه ، وهذه الأسئلة لا تدع كلمة تكلمها ولا حركة تحركها ، ولا عملا صدر منه ، ولا خاطرًا هجس في نفسه إلا حاسبته عليه وطلبت منه الإجابة في شأنه ... ولا يزال كذلك طيلة الأسبوع حتى يحين موعد الليلة التالية للمبيت بالكتيبة . إن هذا الأسلوب قد خرج ملائكة تمشي علي الأرض ، وخرج مجاهدين لا يخافون في الله لومة لائم ، وخرج علماء بهذا الدين علي نور وبينة منه ، ودعاة يهتدي بهم الناس ؛ وهم مع ذلك أساتذة كل في فنه ومهنته . وفي خلال إقامتنا بهذه الدار – دار العتبة – كون الأستاذ المرشد الكتيبتين الأولي والثانية ولم تتم أي من الكتيبتين المناهج المعدة لها لأسباب سنذكرها إن شاء الله في فصل قادم .

1 – ورد المعرفة

1 – وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون –

2 – وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون –

3 – وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم . قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض ، وهو يطعِم ولا يُطعم ، قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير –

4 – الله خالق كل شيء وهو علي كل شيء وكيل ، له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون . قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون . ولقد أوحي إليك وإلي الذين من قلبك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين . بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ، وما قدروا الله حق والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالي عما يشركون –

5 – وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم . وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون –

6 – فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين ، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم –

7 – قل إني أسرت أن أعبد مخلصًا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين . لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون –

8 – هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم –

9 – يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلي ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي –

10- قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد –

2 – ورد الوفاء

1 – يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون –

2 – ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال علي حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون –

3 – ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون . ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب –

4 – أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي إنما يتذكر أولوا الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبي الدار . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار –

5 – وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون

6 – وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا –

7 – من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا –

8 – إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه فسيؤتيه أجرا عظيمًا –

9 – لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزًا حكيمًا –

10- يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون . إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص –

3 – ورد التفكر

1 – إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون –

2 – إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار –

3 – إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون . فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . أنظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون –

4 – إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين –

5 – هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون . إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله السموات والأرض لآيات لقوم يتقون –

6 – الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوي علي العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم توقنون . وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين غشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقي بماء واحد ونفضل بعضها علي بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون –

7 – وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتري الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ، وعلامات وبالنجم هم يهتدون –

8 – ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النظافة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين –

9 – ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور -

10- الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما –

4 – ورد المراقبة

1 – وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون . وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهو لا يفرطون ، ثم ردوا إلي الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين

2 – وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهود أإذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين –

3 – سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله –

4 – إن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون . وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين –

5 – يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير . يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر علي ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور –

6 – وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون . وذلكم ظنكم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين –

7 – أم أبرموا أمرًا فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بل ورسلنا لديهم يكتبون –

8 – ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقي المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد –

9 – ألم تر أن الله يعلم ما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم –

10- وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير –

5 – ورد الإخلاص

1 – صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون –

2 – يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطانًا مبينا . إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرًا عظيما . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا –

3 – إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين . وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا أفلا تتذكرون . وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون . الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون -

4 – قل إني هداني ربي إلي صراط مستقيم – دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وزرة وزر أخري ثم إلي ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون –

5 – قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا –

6 – إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار . لو أرادوا الله أن يتخذ ولدًا لاصطفي مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار –

7 – قل إني أسرت أن أعبد مخلصًا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين . لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون –

8 – هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً وما يتذكر إلا منن ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون –

9 – الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين . هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين –

10- وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ذلك دين القيمة –

6 – ورد الإيمان

1 – يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين –

2 – ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي بالإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا . فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثي بعضكم من بعض ، فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيل الله وقاتلوا أو قتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله والله عنده حسن الثواب –

3 – إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلي ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم –

4 – إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا علي قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير –

5 – إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين –

6 – قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون والذين لفروجهم حافظون . إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم علي صلواتهم يحافظون . أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون –

7 – ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلكم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين –

8 – لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا . ولما رأي المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا . من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا –

9 – قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئًا إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون –

10- فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير . يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحًا يكفر عنه ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم


الأسلوب الثاني : نظام الجوالة

عند الحديث عن الدعوة في دار شارعه الناصرية فاتني أن أذكر أنه كان مما اشتملت عليه حجر المركز العام حجرة صغيرة لفرقة الرحلات وكان يرأس فريق الرحلات الطالب محمد أحمد سليمان بكلية الطب والذي أذكره أننا جميعًا كما أعضاء في هذا الفريق ، وكنا نلبس الملابس الخاصة به في المناسبات وكانت هذه الملابس تشبه ملابس ركوب الخيل فهي قميص كاكي وبنطلون كاكي طويل بمنفاخ .. ويخيل إلي أن الأستاذ المرشد رسم في ذهنه صورة لوسائل إبراز حقيقة الدعوة الإسلامية ، فوجد أن هذه الصورة لا تكتمل إلا بوجود مظهر للقوة البدنية ولم يستطع التعبير عن هذا المظهر في ذلك الوقت كما لم تسعفه الوسائل إلا بتخصيص حجرة من حجرات المركز العام وإن كانت أصغرها لهذا النشاط ووضع علي بابها لافتة باسم هذا النشاط وإن ظلت هذه الحجرة مغلقة دائمًا أو ما يقارب الدوام .

كما أنه أراد في دار شارع الناصرية أن يعبر عن معني الجهاد في الفكرة الإسلامية فكلف نجارًا – بإرشاد من أحد العسكريين – بصناعة أنموذج لبندقية ، وكان هذا الأخ العسكري يدربنا في فناء الدار بل استعمال البندقية في مختلف الظروف والأوضاع بهذا النموذج الخشبي . فلما تم الانتقال إلي الدار الجديدة في العتبة ، ووجدت السعة ، ووجد الشباب المتطلع إلي الحركة والنشاط رأي الأستاذ الفرص مواتية لإبراز الصورة التي في ذهنه إبرازًا أوضح فطور فريق الرحلات إلي فريق الجوالة .

والصورة التي رسمها الأستاذ في ذهنه منذ قام بدعوته في الإسماعيلية عن هذا الجانب من نشاط الدعوة لم تكن هي فريق للرحلات أو فريق الجوالة ، وإنما كانت فريقاً عسكريًا يحقق فكرة الجهاد في الإسلام ؛ إلا أن الرجل وقد آتاه الله الحكمة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا " لم يكن يؤمن بالطفرة ، بل كان يؤمن بالتطور وبأنه قانون الحياة ، ولابد للدعوات أن تخضع لقوانين الحياة ، إذا هي أرادت أن تشق طريقها ، ولم يكن الرجل يتجاهل ما حوله ولا يتعامي عما بين يديه ، فتدرج بالصورة التي في خاطره تدرج الأم بمولودها . وكان هذا الرجل – بثاقب فكره ، ومرهف حسه ، وبخاصية أودعه الله إياها – يتحدث إلي الناس عن أمور يراها هو واقعة لا محالة ، وهي في خواطرنا شيء من هواجس النفس وأوهام الخيال ؛ فإنه كان يعد من حياطات الحذر من أخطار يتوقعها ولا نكاد نصدق وهو يحذرنا منها ... ثم لا تقع هذه الأخطار إلا بعد سنوات ... وعندما تواجهنا نري أسباب الحيطة التي اتخذها منذ سنوات – دون مبرر في نظرنا إذ ذاك – هي وحدها التي تحضننا إزاء هذه الأخطار .

كان الأستاذ يتحرق شوقاً إلي إبراز الدور العسكري لتجلية فكرة الجهاد ، ولكنه رأي الدعوة لازالت في مهدها ، ولم تتجاوز في طورها الجديد مرحلة الحبو ، ورأي الحكومات المصرية ومن ورائها الانجليز لابد أنهم متربصون – في يوم ما – بالدعوة الدوائر لأنها عدوهم الأساسي ؛ إذن فلابد من أن تتحاشى الدعوة في هذا الطور كل ما يعتبرونه في عرفهم خروجًا علي القانون . وكنا إذ ذاك في الثلث الأخير من الثلاثينيات وكان تكوين منظمات عسكرية لا يعد خروجاً علي القانون فحسب بل يعد إحدى الكبائر ، ... لهذا لجأ إلي إبراز الطور الجديد في خاطره ، إلي مظهر ألبسه لباس القانون . لم يكن في مصر إذ ذاك صورة فيها رائحة العسكرية مسموح بها إلا جمعية الكشافة الأهلية ، وكان صغار السن من المنتسبين إليها يسمون " كشافة " وكان الكبار يسمون " جوالة " وصار الإخوان المسلمون فرقة جوالة منتسبة إلي جمعية الكشافة الأهلية .

وتبني الإخوان قانون الكشافة وهو يتمشي مع الفضائل الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام ، وأذكر أننا لم نعدل فيه إلا لفظاً واحدًا من إحدى مواده التي تقول : وأن أطيع رؤسائي طاعة عمياء ، عدلناها إلي طاعة تامة لأن الإسلام لا يعترف بالطاعة العمياء – وشرحنا قانون الكشافة بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم وربما كان فريق الإخوان المسلمين هو الفريق الوحيد من المنتسبين إلي جمعية الكشافة الأهلية الذي استعمل هذا القانون استعمالا كاملا وطبقه أحسن تطبيق .

مشكلة الملابس

بانتساب جوالة الإخوان إلي جمعية الكشافة الأهلية صاروا ملزمين بملابسهم المميزة الموحدة وهي تتكون من قميص كاكي وبنطلون كاكي قصير ... ولما كان الإخوان قد تعودوا أداء الصلاة في أوقاتها مهما كانت الظروف فإنهم كانوا يؤدون الصلاة وهم في هذه الهيئة حين يحين وقت الصلاة ... فانطلقت أفواه واسعة تسلقهم بألسنة حداد ، وكانت هذه الأفواه لطائفتين ؛ طائفة دفعتها الغيرة علي الإخوان ومبلغ علمهم أن هذه الهيئة تتنافي مع الصلاة ، والطائفة الأخرى من أولئك الحاقدين الملتمسين للبرءاء تشنيعًا ؛ فما كادوا يرون الإخوان يصلون في هذه الهيئة حتى ذهبوا يملأون الدنيا تشنيعًا ، وكانت الجمعيات الإسلامية التي أشرنا إليها في الفصل السابق من الطائفة الأولي . وظل الإخوان صابرين تحت هذا الوابل من النقد اللاذع أكثر من عام حتى وجد الأستاذ المرشد حل هذا الإشكال في كتاب البخاري تحت عنوان علي ما أذكر " ما تجوز الصلاة فيه " وكان المرشد يقول إن الإمام البخاري في كتابه الصحيح لم يكن مجرد محدث فحسب بل كان فقيهًا مجتهدًا صاحب مذهب والعناوين التي جعلها لأبواب صحيحه هي آراؤه ومذهبه وتحت هذا العنوان حديث معناه : أن رجلا جاء إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله من الملابس التي يؤدي بها الصلاة فقال له : " صل في ثوبين ، صل في ثوب وسروال في ثوب واحد ، صل في كذا ... حتى قال له صل في تبان " هو ما يلبسه المصارعون .

ويكاد يكون هناك ما يشبه التلازم بين الكتائب والجوالة فعضو الكتائب يكون في أغلب الأحيان جوالا لأن الأستاذ المرشد كان هو رئيس النظامين ؛ وإذا استثنينا الكتيبتين الأوليين اللتين تحدثت عنهما فإن أسلوب الجوالة كان في أكثر الأحوال هو الخطوة الأولي للشباب الذين انضموا تحت لواء الدعوة لأنه نظام عسكري المظهر فيه معني الفتوة التي تستهوي الشباب ، وكم من الشباب تم إصلاحه وظهرت مواهبه عن طريق نظام الجوالة وكان من قبل شبابًا لاهيا عابثًا . وقد لا أكون مغاليًا إذا قلت إن نظام الجوالة بما فيه من مبادئ وأهداف رفيعة تحث علي الأخوة والإيثار والشجاعة والمروءة والتضحية لم يكن له وجود قبل إنشاء جوالة الإخوان المسلمين ، فلقد كنت علي اتصال بهذا النظام منذ كنت طالبًا بالدراسة الثانوية وكنت أتتبع أخباره في مختلف البلاد المصرية وكان هذا سببًا في أنني رفضت أن أنضوي تحت لوائه لأنني لم أر فريقاً من المنتسبين إليه كان جادًا في انتحال مبادئه والاهتداء بتوجيهاته : حتى إني أسأت الظن بالنظام نفسه واتهمته بأنه في ذاته نظام غير جاد ... فلما انتسب الإخوان إلي هذا النظام شعرت كأنما كان هذا النظام جسدًا لا روح فيه فكان الإخوان هم روحه ردت إليه فبعثت فيه حرارة الحياة .

ولقد كان نظام الجوالة في الإخوان المسلمين وسيلة لإصلاح الشباب بطريقتين :

الطريقة الأولي أن الشباب الذين انتظموا في سلكه صاغهم كما قلت صياغة جديدة بعثت من أعماق نفوسهم ما كان كامنًا فيها من طاقات خارقة ، ومواهب باهرة ، وصاروا مثلا عليا في الاستقامة والإيثار والتضحية ، والطريقة الثانية بما كانت تبعثه جموعها الحاشدة ، وطوابيرها المنتظمة ، وخطواتها المتسقة ، وطبولها المثيرة ، وهتافاتها المزلزلة ، وعسكريتها غير المحترفة ؛ من روح تشعر هذا الشعب بأن للحق قوة تحميه فتطمئن قلوب تحب الحق ولكنها كانت خائفة ، وتهتز فرقاً قلوب كانت سادرة في الباطل فكانت تجاهر بباطلها اعتمادًا علي أن الطريق أمامها سهل مفتوح ، فلما رأت بعينها قوة الحق انكمشت بباطلها مستخفية مرتجفة . وقد يجمل بي – في صدد حديثنا عن الجوالة – أن أنقل للقارئ من قصيدة لعمي الأستاذ محمود عبد الحليم الكبير رحمه الله وكان شاعر رشيد ونائب شعبة الإخوان بها يصف فيها هذه الفرق العتيدة ، التي أخذت بلبه ، وأشعلت جذوة الأمل في نفسه فقال :

قفا نحيـي الشـباب الناهضين قفـا الرافعين لمصـر ذكرهـا شـرفـا

وكـبروا لرجـال كالـسيوف تـري نظم السيـوف وتجواب الفلا ترفـا

سـاروا بقـلب يروع الأسـد جرأته وصدق عـزم إلي العلـياء منصرفا

تقـلدوا الجـد والإقـدام واطرحـوا ثوب النعيم وعافـوا اللهـو والسخفا

واستبطنوا محض حب الخير واستبقوا واستظهروا حكمة في نصرة الضعـفا

أهـلا بفتيان صـدق شب جمعهـمو علي المروءة والإخــلاص وائتـلفا

فهم ليوث . علي النفس اعتمادهمـو لا يضمرون لمــا ينـتابهم آسفـا

طابوا نفوسـًا كما طابت شمـائلهـم وللفضيلـة أضحـي حبـهم كـلفـا

راضوا نفوسـاً بخفض العيش منبتها واستبدلوا بمجــاني خفضه شظفـا

شعارهم أن خـذوا للدهر أهبتـكـم فيما نكدر من حالاتـه وصـفـــا

فـإن تصونوا قوي الأبدان نامـيـة حفظتمو الروح والأوطـان والخلفـا

إن الحيـاة كبيداء فـإن لبــسـت برد الشبـاب تبدت روضـة أنفــا

وليس أعجز ممن قد أنبـح له المـ ـحيا معافـى ولاقي حتـفه دنفــا

وجوهر الروح أسمي في الحقيقة من أن يرتضي المرء مختـارًا له التلفـا

الله فيهـا فقد شاءت عنـايـتـــه باللؤلؤ الرطب أن سوي له الصـدفا

والشعب إن زاد للعلـيا تعطـشــه ففي قوي النشء منه تعليـل شفــا

يخوض غمـرة هول الدهر مقتحمـا ويمتطي غـارب البيداء معتسقـــا

إن صوب الدهر سهمًا قـام معترضا في وجهـه ناصبًا أبطاله هدفــــا

من كل عضب إذا شاقتـه مكـرمـة مضي سراعًا وإن شام الحنـا صدفـا

يهتـز للـبر إذ يدعي لـمرحـمـة مساعـفًا أو رأي مسـتنجـداً هتـفا

فمـا دعوه " بكشـاف " مجـازفـة حتى رأوه لعـادي الضر قد كشـفـنا

تلك الفضائل .... ما ترعون حرمتها أرضيتم الله والأوطــان والسـلفـا

ستشكون مصـر والتاريخ نهضتكـم ما مجـد الدهر من تاريخـها صحـفا

وأيام كانت الهيئات السياسية تنشئ فرقاً عسكرية من شبابها ، كانت جوالة الإخوان المسلمين موضع سخرية من هذه الهيئات ذات القمصان الملونة فالقمصان الزرقاء للوفد والقمصان الخضراء لمصر الفتاة وكانت مصر الفتاة تتيه علينا بفرقها ذات القمصان الخضراء وترمينا بالضعف لركوننا في فرقنا إلي نظام رسمي ، وكنا نشكو إلي الأستاذ المرشد حملاتهم علينا في هذا الصدد ونتمنى لو أن الأستاذ قبل رجاءنا وخلصنا من نظام الجوالة لمكون فرقاً ذات قمصان بلون نختاره ؛ فكان الأستاذ يطمئن نفوسنا ويقول لا تعبأوا بأقوالهم واصبروا وسترون أن العاقبة لنا ... ودارت الأيام وجاءت حكومة أصدرت قانونًا يحرم علي الهيئات أن تكون لها فرق عسكرية أو شبه عسكرية ذات قمصان ملونة فألغيت هذه الفرق بين يوم وليلة ولم تبق إلا فرق جوالة الإخوان لأنها نظام معترف به في الدولة والفرق مسجلة في جمعية الكشافة الأهلية ؛ ... وقد رأينا أن الرجل كان أبعد نظرًا منا ومن غيرنا .

وكان لنظامي الكتائب والجوالة أنشدة تومئ إلي أهداف الدعوة ومعانيها فكان النشيد الأول الذي كنا ننشده بدار الناصرية وردحًا من دار العتبة هو نشيد " يا رسول الله " من نظام الشيخ الباقوري وهذا نصه :

يا رسول الله هـل يرضـيك أنـا إخـوة في الله للإســلام قمنــا

ننفض اليوم غبـار النوم عنـــا لا نهـاب المـوت لا بل نتـمنى

أن يرانا الله في سـاح الفــداء

إن نفسًا ترتضي الإســلام ديـنا ثم ترضي بـعــده أن تستكـينا

أو تري الإسـلام في أرض مهـينا ثم تهـوي العيش نفس لن تكونا

في عـداد المسـلمين العظمـاء

حبـذا الموت يريـح البائـسيـن ويـرد المــجـد للمستعبديـن

فلنمت نحن فــداء المسـلميـن سـادة الدنـيا برغـم الكاشحين

وليسد في الأرض قانون السـماء

أن للدنـيا بـنا أن تطهـــرا نحن أسـد الله لا أسـد الســري

قد قطعـنا العهـد ألا نـقـبرا أو نـري القـرآن دستور الورى

كل شـيء ما سوي الدين هـباء

أيقظـت جمعـية الإخوان فيـنا روح آبـاء كـرام فاتحـينــا

أسعـدوا العالم بالإسـلام حينـا فاستـجبنـا للمعالي ثائـرينا

وتسـابقنـا إلي حمــل اللواء

غــيرنا يرتاح للعيش الـذليل وسوانا يرهـب المـوت النـبيـل

إن حييــنا فعلي مجـد أثـيل أو فنيـنا فإلي ظــل ظـليــل

حسبنـا أنا سنقـضي شهـداء

وحين كنا ننشد هذا النشيد في دار الناصرية اقترحت علي الإخوان تغيير الشطرة التي تقول " أيقظت جمعية الإخوان فينا " إلي " قد أثارت دعوة الإخوان فينا " باعتبارنا أصحاب دعوة لا أعضاء جمعية . ولما انتقلنا إلي دار العتبة نشر عبد الحكيم عابدين ديوانه " البواكير " وكان يضم مجموعة من الأناشيد اختار منها الإخوان نشيدًا سموه نشيد الكتائب وهذا نصه :

هو الحـق يحشــد أجنــاده ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل

فصفـوا الكتـائب أســـاده ودكـوا به دولـــة البـاطـــل

نبي الهـدي قد جفونـا الكـرى وعفنـا الشهـي مـن المطعـــم

نهضنا إلي الله نحـلـوا السري بروعــة قرآنـــه المحــكــم

ونشهـد من دب فـوق الثـري وتحت السمـا عـــــزة المسـلم

دعــاة إلي الحق لسنـا نـري لـه فــدية دون بــذل الـــدم

هو الحـق يحشــد أجنــاده ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل

فصفـوا الكتـائب أســـاده ودكـوا به دولـــة البـاطـــل

تآخـت علي الله أرواحـنــا إخـاء يروع بنــــاء الـزمــن

وباتت فــدي الحـق آجـالنا بتـوجيه " مـرشـدنا " المؤتمن

رقاق إذا ما الــدجى زارنـا غمـرنا محــاربينا بالحــــزن

وجنــد شداد إذا رامنــــا لبـأس رأي أســدًا لا تــهـــن

هو الحـق يحشــد أجنــاده ويعتـقـد للمـوقف الفـاصـــل

فصفـوا الكتـائب أســـاده ودكـوا به دولــة البـاطـــل

أخا الكفـر إما تبعـت الهـداه فأصبحـت فينـا الأخ المفتــدي

وإما جهلت فنحـن الكمـــاه نقاضـي إلي الـروع مـن هـددا

إذن لأذقنـاك ضعف الحـيـاء وضعـف الممـات ولـن تنـجــدا

فإنـا نصـول بروح الإلــه و نقفـو ركـاب بنـي الهـــدي

إلي النصر في الموقف الفاصل إلي النصـر في المـوقف الفاصل


المعسكرات

ويلحق بنظام الجوالة إقامة المعسكرات ، وكان الإخوان بين الفنية والفنية يقيمون معسكرات في ضواحي القاهرة ، وكانت معسكراتهم تدريبًا علي الصبر والاحتمال ، وتعويدًا للنفس علي تحمل أشق الظروف . وكانوا يقيمون هذه المعسكرات باعتبارهم من فرق الجوالة المسجلة في جمعية الكشافة الأهلية ، وكان من حقهم بهذا الاعتبار أن يستغلوا الأماكن التي أعدتها هذه الجمعية لإقامة المعسكرات الكشفية ، فكثيرًَا ما أقام الإخوان معسكرات كانت في بعض الأحيان تستمر طول الصيف في معسكر الكشافة بحلوان ، وكان لكل معسكر برنامج يستوعبه أفراد كل دفعة يتضمن أنواعًا من الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية والتربية الروحية ومنها حفظ قدر معين من القرآن الكريم مع تفسيره ، ويعتقد في نهاية المدة امتحان الدفعة قبل تسريحها .

وفي صيف سنة 1938 قرر الإخوان إقامة معسكر عام كبير في الدخيلة في الإسكندرية ، وقرر الأستاذ المرشد أن يكون علي رأس القائمين بأمر هذا المعسكر ، وضربت في أرضه الرملية خيام ضخمة ، وتوافد الإخوان علي هذا المعسكر من مختلف البلاد ؛ فكان بمثابة مركز عام في تلك الفترة ، وكان هذا المعسكر فرصة عظيمة أتاحت لكثير من الإخوان من بلاد مختلفة أن يتعارفوا . كما كانت فرصة لشباب الإخوان أن يجلسوا ويقضوا أيامًا وليالي مع كبار الإخوان ، ويتناقشوا معهم ، ويمتزجوا بهم . وقد كنت عازفاً عن المشاركة في هذا المعسكر ؛ وربما كان سبب ذلك هو أنني حين زرته لأول مرة ؛ أحسست أن فيه ما يشبه الترف إذا ما قيس بما عهدناه من قبل في معسكراتنا ... ولكنني فهمت أخيرًا أن الأستاذ المرشد – الذي كان مقيما في المعسكر – كأنما قصد إلي هذا ليشرك فيه طبقة من الإخوان لم يتعودوا علي معيشة الشطف التي ألفناها ... وقد تحقق ذلك فقد رأيت كثيرين من هذه الطبقة وهو يحاول أن يمزجهم بغيرهم من سائر الإخوان بأسلوبه العذب المحبب ، وقد استطاع فعلا أن يجعل من هذا المعسكر أداة لمزجهم .. ولعل القارئ يذكر أننا نوهنا عن هذا المعسكر في الفصل السابق حين تكلمنا عن لقاء الأستاذ المرشد مع الملك فاروق .


الأسلوب الثالث : لجنة الأربعة والعشرين

في أوائل صيف عام 1938 بعد أدائنا الامتحانات وقبيل ظهور النتيجة .. وكان ثلاثي كلية الآداب محمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وعبد الحكيم عابدين – وهم يسبقونني في الدراسة بعام – الدفعة الأولي وباكورة الذين يتخرجون في الكليات من طلبة الإخوان ... دعا الأستاذ المرشد إلي اجتماع في بيته في شارع محمد علي ؛ وكانت دعوة شخصية موجهة إلي أشخاص معينين تنبئ عن أهمية خاصة لهذا الاجتماع . والتقينا في بيت الأستاذ فكان اجتماعًا يضم عددًا قليلاً من ذوى السابقة في الدعوة ، وكانت مجموعتنا من الطلبة الذين كانوا يحملون عبء الدعوة ضمن المدعوين .

ثم تكلم الأستاذ فقال ما ملخصه : إن الدعوة قد اتسع نطاقها ، وثقلت تبعاتها ، ولم يعد يكفي أن يحمل عبئها رجل واحد ، وقال إنه فكر في مجموعة تشاركه حمل هذا العبء وانتهي تفكيره إلي عقد هذا الاجتماع الذي يضم من يتوسم فيهم القدرة علي هذه المشاركة . وقال : إن المشاركة في حمل هذا العبء من صاحبها أن يجعل حياته ومستقبله وآماله طوع مشيئته هذه الدعوة ، بحيث يقدم مصلحتها علي مصلحة نفسه ، ويحصر آماله فيها ، ويشكل حياته ومستقبله بحيث تكون هي الأصل ، وكل ما سواها يضحي به عن رضا نفس ... وضرب مثلا بنفسه فقال : إنني كنت أستطيع بما أكرمني الله به من خصائص ، وما حباني به من مواهب أن أسلك طريقاً في الحياة يسرع بي إلي أعلي المناصب ، ويوفر لي ولأسرتي حياة الاستمتاع والرفاهية ؛ ولكنني وجدت هذه الدعوة تقتضيني أن أهبها كل وقتي وكل جهدي ، فلم أتردد في تنكب طريق المناصب والرفاهية ، وعرضت عن ذلك كل الإعراض ، وسلكت الطريق الذي يوفر لدعوتي ما تريد ، وأنا أعلم أن مثل هذا الطريق ليس فيه لي ولأسرتي إلا حياة الخشونة والكفاف .

وتكلم الأستاذ المرشد في ذلك وأفاض ، ونقلنا إلي جو من الجد لم ينقلنا إلي مثله من قبل ، وواجهنا في صراحة بأمور خطيرة لم تعهدها منه من قبل ؛ فلقد كان من عادته – مهما ادلهمت الأمور – أن يكون من الرفق بنا بحيث لا يمسسنا من مخاطرها إلا أقل القليل في الوقت الذي يواجه المخاطرة هو وحده . ولا أدري لعله حتى ذلك الوقت لم يكن يري فينا من النضج ما تكون معه أهلا لمواجهة المخاطر ، وتحمل التبعات . وانتهي في حديثه إلي أنه يريد تكوين لجنة من أربعة وعشرين عضوًا يرشحون أنفسهم من بين الحاضرين يشاركونه حمل أعباء الدعوة علي الأسس التي شرحها ... وقال إنه لا يلزم أحدًا من الحاضرين بما لا يستطيعه بل كل فرد مخير في سلوك الطريق الذي يري أنه الأمثل له في الحياة ، لأن هذا يوم له ما بعده ، وسيقرر كل فرد مصير بنفسه دون إكراه ودون مجاملة ... ومهما اختلفت بنا طرق الحياة فستكون مع ذلك أصدقاء وأحباء .

ومرت فترة ؛ أخذ كل من الحاضرين يراود نفسه ، ويستعرض من آماله ، ويعجم عود نفسه ، ويتخيل ما هو مقبل عليه من تضحيات لن تمسه وحده بل إنها ستشكل حياة أسرته ، ثم أخذ كل واحد يدل ما استقرت عليه نفسه ، ويعلن ما انتهي إليه من قرار . ولست في هذا المجال بصدد سرد تفاصيل ما قيل في هذا الاجتماع ، ولا بصدد ذكر من الذي توقف ومن الذي واصل السير ، ولا بصدد تحليل الشخصيات التي ضمها الاجتماع ، فكل هذا لا يعنيني ولا يعني القارئ بقدر ما يعنيني أن أعرض لشرح خاصية من خاصيات هذا الاجتماع الرجل المرشد ، آتاه الله وإياها ولم يؤتها إلا لقلة الذين يبنون الأمم ، ويوجهون التاريخ . كان الأستاذ المرشد إذا دعا لاجتماع ، حدد له هدفاً وأعلنها إلا أنه يكون قد احتفظ لنفسه بأهداف أخري لهذا الاجتماع ... ولا يكاد ينتهي اجتماع إلا بإصابة جميع الأهداف ؛ المعلن منها وغير المعلن دون أن يشعر أحد من الحاضرين بأن غير الهدف المعلن كان مقصودًا .

ففي هذا الاجتماع الخطير الهدف ، لاحظت وجود مستويات متفاوتة ؛ منها ما يسامت الهدف ويساميه ومنها ما هو دونه بقليل ومنها ما هو بعيد عنه ، وعجبت حين أظهرنا الأستاذ علي هدف هذا الاجتماع لم دعا إليه كل هذه المستويات ؟ أما كان الأنسب أن تقتصر الدعوة إليه علي المستوي المسامت للهدف ؛ ولاسيما وهو أدري الناس بجهد كل أخ وطاقته وآماله ؟ . وانتهي الاجتماع مسفرًا الاجتماع عن نتائج نجملها فيما يلي :

1 – مجموعة أعطت الكلمة ، وعاهدت علي المواصلة ، وسارعت إلي البيعة .

2 - مجموعة أعطت الكلمة ، وعاهدت علي المواصلة ، مؤجلة البيعة .

3 – مجموعة اعتصمت بالصمت مبيتة نية الفرار .

لقد قصد الأستاذ من جمع هذه المستويات المتباينة إلي أن يستمعوا إلي حديثه هذا المثير الملتهب وهو يعلم أن أفرادًا من الحاضرين – هو يعرفهم – لا يعتبرون الحديث إلا ترديدًا لما تملئ به نفوسهم وقلوبهم فهم به مستبشرون . ويعلم أن أفرادا آخرين من الحاضرين هم معادن نفيسة لكن الكشف عن نفاستها في حاجة إلي طرق شديد ، فجاء بهم إلي هذا الاجتماع لتكون حرارة حديثه ما بيديه الفريق الأول من شجاعة وفتوة وفدائية بمثابة طرق عنيف لنفوسهم في حال التهابها .. ويعلم أن أفرادًا غير أولئك وهؤلاء ارتبطوا بالدعوة ، حين كانت بعيدة عن التيارات ، في سلام وأمن وأمان ، ربط بعضهم رباط من صداقة أو قرابة أو نسب أو غيرها ، وتعودوا أن يكونوا المتصدرين فيها ، ومع تطور الدعوة وتغير ظروفها لازالوا متشبثين بهذه الصدارة ولم يعودوا أهلا لها ؛ إقصاؤهم بطريقة مباشرة ؛ فجاء بهم إلي هذا الاجتماع ليستمعوا إلي الحديث نفسه وإلي مبادرات الآخرين إزاءه فيقتنعوا بأنهم سيطالبون بما لا يستطيعون فيقصون أنفسهم بأنفسهم وتتخلص الدعوة من أعباء هي في غني عن حملها .

ويخيل إلي أن هذا الاجتماع لم يكن هدفه إلا ما ذكرت ؛ فإن لجنة الأربعة والعشرين لم تدع لاجتماع بعد هذا ... وكل الذي حدث بعد الاجتماع التاريخي أن رأينا إخوانًا كانوا (راكنين) إلي الدعة قد دب في نفوسهم النشاط ، وبدأوا ينخرطون في سلك العاملين المجدين ، ورأينا مجموعة من ذوي القرابات والنسب والصداقات الشخصية لم يكونوا إلا أثقالا علي الدعوة توهن كاهلها وقد انقطعوا عن الدار ؛ فتحررت الدعوة أو انطلقت بعد أن كثرت شكوى الإخوان منهم حيث كان وجودهم عاتقاً ومشكلة .

أما مجموعتنا فكانت شغل الأستاذ الشاغل ، وهدفه الأصيل حيث كانت محط آماله ومنتهي رجائه وكان حريصًا علي أن يحدد كل فرد منها موقفه ، ويعلن عن مدي تحمله ، كأنما كانت هي بيت القصيد في هذا الاجتماع لاسيما وقد تمخضت عن أول بواكيرها فقد تخرج في ذلك العام ثلاثي كلية الآداب ... والطالب طالما كان طالبًا فهو الشخصية المطلقة المتحررة من كل قيد المعفاة من كل مسئولية ، فإذا ما تخرج مسئوليات الحياة لأول مرة فهو شخصية أخري ؛ ولذا فإن الأستاذ في حديثه كان في أكثره موليا وجهه نحونا ، متجها ببصره إلينا كأنما كان يخصنا بهذا الحديث ، وبعد أن أفرغ من حديثه اتجه إلينا بكليته وأخذ يسأل كلا منا علي حدته ما الذي استقر رأيه عليه ، ثم توقف طويلا عند ثلاثي كلية الآداب وبالتحديد عند عبد الحكيم عابدين وعبد المحسن الحسيني ، فإن الأستاذ المرشد كان يعلم من صفاء نفس محمد عبد الحميد أحمد ما يجعله أهلا لوصف رسول الله صلي الله عليه وسلم " إنه لو لم يطع الله لم يعصه " ولكنه كان يعلم أن الاثنين الآخرين تكتنفهما ظروف معقدة ؛ ولذا فقد أولادهما التفاتًا خاصًا ، ووجه إليهما أسئلة محددة ، وطلب عنها إجابات صريحة .

ولقد كان الزميلان صريحين واضحين كل الوضوح ؛ أما أولهما وهو عبد الحكيم عابدين فقد وضع نفسه رهن إشارة الدعوة ، وقال إنه يعلم أن الطريق أمامه مفتوح في كليته ولكنه قرر إيثار الدعوة بكل وقته وأنه سيكتفي بوظيفة إدارية لا تقتطع من وقته إلا القليل ، وأنه يبايع علي ذلك مع استعداده لترك وظيفته إذا اقتضت ظروف الدعوة ذلك مع شدة حاجته إلي مورد هذه الوظيفة . وأما الآخر فقد كان شجاعًا حسبما علمته الدعوة ، وقال : إنني في حاجة إلي سلوك طريق الدراسة ، وإنني أعتقد أن إكمالي الدراسة مع تخصص فيما يتصل بالقرآن من العلوم العربية لن يبعدني عن ميدان الدعوة ، وأفاض في الإبانة عن وجهة نظره ، محاولا إقناع الاجتماع برأيه .

ولابد من الإشارة هنا إلي أن الأستاذ المرشد قد بدأ يشعر وقد حققت الدعوة بروزًا في المجتمع المصري وأن فكرتها قد تبلورت أحس معه أعداؤها بأنها أضحت ذات شوكة لا ينبغي الغض من قيمتها ولا التغاضي عن خطورتها فأخذوا يعدون العدة للهجوم عليها من كل جانب – شعر الأستاذ بذلك فسارع إلي النداء فيمن يأنس القدوة علي الوقوف معه في الصف الأول أمام العدو في المعركة الوشيكة الوقوع . لقد كان في موقفه هذا كموقف قائد الجيش الذي رأي جيش الأعداء مقبلا علي مرمي النظر فانتدب للقائهم كبار ضباطه ؛ فإذا ببعضهم يعتذر بحجة أنه يريد الاستزادة من دراسة العلوم العسكرية في كلية أركان الحرب . ومعذرة إلي القارئ إذا أنا أنهيت الحديث عن هذا الموضوع دون أن أتعرض بالذكر لأسماء الذين دعوا إلي هذا الاجتماع ولأسماء الذين استجابوا ولأسماء الذين تخلفوا مكتفيًا بأمثلة ، وحسب القارئ أن رأي بعينيه كيف تطورت الأمور بالدعوة وكيف تناوحتها الأحداث الجسام بعد ذلك وعمن تمخضت هذه الأحداث الجسام .

الفصل الثالث : مهاجمة الانجليز واليهود والانطلاق بقضية فلسطين :

ظلت قضية فلسطين – مع كل ما بذله الإخوان في سبيل تنبيه الأذهان إليها – شبه مجهولة إلا في حدود المساجد التي غشيها الإخوان بكلماتهم في أيام الجمع ؛ وهي مهما كثرت عددًا فإنها لا تصل إلي عشر مساجد للقاهرة ... وبانتقال الدعوة إلي الدار الجديدة في العتبة قرر الأستاذ المرشد أن ينطلق الإخوان بهذه القضية انطلاقة واسعة تنتهي إلي الهدف الأساسي وهو أن نشعر الناس جميعا بها ، وأن نجعلها قضية عالمية تفض مضاجع الانجليز واليهود .

وقد اتخذ الإخوان لتحقيق ذلك الوسائل الآتية :

أولا : استمر نظام الخطابة في المساجد وجمع التبرعات .

ثانيًا : سلط الأستاذ علي الحكومة وعلي الانجليز قلم صالح عشماوي في مجلة النذير ، وقد نجح صالح في كتابة مجموعة من المقالات النارية في كثير من الأحيان إلي مصادرة المجلة ، وقد كنا نهرب أعدادًا منها ... ولما كان الأسلوب الهجومي العنيف محببًا إلي نفوس الشباب ، فقد انتشرت المجلة انتشارًا واسعًا في الجامعة وفي المصالح الحكومية وفي الأقاليم بل وقد طار صيتها إلي الأقطار الشقيقة مثل سوريا والأردن ولبنان والعراق .

ثالثًا : بدأنا في طبع منشورات نهاجم فيها الأقاليم ونشرح مظالمهم في فلسطين وتبين فيها خطر اليهود ، وكنا نوزعها في الكليات والمصالح الحكومية والمحلات التجارية والمقاهي وفي الأقاليم .

رابعًا : دعونا إلي مقاطعة المحلات اليهودية في القاهرة ، وطبعنا كشفاً بأسماء هذه المحلات وعناوينها ، والأسماء الحقيقية لأصحابها وذيلنا هذه الكشوف بهذه العبارة : " إن القرش الذي تدفعه لمحل من هذه المحلات إنما تضعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحًا يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين " .

وقد وزعنا هذه الكشوف علي أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم ، فكان لها دوي هائل لأنها أول دعاية مست العصب الحساس لليهود ، وقد بلغ من تأثير هذا الأسلوب في الدعاية أن علقت عليه الصحف الانجليزية تستعدي الحكومة المصرية علي مصدري هذه المنشورات . وإتمامًا لفضح الخطة الصهيونية أصدرنا رسالة أو كتيبًا صغيرًا يضم أسماء الصحف اليهودية التي يصدرونها في أنحاء العالم والبلد الذي تصدر فيه كل صحيفة والأسماء التي يتستر خلفها أصحابها الحقيقيون من اليهود ووزعنا هذا الكتيب علي أوسع نطاق .

ومع أن الحكومة المصرية مدفوعة من الانجليز قد جردت حملات قوية لمصادرة هذه المنشورات بالذات إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلي شيء منها وكانت تفاجأ برؤيتها في أيدي الناس في الشوارع والمحلات وفي المدارس والمعاهد والجامعة وكان كبار موظفي الدولة والوزراء يذهبون في الصباح إلي مكاتبهم فيجدون هذه المنشورات عليها ... ذلك أننا كنا حريصين علي أن تدخل هذه المنشورات دار المركز العام وإنما كنا نطبعها في أماكن بعيدة عن الأعين ونودعها في مثل هذه الأماكن .

خامسًا: كتاب "النار والدمار في فلسطين"

أحب أن أنبه القارئ بهذه المناسبة إلي أن النقود التي كنا نجمعها لفلسطين من المساجد والمقاهي والبارات لم يكن القصد من جمعها إعانة إخواننا المجاهدين الفلسطينيين بما فهم كانوا من هذه الناحية في غير حاجة إليها لأن أغنياء أهل فلسطين من التجار كانوا من وراء هؤلاء المجاهدين ، وقد حضر السيد أمين الحسيني في بعض زياراته للمركز العام للإخوان ومعه بعض هؤلاء التجار وعرفنا بهم ... وإنما كان جمعنا لهذه التبرعات – كما قدمت في فصل سابق – أسلوبًا من أساليب التأثير في نفوس الناس بهذه القضية وربطاً لقلوب الناس وعقولهم بها واختبارًا لمدي تجاوبهم معها . وأضيف الآن إلي ذلك أن هذه المبالغ لم تكن ترسل إلي المجاهدين بل كانت تصرف في شئون الدعاية لهذه القضية بأمر اللجنة العربية العليا ثم إن اللجنة كانت ترسل إلينا من أموالها الخاصة مبالغ طائلة لنضيفها إلي ما عندنا للإنفاق علي هذه المهمة الخطيرة التي كانت اللجنة تعتبرها أهم وألزم للقضية من الجهاد المسلح الذي يقوم بأعبائه المجاهدون في فلسطين نفسها ... وإلا لما كان للإخوان وهم لازالوا في مهدهم أن ينهضوا بمهام الدعاية المجلجلة التي أقضت مضجع الإمبراطورية البريطانية والتي تحتاج إلي إنفاق واسع النطاق .

استطاعت اللجنة العربية العليا لفلسطين أن تطبع كتابًا سمته " النار والدمار في فلسطين " وأمدتنا بعشرات الألوف منه . ويقع هذا الكتيب في نحو ثمانين صفحة تشرح ألوان القطائع والتعذيب التي ارتكبها الانجليز ضد مجاهدي فلسطين .. وكل نوع من هذه القطائع معزز بصور فوتوغرافية وبأسماء المجاهدين الذين ارتكب معهم هذا التعذيب ، فكان في الكتاب أكثر من خمسين صورة كل واحدة منها توضح نوعًا من أنواع التعذيب أو جريمة من فظائع الانجليز ، فصورة توضح هجومهم علي أحد بيوت المجاهدين وتبرز صور الانجليز وهم يمزقون المصحف الشريف ويدوسونه بأحذيتهم ، وصورة توضح الجنود الانجليز وهم يعلقون مجاهدًا من رجليه ورأسه إلي أسفل ويضربونه بالسياط وهو في هذا الوضع ، كما جاءوا بصور لمجاهدين ربطهم الجنود الانجليز من أعضاء حساسة يخجل المر من ذكرها ... ولقد كانت اللجنة من المهارة ومن حسن الإعداد بحيث استطاعت تسجيل هذه الفضائح علي الانجليز بالكاميرا ! دون أن يشعروا .. وقد جمعوا هذه الصور المثيرة التي تحرك الجبان في هذا الكتاب وأرسلوه إلينا .

ولقد قمنا بتوزيعه في أسرع وقت فلم تمض ثلاثة أيام حتى عم الكتاب القاهرة وأنحاء الأقاليم ، وقامت قيامة الصحف البريطانية والبرلمان البريطاني لمواجهة هذه الكارثة المدمرة . وداهمت المركز العام قوة من رجال البوليس وفتشت الدار وكان باقيًا من الكتاب سبعمائة وخمسون نسخة فتحفظت عليها ، وسأل رئيس القوة عن صاحب هذه الكتب فتقدم إليه الأستاذ المرشد وقال له : أنا صاحبها فنقلت القوة النسخ إلي سيارة كانت تنتظرها وطلي الضابط من الأستاذ المرشد أن يصحبه إلي النيابة وبدأ وكيل النيابة في التحقيق مع الأستاذ علي الوجه الآتي :

س : هل أنت صاحب هذه الكتب ؟

ج : نعم أنا صاحبها .

س : ألا تعلم أن هذه الكتب تهاجم السلطات وتثير الشعب ضد دولة صديقة وحليفة بحكم المعاهدة ؟

ج : أعلم ذلك وقد قصدت مهاجمة هذه السلطات ومهاجمة هذه الدولة الحليفة .

س : ألا تعلم أن القانون يعاقب علي هذه الجريمة ؟

ج : أعلم وأنا لا أمانع في إحالتي إلي القضاء لأني معترف بهذه الجريمة ومصر عليها .

وانهي وكيل النيابة التحقيق ووقعه الأستاذ المرشد وقرر وكيل النيابة حبس الأستاذ المرشد علي ذمة هذه القضية حتى تحدد جلسة لنظرها . ورفع للتحقيق إلي النائب العام كما قدمت صورة منه إلي وزارة الداخلية – وأحب أن أنبه هنا إلي حقيقة مؤلمة كانت تعاني منها البلاد في تلك الأيام هي أن وزارة الداخلية كانت فرعًا من السفارة البريطانية فقد كان وكيل هذه الوزارة بالذات ترشحه في حقيقة الأمر هذه السفارة من المصريين الموالين لها فهو مصري الجنسية بريطاني النزعة ، وكان لهذا الوكيل – فيما يمس مصالح للانجليز – سلطة الوزير وفوق سلطة رئيس الوزراء . وقامت وزارة الداخلية بتقديم صورة التحقيق إلي السفير البريطاني في انتظار كلمة ثناء منه علي هذه الخدمة العظيمة .. وقرأ السفير التحقيق حتى وصل إلي نهايته فقطب جبينه وقال لصنيعهم : إنك بهذا التحقيق قدمت لحسن البنا أعظم خدمة وأنت لا تدري .. لقد استطاع هذا الرجل أن يضحك عليكم ... لقد وزع الكتاب وأصبح في أيدي الناس في كل مكان .. وما صادرتموه منه لا يعد شيئا يذكر بجانب ما تم توزيعه ، إن أمنية هذا الرجل هي أن يقدم إلي القضاء ليتخذ من منصة الدفاع عن نفسه في هذه القضية السياسية وسيلة إلي نشر أفكاره ، وإلي التشهير بنا وفضيحتنا وتوصيل ما تضمنه الكتاب إلي أسماع من لم يصل إليه عن طريق الصحف التي ستتباري في نشر ما يقال في القضية كدأب الصحف في القضايا السياسية ... هذا التحقيق يجب أن يحفظ وأن يفرج عن الأستاذ البنا في الحال "

وأفرج عن الأستاذ المرشد فعلا قبل أن يتم في الحبس أربعا وعشرين ساعة ، وقد فوجئ الأستاذ بهذا الإفراج لأنه كان يعتقد أن حكام مصر من الغباء بحيث لا يفهمون هدفه .. وقد زالت الحيرة من هذه المفاجأة حين جاءت عيوننا التي كانت ترصد التحركات وأخبرونا بما كان من أمر الداخلية مع السفير البريطاني ..


دوسيه لحسن البنا بالسفارة البريطانية

وقد أخبرنا عيوننا هؤلاء أنه منذ ذلك اليوم بدأ الانجليز يهتمون بحسن البنا وأعدوا له دوسيها جمعوا فيه تاريخ حياته ، وأخذوا يعدون العدة للقضاء عليه وعلي دعوته . لقد كان هذا الكتاب صاعقة علي الانجليز حقاً ، فقد اقترف الانجليز في فلسطين فظائع يندي لها جبين الإنسانية خجلا ، وظنوا أنهم بمكرهم وبملكهم للدنيا قد أحاطوا بكل شيء قدرة وعلمًا فارتكبوا ما ارتكبوا مطمئنين إلي أن جرائمهم هي في طي الكتمان وأن فلسطين نفسها أصبحت في عزلة عن العالم كله ، وكان الله تعالي أشد منهم مكرًا فأمد هؤلاء المجاهدين بالقدرة التي تمكنوا بها من تسجيل مخازيهم لا بالقلم وحده بل هو أدق وأعمق تأثيرًا في النفوس وهي الصور الشمسية الواضحة الناطقة المعبرة . " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " .

ومهما تكن عند امرئ مـن خليـقـة  ::: وإن خالها تخفي علي الناس تعـلم


سادساً: "مظاهرات لأول مرة في جميع أنحاء القطر"

قبل حلول اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر في تلك السنة وهو يوم ذكري وعد بلفور المشئوم وضع الإخوان خطة بحيث يقوم الإخوان في جميع شعب القطر كله في ذلك اليوم بمظاهرات صاخبة ، يهتفون فيها بهتافات محددة . وقد نجحت هذه الفكرة وقامت المظاهرات . وكان قيامها في يوم واحد في جميع أنحاء البلاد دليلا علي قوة الدعوة ، وهزًا لكافة الحكومة ، التي أمرت بإلقاء القبض علي مديري هذه المظاهرات .. كما أن نجاح هذه المظاهرات جعل الانجليز يشعرون أنهم أصبحوا لأول مرة يواجهون عدوًا حقيقيًا متغلغلا في أحشاء الشعب وليس من السهل قهره لأنه يعتصم في جميع تصرفاته بالدين .

ولقد كانت هذه المظاهرات أول تنبيه لأذهان الشعب المصري في القرى والمدن نحو قضية فلسطين بعد أن كان التنبيه مقتصرًا تقريبًا علي القاهرة ولكن التنبيه في هذه المرة جاء تنبيهًا قويًا مثيرا أغني عن كثير من وسائل التنبيه السابقة التي اختصت بها العاصمة . وكما أن هذه المظاهرات كانت كسبًا رائعًا لقضية فلسطين ، فإنها عادت علي دعوة الإخوان المسلمين بفوائد كبيرة وأظهرت في هذا الشعب المغلوب علي أمره مواهب مذهلة ، وتوضيحا لذلك سأضرب للقارئ مثلا بما تم في هذا الصدد بإحدى شعب الإخوان :

قام الإخوان بشعبة رشيد بمظاهرة كغيرها من الشعب ، وفي اليوم التالي وصلني خطاب بالقاهرة يطلب حضوري إلي رشيد لأمر هام فسافرت فوجدت أن المظاهرة سببت نزاعًا بين فريقين ، أحدهما يمثله الإخوان الصغار السن من الطلبة والعمال الذين قاموا بالمظاهرة واعتقل بعضهم ، والفريق الآخر يمثله الإخوان الكبار سنا ومكانة وأدبية والذين جاء بهم الإخوان الصغار سنا وأسند إليهم المناصب الرئيسية في الشعبة ليكونوا واجهة لهم أمام الأهالي ، والذين كان بعضهم قد قبل الانضمام إلي الشعبة – مجاملة لي شخصيًا حيث كانت تربطني بهم صلات . تقدم إلي هؤلاء الإخوان الكبار وقالوا : أيرضيك أن يقوم الإخوان في الشعبة بمظاهرة يهتفون فيها هتافات ضد الحكومة وضد الانجليز ويوقفوننا في موقف حرج مع رجال البوليس الذين طلبوا إلينا أن نأمر الإخوان بفض المظاهرة ، فلما حاولنا ذلك رفضوا واستمروا في المظاهرة حتى قبض علي عشرة منهم وهم الآن في سجن المركز ؟ .

قلت لهم : أتعرفون لماذا قاموا بالمظاهرة ؟ قال : لأن المركز العام أرسل منشورا بذلك .

قلت : ماداموا قد فعلوا تنفيذًا لأمر المركز العام فإنه يستحقون الشكر .

قالوا : إذن أنت موافق علي عملهم . قلت : نعم .

قالوا : إذن فلتسمح لنا بالاستقالة من الشعبة لأننا لا نستطيع تحمل هذه التبعات .

ومما ينبغي ملاحظته أن هذه كانت أول مظاهرة تقوم في رشيد أو في الأقاليم مصر بوجه عام منذ مظاهرات سنة 1919 والذي حدث في شعبة رشيد من ابتعاد أشخاص لمسوا في الدعوة خشونة كانت فوق طاقتهم قد حدث في الشعب الأخرى ، وكانت هذه أول هزة للكيان الإخواني أو بمعني آخر كانت أول تصفيه تمخضت عن تخلص هذه الشعب من أشخاص ضعاف – أدو دورهم – ولم يعد وجودهم بها إلا ثقلا علي كاهلها .


من مواهب هذا الشعب

من طرائف ما حدث للإخوان العشرة الصغار سنا – الذين كانوا بين طالب وعامل وصانع وصياد – والذي ألقي القبض عليهم في رشيد وأودعوا سجن المركز ، وقد تخلي عنهم – كما قدمت إخوانهم الكبار ذوو الحيثية في المدينة والمقربون إلي رجال الإدارة بالمركز ، أنهم أودعوا في زنازين ، كل في زنزانه علي انفراد ولم يكن فيهم في ذلك الوقت من تجاوز السادسة عشرة إلا القليل ، وقد أحضر أهلهم لهم طعامًا فمنع عنهم ، وعوملوا أسوأ معاملة – وتصادف أن كان في سجن المركز بجانبهم شخص من أهل رشيد يعتبر رئيس عصابة ويعتبر أخطر مجرم في المدينة وقد ارتكب عدة جنايات وسجن أكثر من مرة ، وكان في هذه المرة متهمًا في جناية ...

وصبر الإخوان الصغار – الذين لا نصير لهم – علي الإيذاء والجوع حتى حان موعد الصلاة فقام أحدهم للصلاة داخل زنزانته بأعلى صوته ، فجاء زبانية السجن وطرقوا عليه الباب وهددوه إذا هو لم يوقف الأذان أن يفتحوا عليه الزنزانة ويؤدبوه ... وهنا سمع صوت من الزنزانة المجاورة يهدد هؤلاء السجانين بقتلهم إذا لم يتركوا الشاب الذي يؤذن يكمل أذانه وإذا لم يحضروا له ولزملائه لوازم الوضوء وإذا لم يفرشوا لهم فرشًا طاهرًا يؤذن عليه الصلاة ... كان هذا الصوت هو صوت الرجل الخطر ، الذي كانت حياته سلسلة من الجرائم المروعة ، كان صوت " محمد أبو العلا " وهنا توقف الزبانية عن خطتهم وبدأوا يتفاهمون مع " محمد أبو العلا " عما يريده متعجبين من اهتمامه بشباب يعملون للدين ، ولا يتصور العقل أن يكون المدافع عنهم محمد أبو العلا ملك الإجرام في رشيد ولم يكن أمام الزبانية إلا الاستجابة كارهين لطلبات محمد أبو العلا ، الذي شفع تهديده لهم بقوله : " كل ما تريدون أن توجهوه لهؤلاء الشباب من الإهانة وجهوه إلي أنا نيابة عنهم ، أما هؤلاء فأنا أضعهم داخل عيني ، ويجب أن تضعوهم أنتم أيضًا داخل عيونكم لأنهم يدافعون عن الدين " .

ويسرت للإخوان وسائل الوضوء والصلاة ، وصاروا يؤذنون لجميع الأوقات ، وسمح بدخول الطعام إليهم ، وفتحت لهم أبواب الزنازين ، وقضوا الفترة التي قضوها في هذا الحجز معززين مكرمين ، وصدق الله العظيم إذ يقول " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول " إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر " .

وإذا كان من تعليق علي هذه الظاهرة المثيرة للدهشة فإننا نقول : إن عاطفة الانتصار للدين غريزة في أعماق كل نفس مهما تنوعت مسالك أصحاب النفوس في الحياة ،وإن كثيرين ممن وصمهم مجتمعهم بأنهم عتاة المجرمين ليسوا في حقيقة الأمر مسئولين عن مسلكهم هذا بقدر ما تقع المسئولية في ذلك علي مجتمعهم .. وقد أعجبني مقال نشر في إحدى المجلات الأدبية للأستاذ توفيق الحكيم في أواخر الثلاثينيات يقول فيه : إن العقل البشري مقسم إلي مناطق ، كل منطقة مستقلة تمامًا من أخواتها ، وأن من هذه المناطق منطقة للدين ، وضرب مثلا برجل سكير تراه وهو يعاقر الخمر يسمع من يطعن في الدين فينبري له ثائرًا في وجهه من أجل الدين . ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أشير إلي أن عددًا لا بأس به ممن كانوا قطاع طريق قد استجابوا للدعوة وصلح أمرهم وصاروا من المؤمنين الأقوياء .

سابعًا: أول مؤتمر عربي من أجل فلسطين

أقصد جهود الإخوان في سبيل هذه القضية مضاجع الانجليز ، فاشتعل الشعور بالنقمة عليهم لا في الجامعة المصرية فحسب بل أحسوا بهذا الاشتعال في أنحاء البلاد العربية من أقصاها إلي أقصاها وكانت سياسة انجلترا تقوم علي أساس فصل مصر عن البلاد العربية ، واستطاعوا فعلا تحقيق هذا الهدف من سياستهم حيث أقنعوا المصريين بأنهم فراعنة وليسوا عربًا ، كما أقنعوا البلاد العربية بأنهم هم العرب وأن المصريين ليسوا عربًا وإنما هم فراعنة ... وكنت تشعر فعلا بأن المصريين مقتنعون بهذه الفكرة الماكرة الخبيثة كما تشعر بأن أهل الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب مقتنعون أيضا بذلك ، وكانت لنا مناقشات طويلة وحادة في حرم الجامعة مع ممثلي الأحزاب في هذه النقطة بالذات لأنها نقطة جوهرية في دعوتها .

وكان الذي دفع الانجليز إلي ترسيخ هذه الفكرة في أدمغة المصريين وأدمغة سكان البلاد العربية الأخرى اعتقادهم بأن نجاح استراتيجيتهم الاستعمارية في الشرق متوقف علي عزل مصر عن البلاد العربية الأخرى فمصر تعتبر رأسًا والبلاد العربية الأخرى بقية الجسد فإذا فصل الرأس عن الجسد فقد الرأس الحياة وفقد الجسم الحياة ، وعاث الانجليز فسادًا دون أن يصادفوا في أي مكان من يعترض طريقهم أو يقف في وجههم . وجذع المصريون بهذه الفكرة ردحًا طويلا من الزمن ، وقاست زعامات سياسية كبيرة سايرت الخدعة ولم يخطر لها ببال أن تولي موضوع العروبة أي اهتمام . واطمئنانًا إلي نجاح هذه الخدعة دبر الانجليز جريمة بيع فلسطين لليهود وهم في مأمن أية مقاومة .. وكيف لا يأمنون وقد استطاعوا أن يجعلوا المصري المثقف حين تطلب منه مساعدة لمجاهدي فلسطين يتساءل : : وأين تقع فلسطين هذه أهي في أوروبا ؟ كما استطاعوا أن يجعلوا رئيس وزراء مصر حين يسأله أحد الصحفيين ماذا أعددتم لقضية فلسطين ؟ فيجيب : أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين .. ومعني هذا أن مصر حكومة وشعبًا صاروا معزولين عزلا تامًا عن الأمة العربية ، وأخطر ما في هذا العزل أنهم عزلوا قلبًا وشعورًا وعاطفة .

لقد استطاع الإخوان المسلمون ، والإخوان المسلمون وحدهم أن يفسدوا علي الانجليز خطتهم ، وأن ينسفوا الجدار الشاهق السميك الذي شيده الانجليز ليفصل مصر عن بقية امة العربية ، ولكنهم لم يستطيعوا إنجاز هذه المهمة الخطيرة إلا بجهود مضنية متواصلة مكثفة استمرت أكثر نمن خمس سنوات متوالية ، حققوا في نهاياتها المعجزة حين وصلوا قلوب شعب مصر بقلوب إخوان عرب لهم في فلسطين ، وحين صارت قضية فلسطين قضية عامة في مصر يتألم قلب المصري لها ، ويكره الانجليز من أجلها ... وبذلك استطاع الإخوان أن يمدوا بين مصر والأمة العربية أول جسر ربط بينهما . ولقد عبرت مشاعر المصريين نحو فلسطين ممثلة في جهود الإخوان عن طريق هذا الجسر إلي البلاد العربية فكانت بمثابة جرعة منبهة لهذه البلاد فبدأت تحس بأنها الجسد الذي كان يفتقد رأسه وقد وجد رأسه في مصر .

وقد استغل الإخوان هذا الجسر الذي أقاموه خير استغلال فوجهوا الدعوة لرجالات البلاد العربية لعقد مؤتمر لدراسة مشكلة فلسطين في مصر واستجاب الكثير منهم ومثلث أكثر البلاد العربية بنخبة من كبار رجالها في ذلك الوقت ،و لم يبق في ذاكرتي من أسمائهم بعد هذه المدة الطويلة إلا الأستاذ فارس الحورى وهو مسيحي من ذوي المستوي الرفيع في التفكير الذي يترفع عن التعصب ويقدر المعاني الإسلامية العليا التي تنظم العقائد والأجناس والألوان المختلفة في سلك واحد نضيد هو الأمة الإسلامية العتيدة ، وكان هذا الرجل زعيما سوريًا ، تولي رئاسة الوزارة في سوريا أكثر من مرة وكان خطيبًا مفوهًا ، ومع أنه كان في ذلك الوقت مشتعل الرأس شيبًا إلا أنه شاب الروح والقلب تكلم في المؤتمر فألهب المشاعر وآثار الشجون . وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر عربي يعقد من أجل فلسطين ، وقد عقد في دار المركز العام بالعتبة ، وتعاقب فيه الخطباء من مختلف البلاد ثم تكلم الأستاذ المرشد ، وانتهي المؤتمر بقرارات تطالب حكومات الدول العربية بالتدخل من أجل إنقاذ فلسطين من المؤامرة الانجليزية اليهودية وكان لهذا المؤتمر آثار بعيدة المدى لأنه جعل الحكومات العربية تحس لأول مرة أن عليها مسئولية تجاه مشكلة فلسطين .


ثامنًا : المؤتمر البرلماني العالمي

تطايرت أنباء المؤتمر العربي الذي انعقد بدار المركز العام بالعتبة بالقاهرة إلي أنحاء البلاد العربية والإسلامية وإلي أنحاء العالم كله ، وكان أشد الناس اهتمامًا بهذا المؤتمر الانجليز . وصار يتوافد علي دار المركز العام رجال كثيرون من زعماء البلاد العربية والإسلامية ومن ذوي الرأي فيها ، وكان ممن توافد الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود والأمير أحمد بن يحيي ومعهما بعض إخوتهما ، أوفدوا من قبل والديهم ملك السعودية وإمام اليمن ليتفاهموا مع الحكومة المصرية ومع الإخوان المسلمين فيما يجب عمله لإنقاذ فلسطين .

ولما كانت أكثر البلاد العربية في ذلك الوقت رازحة تحت أثقال الاستعمار ، فقد تمخض التفاهم بين زعماء البلاد الإسلامية والإخوان عن وسيلة يتفادون بها اللجوء إلي هذه الحكومات المكبلة ، وتبرز بها البلاد العربية والإسلامية متضامنة ، وكان ذلك بأن توجه الدعوة إلي جميع برلمانات العالم لعقد مؤتمر في القاهرة لمعالجة قضية فلسطين . وقد وجهت الدعوة وأوفدت كثير من البرلمانات ممثلين لها ، وانعقد المؤتمر بسراي آل لطف الله بالقاهرة ، وكان هذا أول مؤتمر عالمي من أجل فلسطين ، وتحدث الكثير من زعماء العالم ، وشرحت القضية من جميع جوانبها ، وانتهي المؤتمر بقرارات موجهة إلي جميع دول العالم عامة وإلي حكومة انجلترا خاصة بوجوب تسوية هذه القضية بما يحفظ حقوق أهل فلسطين .

وهنا بدأت انجلترا تشعر بأن سياستها في فلسطين أصبحت مهددة ، فأوقفت حملات القتل والسجن والتعذيب والتنكيل ، وأبدت استعدادها للتفاهم ، وطلبت عقد مؤتمر من أجل فلسطين في لندن يضم العرب واليهود وممثلي الحكومة البريطانية ، وكان من ممثلي العرب عدا عرب فلسطين الأميران فيصل بن عبد العزيز وأحمد بن يحيي واشترك الإخوان في المؤتمر باعتبارهم سكرتيرين للأميرين ومترجمين لهما ، و أذكر أن ممن أوفد معهما من الإخوان الأخ محمود أبو السعود وكان طالبا بكلية التجارة ويجيد اللغة الانجليزية كتابة وتحدثاً ، وسمي هذا المؤتمر بمؤتمر المائدة المستديرة . وما كان الإخوان لينتظروا من مؤتمر المائدة المستديرة قرارًا يحل المشكلة يرد الحق إلي نصابه ، وإنما كان هدفهم أن يكون مجرد عقد هذا المؤتمر خطوة جديدة علي طريق إسماع العالم مظلمة أهل فلسطين التي طالما حاول الانجليز ومن ورائهم يهود العالم أن يلقوا عليها ستارًا كثيفاً يحجبها عن العالم .

الفصل الرابع : الفتنة الأولي

أولاً : أضواء علي نواح من شخصية حسن البنا

(1) رأي الشيخ طنطاوي جوهري

عهد إلي الأستاذ المرشد في يوم من أيام هذا العام 1938 أن أنقل له في كراس أرجوزة جمع فيها ناظمها كل ما يتصل بالتصوف من أهداف ووسائل ودرجات وآداب وأصول ، وأكاد أذكر أنني كنت أنقلها من كتاب لابن عجيبة في شرحها .. وكنت جالسًا ظهر ذلك اليوم وحدي في المركز العام ، واتخذت لي مقعدًا وقمطرًا في شرفة الدار .

وبينما كنت أنقلها في شغف – حيث كان لي سابقة اتصال بالمتصوفة عملاً ، كما كنت أعكف الساعات الطوال في الأيام والليالي علي قراءة " إحياء علوم الدين " للغزالي ... بينما أنا كذلك إذ دخل علي رجل أحبه وأجله ، وكنت مشتاقًا إلي لقائه كما كنت أحس أنه يحبني ولم أكن رأيته منذ كنا في 13 شارع الناصرية ، ذلك هو الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري ، الذي كان يلقب في ذلك الوقت " بحكيم الإسلام " وأظنني تحدثت عنه في أوائل هذه المذكرات حديثًا عابرًا .. ولقد علقت نفسي هذا الرجل من أول لقاء ، وقد سمعت عنه الكثير قبل أن أنزج إلي القاهرة فلقد كان الرجل شخصية بارزة في مصر ، فلما التقيت به في القاهرة رأيت فيه الرجل الذي يقول ما يفعل ويفعل ما يقول ، فمع أنه كان أستاذا في دار العلوم ، ولم ألقه إلا بعد إحالته إلي المعاش بأكثر من عشر سنين إلا أنك كنت تري فيه شابًا في عنفوان شبابه ، فهو متوقد الذهن ، يتحدث معك في كل علم من العلوم الكونية من نبات وحيوان وحشرات وجيولوجيا وكيمياء وطبيعة ورياضة وميكانيكا وفك وموسيقي كأنما هو متخصص في كل واحد منها ، وتراه عن طريق هذه العلوم يدلك علي وجود الخالق ووحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته .

هذا فضلا عن العلوم العربية بأنواعها من نحو وصرف وبلاغة وأدب ، وقد أنف كتابا سماه " الجواهر " في تفسير القرآن الكريم في ستة وعشرين جزءًا أتبعها بعد ذلك كما أخبرني بستة أجزاء أخري ، وقد كنت أطالع في هذا التفسير بدار الكتب ، وهو يفسر الآيات التفسير المعتادة ثم يتبع هذا التفسير بتفسير علمي يقود القارئ إلي الإيمان بالله إن كان غير مؤمن ، ويزيده إيمانًا إن كان من المؤمنين .. ومما أذكر من دروسه التي كان يقيمها علينا في دار شارع الناصرية وكانت سببا في تشوفي إلي دراسة العلوم الزراعية بعد أن كنت قد التحقت بكلية أخري حيث كان يفسر لنا قوله تعالي " ما تري في خلق الرحمن من تفاوت " أنه قال لنا إن علماء النبات بدراستهم توزيع أوراق الأشجار علي فروعها ، وجدوا أن هذا التوزيع في أشجار العالم كله خاضع لنظام معين لا يخرج عنه أبدًا هو نظام المتواليات العددية – وهي إحدى قوانين علم الجبر – فكل عائلة من عائلات النبات توزع أوراقها علي فروع أشجارها بموجب متوالية عددية ذات أس لا تحيد عنه مهما كثرت أشجار هذه العائلة وتعددت أماكنها واختلقت البيئات التي تنمو فيها ... وقد حاولت ملاحظة ذلك بنفسي فوجدته صحيحًا فكيف يلمس هذا النظام الرائع إنسان ثم لا يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً واحدًا وصدق الله تعالي إذ يقول " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " وحيث يقول إنما يخشي الله من عباده العلماء " .

ولقد كان الشيخ طنطاوي جوهري في أيامه ذائع الصيت في مصر وفي خارج مصر ، وكثيرًا ما كان يقصده العلماء من البلاد الشرقية ومن الغرب ، من أمريكا وانجلترا وفرنسا ، يتلقون علي يديه علومًا معينة .. وأذكر في فترة من أيام شارع الناصرية أنه كان يحرص بعد إلقاء درسه علينا في المركز العام أن يكون في بيته مبكرًا – بعد العشاء – لأن مستشرقة فرنسية قدمت من فرنسا خصيصًا لتحضر عليه شرح " الرسالة القشيرية " وهي من المراجع الأساسية في علم التصوف ، وتعد من الرسائل الفلسفية المعقدة . وقد تقدم في إحدى السنوات ببحث في الموسيقي لنيل جائزة نوبل للسلام – وما كانت هذه الجائزة لتعطي لمصري في ذلك الوقت حتى لو لمس السماء بيده – وقد اطلعت علي هذا البحث فوجدته كتيبًا في نحو مائة صفحة من القطع المتوسط ، ومع أنه بحث في الموسيقي إلا أنك إذا قرأته وجدت كل ما فيه بحوثا في الكيمياء ولكنه أثبت بالقوانين الكيماوية – بطريقته الخاصة – أن هذا الكون إن هو إلا موسيقي . ولم يكن هذا الرجل يدرس القرآن وما يتصل به من علوم ، ويدرس التصوف وما يحيط به من فلسفة ، بقصد الدراسة العلمية ليتشدق بها ، ويبرز في المجتمع .. والرجل لم يكن بحاجة إلي ما يبرزه فقد كان ذائع الصيت كما قدمت ، رفيع المكانة عند الكافة ، بل كانت دراسته دراسة يتقرب بها إلي خالقه ، وقد استنتجت ذلك في موقفين له :

الموقف الأول : أن هذا الرجل علي علو قدره ، وذيوع صيته ، ورفيع مكانته ، وكبر سنه وسعة علمه ، لم يستكبر عن أن ينضوي راضيًا تحت لواء الإخوان المسلمين ، وتحت قيادة حسن البنا الذي لم يكن في ذلك الوقت أكثر من شاب مغمور ، مدرس في مدرسة ابتدائية لا يكاد يعرفه أحد .

الموقف الآخر : أن هذا الرجل كان يلقي علينا درسه في المركز العام بشارع الناصرية بين المغرب والعشاء ، فكان في كثير من الأحيان يأتينا قبيل المغرب فيكلف أحدنا بشراء رغيف صغير جاف وحبة طماطم واحدة ، وحين يؤذن المغرب يأكل الرغيف بحبة الطماطم مع قليل من الملح ويكتفي بذلك إفطارًا من صيامه ، ويتبين لنا في أكثر هذه الأيام أنه كان في بلدته " وراق العرب " وهي من ضواحي القاهرة وتبعد عنها أكثر من عشرة كيلومترات وأنه ذهب إليها في الصباح ماشيًا ورجع منها في المساء ماشيًا .

دخل علي هذا الرجل العظيم وأنا جالس في شرفة المركز العام بعد الظهر وحدي أنقل أرجوزة التصوف التي أشرت إليها من قبل مسلم وقمت من مكاني وتلقيته بما يتناسب مع مقامه ،وأعددت له مقعدًا بجانبي فابتدرني سائلا ماذا تفعل ؟ فأجبته فقال لي : إنها أرجوزة جميلة في التصوف أقرأها علي فأخذت أقرأها فقال لي : ما هكذا يقرأ الشعر يا بني قلت ؛ هل لحنت في شيء مما قرأت ؟ قال : لا إنك لم تلحن ولكن ما هكذا يقرأ قلت : إذن فكيف يقرأ ؟ قال : هل كانوا يقرأونه في سوق عكاظ كما تقرأه ؟ قلت : إذن فكيف كانوا يقرأونه ؟ فتناول الكتاب وأخذ يقرأ بنغمة حلوة كأنه يغنيه ثم قال : لا معني للشعر إذا لم يقرأ بهذه الطريقة ، ولذا فإنهم كانوا ينشدون الشعر لا يقرأونه ، أليس الشعر موسيقي ؟ .. ثم قال لي عندما وصل في الأرجوزة إلي أبيات تتحدث عن الحجب والكشف : أنصت إلي يا محمود فأنصت إليه فقال : إن الرجل ليأخذ نفسه بأساليب الرياضة النفسية فيرقي من درجة إلي أخري حتى يدرك اسمي درجات السمو فيصل إلي درجة الكشف حيث ينكشف له الكون ويري بنور الله ما ستره الله عن خلقه من الغيب . فهل هناك منزلة أعلي من هذه المنزلة ؟ ! ..

قلت : لا أعتقد أن هناك منزلة أعلي من ذلك .

قال : بل هناك منزلة أعلي من تلك متعجبًا : وما عساها تكون تلك المنزلة ؟ ..

قال : هي منزلة رجال يصطنعهم ربهم ، ويختارهم من بين خلقه ، ويكل إليهم مقارعة الفساد ومنازلة الظلم ، وإشعال جذوة الإيمان بالله في القلوب ، وبث روح الأخوة بين المؤمنين ؛ حتى تتكون لدعوة الله قوة ترفع صوت الله في الأرض ، فثقف للظلمة والمفسدين بالمرصاد .. ثم قال الشيخ : واعلم يا بني أن هذه المهمة التي يختار لها الله تعالي هؤلاء الرجال تقتضي أن يحجبهم عن غيبه فهم دائما محجوبون لكنهم مع هذا الحجب أعلي درجة من أهل الكشف ؛ لأن أهل الكشف لا ينتفع بهم الناس ، أما هؤلاء فينتفع بهم خلق كثيرون بل ينتفع بهم أمم ينقلونها من حال إلي حال ... قال واعلم يا بني أن من هذا النوع من الرجال الرسل فموسي أعلي درجة من الخضر ، وسليمان أعلي درجة من الذي عنده علم الكتاب ، ومنهم كبار الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومنهم كبار المصلحين ومنهم حسن البنا .

قلت : أهكذا تري حسن البنا ؟ ...

قال : نعم ، قلت : وكيف عرفته ؟ .

قال : سمعت عنه فذهبت إليه وجلست معه وسألته إلا يدعو ؟

قال : أدعو إلي القرآن .

قلت : دع هذا اللفظ الكريم من حديثنا ، فإن هذا اللفظ الكريم ظالمًا بينًا : لقد انتحله الجميع وانتسبوا إليه ؛ ما من فرقة قامت في الدولة الإسلامية – مهما كانت زائغة عن الإسلام – إلا وادعت أنه تدعو إلي القرآن ... فأجبني بتفاصيل ما تدعو إليه في كل ناحية من نواحي الحياة ... قال فشرح لي تفاصيل دعوته فوجدتها في حدود كتاب الله ... قال : ثم رأيت في الشاب وآرائه وفهمه لكتاب اله ،وإحاطته بالتاريخ وفهمه للمجتمع الذي نعيش فيه ، وذكائه وألمعيته وشخصيته الأخاذة ، ومقدرته علي جمع الناس علي دعوته ، وصبره علي المكاره ، وتعففه عما في أيدي الناس ـ، وبذله في سبيل دعوته ، ولين جانبه ،وتواضعه بحيث لا تكاد تميزه من أتباعه ؛ قال فرأيت فيه صفات القائد الذي يتفقده العالم الإسلامي .

أقول : وحرصًا مني علي أمانة النقل أقرر أن هناك بقية لهذا الحديث ولكني لا أذكر هل الذي قالها لي هو الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري أم أن الذي قالها لي هو الأستاذ المرشد بعد أن حدثته بما دار بيني وبين الأستاذ الكبير من حديث ، تلك هي : أنه بعد انتهاء الحوار بينهما علي النحو الذي ذكرت وبعد أن أعلن الشيخ اقتناعه قال له الأستاذ المرشد : يا سيدي الأستاذ ؛ إنك أستاذنا وأستاذ الجميع وأنت حكيم الإسلام وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني .. وهذه يدي أبايعك .. فقال الشيخ : لا يا أخي ... أنت صاحب الدعوة وأنت أقدر عليها وأنت أجدر بها ... وأنا أبايعك علي ذلك – ومد فبايعه – ولم ينكث – رحمه الله بيعته إلي لقي ربه ... حتى إنه لما وقعت الفتنة الأولي وانشق جماعة من الإخوان مما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله وأسسوا جماعة " شباب محمد " ذهبوا إليه وطلبوا منه أن يكون مرشدًا عامًا لهم فرفض قائلاً " لا يجوز أن يكون للمسلمين إلا مرشد عام واحد " .

(2) قوة روحية جارفة

قد يلاحظ القارئ أني حين أصف حسن البنا لا أتعرض لميزاته العقلية والذهنية مع أنه كان فيها الذروة التي لا تسامي خصوبة ذهن وحدة ذكاء واتقاد قريحة وحافظة تعي فلا يفلت منها شيء وذاكرة لكل ما رأت أو سمعت حتى أسماء الأشخاص مهما طال عليها الزمن وتباعدت بها البلاد فقد يزور قرية في أعماق الصعيد ويلتقي بعد سنوات في القاهرة يفرد منها فتراه يناديه باسمه ولقبه ويسأله عن أبنائه بأسمائهم – ومع ذلك فأنا لا أتعرض لهذه الميزات لأن كثيرًا من الزعماء يتمتعون بأنصبة متفاوتة منها .

ولكن الميزة التي تنقطع دونها الأعناق والتي قلما يجود الزمان بزعيم يظفر بنصيب منها هي القوة الروحية الخارقة ولقد كان حسن البنا – رحمه الله – عميق الإيمان بالله ، شديد الثقة فيه ، يؤمن بالغيب الذي يسمونه الآن " ما وراء الطبيعة " وكان كثيرًا ما يردد قول ابن الفارض .

ولأنك ممن طيشتــته طروسـه  ::: بحيث استقلت عقلــه واستبـدت

فإن وراء العقل علمـًا يجـل عن  ::: مدارك غايـات العقـول السليمـة

وكان يري في القرآن ما لا يراه غيره ؛ وإن كنا جميعًا نردد عبارات مؤداها أننا نؤمن بأن القرآن هو كل شيء لكننا في تصرفاتنا في الحياة نتصرف وكأنما لا نؤمن بما نردد .. أما هو فكان القرآن هو حياته وهو عمله وحركته ، وهو تفكيره وسكونه ، وهو كلامه وسكوته ، وهو دائرة آماله وهو مرجعه ولا مرجع له غيره .. لقد كنت أحار في تصور قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إنه كان " خلقه القرآن " حتى لقيت حسن البنا وصاحبته فبدأت الصورة تتضح أمامي . لم أر إنسانًا يحفظ القرآن كما يحفظه هذا الرجل ؛ لم يكن يتحدث مع أي أحد كان في أمر من الأمور إلا صدع بالآية دون ما إعمال فكر كأنما أنزلت عليه ... ولم أكن أقدر هذه المقدرة حق قدرها إلا بعد أن حفظت القرآن وقرأته غيبًا علي نفسي وعلي غيري عشرات المرات ، و مع ذلك كنت إذا حاولت تذكر آية معينة في موضوع معين أعجز في أكثر الأحيان عن الإتيان بها ... وفهمت من ذلك أن حفظ القرآن شيء وخاصية الاستشهاد بآيات منه في مواضع مختلفة شيء آخر .

سألته مرة أي التفاسير تنصحني أن أقرأ ؟ فقال لي : إن كنت تريد نصيحتي فلا داعي لقراءة تفاسير ... إن القرآن واضح .. حسبك أن تعرف معاني الكلمات الغريبة عليك وهي قليلة ثم اقرأه وتدبر معانيه وافتح له قلبك ، وأنت تعرف سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ إذا فعلت فإنك سيتضح لك من معانيه مالا تظفر به من كتب التفسير . وكان له مصحف من القطع الذي هو فوق المتوسط ، وكنت أري فيه في مواضع متعددة ملاحظات كتبها بخطه ؛ لعلها معاني سنحت له وومضت في قلبه فرأي أن يقيدها أمام الآيات قبل أن ينساها .... لم يكن يدع لحظة فراغ إلا ملأها بالقرآن ؛ حين كما نصاحبه في السفر ، سواء أكان السفر بالقطار أم الأتوبيس كان يمضي الطريق مغمضًا عينيه يتلو القرآن حتى نصل إلي الجهة التي نريدها .

حدثني مرة أنه قرأ في كتاب – سماه لي وقتها ولكني أنسيت أسمه الآن – أن رجلا جاء إلي الإمام أحمد بن حنبل وشكا له أن أخاه تنتابه حالة يفقد فيها وعيه ، ويمزق ملابسه ، ويهاجم من حوله ، ويريد أن يفتك بأقرب الناس إليه ، وقال إنه عرضه علي الأطباء حتى يئسوا منه ولا يدرون ماذا يفعلون ... وكان الإمام أحمد بالمسجد فقال للرجل أحضر أخاك وهو في هذا الحال فلما أحضره أمره أن يرقده ثم أخذ الإمام يقرأ القرآن حتى سمع الجميع صوتًا منبعثاً من جسم الرجل المريض يستغيث بالإمام ويقول له : حسبك وسأفعل ما تريد . فقال له الإمام : دع هذا الرجل واخرج من إصبع قدمه قال الصوت سمعًا وطاعة ، وخرج من إصبع قدم الرجل وإذا بالمريض يستيقظ كأنما حل من عقال ، وكأن لم يكن مصابًا من قبل .

قال لي الأستاذ : وقد شغلتني هذه القصة وكنت أتأهب – حسب جدول زياراتي – لزيارة إخوان السويس . وركبت القطار وظللت طيلة الطريق أفكر في هذه القصة وأتعجب لما فيها وأقول : أهو سر الإمام أحمد أو هو سر القرآن أم أن القصة فيها مبالغة ؟.. ولم تزل هذه الأفكار تراودني حتى وصل القطار محطة السويس ، ونزلت من القطار فوجدت الإخوان متجمعين في انتظاري فعانقتهم ، ولاحظت أن واحدًا منهم كان يقف وحده بعيدًا ، فقربت منه فرأيت علي وجهه أثر الحزن ؛ فتركت الإخوان وانتحيت به جانبًا وسألته عما يحزنه ، فقال لي : إن الذي يحزنني أمر خطير ، وإنني قد ضقت ذرعًا بالحياة ، وسدت أمامي الطرق ،وأحاط بي اليأس من كل جانب ... إن زوجتي امرأة صالحة مطيعة ، ولي منها أبناء صغار ، وقد اعتراها منذ عام مرض ينتابها بين الحين والحين ؛ تفقد فيه رشدها ،و تتحول إلي وحش كاسر ، إذا استطاعت الوصول إلي أي منا حاولت قتله ، وتحطم كل شيء أمامها ... وقد عرضتها علي الأطباء هنا وفي القاهرة حتى يئسوا ... وقد انتابها المرض اليوم ، ولما كنت أعلم بقدومك اليوم أدخلتها حجرة وأغلقتها عليها وجئت أنتظرك لأعرض عليك مصيبتي لعلك تعينني فيها ....

يقول الأستاذ لي : فابتسمت والأخ لم يعلم لم ابتسم ... وتذكرت قول إبراهيم عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي . قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ... الآية " قال الأستاذ : قلت له هيا بنا إلي البيت .. واستأذنت من الإخوان . ودخلنا البيت ودخلنا الحجرة المغلقة فرأيت امرأة بها ، فقلت له : ادخل وغطها تمامًا بملاءة بحيث لا يبين منها شيء ، ففعل ثم دخلت الحجرة ووقفت بجانب السرير وأغمضت عيني وأخذت أقرأ القرآن ، وظللت أقرأ حتى سمعت صوتًا منبعثاً من جسم المرأة ولكنه صوت رجل يقول : كيف تكون يا بنا إمامًا للناس وتنظر إلي عورات النساء ففتحت عيني فرأيت جزءًا من ساقي المرأة قد انكشف نتيجة ما ينتابها من حركات عنيفة ... فأمرت زوجها فغطاها ثم واصلت قراءة القرآن حتى سمعنا صوت الرجل المنبعث من جسم المرأة يقول في نغمة استعطاف : إنك إمام المسلمين وتريد أن تحرقني وأنا مسلم ... قال الأستاذ فقلت له : إن كنت مسلمًا لما آذيت مسلمة .. قال : وماذا تريد مني ؟ قلت دع هذه المرأة واخرج . قال أمهلني .. فواصلت القراءة . فقال بعد قليل استحلفك بالله إلا أمسكت عن القرآن حتى لا أحترق وسأخرج ... قلت إن كنت خارجًا فاخرج من إصبع قدمها . فأراد أن يساوم فواصلت القراءة فصرخ مستغيثًا وخرج من إصبع قدمها فقامت المرأة كأنما حلت من عقال وكأن لم تكن أصيبت من قبل .

وكان مما حدثنا به الأستاذ المرشد في صدد ما كان من الأستاذ أحمد السراوى معه ؛ أنه في أوائل أيام نقله إلي القاهرة من الإسماعيلية ونعرفه بالأستاذ السراوى أن طلب إليه الأستاذ السراوى أن يصاحبه في قضاء مصلحة له فسار معه حتى دخل معه منزلا فوجد نفسه في مكان يشبه أن يكون عيادة طبيب ، وجاء الطبيب قبالتي وأخذ يحملق في عيني وأنا أنظر إليه في تعجب ولا أدري ماذا يريد مني .. يقول الأستاذ المرشد : وبعد نحو ساعة وقف الطبيب وقال للسراوى : صاحبك هذا قوة روحية خارقة ، ليس في الدنيا الآن قوة تستطيع التغلب عليها ولا أن تعادلها ؛ لقد حاولت معه بجميع الوسائل ولم أتركه إلا بعد أن أحسست أنني إذا زدت علي ذلك لحظة فسأنام أنا .. قال الأستاذ المرشد وبعد أن خرجنا سألت السراوى عن هذه المفاجأة فقال لي لقد لاحظت أن فيك قوة روحية خارقة ، فحاولت أن أعرف مدي هذه القوة ، فاتفقت مع هذا الرجل – وهو أقوي منوم مغناطيسي في مصر – علي مبلغ كبير إذا هو استطاع أن ينومك ، ولم أشأ أن تعرف عن عزمي هذا شيئًا حتى آخاك علي غرة دون أن تستعد . وقد خسر الرجل المبلغ .

(3) بصيرة نافذة ورأي ملهم : حول سيد قطب

انتهي سوق الأدب في مصر بل في الشرق العربي كله إلي مجلة " الرسالة " التي كانت تصدر في القاهرة . كان يصدرها أديب كبير هو الأستاذ أحمد حسين الزيات . وقد استطاع هذا الرجل بحكمته أن يجعل مجلته هذه ملتقي أفكار الأدباء وأقلامهم علي اختلاف نزعاتهم ، وتباين وجهاتهم فقد كان يكتب فيها مصطفي صادق الرافعي وهو حامل لواء الأدب الإسلامي ، كما كان يكتب فيها عباس محمود العقاد وكان معروفاً عنه في ذلك الوقت أنه يمثل الجانب الآخر .

وكان لكل من الرجلين مدرسة علي شاكلته ومريدون ، وكان من تلامذة العقاد في ذلك الوقت شاب أديب درعي اسمه " سيد قطب " ولم يكن سيد قطب مجرد تلميذ للعقاد بل كان أقرب تلاميذه إليه وأنصفهم به وأشدهم تشيعًا لأدبه وأفكاره واتجاهاته ؛ حتى إن مجلة الرسالة بعد أن لقي الرافعي ربه ظلت فاتحة صفحاتها للكتابة عن الرافعي ردحًا من الزمن فكان أشد الكتاب تهجمًا علي الرافعي وإشادة بالعقاد هو سيد قطب ... وكان هذا المتهجم علي الرافعي يحز في نفوس الألوف من قراء " الرسالة " الذين كانوا لا يقتنونها كل أسبوع إلا لمقالة الرافعي التي كان الزيات يجعلها دائما المقالة الافتتاحية لكل عدد ، وتأتي من بعدها مقالات العقاد وغيره من أمثال أحمد أمين وطه حسين وأحمد زكي ، وكان الناس يتدارسون مقالة الرافعي حتى إن منهم من كان يحفظها عن ظهر قلب .

علي أن " الرسالة " مهما أفسحت من صفحاتها للأضداد ؛ فقد كان لها من الكرامة والرهبة والوقار ما يجد الكاتب فيها نفسه ملتزمًا بهذا الوقار مهما كان بطبيعته سفًا منحلاً ، وقد يجد هؤلاء فيها سوي " الرسالة " من الصحف مجالا لنشر آرائهم وإبراز إسفافهم . وقد قرأت ي ذلك الوقت في جريدة " الأهرام " مقالا لسيد قطب يدعو فيه دعوة صريحة إلي العري التام وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم – وكانت هذه البدعة قد انتشرت في بعض بلاد أوروبا – وقد أثارني هذا المقال إثارة لم أستطع معها أن أقاوم القلم الذي وجد في العقل والمنطق والخلق والحياء ألف دليل ودليل يدحض هذه الدعوة ، ويثبت أنها دعوة تخريبية بهيمية دخيلة .

حملت المقال الذي كتبته وذهبت إلي الأستاذ المرشد – كدأبي في كل مقال أكتبه في غير مجلتنا – وكنت مزمعًا نشره في " الأهرام " مطالبًا إياه بنشره في نفس المكان الذي نشر فيه المقال المردود عليه ....قرأه الأستاذ المرشد ثم أطرق طويلا – علي غير ما عودني – ثم التفت إلي وقال : يا محمود إن المقال متين الأسلوب ، قوي الحجة ، جدير أن ينشر ، وقد سبق أن أجزت لك ، ما نشرته في بعض الصحف اليومية .. ولكتن في هذه المرة مرت بخاطري عدة خواطر أحب أن أعرضها عليك فقال :

أولاً : لا شك أن فكرة المقال فكرة مثيرة تجرح قلب المؤمن .

ثانيًا : كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها جميعًا وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار .

ثالثًا : إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به ، وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه علي أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة .

رابعًا : إن قراء " الأهرام " عدد محدود بالمسبة لسكان هذه البلاد . وليس كل قراء " الأهرام " قد قرأوا هذا المقال ، فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار . وأكثر الذين قرأوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسية قراءة عابرة .

خامسًا : إذا نشرنا ردًا علي هذا المقال في الأهرام " كانت لذلك النتائج التالية " :

أ‌)سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرأوا المقال الأصلي إلي البحث عنه وقراءته ، كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخري قراءة متأنية ، وستبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام .. ونكون بذلك قد عملنا – من حيث لا نقصد – علي تحقيق مآرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه علي الألسنة .

ب‌)نكون – من غير قصد – قد تسببنا في لفت الأنظار إلي لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلي هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان .

ج‌)الرد نوع من التحدي ، والتحدي يخلق في نفس المردود عليه نوعًا من العناد ، وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه ، ونكون بذلك قد قطعنا عليه الرجعة ؛ وفي هذا خسارة نحن في غني عنها .

وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلي الحق خير من إحراجه ... وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته ، ويفئ إلي الصواب ، ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام .

ثم قال : ما رأيك في هذه الخواطر ؟ ..

قلت : إنها مقنعة تمام الإقناع .... ومزقت الرد بين يديه .. ولا داعي للإشارة إلي ما كان من أمر هذا الشاب ،وما يسره الله من اليسري حتى صار علمَا من أعلام الدعوة ، ثم كان من شهدائها ... وإن كان شيء من نبوءة الأستاذ المرشد رحمه الله لم يتحقق في حياته .


ثانيًا : ضوء علي بعض شخصيات الدعوة

أحمد رفعت

كان ذلك في عام 1937 . شاب لم يتجاوز العشرين ، كنت تلمح في قسمات وجهه وسامة الإيمان ، وفي بريق عينيه الذكاء والنضج ، وفي نبرات حديثه تحس الطيبة المنبعثة من قلب سليم ، كما تشعر بحماس جارف وتفان في سبيل فكرته التي يؤمن بها – وكان شابًا صغيرًا إلا أنه جاد في كل أحواله لا يعرف الهزل ولا يميل إليه ، ولا يعترف به .. تحس في حركاته المنطلقة انطلاق السهم مدي ما يعتمل في نفسه من آلام وآمال . يحسن الحديث ، ويقدر علي الإقناع .. إذا رأيته أحببته ،وإذا خالطته ازددت له حبًا ... لم يكن ينقصه مع كل هذه المزايا إلا الخبرة بالحياة والتجارب التي تجعل نظره الذكي نظرًا شاملاً ... كان طالبًا في مستهل الدراسة بكلية التجارة في القاهرة ، وكان ممن تعرفوا علي الدعوة بعد انتقالها إلي دار ميدان العتبة ، إلا أنه كان داعية مثمرًا في كليته ، و كان والده موظفاً في القاهرة ويقيمون في حي المنيرة .

صديق أمين

صنو أحمد رفعت وزميله في الكلية وفي الإخوان وفي السن وفي السنة الدراسية وفي المستوي الثقافي والعقلي ، ولم يكونا يفترقان إلا وقت النوم ، ولم يكن يذكر أحمد رفعت إلا ذكر معه صديق أمين فيقال : رفعت وصديق ،ومعني ذلك أن لرفعت القيادة ... وصديق من سكان المنيرة أيضًا ، ووالده مقاول ، وهو كصنوه شخصية ذكية محببة علي إيمان وعزم .

عزت حسن

شخصية إخوانية قديمة الصلة بالدعوة لم أسعد بلقائه إلا عفوًا ، ولكني كنت معجبًا به لما كنت أقرأ له من مقالات في مجلة " الإخوان المسلمون " التي كانت تصدر قبل اتصالي بالدعوة . كان له قلم سيال ، وأسلوب طلي ، وتحس حين تقرأ له أنك تقرأ لعاشق شغفته الدعوة حبًا ، وأفنت قلبه صبابة . وإذا قرأت له أحسست أنك تقرأ لأديب كبير ، ضليع في اللغة والأدب . ولقد كنت أتصوره – وأنا أقرأ له – أنه من أفذاذ من تخرجوا في كلية الآداب أو دار العلوم حتى فوجئت بأنه ليس علي الصورة التي تصورتها وإنما هو رجل لم تسعفه الظروف بأن يواصل مراحل التعليم فاقتصر علي المرحلة الابتدائية ، وانسلك في سلك الوظائف الصغيرة حتى كان في تلك الأيام معاون سلخانة طوخ ، وكان إذ ذاك في العقد الرابع من السن تقريبًا ، وكان مقيمًا في طوخ ، ولا يحضر إلي القاهرة إلا لمامًا ... فإذا حضر استقبله الأستاذ بالعناق ؛ لأنه كان يحبه ، ويقدر فيه جمال الأسلوب ، وحسن الأداء ، وفيض الروحانية ... وكان الأستاذ المرشد – باعتباره من أعلم الناس بأسرار اللغة وآدابها ، ومن أقدرهم علي التعبير عنا في نفسه بل وفي نفس غيره سواء باللسان أو بالقلم – كان قديرًا علي فهم الرجل من كتابته ، ولقد كنا نحب هذا الرجل لحب الأستاذ المرشد له .

حسن السيد عثمان

طالب في كلية الحقوق من أسرة مرموقة في طما الصعيد ، وكان أكبرنا – نحن الطلبة – سنًا وجسما ، متفان في الدعوة ، وكان عنوانًا كريمًا لدعوته ، وكان من الأغنياء الأسخياء ، وكنا نعده في ذلك الوقت عثمان الدعوة وقد اتخذناه – بتوجيه من الأستاذ المرشد – رئيسًا للجنة الطلبة ... ومع كل هذه المميزات الطيبة ، فقد كانت تغلب عليه روح التطرف الناشئة عن البراءة المطلقة كبراءة الطفولة ؛ فلا يكاد مثلا يسمع أو يقرأ أن المسلمين الآن لا إمام (خليفة) لهم ، وأن لصلاة الجمعة علاقة بالإمامة ؛ فيمتنع عن صلاة الجمعة حتى يصير للمسلمين إمام – وهو أم يحتاج في تحقيقه إلي أجيال وأهوال – ومع ذلك فإنه كان يبذل الكثير في سبيل دعوته ، وكان محببًا إلينا جميعًا ، ومحببًا إلي الأستاذ المرشد .. وكان صديقه الذي لا نكاد نراه إلا معه هو الأخ الكريم محمد فهمي أبو غدير ، زميله في الكلية ومن أسرة كريمة في الواسطي أسيوط ، وقد التحقا بالدعوة معًا أو لعل فهمي كان أسبق ، وعلي كل فهو يشترك مع صنوه حسن في كل صفاته الطيبة ، وفي درجة إيمانه بدعوته ، لكنه كان يختلف عنه في أنه كان أوسع أفقاً في فهم الفكرة الإسلامية وفي معالجة الأمور بمقاييسها ، وبهذه المرونة كان فهمي أكثر إنتاجًا لدعوته وكانت مناقشاته أكثر نجاحًا ، وكان محببًا كثير الأصدقاء ، حتى من غير الأوساط الإسلامية – وكثير من هؤلاء – بهذه المرونة – صار من الإخوان ، ومن لا يصر منهم صار من محبي الدعوة وأصدقائها .

عيسي عبده

وكان مدرسًا بمدرسة التجارة المتوسطة في القاهرة في ذلك الوقت ، وكان بالطبع أكبر منا سنا ، وقد أخبرنا الأستاذ أن عيسي كان من أسرة مسيحية أسلمت جميعها عن اقتناع .. وكان الأستاذ المرشد يحب عيسي ويقربه ويؤثره ، ويقدمه دائمًا للحديث إلي الإخوان ، لأنه كان محاضرًا لبقاً ، ومحدثاً طويل النفس ؛ وكان عيسي مندمجًا في منظمات الإخوان فكان أحد أعضاء الكتائب ؛ إلا أنه لم ينتظم في سلك الجوالة .. وكان كأنما يري أنه جيل غير جيل الطلبة ؛ فلم تكن بينه وبيننا نحن الطلبة صلات وثيقة ترفع فيها المجاملات ؛ مع أنه كان معنا من هو أكبر منه سنًا وهو الأخ الكريم الأستاذ محمد حلمي نور الدين وكان نجله زميلا لي بالكلية ؛ ومع ذلك كنت إذا رأيته بيننا لم تحس إلا أنه طالب معنا .. وليس معني ذلك أنه كانت بيننا وبين الأخ عيسي جفوة ، بل إننا كنا نحبه ونقبل عليه وكان يبادلنا هذا الحب والإقبال .

أحمد حسن الباقوري

أقدم منا جميعًا صلة بالدعوة ، وقد التحقنا بالدعوة فوجدناه " شاعر الإخوان " وممثل الأزهر والطريف أنه كان زعيما لطلبة الأزهر ومع ذلك لم يلتحق حتى ذلك الوقت من الأزهريين – الطلبة – بالدعوة غيره وآل شريت وعبد اللطيف الشعشاعي وعبد الباري عمر خطاب – ومع ذلك كان من أقرب الشخصيات إلي الأستاذ المرشد . كان يكبرنا بسنوات قليلة إلا أنه لم يكن يحس بعد تخرجه لا بإحساس الطالب ، ولا أعتقد أنه يحس بغير ذلك حتى الآن ؛ لأن ميزة إحساس الطالب هي تلك الحيوية الدفاقة في أفكاره وتصرفاته وآماله .التحقنا بالدعوة فوجدنا نشيدها من وضعه ، وإذا قرأت النشيد استطعت أن تعرف منه شخصية الباقوري وأفكاره ، وما يعتمل في نفسه – وقد أثبتنا هذا النشيد في فصل سابق . وقد قضت الظروف بأن تكون مجموعة من الإخوان منها الباقوري وأنا علي اتصال شبه دائم فترة طويلة تزيد علي العام ، وقد استطعت خلالها أن أحس حقاً بأن جوانح هذا الشاب إنما تنطوي علي قلب شاعر . ولست أقصد بذلك ما تعارف عليه الناس من الاتجاهات اللفظية للشعر ، وإنما أقصد بالقلب الشاعر ، القلب المترع بالمشاعر النبيلة ، والعواطف الجياشة ، والأحاسيس المرهفة الدفاقة .. ومعني أن إنسانًا تنطوي جوانحه علي قلب شاعر ؛ أن كل ما يصدر عنه لا نراه إلا مصطبغاً بألوان هذه العواطف والأحاسيس وأنه يتجه حيث الحب والامتزاج النفسي ، والانصهار الروحي ، والآمال المحلقة .

ظللنا فترة طويلة في دار العتبة نقضي اليوم كله منذ الظهيرة حتى منتصف الليل بدار المركز العام ، وكثيرًا ما كان الأستاذ المرشد يكون معنا ؛ ولم يكن لنا غذاء إلا ما يحضره لنا " عبد الوهاب فراش المركز العام " من فلافل شارع عبد العزيز حتى صار شعارنا شطرة قالها الباقوري بعد أن أخذت منه الفلافل كل مأخذ : " أم الفلافل ملجأ الإخوان " . ومن الطرائف أن الأستاذ المرشد كان بعد الغذاء يقيل ساعة علي إحدى مقاعد المركز العام وينصحنا أن نفعل مثله إلا أننا لم نكن نفعل لقائنا الوقت في الحديث معًا ، ثم يستيقظ الأستاذ من النوم ونصلي العصر ؛ فيتذكر أن ستقام الليلة – بعد المغرب – ندوة بالدار أو محاضرة أو مناظرة أو مؤتمر فيقول للباقوري : يا شيخ أحمد اعمل لنا قصيدة تلقيها الليلة بمناسبة كذا ، فيجلس الباقوري في ناحية وفي خلال الساعة الباقية علي ميعاد الحفلة يخرج لنا بقصيدة عصماء قد يحتاج غيره لإعداد مثلها إلي أيام وأسابيع .

وبمناسبة هذا الغداء بالمركز العام ، كنت أذهب إلي المركز العام في مثل هذا الوقت وأكون بالصدفة صائمًا صيام نفل ؛ فيتفقدني الأستاذ المرشد علي مائدة الطعام فلا يجدني فيسأل : أين ذهب فلان فيقولون له إنه أخبرنا أنه اليوم صائم ، فيدعوني ويقول لي : ما هدفك من هذا الصيام ؛ فأقول : ثواب الله فيقول لي : إذن فكل معنا وستحصل علي ثوابين معًا ؛ ثواب الصيام بالنية ،وثواب أعظم منه بإدخال السرور علي إخوانك بمشاركتك لهم في الطعام . ومع هذه الشاعرية الدافقة في الباقوري فإنه لم يخرج لنفسه ديوانًا ، ولم يسمح لنفسه أن يلقي قصيدة خارج نطاق الإخوان في ناد من النوادي ولا في حفل من الأحفال ولا في صحيفة ولا في مجلة ؛ وكثيرًا ما كنت أعتب عليه في ذلك ، وأنا أعتقد لو أنه أراد لنفسه هذا الاتجاه لكان من أشهر الشعراء .

ويبدو أن قلبه الشاعر كان يتحكم في إرادته ، وأذكر بهذه المناسبة أنه في إحدى الليالي التي كان يقضيها معنا في الجيزة في منزل الأخ عبد الفتاح البساطي – وكثيرًا ما كنا نترك بيوتنا الأيام والليالي سواء منا من كان يسكن في الجيزة مثلي أو يسكن في القاهرة مثل عبد الحكيم عابدين وعبد المحسن الحسيني ومحمد عبد الحميد أحمد الباقوري ، ونقضي تلك الأيام والليالي معًا في بيت البساطي – في إحدى تلك الليالي بينما كان الباقوري يعبث بكتب علي مكتب عبد الفتاح إذا به يفتح كتابًا منها وينظر فيه ثم يتفجر مكبرًا مهللاً وهو يقول : الحمد لله وجدت ما أعياني البحث عنه . فالتفتنا إليه وسألناه ما هذا الذي أعياك البحث عنه وما هذا الذي وجدته ؟ قال : إني أقبل يد الأستاذ المرشد وبعد كل مرة أقبل فيها يده ، أسأل نفسي هل هذا عمل يرضاه الإسلام وهل لهذا العمل سند من السنة ؟ ومع ما يتلجلج في نفسي من هذا التصرف من شكوك ومع ما وصلت إليه من يأس من العثور علي أثر في السنة أستند إليه ، فقد كنت دائمًا لا أستطيع أن أقاوم نفسي في تقبيل يد الأستاذ ... والآن وأنا أعبث في هذه الكتب وليس في نيتي البحث عن شيء ، تناولت هذا الكتاب وفتحته فتحًا عشوائيًا فإذا بعيني تقع علي هذا الحديث – (كان كتاب رياض الصالحين للإمام النووي) وقرأ لنا الحديث وكان راوي الحديث علي ما أذكر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وفي سياق الرواية يقول " فتقدمت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقبلت يده ثم ساق الحديث . ولقد كان لهذا الحديث أجمل الوقع في نفوسنا جميعًا فقد كان يتلجلج في نفوسنا ما كان يتلجلج في نفس الباقوري ، ولا نملك مع ذلك إذا التقينا بالأستاذ إلا أن نقبل يده – علي كره منه ومقاومة شديدة – فكان هذا الحديث إرضاء لعقولنا في عمل كان ينطلق من صميم قلوبنا متخطياً حواجز العقل والقياس والمنطق . ولا أدري حتى اليوم السبب الذي من أجله عزف الباقوري عن مجاراة طبيعته الشعرية ومحاولته إخفاء هذه الطبيعة عن المجتمع ، أهو السبب الذي من أجله نسب إلي الإمام الشافعي قوله :

ولولا الشعر بالعلمـاء يــزري  ::: لكنت اليـوم أشعـر من لبيــد

أم هو سبب آخر ، ولكن الذي أتصوره أن مصادرة المرء لطبيعة أصيلة فيه ، قد تؤدي – دون أن يريد ودون أن يحس – إلي إبراز عواطفه وانفعالاته في صورة مشوهة لا يستطيع تداركها ولا تهذيبها ولا السيطرة عليها ، مع أنه لو جاري طبيعته مع شيء من القصد والمراقبة لأتت تصرفاته وتعبيراته عما في نفسه سديدة محكمة مثيرة لإعجاب كل قارئ وكل سامع ، ولصار صاحبها من الناس ملء السمع والبصر ... وقد يعجز الكاتب الأديب عن التعبير عن معني عميق الغور في نفسه إذا لزم نفسه التعبير النثري ، في حين يجد المجال فسيحًا في عالم الشعر في لمس هذا المعني وتصويره ، ذلك أن الشعر يسع من العواطف مالا يتسع له النثر . وإذا كان للشاعرية من المزايا ما يعجب ويبهر ، فإن لها جانبًا قد يبعث علي الحيرة ويثير الدهشة ، فلقد كان الباقوري مع ذلك شطحات تلقي به خارج المركز العام فنفتقده بالشهور حتى نكاد في غمرة العمل المتواصل للدعوة أن ننساه ، لكن الأستاذ المرشد لم يكن ينساه بل كان كأنما يتغافل عنه حتى إذا احتاج إليه بعث في طلبه فحضر بين يديه وألقي علي كاهله من أعباء الدعوة ما شاء أن يلقي .

عبد الحكيم عابدين

أوردت هذه الأسماء التي ألقيت شعاعًا من الضوء علي كل منها لأن لها اتصالا بعنوان هذا الفصل ولكن عبد الحكيم عابدين لا علاقة له ولا اتصال بهذا العنوان وإن كانت فصول قادمة إن شاء الله شبيهة بهذا العنوان سيكون هو قطب رحاها ، فرأيت أن أختم به تلك الأسماء في معرض إلقاء الضوء عليها ، لاسيما وذكر الباقوري يقتضي ذكر عبد الحكيم عابدين لأنهما فرسا رهان ، ورضيعا لبان ، نهلا من منبع واحد ، وصدر بعد ارتواء ، تجمعهما سجية أدبية ، وسليقة عربية ، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة . وقد سبق في أوائل هذه المذكرات أن نوهت بما طبع عليه عبد الحكيم عابدين من شاعرية حين تعرفت عليه في أول لقاء لي معه عن طريق إسماعيل الخبيري . وحين أنشدني قصيدة طويلة يصف فيها وسائل الطريقة الصوفية التي كان ينتسب إليها في تربية مريديها وتهذيب نفوسهم ، ولازال لهذه القصيدة وقع في نفسي حتى اليوم لأنها فريدة في بابها ، فريدة في هدفها ، بعيدة المدى في دلالاتها ، فهي من الناحية الشعرية لا يكاد يصدق صدور مثلها جزالة ورصانة وتصويرًا من شاب لا يجاوز العشرين فضلا عن أن هذه الوسيلة في تربية النفس هي في ذاتها من السمو بقدر ما هي من العنف بحيث لا تتوق إليها ولا تتحمل مشقة معاناتها إلا نفس صافية شفافة عركت صاحبها الحياة وفعلت بها الأفاعيل ، ولا تكون هذه النفس عادة إلا نفس كهل علي الأقل إن لم تكن نفس شيخ ... فإذا كان الذي يضع نفسه تحت طائلة هذه المحاسبة العنيفة للنفس شابًا غض الإهاب فإنه إذن لشاب في نضج الشيوخ فهما وصبرًا وعقلا .. ولذا فقد علقت نفسي هذا الشاب . منذ هذا اللقاء الأول فقد كشفت لي قصيدته هذه عن معدن نفسه ودخائلها واعتمالاتها واتجاهاتها .. ولعله بادلني نفس الشعور حين لاحظ وقع هذه القصيدة في نفسي ومناقشتي له في بعض أبياتها ومقاطعها . وحين أحس مني تذوقاً للشعر من الناحية الأدبية وتذوقي لمعاني القصيدة من الناحية الصوفية .

كانت كلية الآداب كما قدمت تقوم علي الثلاثي الإخواني محمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وعبد الحكيم عابدين . وليس معني هذا أنهم وحدهم كانوا الإخوان بها فقد كان بها إخوان كثيرون ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا عماد الدعوة وركيزتها ، وكان الثلاثة في صف دراسي واحد وفي قسم اللغة العربية في مقدمة صفهم ، وكان لكل منهم ميزة تخصص لها : أما محمد عبد الحميد فكان حكيما ينطق بالكلمات القصار أو يكتبها فتري فيها روعة الفكرة وجمال الابتكار .. وأما عبد المحسن فكان مجادلا عن الدعوة قوي الإقناع ، وكان همه منصبًا علي محاولة ربط الدعوة بالتاريخ الإسلامي ، ولذا فإنه كان كثير الغوص في مراجع التاريخ ...

وأما عبد الحكيم فكان له طريق وحده ، كان يشارك زميليه في القيام بأعباء الدعوة في الكلية إلا أنه كان قليل الحضور إلي المركز العام أيام كان في شارع الناصرية ، ولعله مع إيمانه بالدعوة كان لا يزال مشدودًا إلي طريقته الصوفية ... كما أن نضوجه الأدبي ، وسرعة بديهيته ، ونزعته الشعرية الأصيلة قد قربته من أستاذته فكان طه حسين يأنس إلي الجلوس معه ، ويناقشه ويجادله ويطارحه الشعر ... ومعني ذلك أنه وإن شغل بذلك عن ارتياد المركز العام في ذلك الوقت ؛ فإنه كان يسد ثغرة كان لابد من سدها وهي تقديم الدعوة إلي الأساتذة في الوقت الذي كنا نحن فيه مشغولين بنشرها بين الطلاب . ومثالا لذلك نومئ إلي المظاهرة التي أشرنا إليها في الفصل الأول من هذا الباب والتي دعا إليها الإخوان في الجامعة احتجاجًا علي الكتابين اللذين قررتهما كلية الآداب علي قسم اللغة الانجليزية فيها وفيهما سب للنبي صلي الله عليه وسلم وافتراء وقح عليه .. فنقول : إنه كان من آثار هذه المظاهرة أن ألغي الكتابان وأغلقت الجامعة إلي أجل غير مسمي وظلت مغلقة والدكتور طه حسين عميد الكلية معتصم ببيته وأعلن أنه لن يغادره إلي الجامعة إلا في رفقة الطالب عبد الحكيم عابدين ... وقد ذهب عبد الحكيم إلي الدكتور طه حسين وصحبه إلي الجامعة حيث التقيا بالأستاذ أحمد لطفي السيد مديرها في مكتبه فأخذ لطفي بك يسأل عبد الحكيم عن دعوة الإخوان .. وشرع عبد الحكيم يشرح له الفكرة ووسائلها وأهدافها ولكن بدا بعد هذه الإفاضة في الشرح كأن الأمر لم يتضح للطفي بك كما ينبغي ولاحظ الدكتور طه ذلك فقال : يا لطفي بك .. هل تريد أن تعرف كل شيء عن الإخوان المسلمين قال : نعم .. قال : سأختصر لك ذلك في كلمتين اثنتين : إنهم يريدون أن يستردوا الأندلس فكان هذا من طه حسين فهما قد استوعب فيه من أهداف دعوة الإخوان ما لم يستوعبه كثير من المنتمين إليها .

هذا ولقد شاءت الظروف أن أعرف عبد الحكيم عن قرب ... وقد عرفني بوالده حين حضر إلي القاهرة لزيارته وكان رجلا أميا فارع الطول ، وسيما تلمح في بريق عينيه ، وفي قسمات وجهه سلامة القلب ، ونقاء السرية وتحس في ثنايا حديثه وفي جرس صوته براءة البداوة ، وتستطيع أن تري قرارة نفسه علي طرف لسانه ، لا يحول بينهما حائل من مكر أو خداع .. ولكن لقائي مع الرجل لقاء عابرًا بحيث يتصنع فيه ما شاء من التصنع ، بل كانت رفقة الأيام والليالي ذوات العدد ، فقد كنا معشر هذه المجموعة من الإخوان دار كل منا هي دار جميعنا وجيب كل منا جيب جميعنا . وقد تركت هذه البداوة بذكائها اللماح ، وعواطفها الفياضة ، وبراءتها الطفلية الطاهرة ، طابعها الوراثي في نفس عبد الحكيم وفي كل ما يأتي من قول وعمل وسكون وحركة وتخيل وتصور ومع أن للبداوة جمالا عبر عنه المتنبي بقوله :

حسن الحضـارة مجلوب بتطويـة  ::: وللبداوة حسن غير مجـلــوب

فإن واقع الحياة قد يصطدم بها ويتمرد عليها ، فالصراحة – وهي من خصائص البداوة – وإن كانت في ذاتها فضيلة إلا أنها – علي إطلاقها – قد لا تستقيم مع طبيعة الحياة ، ولعل مما يشير إلي هذا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم " لو تكاشفتم ما تدافنتم " فطبيعة التعامل مع الناس تقتضي أن لا يفيض المرء بكل ما في نفسه من عواطف بل عليه أن يستبقي في قرارة نفسه قسطاً كبيرًا من شعوره ولا يبرز منه إلا بقدر ، وفي ذلك يقول الهادي إلي أقوم سبيل صلي الله عليه وسلم " أحبب حبيبك هونًا ما عسي أن يكون بغيضك يومًا ما . وأبغض بغيضك هونًا ما عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .

ومن هذا الجانب النبيل من جوانب البداوة التي طبع عليها أتي عبد الحكيم ، ومن مأمنه يؤتي الحذر . ولقد كان الباقوري ممن تجيش صدورهم بفيوض غامرة من العواطف المتأججة والأحاسيس لكنه كان يحجزها بسد منيع من الخوف ، الخوف من النقد .. حتى إذا أمن هذا الجانب ، ووجد نفسه بيننا في منزلنا بالجيزة – حيث تجتمع المجموعة التي نوهت عنها آنفا – انطلق علي سجيته والتقت سجيته بسجية عبد الحكيم وتبادلا من العواطف ما كان الأخ محمد عبد الحميد يسميه " بالشاعريات " وكما كان لهذه " الشاعريات " في الدعوة آثار طيبة لأنها لم تخرج عن كونها مظهرًا من مظاهر الود الذي تطرب له النفس الشفافة المشرقة ، إلا أنه اتخذ بعد ذلك ذريعة لذوي النفوس الحاقدة والقلوب المريضة مما جر علي الدعوة كوارث ، وما كان أغنانا عن حوض غمارها . ولا ينبغي أن ننسي – في غمار الضوء علي شخصية عبد الحكيم عابدين – أن نذكر ديوانه " البواكير " الذي نشره في خلال تلك الفترة من دار العتبة ، وقد لقيت هذه البواكير من الأوساط الأدبية علي اختلاف نظراتها ومستوياتها ترحيبًا وتقديرًا حيث كان أكثرها ثمرًا جنبا في تمام النضج وكمال الازدهار ، كما تلقفته الأوساط الإسلامية في شوق باعتباره أول ديوان إسلامي تغني بكل معاني الدعوة ، ونظم من أهدافها أناشيد رائعة هتف بها الصغير والكبير وردده في اعتزاز القريب والبعيد .


ثالثًا : خيوط الفتنة

أطلقت " الفتنة الأولي " علي هذه الفتنة التي أنا بصدد الحديث عنها ، وأنا أعلم أن فتنة قبلها وقعت في الإسماعيلية قبل نزوح الأستاذ المرشد إلي القاهرة ، ولقد سمعت عن هذه الفتنة وقرأت كتيبا كان ضمن المطبوعات المهملة بدار المركز العام بشارع الناصرية .. وقد فهمت من قراءتي لهذا الكتيب أنها كانت أسلوبا مألوفا مكررًا يحدث في كل مجتمعاتنا حين يبعث الحقد بعض ذوي النفوس الضعيفة علي الكيد لرجال أحبهم الناس والتفوا حولهم .. ووجد هؤلاء الحاقدون أنفسهم أهون علي الناس من أن يعيروهم اهتمامًا فلم يجد هؤلاء إلي الكذب والافتراء والاختلاق أملا في فض هؤلاء المحبين عن محبوبهم ، ورجاء تمزيق صفهم حتى يجدوا في هذا التمزق راحة لنفوسهم ، وإرضاء لنزوات الحقد المشتعل في قلوبهم ... وأمثال هؤلاء قلما آمالهم بل سرعان ما ينكشف زيفهم ، ويفتضح أمرهم ، وينقلبوا خاسرين دون أن تمس الدعوة بأذى أو ينتقص منها شيء وهذا هو ما حدث فعلا في الإسماعيلية .

أما هذه الفتنة فهي نوع آخر ، مثلها ومثل سابقتها كمثل بيت معمور بالسكان شبت النار خارجه ومدت ألسنتها نحوه ، فتنبه الناس من خارجه ومن داخله يكافحونها حتى أخمدوها دون أن تنال من البيت شيئًا ، وبعد فترة من الزمن شبت النار من داخله ولم يحس بها السكان إلا بعد أن استشرت وتأججت بما أنت عليه مما جاورها من أثاث ، فقام أهل البيت يوقظ بعضهم بعضًا ليتعاونوا علي مكافحتها بعد أن كادت تأتي علي ما بالبيت كله ، فكان علي أهل البيت وحدهم عبء مكافحتها لأن أحدًا ممن هم خارج الدار لا يعلم شيئًا عما يعانيه أهل البيت ... وكان الأدهى والأمر أن عددًا كبيرًا من سكان البيت رفضوا التعاون مع المكافحين مستمرئين ما يصل إليهم من دفء بعثته النيران قبل أن تصل إليهم بلهيبها ، فصارهم المكافحين همين هم مكافحة النار وهم ركل هؤلاء المستمرئين بأقدامهم حتى يتحركوا قبل أن تأكلهم النيران .

لم تنشأ هذه الفتنة عن فساد في النفوس ، أو ضعف في الأخلاق ، أو استهتار بالدين ، ولا عن تسابق إلي مغانم أو تلهف علي عرض من أعراض الدنيا .. وإنما نشأت بين مجموعة بلغت نفوسها من الصفاء درجة الشفافية ، و سمت أرواحهم حتى حلقت مع الملائكة ... لا أعتقد أنه كان علي وجه الأرض في ذلك الوقت قوم أصفي نفوسًا ولا أتقي قلوبًا ولا أعلي هممًا ، ولا أشد حبًا للإسلام ولا أسمح بالنفس والمال في سبيله من هذه المجموعة التي أوقدت نار هذه الفتنة وكانت هي وقودها . وليس أشد علي دعوة من الدعوات أو مجتمع من المجتمعات ، من فتنة تنشأ من داخله .. إنها الخطر المدمر الفتاك ، الذي إذا نجح ينسف الجميع نسفاً ويذره دفاعًا صفصفًا . ولقد هوجمت الدولة الإسلامية ، تأليت عليها الأمم من كل جانب ، وتناسي المختلفون من الأعداء اختلافاتهم وجمعوا قوتهم ليضربوا الأمة الإسلامية ضربة رجل واحد ، فما قال كل ذلك من صلابة قناتها ولا أوهن من عزمها ولا انتقص من سلطانها ... ولكن الذي فعل بالدولة الإسلامية الأفاعيل ، وأوقف المد الإسلامي الذي عجز الأعداء عن وقفه هو تلك الفتن التي نشأت بين الحين والحين من داخل الدولة . وقد تنشأ هذه الفتن الداخلية عن حسن قصد أو سوء نية إلا أنها تتساوي في نتائجها المدمرة وفي أخطارها التي تصعب الإحاطة بها .

أما فتنتنا هذه التي نحن بصدد الحديث عنها فإنها كانت فتنة داخلية منبعثة من حسن قصد ، وصادرة عن قلوب لا يشك في إخلاصها ... وكان الأستاذ المرشد كثيرًا ما يحذرنا من مداخل الشيطان الخفية إلي قلوب الصالحين ، ومن افتنانه في الاحتيال علي هذه القلوب فيدفع بها إلي المغالاة في الخير تخرج بها حدود الخير وتلقي بها في بحار الشر ، ويذكر بقول رسول اله صلي الله عليه وسلم " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقي " . كانت الدعوة في تلك الحقبة من الزمن في أزهي أيامها ، تشق طريقها في جميع البيئات والأوساط كما تشق السفينة البحر الهادئ والريح رخاء ، كل يوم تخرج بربح من الرجال وشباب يقبلون علي الدعوة ويبايعون عليها ... وكادت الدار – علي سعتها – تضيق بالوافدين ، وأصبح للدعوة صوت مسموع في جميع القضايا سواء علي المستوي المصري والمستوي العربي الإسلامي ، وصدرت رسالة " نحو النور" تعالج كل هذه القضايا علاجًا واضحًا عمليًا لا لبس فيه ، وكأن الدعوة كانت تتهيأ لتأخذ مكانها القيادي .

بينما نحن في ذلك إذ بمجموعة من أطهر الإخوان قلبًا تستوقف هذا الركب السائر لتوجه إليه حديثاً ، فوقف الركب يستمع فإذا بالأخ أحمد رفعت يعترض علي كل ما تتخذه الدعوة من أساليب ، ويدعو الإخوان إلي أساليب أخري ... ولم ير الإخوان في هذا الاعتراض ما يلفت النظر فلكل أخ الحق في نقد ما يري أنه يستحق النقد وتنشأ عن هذا النقد مناقشة بين الأطراف تنتهي إلي الطريق الأقوم . وفي هذا كسب كبير للدعوة ونماء وثراء . ولكننا حين أخذنا في مناقشة أحمد رأيناه جانحًا – علي غير عادته – إلي التعصب لرأيه ، رافضًا الاستماع إلي حجج من يناقشه ثم رأينا مجموعة من حوله تتعصب لأحمد وتكاد تهدد من يعارضه ، وبدا لنا أحمد فيمن حوله كأنما هو شيخ حوله مريدوه يأمر فيهم وينهي وهم يسارعون في مرضاته ... ومع كل هذا لم تعر الأمر اهتمامًا خاصًا وانطلقنا في طريقنا ولكننا رأينا بعض من كان ينطلق معنا من جنود قد توقفوا ليسيروا في ركاب أحمد ... ورأينا أحمد ومجموعته لا يدعون اجتماعًا عامًا أو خاصًا ينعقد في الدار إلا وفرضوا أنفسهم عليه وتحدث فيه أحمد بالأسلوب المهاجم الذي لا يقبل مناقشة ولا معارضة ، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس حتى محاضرة الثلاثاء .

ورأيت الأستاذ المرشد مهمومًا وحاولت مواساته فطلب إلي أن أحاول إقناع أحمد ، لأن الأستاذ كان يعلم أن لي مكانة خاصة في نفس أحمد ، فجلست إلي أحمد وحاولت إقناعه لكنني لاحظت أنه يعاملني كأنما لم يعرفني من قبل ، بل أحسست كأن المجموعة التي حوله تحاول التحرش بي ، فأخبرت الأستاذ المرشد بما كان من أمره معي ، فازداد الأستاذ همًا وحزنًا وطلب إلي لأول مرة منذ بايعته أن أكون بجانبه في هذه المحنة ، وأن أبدأ بإعداد كلمة ألقيها في اجتماع الكتيبة الأولي ، ففعلت وكانت كلمة تدور حول جمع الكلمة ونبذ ما يدعو إلي الفرقة ، وأن الاجتماع علي نصف الحق خير من التفرق علي الحق كله وتمثلت في ذلك بقول كرم الله وجهه " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " وكان لهذه الكلمة تأثير في مجموعة من إخوان الكتيبة حصنتهم من أن ينجرفوا في تيار الفتنة . والظاهرة العجيبة التي لاحظتها هي أن دعوة أحمد رفعت كانت تلقي كثير من الإخوان آذانًا صاغية واستجابة سريعة ، ولا أدري أكان هذا لقوة حجته وبراعة إقناعه ، أم لأن دعوته المتطرفة صادفت فترة كان الإخوان فيها في حالة خلوة روحية نتيجة للنظام التربوي العنيف الذي أخذهم الأستاذ المرشد به في تلك الأيام فكانوا يتمنون أن يجدوا من يدعوهم إلي تخطي رقاب الزمن ليحققوا ما احتبس في صدورهم من آمال ، فما كادوا يسمعون أحمد رفعت حتى وجدوا دعوته صدي لما يتردد في جنبات نفوسهم فأقبلوا عليه .

مطالب أحمد رفعت :

وعقد الأستاذ المرشد جلسة ضمت صفوة الإخوان وتحدث ما شاء الله أن يتحدث ثم دعا أحمد رفعت ليحدد اعتراضاته علي الإخوان ومطالبه التي يريدها فقام أحمد وحدد اعتراضاته ومطالبه في ثلاثة بنود :

الأول : أنه يري أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب علي الإخوان أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن في قوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " .

الثاني : موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في عدم التبرج والاحتشام ، يري أحمد أن الإخوان لم يتخذوا إجراء ما في شأنه مكتفين بدعوة المرأة إلي ذلك بالنصيحة والكلام دون العمل . ويري أحمد أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكًا عمليًا بأن يوزع الإخوان أنفسهم في شوارع القاهرة ومع كل منهم زجاجة حبر كلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقي عليها من هذا الحبر ، حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعًا لها .

الثالث : موضوع فلسطين : يري أحمد أو وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية لهم جمع المال لهم هو تقصير في حق القضية وقعود عن الجهاد وتخلف عن المعركة وعلي الإخوان أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من الخالفين .

ونصدي بعض الحاضرين للرد علي أحمد في الاعتراضيين الأولين فقالوا :

إن مواجهة الحكومة يجب أن لا تكون إلا بعد توفر عاملين :

1 – توعية الشعب بالحقائق الإسلامية التي لازال حتى اليوم خالي الذهن منها ، ولازال الشعب يجهل علاقة الإسلام بالحكم وعلاقة الإسلام بالتشريع – ونحن لولا اتصالنا بدعوة الإخوان ما فهمنا هذه المعاني .

2 – اكتساب الدعوة قوة شعبية تستند إليها إذا ما أرادت مواجهة الحكومة ، ولازالت الدعوة حتى اليوم دعوة وليدة في حاجة إلي تثبيت لدعائمها وبسط لرواقها .

والمواجهة بغير توفر هذين العاملين لن تكون إلا انتحارًا لا نتيجة له ولا جدوى من ورائه .

أما موضوع المرأة فكان ردهم عليه هو أننا لو أخذنا باقتراح الأخ أحمد لكانت النتيجة في اليوم الأول للأخذ بهذا الأسلوب أن يلقي القبض علي جميع الإخوان ويجر معهم التحقيق ويودعون السجون حتى يحاكموا أمام القضاء الذي يقضي بمعاقبتهم بالسجن والغرامة وإذا قضوا العقوبة وعادوا إلي نفس الأسلوب فإن العقوبة تضاعف . ومادامت التي لطخت ثيابها ستعوض ثمن هذه الثياب مضاعفاً من جيوب الإخوان ثم تري الذي لطخ ثيابها قد أودع السجن فما الذي يمنعها من لبس ما كانت تلبسه وإذن فلا جدوى من وراء هذا الأسلوب في ردع المتبرجات وكل الذي تجنيه هو إلقاء شبابنا في السجون وتعطيلهم من الدراسة وقد يكون في تلك الأحكام قضاء علي مستقبلهم .

أما موضوع فلسطين فكان الأستاذ المرشد قد اتصل في شأنه بالسيد أمين الحسيني مفتي فلسطين فرد علي الأستاذ المرشد بخطاب قرأه علينا في هذا الاجتماع وفيه يقول سماحة المفتي :

" إن المجهود الذي يبذله الإخوان في الدعاية لقضية فلسطين في مصر هو القدر المطلوب الذي نحن في أمس الحاجة إليه ولا يستطيعه غيرهم ، ولسنا في حاجة إلي متطوعين " .

والعجيب الذي لا أزال أذكره أن بعض عقلاء الإخوان رأيتهم يقفون في هذا الاجتماع ويتحدثون تأييدًا لأحمد رفعت بعد أن اقترح هذه الاقتراحات وأذكر منهم الأستاذ عيسي عبده الذي كان موقفه هذا صدمة شديدة للأستاذ المرشد الذي ما كان يتصور منه هذا الموقف .

وانتهي هذا الاجتماع وقد ازداد عدد مؤيدي أحمد ، ولعل ذلك قد بعث في نفسه شيئًا من الغرور فبدأ يتحدي الأستاذ المرشد مباشرة ويوجه إليه ألفاظًا نابية ويخاطبه بأسلوب لا يليق به ثم ازدادوا تطرفاً فصار هو وشيعته يسبون الأستاذ المرشد ويوجهون إليه الشتائم مما أثارنا وأخرجنا عن طورنا وحاولنا مواجهتهم بشيء من العنف ولكن الأستاذ غضب وحال بيننا وبين ما نريد وأبي علينا أن ننالهم ولو بكلمة تؤلمهم ، ومع ذلك فلم يخجلوا أمام هذا النبل بل كانوا يضاعفون عن سفاهتهم .

ولا يفهمن القارئ من قولي إن عدد مؤيديهم قد كثر أن قد صار معهم أكثر الإخوان ، فالكثرة الغالبة من الإخوان في القاهرة كانت كلها في موقف المستاء نمن تفكير هذه الفئة ومن تصرفاتهم ولكنهم كانوا يرون الأستاذ المرشد يحميهم من بطش الإخوان بهم فكانوا في حيرة من أمرهم فكان الأخ من هؤلاء الأخوة الكرام إذا جاء كعادته إلي دار المركز العام تلقاه أفراد هذه الفئة فإما التزم بفكرهم وإلا أسمعوه ما يكره من سله وسب الأستاذ المرشد ورميهم بأفظع التهم ، حتى كره الإخوان أن يحضروا إلي المركز العام حتى خلا المركز العام لهذه الفئة لا يشاركهم فيه أحد سواي تقريبًا حيث كنت حريصًا علي الحضور كل ليلة لأكون بجانب الأستاذ كما طلب إلي . موقف مؤلم ومدمر لا نحسد عليه ؛ فلا نحن بمستطيعين تحديهم مباشرًا خوفاً من أن يدخلوا معنا في معارك بالأيدي والأرجل كما بدا منهم أكثر من مرة ، ولا نحن بمستطيعين منعهم من شتم الأستاذ وسبه ، ولا نحن بمستطيعين أن نقنع الأستاذ برفع حمايته عنهم أو الإقلال من حنوه عليهم وعطفه نحوهم .

توقف كل شيء في المركز العام

ما معني هذا ؟ المركز العام للإخوان المسلمين تتوقف فيه الحركة توقفًا تامًا فلا جلسات للهيئات الإدارية تعقد ولا اجتماعات للجوالة ولا اجتماعات للكتائب ولا محاضرات الثلاثاء ولا اجتماعات الطلبة ولا العمال ، وينقطع جميع الإخوان عنه ، حتى إخوان الأقاليم إذا حضر وفد منهم حالت هذه الفئة بينهم وبين مقابلة الأستاذ المرشد وينصرفون دون مقابلته – وهو موجود بمكتبه بالدار – بعد أن يسمعوا ما يكرهون من سبهم وسب أستاذهم ويغادرون من الدار باكين , لابد من وضع نهاية لهذا العبث ولابد من التفكير في عمل ولابد من التفكير في حل .

الحـل :

لقد وصلت إلي حل ، لكن هذا الحل متوقف نجاحه علي قبول الأستاذ المرشد بفكرة انقطاعه تمامًا عن المركز العام . وذهبت إلي الأستاذ وقلت له : يا أستاذ إن هذه الدعوة دعوتنا جميعًا وإنني أطالبك باسم جميع الإخوان الذين لازالوا علي العهد والبيعة أن تنقطع عن المركز العام منذ اليوم انقطاعًا تامًا . قال : لماذا ؟... قلت لأن خطة قد وضعت لمقاومة هؤلاء الخارجين . والخطة تقتضي أن لا يجد هؤلاء الحنان والحماية اللتين لا تستطيع أن تتخلي عنهما في معاملتهم . قال : ولكني لا أقبل أن يصاب أحد من هؤلاء الأخوة بأذى مهما قالوا . قلت : نعطيك الكلمة علي أن لا نمسهم بأذى . قال مادام انقطاعي عن المركز العام يعين علي القضاء علي هذه الفتنة فأنا عند رأيكم .

هل هو تسام أو انحدار إلي الحضيض ؟

لقد كان حنو الأستاذ عليهم ، والتزام صفوة الإخوان بيوتهم ، وتفرد هؤلاء الخارجين ينشر فكرتهم عن طريق المركز العام دون مقاومة ، واكتسابهم كل يوم أفرادًا من الإخوان الحديثي العهد بالدعوة ، كان كل ذلك مغريًا لهم بالتمادي في ضلالهم ، والتغالي في انحرافهم ، حتى وصل بهم الغرور إلي الحد الذي أدعي فيه أحمد أنه يتلقي تعليمات وأوامر تلقيًا مباشرًا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أدعي أولا أنه عليه الصلاة والسلام يأتيه في الرؤيا ويوجه إليه أوامره . وقد وجد من يصدقه في ذلك ومنهم أفراد من أكرم الإخوان وأخلصهم فمنهم صديق أمين ومنهم محمد عزت حسن ومنهم حسن السيد عثمان .. وكانت هذه الأوامر والتعليمات كلاها منصبة علي أن الإخوان المسلمين قد تخاذلوا عن القيام بدعوتهم ، وأنهم خانوا الدعوة ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اختار أحمد رفعت للقيام بأعباء الدعوة بالطريقة التي شرح لنا طرفاً منها . ثم تعاظم به الغرور فادعي أن يتلقي من رسول الله صلي الله عليه وسلم جهارًا نهارًا في تمام اليقظة ، ثم ادعي أنه صلي الله عليه وسلم يحضر معه الغداء ويتناول معه الطعام , ويتلقي منه الأوامر والتعليمات علي المائدة .

ولما صار حسن السيد عثمان من مصدقيه ، والمؤمنين بخرافاته ؛ وكان حسن كما قدمت شابًا ميسورًا الحال يسكن هو وإخوته الطلبة في منزل فسيح وثير الأثاث ؛ فقد أفسح من بيته لأحمد ،وانقطع هو وأحمد وصديق من كلياتهم كما انقطع محمد عزت حسن عن عمله وحضر إلي القاهرة للإقامة معهم . وكان مما أثارني ، وحملني علي التفكير في خطة حاسمة للوقوف في وجه هذه الفتنة المتفاقمة ، أنني رأيت إخوانًا كرامًا من ذوى العقل والسبق والرزانة يحضرون هذه الجلسات في منزل حسن السيد عثمان ، وعلمت أنهم كادوا يقعون في حبائلهم بدليل توالي ترددهم علي جلساتهم في هذا المنزل ، ومن هؤلاء الإخوان الشيخ أحمد الباقورى .


تنفيذ خطة المقاومة

لما قبل الأستاذ أن ينقطع عن المركز العام اعتبرت ذلك إيذانًا بنجاح الخطة ، وكانت الخطوة الأولي أن أحضرت كشفاً ، وكتبت فيه أسماء الإخوان الذين احتفظوا بإيمانهم بدعوتهم وقيادتهم ولزموا بيوتهم ، فوجهت إلي كل منهم دعوة لاجتماعه بمنزل الأخ عبد الفتاح البساطي في الجيزة .. وقد استجابوا جميعا لحسن صلتي بهم – وانعقد الاجتماع وتحدثت إليهم عن تطورات الفتنة ، وما وصلت إليه ،وعن قبول الأستاذ المرشد فكرة انقطاعه عن المركز العام وشرحت لهم شرحًا أقنعهم بأن التزامهم بيوتهم ، وتركهم المركز العام لهذه الفئة المخرفة ، إنما هو بمثابة إعانتهم علي التمادي في ضلالهم ،وأن حق الدعوة عليهم يقتضيهم ارتياد المركز العام كل ليلة لا يتخلف منا أحد .

ويجدر بي قبل الاسترسال في تفصيلات هذا الاجتماع أن أستدرك فأشير إلي نقطة هامة اضطررت من أجلها إلي تأجيل موعد هذا الاجتماع أكثر من مرة حتى استوفي بحثها ، فلقد أعددت لهذا الاجتماع العدة لسد كل ثغرة من ثغرات الشك قد تكون تطرقت إلي نفوس بعض من يحضرون ، فجمعت في كلمتي من الآيات والأحاديث والحكم ووقائع التاريخ ما يقنع كل متردد ، إلا نقطة واحدة وقفت أمامها ساهمًا عاجزًا ، هي ادعاء هؤلاء رؤية النبي صلي اله عليه وسلم والتلقي عنه . قد يكون من السهل الإقناع ببطلان ما يدعي هؤلاء المدعون أنه تلقوه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا كان هذا الذي تلقوه يتعارض مع نص صريح من نصوص الشريعة الإسلامية .... ولكن إذا كان الذي تلقوه مما هو دون ذلك من أمور يجوز فيها الخلاف كالوسائل والخطط التي تسلك للنهوض بأعباء الدعوة ، فإن الحكم ببطلان ادعائهم في ذلك ليس أمرًا ميسورًا .

وقد شغلتني هذه النقطة وأقضت مضجعي ، وظللت دائب البحث عن رد مقنع وإجابة شافية تملأ النفس وتزيل الحرج حتى أراد الله – وإذا أراد الله شيئًا يسر أسبابه – فقد كنت في زيارة أخ كريم من إخواننا الطلبة الصالحين بكلية الصيدلة هو الأخ عبد المنعم أبو الفضل ، وكان والده من كبار العلماء فبينما أنا أعبث في مكتبة والده التقطت كتابًا وتصفحته فوقع نظري عفوًا علي عنوان الموضوع الذي يشغل بالي فقرأته بتلهف فوجدت فيه طلبتي وبغيتي ، فالمؤلف يقول إن حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه " من رآني في المنام فقد رآني حقاً – فإن الشياطين لا تتمثل بي " حديث صحيح لا شك فيه ، ولكن هذا الحديث موجه إلي فئة معينة هي فئة صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم دون غيرهم ، لأنهم هم وحدهم الذين رأوا رسول الله صلي الله عليه وسلم رأي العين وفي مخيلتهم صورته الحقيقية ، وهم بذلك الذين يستطيعون إذا رأوا في منامهم من يدعي أنه رسول الله أن يحكموا علي هذا المدعي صادق أو كاذب ... أما من سوي هؤلاء الصحابة ممن لم يروا النبي صلي الله عليه وسلم رأي العين فإنهم إذا جاءهم في المنام من يدعي أنه رسول الله فكيف يحكمون بصحة ادعائه وليس في مخيلتهم صورته صلي الله عليه وسلم الحقيقية ؟ وكان هذا الكتاب هو كتاب " الاعتصام " للإمام الشاطبي .. وقد جعلني ما قرأت من تحليل هذا الرجل لهذا الحديث أزداد إيمانًا بأن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم عباقرة . وقد رتب الرجل علي هذه المقدمات نتائج ملخصها الحكم ببطلان كل ما يأتي عن طريق هذا الادعاء .

أثلج صدري وقوعي علي هذه الدرة الثمينة ، وأحسست بن الله تعالي معيننا علي ما نحن بسبيله ، وضاعف ذلك من همتي ، وانعقد الاجتماع كما قدمت ، وأثرت هذه النقطة وأوردت قول الشاطبي فيها ، ولقد شعرت بأن إثارتها وإيراد الرد عليها قد أزال حرجًا كان يتردد في النفوس ولم يكن بد من إزالته ، وانتهينا في هذا الاجتماع إلي مقررات محددة هي :

أولا : الاعتقاد بأن أحمد رفعت ومجموعته ومن يلوذ بهم علي خطأ .

ثانيًا : تعهد كل فرد من المجتمعين بارتياد المركز العام كل ليلة حسب النظام الذي سيوضع لذلك .

ثالثًا : التعهد بعدم مس أحد من مجموعة أحمد رفعت بأي نوع من الإيذاء .

رابعًا : تعهد كل فرد من المجتمعين منذ اليوم بمقاطعة أحمد رفعت ومجموعته مقاطعة تامة بمعني أن لا يلقي عليهم السلام وأن لا يرد عليهم السلام إذا ألقوه عليه ، وأن لا يتحدث إليهم ، وأن لا يرد عليهم إذا وجهوا إليه حديثًا ، وأن لا يعيرهم سمعه ، وأن لا يومئ إليهم ولو بإشارة حتى إذا شتموه لا يرد عليهم .

خامسًا : كل من يرتاد منزل حسن السيد عثمان – حيث يقيم أحمد رفعت – يسري عليه نظام المقاطعة .

سادسًا : تكوين لجنة – كنت أحد أعضائها – تكون مهمتها تنفيذ هذه القرارات – وإذا رأت هذه اللجنة أن أحد الإخوان أخل بهذه القرارات قدمته إلي لجنة أخري تناقشه وتحدد موقفه وتعلنه حتى يعامل علي أساس موقفه المعلن .

سابعًا : يجدد المجتمعون البيعة للأستاذ المرشد علي مبادئ الدعوة وعلي الطاعة في المنشط والمكره وعلي تنفيذ هذه المقررات .

وقد أعد محضر سجل فيه كل ما دار في هذا الاجتماع من كلمات ومناقشات وما انتهي إليه من مقررات ، ووقع جميع الحاضرين عليها ، وقد رفعته إلي الأستاذ المرشد في بيته . ومنذ ذلك اليوم بدأ تنفيذ نظام المقاطعة ، وقسمنا الإخوان علي أيام الأسبوع السبعة بحيث يحضر كل يوم عدد محدد حتى يتمكن الإخوان الجمع بين تنفيذ المقررات وبين قضاء مصالحهم من مذاكرة وغيرها .

وكان مشهدًا رائعًا ومؤلمًا معًا حين دخل أحمد رفعت وخلفه مريدوه إلي المركز العام فيجدوه غاصًا بالإخوان – علي غير ما اعتادوا – فيلقون السلام فلا يرد عليهم أحد ، فيكررون إلقاء السلام فلا يتلقون ردًا ، فيجلسون ويتوجهون نحو هؤلاء الإخوان بالشتائم فلا يردون عليهم .. ثم يدخل رواد من الإخوان حديثي العهد بالدعوة فيتلقاهم إخواننا مرحبين ويبلغونهم المقررات التي اتخذت في الاجتماع وبأن الأستاذ المرشد أقرها فيلتزم هؤلاء الرواد بنظام المقاطعة ويرجع هؤلاء إلي زملائهم وأصدقائهم من الإخوان في كلياتهم ومعاهدهم ومكاتبهم فيبلغونهم ما بلغوا ، ومن أراد من هؤلاء أن يشهر في وجه الخارجين سلاح المقاطعة حضر إلي المركز العام ليشترك مع المكلفين بالحضور ، وامتنع الباقون عن الحضور إلي المركز العام خوفا من أن يخرجهم الخارجون فيردوا عليهم محرجين أو مجاملين فيقعوا تحت طائلة المقاطعة .

وبذلك استطعنا أن نخلي دار المركز العام بعد أيام إلا منا ومنهم ، وصرنا وجهًا لوجه ، فيجلسون الساعة والساعتين لا يجدون من يتحدث إليهم ولا من يتحدثون إليه ، ويبحثون عن الأستاذ المرشد فلا يجدون له أثرًا . وتكرر هذا نحو ثلاثة أسابيع شعر هؤلاء الخارجون بعدها أنهم قد عزلوا عزلا كاملا عن المجتمع بل عن الحياة نفسها ... وبدأ الذين كانوا يلعبون علي الحبلين من الإخوان ، والذين اتخذوها لعبًا ولهوًا يشعرون أن نظام المقاطعة الذي هادنهم فترة في أول الأمر قد اقترب منهم وكاد يطبق علي أعناقهم فانسحبوا من الموكب الذي طالما عززوه وصفقوا له ، وكانوا سببًا في إيغال قائده في الضلال ، انسحبوا منه مكرهين ولزموا بيوتهم ... ووجد أحمد رفعت وحواريوه أن من كانوا حولهم أخذوا في الانفضاض عنهم ، حتى لم يبق حولهم أحد ، فاضطروا إلي عدم الحضور إلي المركز العام ، الذي صار بالنسبة لهم سجنًا .. ومحاولة منهم في البحث عن مجتمع قد يجدون فيه تفريجًا لكربهم ومجالا لنشر آرائهم رضوا بما كانوا يرفضونه من قبل ، وهو الرجوع إلي كليتهم كلية التجارة التي كانوا يرون أنفسهم أعظم من أن ينتظموا طلبة فيها ، وكيف لا وقد أصبحوا أنبياء أو أقرب إلي الأنبياء . وقد خاب رجاؤهم حين دخلوا الكلية فوجدوا طلبتها يصدون منهم صدودًا حيث كان إخواننا الكرام بالكلية ملتزمين بنظام المقاطعة وكانوا قد أعطوا زملائهم صورة كاملة عن أفكار أحمد وزمرته وخرافاتهم ..

حينئذ وجد أحمد نفسه حبيسًا في بيت السيد عثمان وليس معه إلا صديق أمين ومحمد عزت حسن لا أحد غيرهم يطرق عليهم البيت بالليل ولا بالنهار ، فأصيب أحمد بما يشبه الجنون . حتى رق قلبنا له ولمن معه ، وبعثت إليهم من يعرض عليهم الصلح علي أن يرجعوا إلينا تائبين ، معلنين توبتهم ، فاختلفت إجاباتهم ، أما صديق فإنه جاء إلينا وأعلن توبته ، أما حسن السيد عثمان فإنه أعلن أن سيلزم بيته غير متعرض للدعوة بشر ، وأما محمد عزت حسن فلا أدري ما كان من أمره غير أنه قد اختفي اسمه من مجتمع الدعوة منذ ذلك اليوم يقال إن ظل متابعًا حمد .. وأما أحمد فقد عز عليه أن يرجع إلي الصف ويعلن توبته بعد أن صور له الوهم وأوهمه من حوله – وجنوا عليه – أنه يوحي إليه ... قرر أحمد السفر إلي فلسطين لينضم إلي المجاهدين في محاربة للانجليز واليهود ... ولما علمنا بعزمه هذا أرسل إليه الأستاذ المرشد وطلب إليه الحضور ليجهزه بالمال والسلاح ، ويسلمه إلي مجموعة المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يتصلون بنا حتى يؤمنوا له الطريق ، لأن المجاهدين يشكون في كل من يرونه في طريقهم – ماداموا لا يعرفونه – ويعدونه جاسوسًا عليهم ويقتلونه فرفض أحمد طلب الأستاذ المرشد وأصر علي الذهاب وحده ، وذهب فعلا ، ولقي مصرعه كما كنا نتوقع علي أيدي المجاهدين . ولعمري لقد فعل أحمد رفعت ما فعل ، ولكن قلوبنا لا تزال إلي اليوم تتقطع وتنفطر حزنًا عليه فقد كان شابًا نادر المثال ولكنه ضل الطريق .

خـاتمـه

استغرقت هذه الفتنة منذ كانت بصيصًا تحت الرماد حتى قضي عليها قرابة نصف عام كانت الدعوة في خلاله ، عرضة للانتهاء والزوال ، ولكن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ... صحيح أن الدعوة توقفت توقفاً تامًا فترة تزيد علي الشهر ، وهي الفترة التي كان لابد من احتجاب الأستاذ المرشد في بيته خلالها ، ولكنها خرجت منها أقوي مما كانت ، واكتسبت من تجربتها هذه فوائد كانت لها عونًا في أيامها التالية . كان مما تعلمته الدعوة من هذه التجربة أن اتخاذ الحماس مقياسًا تولي علي أساسه الثقة للفرد المتحمس أمر يجب أن يعاد فيه النظر ، فالحماس مع السطحية في فهم كتاب الله وتاريخ الدعوة الإسلامية والخبرة بواقع الحياة أمر من الخطورة بمكان ، فإن هذه السطحية تجعل من الحماس منحدرًا إلي الحضيض ، وإن خيل لصاحبه أنه مرقي في السماء ، فأحمد لم يكن له قبل الانضمام إلي الدعوة أدني معرفة بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالسيرة ولا بالتاريخ الإسلامي ، وحين اقتنع بالفكرة الإسلامية انقض عليها بحماس بالغ ، وقيل أن يتزود بكل معالم الطريق اندفع اندفاعًا غير بصير فاصطدم وتحطم وكان يحطم معه الدعوة .

وكان مما تعلمته الدعوة أيضًا من هذه التجربة أن اللين وإن كان هو الصفة التي يجب أن تنحل بها القيادة في كل أطوارها ، فإن هناك مواقف تحتاج إلي الحسم ، ولما كان الحسم يتعارض مع اللين فكان من كياسة القائد حينئذ أن يتواري ويخلي الطريق لغيره – وقد يكون هذا الغير أصغر منه ولكن لا يفل الحديد إلا الحديد ، وترك الطالبة يتفاعلون كان أجدي من تدخل القيادة بينهم . وكان مما تعلمته الدعوة كذلك أن الدعوات يجب أن تكون أشد حذرًا علي نفسها من أتباعها المقربين منها علي نفسها من أعدائها الخارجيين ، فإن أتباعها علي إصابتها في مقتل .

ولقد كنت سجلت كل ما قلته وكل ما تحدثت به وكل ما خطر ببالي فيما يتصل بهذه الفتنة وكل ما اتخذناه من أساليب لمعالجتها في كشكول ، دونت فيه كل المقررات وأسماء المبايعين عليها وتوقيعاتهم وآثار تلك المقررات أودعته أحد الأخوة الكرام الذين كانوا معنا في ذلك الوقت ولا أدري ألا يزال هذا الكشكول موجودًا أم عدا عليه ما عدا علي غيره من غارات المباحث العامة التي لم تكن تنقطع . وقد تكون خير خاتمة لهذه التجربة القاسية أن أتيت هنا ما جاء علي لسان الأستاذ المرشد بصددها في خطابه الجامع الذي ألقاه في المؤتمر الخامس تحت عنوان : مصارحة :

" أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع – إن طريقكم هذا مرسومة خطواته ، موضوعة حدوده ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك مجال ، خير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات ، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة .

أيها الإخوان المسلمون : ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وانبروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع ، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة ، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض ، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .

أيها الإخوان المسلمون : إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ، وذلك مكفول لكم مادمتم مخلصين ، ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين ، وإما مصيبون فلنا ضعف أجر الفائزين المصيبين ، علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ، ولا إنتاج إلي مع خطتكم ، ولا صواب إلا فيما تعلمون ، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم " .

خسائرنا في هذه الفتنة

إن فتنة كادت تودي بالدعوة ، مهما نصرنا الله عليها ، وأنقذنا من براثنها ، لا يمكن أن نخلص منها دون خسائر ، ولسنا ننكر أنه كانت خسائر لكنها كانت في أضيق الحدود ونجملها فيما يلي :

1 – خسرنا أحمد رفعت ومحمد عزت حسن وكانا أخوين عزيزين .

2 – خسرنا عددًا من الإخوان الكرام ولكن خسارتنا إياهم لم تكن خسارة أبدية بل كانت خسارة مؤقتة فقد اختار هؤلاء الإخوان أن يلزموا بيوتهم لأنهم كانوا لا يزالون في شك من أن الدعوة تسلك طريق القوة والجد الذي ينبغي أن تسلكه الدعوة الإسلامية .. وقد لزموا بيوتهم فعلا ردحًا من الزمن حتى أثبتت لهم الأيام أنهم كانوا علي خطأ حين تعجلوا مواقف قبل أوانها ، وقد دارت الأيام وواجهت الدعوة المواقف التي تعجلوها ولكن بعد أن ثبتت أركانها ، وتعمقت في قلوب الناس جذورها ، فخرجوا من بيوتهم ولحقوا بالركب مرة أخري وكان منهم حسن السيد عثمان وعيسي عبده .

3 – خسرنا مجلة " النذير " لأن صاحب امتيازها تخلف عن الركب ، ومع أن المركز العام للإخوان المسلمين هو صاحب الامتياز الحقيقي لهذه المجلة ، ولم يكن الأستاذ محمود أبو زيد إلا مجرد اسم اختير لأنه كان محاميًا لتتم الصورة الرسمية لإصدار الترخيص بالمجلة ، مع هذا رأي الأستاذ المرشد ترك المجلة له حين رآه متمكنا بالحقوق الرسمية .

4 – خسرنا عددًا قليلا من خبرة الإخوان علي رأسهم الأخ محمد المغلاوي رحمه الله وكان محاميًا وأخا من العباد الذين يطيلون الصلاة ركوعًا وسجودًا وكان بيني وبينه مودة خاصة وحب عميق وقد صارحني بأنه يكن لي ولإخواني كل حب وتقدير ولكنه لا يستطيع الصبر علي ما اختطته الدعوة لنفسها من أسلوب بطئ ومع ذلك فهي ذلك فهي أحسن التكوينات الموجودة في مصر ولذا فإنه سيحاول إنشاء تكوين جديد حثيث الخطي يتجاوب في خطو سريع مع ما يجيش في صدورنا وتضطرم به نفوسنا .

وقد صدق ما وعد أسس تكوينًا جديدًا سماه " شباب محمد " وقد التقي في آماله بآمال شخصية مسلمة هي شخصية الأستاذ حسين يوسف فكونا معًا هذا التكوين الجديد ، وانضم معهم مجموعة من الإخوان المتعجلين وأفراد آخرون . والأستاذ حسين يوسف رحمه الله كان مدرسًا في مدرسة الفنون التطبيقية ومع ذلك فإنه كان ناقما علي ما جرت عليه هذه المدرسة من رسم الرجال والنساء عاريات وكتب في ذلك الكثير من الاحتجاجات . وكان عضوًا في مجلس الجهاد الأعلى لمصر الفتاة ، وقد التقيت به في مدرسة الفنون التطبيقية حين كنت أحضر اجتماعات طلبة الإخوان ، بالمدرسة – وكان لنا بها شعبة قوية – فكان الأستاذ حسين يحضر هذه الاجتماعات ، ودارت بيني وبينه مناقشات وقد اقتنع بأن مصر الفتاة ينقصها عنصر الدين ولكنه يري أن الإخوان المسلمين تعوزهم الجرأة .. ولذا فإنه ما كاد يلتقي بالأخ المغلاوي فكان وإياه كالمثل العربي الذي يقول " وافق شن طبقه " بإنشاء التكوين الذي يرضي ضمائرهما .

ولكن هل حقق هذا التكوين الجديد آمالهما ... هذا ما أجاب عليه الزمن ، ولا داعي لأن نثبت هنا حكم الزمن وإجابته فكلنا نعرفها ، وما أيسر التحقيق في سماء الخيال وما أشق مواجهة الواقع ، وكم من خيالات محققة طواها الزمن إذا ما حاولت النزول إلي ميدان الواقع .