إحكام ابن حزم - الجزء الرابع2

قال أبو محمد فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون أم كيف يحل لمسلم يتقي الله تعالى أن يقول في فتيا الصاحب مثل هذا لا يقال بالرأي وكل ما ذكرناه فقد قالوه بآرائهم وأخطؤوا فيه حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا الخشني نا بندار نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يحدث عن رجل من بني سليم قال سمعت ابن عباس يقول في العزل إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئا فهو كما قال وأما أنا فأقول برأيي هو زرعك إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته وقالعلي في مسيره إلى صفين هو رأي رأيته ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بشيء وقال عمر الرأي منا هو التكلف وقال معاوية في بيع الذهب بالذهب متفاضلا هذا رأي وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق أقول فيها برأيي فإن كان حقا فمن الله وإن كان باطلا فمني والله ورسوله بريئان وقال عمران بن الحصين وذكر متعة الحج قال فيها رجل برأيه ما شاء يعني عمر وقال عبيدةلعلي رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة وقال أبو هريرة في حديث النفقة وزاد في آخره زيادة فقيل له هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا هذا من كيس أبي هريرة فها هم رضي الله عنهم يعترفون أنهم يقولون برأيهم وأنهم قد يخطئون في ذلك فصح بذلك بطلان قول من ذكرنا وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد عن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم نا أبو كريب وإسحاق بن راهويه وإسحاق بن يونس وقال أبو كريب نا أبو معاوية واللفظ له قالا جميعا عن الأعمش عم مسلم وهو أبو الضحى عن مسروق عن عائشة قالت ترخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر استنزه عنه ناس من الناس فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية قال أبو محمد ورواه مسلم أيضا عن زهير بن حرب عن جرير عن الأعمش بسنده فقال بلغ ذلك ناسا من أصحابه حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسين بن فهر نا الحسن بن علي بن شعبان وعمر بن محمد بن عراك قالا نا أحمد مروان نا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل

الترمذي نا حرملة عن ابن وهب سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين حدثه بهما ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة قال لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا في واحد قولان مختلفان يكونان صوابا ما الحق وما الصواب إلا في واحد قال أبو محمد وهذا حجة على المالكيين القائلين بتقليد من احتجوا به من الصحابة وقد اختلفوا فصح بكل ما ذكرنا أنه لا يحل اتباع فتيا صاحب ولا تابع ولا أحد دونهم إلا أن يوجبها نص أو إجماع ويبطل بذلك قول من قال فيما رواه عن الصاحب بخلاف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا لا يقال بالرأي وصح أنه قد يخطىء المرء منهم فيقول برأيه ما يخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمنع عمر من بيع أمهات الأولاد بما روي من سنة وضع الأيدي على الركب في الصلاة ومن قوله في جوابه لعمرو بن العاص إذ قال له وقد احتلم خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلتها لصارت سنة قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم في شيء منه أما بيع أمهات الأولاد فقد خالف في ذلك ابن مسعود وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس عمر فرأوا بيعهن فما الذي جعل عمر أولى بالتقليد من هؤلاء وإنما منعنا من بيعهن لنص ثابت أوجب ذلك فقد ذكرناه في كتاب الإيصال إلى فهم الخصال وقال أصحابنا إنما منعنا من ذلك لإجماع الأمة على المنع من بيعهن إذا حملن من وسادتهن ثم اختلفوا في بيعهن بعد الوضع فقلنا نحن لا نترك ما اتفقنا عليه إلا بنص أو إجماع آخر طردا لقولنا باستصحاب الحال وأما وضع الأيدي على الركب فقد صح من طريق أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا وضع الأيدي على الركب في الركوع وأما قول عمر لو فعلتها لكانت سنة فليس على ما ظن الجاهل المحتج بذلك في التقليد ولكن معنى ذلك لو فعلتها لاستن بذلك الجهال بعدي فكره عمر أن يفعل شيء يلحقه أحد من الجهال بالسنن كما قال طلحة إذ رأى عليه ثوبا

مصبوغا وهو محرم إنكم قوم يقتدى بكم فربما رآك من يقول رأيت على طلحة ثوبا مصبوغا وهو محرم أو كلاما هذا معناه فعلى هذا الوجه قال عمر لو فعلتها لكانت سنة لا على أن يسن في الدين ما لم ينزل به وحي وقد كانوا رضي الله عنهم يفتون بالفتيا فيبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فيرجعون عن قولهم إلى الحق الذي بلغهم وهذا لا يحل غيره وقد فعل أبو بكر نحو ذلك في الجدة وبحث عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفعل ذلك عمر في الاستئذان ثلاثا حتى قال له أبي بن كعب يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال عمر سبحان الله إنما سمعت شيئا فأردت أن أتثبت ورجع عن إنكاره لقول أبي موسى ولم يعرف حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وكذلك أمر المجوس وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها حتى أنكر ذلك عليه عبادة بن الصامت وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وأراد عمر قسمة مال الكعبة فقال له أبي إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك عمر وكان يرد الحيض حتى يطهرن ثم يطفن بالبيت حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله وكان يرد المفاضلة في دية الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم المساواة بينها فرجع عن قوله إلى ذلك وترك قوله وكان لا يرى توريث المرأة في دية زوجها حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فترك قوله ورجع إلى ما بلغه وكان ينهى عن متعة الحج حتى وقف على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بها فترك قوله ورجع إلى ما بلغه وأمر برجم مجنونة زنت حتى أخبره علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلاما معناه إن المجنون قد رفع عنه القلم فرجع عن رجمها ونهى عن التسمي بأسماء الأنبياء فأخبره طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي عن ذلك وأراد ترك الرمل في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فرجع عما أراد من ذلك ومثل هذا كثير وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن أصحابه قد يخطئون في فتياهم فكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول إنه صلى الله عليه وسلم يأمر باتباعهم فيما قد خطأهم فيه وكيف يأمر بالاقتداء بهم في أقوال قد نهاهم عن القول بها وكيف يوجب اتباع من يخطىء ولا ينسب مثل هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاسق أو جاهل لا بد من إلحاق

إحدى الصفتين به وفي هذا هدم الديانة وإيجاب اتباع الباطل وتحريم الشيء وتحليله في وقت واحد وهذا خارج عن المعقول وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كذب عليه ولج في النار نعوذ بالله من ذلك وأما قولهم إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم به فإنه يلزمهم على هذا أن التابعين شهدوا الصحابة فهم أعلم بهم فيجب تقليد التابعين وهكذا قرنا فقرنا حتى يبلغ الأمن إلينا فيجب تقليدنا وهذه صفة دين النصارى في اتباعهم أساقفتهم وليست صفة ديننا والحمد لله رب العالمين وقد قلنا ونقول إن كل ما احتجوا به مما ذكرنا لو كان حقا لكان عليهم لا لهم لأنه ليس في تقليد الصحابة ما يوجب تقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن العجب العجيب أنهم يقلدون مالكا وأبا حنيفة والشافعي فإذا أنكر ذلك عليهم احتجوا بأشياء يرومون بها إيجاب تقليد الصحابة وهم يخالفون الصحابة خلافا عظيما فهل يكون أعجب من هذا ونعوذ بالله من الخذلان وليس من هؤلاء الفقهاء المذكورين أحد إلا وهو يخالف كل واحد من الصحابة في مئين من القضايا وفي عشرات منها فقد بطل ما نصروا وتركوا ما حققوا وقد ذكرنا في باب الإجماع إبطال قول من قال باتباع الصاحب الذي لا مخالف له يعرف من الصحابة وبينا هنالك أنهم الناس لذلك وأنهم قد خالفوا أحكاما كثيرة لعمر بحضرة المهاجرين والأنصار لم يرو عن واحد منهم إنكارا لفعله ذلك كإضعافه الغرم على حاطب في ناقة المزني وغير ذلك وهذا حكم مشتهر منتشر لم يعارضه فيه أحد من الصحابة ولا روي عن أحد منهم إنكارا لذلك فقد تركوه هم يشهدون أن حكم الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة هو الحق فقد أقروا على أنفسهم أنهم تركوا الحق وأنهم أصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ويقال لهم أيضا كيف كان حال حكم الصحابي الواحد الذي لا يعرف له مخالف قبل أن يشتهر وينتشر أكان لازما أن يؤخذ به أو كان غير لازم فإن قال كان غير لازم أوجب أن ذلك الحكم في الدين وجب بعد أن كان غير واجب وهذا كفر وتكذيب لله عز وجل في قوله { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم }

وإن قال كان لازما فقد أوجب لزومه قبل الانتشار وسقط شرطهم الفاسد في الانتشار وهذا القول الفاسد يوجب أن دين الله مترقب فإن انتشر لزم وإن لم ينتشر لم يلزم وهذا كفر بارد وشرك وسخف وبالله تعالى التوفيق وهم يخالفون عمر وزيد بن ثابت في قضاء عمر في الضلع بحمل وفي الترقوة بحمل وفي قضاء زيد في العين القائمة بمائة دينار ولا يعرف له من الصحابة مخالف حتى تحكم بعضهم فلم يستحي من الكذب فقال إنما كان ذلك منهما على وجه الحكومة قال أبو محمد وهذه دعوى فاسدة لا دليل لهم على صحتها أصلا ولا يعجز عن مثلها أحد ويقال لهم مثل ذلك في تقويم الدية بألف دينار وبعشرة آلاف درهم أو باثني عشر ألف درهم ولا فرق وخالفوا ابن عمر وأبا برزة في قولهما إن كل متبايعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا بأبدانهما عن مكان البيع ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة وخالف مالك ابن عمر وابن عباس في قولهما إن استطاعة الحج ليست إلا الزاد والراحلة وخالفوا جابر بن عبد الله في نهيه عن بيع المصاحف ولا يعرف لابن عمر ولا لابن عباس ولا لجابر في هاتين المسألتين مخالف من الصحابة وخالف مالك والشافعي أم سلمة وعثمان بن أبي العاص في قولهما إن أقصى أمد النفاس أربعون يوما ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة وخالف مالك ابن مسعود وأبا الدرداء والزبير وقدامة بن مظعون في إباحة نكاح المريض وجواز ميراثه للمرأة ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف في ذلك وخالفوا أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وسويد بن مقرن في إقادتهم من اللطمة ولا يعلم لهم في ذلك مخالف من الصحابة قال أبو محمد وقد أبطلنا في باب الإجماع قول من قال باتباع الأكثر وهذه نصوص يوجب تكرارنا إياها أنها تقليد صحيح فتدخل في باب التقليد وادعوا هم أنها إجماع فوجب التنبيه عليها أيضا في باب الإجماع لذلك وقد بينا هنالك وفي باب الأخبار من كتابنا هذا بطلان قول من قال محال أن

يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكثر ويعلمه الأقل وذكر حديث أبي هريرة إن أخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول لله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث وإن كان منقولا من طريق الآحاد فإن البرهان يضطر إلى تصديقه لأنه لا شك عند كل ذي عقل ومعرفة بالأخبار أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في ضنك شديد من العيش وكانوا مكدودين في تجارة يضربون لها آفاق بلاد العرب على خشونتها وقلة أموالها وفي نخل يعاونونه بالنص والكد الشديد فإذا وجد أحدهم فرجة حصر وسمع فبطل قول من قال إنه لا يجوز أن يغيب حكمه عليه السلام عن الأكثر ويعلمه الأقل وصح ضد ذلك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأيضا فنقول لمن قال باتباع الأكثر إنه يلزمك أن تعدهم كلهم ثم تعرف من قال بأحد القولين وتعرف عدد من قال بالقول الثاني وهذا أمر لم يفعلوه قط في شيء من مسائلهم وقد قال تعالى { يأيها لذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون } ونقول لهم أيضا هلا قلتم بالأكثر عددا في الشهود إذا اختلفوا على أن عليا يقول بذلك فأين تقليدكم الإمام الصحابي وأين قولكم باتباع الأكثر عددا فإن قالوا النص منعنا من ذلك وتركوا قولهم إن الصحابي أعلم منا ولا شك أن عليا رضي الله عنه قد عرف من النص الوارد في الشهادات كالذي عرف مالك وأبو حنيفة والشافعي مع أن النص لم يرد في عدد الشهود إلا في الزنى والطلاق والديون فقط وقد رجع الصحابة من قول إلى قول وخالف كل إمام منهم الإمام الذي كان قبله فقد كانت الضوال أيام عمر مهملة لا تمس ثم رأى عثمان بيعها وقد ذكرنا ما خالف فيه عمر أبا بكر قبل هذا وقد نهى عثمان عن القران فلبى علي بهما معا قاصدا معلنا بخلافه فلما قال له في ذلك قال له علي ما كنت لأترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد وحدثني أحمد بن عمر بن عمر نا أبو ذر نا زاهر بن أحمد أنا زنجويه بن محمد نا محمد بن إسماعيل البخاري نا محمد بن يوسف نا سفيان عن أسلم

المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال قلت لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان أبا المنذر ما المخرج من هذا الأمر قال كتاب الله تعالى ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه قال أبو محمد فليقلدوا عليا وأبيا في هذا فإنهما على الحق المبين فيه الذي لا يحل خلافه أصلا وهؤلاء عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود يرون رد فضلات المواريث على ذوي الأرحام وزيد بن ثابت وحده يرى رد الفضل على بيت المال دون ذوي الأرحام وإن كان خصمنا مالكيا أو شافعيا فقد ترك قول الأئمة من الصحابة وقول الجمهور منهم وأخذ بقول زيد وحده وكذلك فعلوا في الأقراء فقالوا هي الأطهار وجمهور الصحابة على أنه الحيض والأقل على أنها الأطهار فإن قالوا قد جاء النص إن زيدا أفرضكم قيل هذا الحديث لا يصح ولو صح لكان عليكم لأن في ذلك الحديث ومعاذ أفقهكم فقلدوا معاذا في الفتيا وفي قتل المرتد دون أن يستتاب وفي توريث المؤمن من الكافر وفي أشياء كثيرة خالفتموه فيها واحتج بعضهم بقوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون } وبقوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم } قال أبو محمد وهذا لا يوجب التقليد لأنه قد بينا أنهم لم يتفقوا إلا على ما لا خلاف فيه وعلى الأخذ بسنن النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار رأيهم إذا كان فيه خلاف للسنن وعلى ما قد خالفه هؤلاء الحاضرون كالمساقات إلى غير أجل لكن نقركم ما أقركم الله تعالى ونخرجكم إذا شئنا وغير ذلك مما قد كتبناه في موضعه فقط وقد

وجدنا أبا أيوب ترك صلاة الركعتين بعد العصر طول مدة عمر فلما مات رجع يصليهما فسأله عن ذلك سائل فقال كان عمر يضرب الناس عليهما وقال ابن عباس قولا فقيل له أين كنت عن هذا أيام عمر فقال هبته حدثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا ابن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا علي بن عبد الله بن المديني ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان عند ابن عباس فذكر عول الفرائض فأنكره ابن عباس فقال له زفر بن أوس ما منعك يا ابن عباس أن تشير بهذا الرأي على عمر قال هبته وقد روينا عن ابن عباس من طرق صحيحة أنه هم أن يسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي سنة كاملة لا يقدم على أن يسأله عن ذلك هيبة له وروينا عنه أنه قال كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر ثم روينا عنه القول بصلاتهما بعد عمر كما حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن أبي حمزة قال قال لي ابن عباس لقد رأيت عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر وقال ابن عباس صل إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس وقد ذكر أبو موسى حديث الاستئذان فتهدده عمر بضرب ظهره وبطنه فصح بهذا أن سكوتهم قد يكون تقبة للإسلام أو لئلا يقع تنازع واختلاف وقد يكون تثبتا أو لما شاء الله عز وجل وليس قول أحد لا سكوته حجة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله وسكوته حجة قائمة على ما أعلم واحتج بعضهم بأن حكم الإمام لا ينقض لأن أبا بكر ساوى بين الناس وأن عمر فاضل بينهم فلم يرد أحد ما أعطاه أبو بكر قال أبو محمد وهذا خطأ لأن ما ذكروا من مساواة أبي بكر ومفاضلة عمر ليس حكما وإنما هي قسمة مال موكولة إلى اجتهاد الإمام مباح له أن يفاضل ومباح له أن يسوي وليس هذا شريعة تحليل ولا تحريم ولا إيجاب وقد دون عمر ولم يدون أبو بكر وبالجملة فقد يخطىء الإمام غيره واتباع من يجوز أن يخطىء هو الحكم بالظن

وقد نهى الله تعالى عن اتباع الظن وأما وجوب طاعة الأئمة فذلك حق كل إمام عدل كان أو يكون إلى يوم القيامة وإنما ذلك فيما وافق طاعة الله عز وجل وكان حقا وليس ذلك في أن يشرعوا لنا قولا لم يأتنا به نص ولا إجماع وبالجملة فكل ما تكلموا به في هذا المكان وموهوا به عن المسلمين وسودوا كتبهم بما سيطول الندم عليه يوم القيامة فهم أترك الناس وأشدهم خلافا للأمة الذين أوجبوا تقليدهم فيه وقد بينا ذلك في غير مكان من كتبنا وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب ثنا ابن مناس ثنا ابن مسرور ثنا يوسف بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني من سمع الأوزاعي يقول حدثني عبدة بن أبي لبابة أن ابن مسعود قال ألا لا يقلدن رجل رجلا دينه إن آمن آمن وإن كفر كفر فإن كان مقلدا لا محالة فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة قال أبو محمد وهذا باطل لأن ابن وهب لم يسم من أخبره ولا لقي عبدة بن أبي لبابة بن مسعود مع أنه كلام فاسد لأن الميت أيضا لا تؤمن عليه الفتنة إذا أفتي بما أفتي ولا فرق بينه وبين الحي في هذا هذا على أن بعض من يخالفنا في التقليد عكس هذا الأمر برأيه وهو المعروف بالباقلاني قال من قلد فلا يقلد إلا الحي ولا يجوز تقليد الميت فكان هذا طريقا من الضلالة جدا لأنه دعوى فاسدة بلا برهان وقول مع سخفه ما نعلم قاله قبله أحد أخبرني أحمد بن عمر العذري ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر ثنا خلف بن قاسم ثنا ابن الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النضري الدمشقي ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن زيد بن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب يقول إن حديثكم شر الحديث إن كلامكم شر الكلام فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان ويترك كتاب الله من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس فهذا قول عمر لأفضل قرن على ظهر الأرض فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد صلى الله عليه وسلم والإقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون

واحتج بعضهم في ذلك بقبول قول المقومين لأثمان المتلفات والشهادة على أمثالها وهذا من باب الشهادة والخبر لا من باب التقليد لأن الله عز وجل قد أمرنا بالانتصاف من المعتدي بمثل ما اعتدى فيه فلم نأخذ عن الشاهد بأن هذا الشيء مماثل لقيمة كذا شريعة حرمها الله ولا أوجبها ولكنا علمناه عالما بتلك السلعة أو تلك الجرحة فقبلنا شهادته في ذلك على الظالم وليس هذا من باب قال مالك وأبو حنيفة هذا حرام وهذا واجب وهذا مباح فيما لا نص فيه ولا إجماع وقد أمرنا بالشهادة على الحقوق وبقبولها وبالحكم بها وكل ما أمرنا به فليس تقليدا فينبغي لمن اتقى الله عز وجل ألا يلبس على المؤمنين فليس في كتمان العلم وتحريف الكلم عن مواضعه أشد ولا أضر من أن يضل المرء جليسه الذي أحسن الظن به وقعد إليه ليعلمه دين الله عز وجل يسمي له باسم التقليد المحرم شريعة حق ثم يدس له معها التقليد المحرم فيكون كمن دس السم في العسل والبنج في الكعك فيتحمل إثمه وإثم من اتبعه إلى يوم القيامة وقد قال بعض أهل الجهل لو كلفنا النظر لضاعت أمورنا قال أبو محمد وهذا كلام فاسد من وجوه أحدها أنه يقال له بل لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا لأننا لم نكن ندري من نقلد من الفقهاء المفتين وهم دون الصحابة أزيد من مائتي رجل معروفة أسماؤهم وفي الحقيقة لا يدري عددهم إلا الله تعالى إذ بالضرورة ندري أنه قد كان في كل قرية كبيرة للمسلمين مفت وفي كل مدينة من مدائنهم عدة من المفتين والمسلمون قد ملؤوا الأرض من السند إلى آخر الأندلس وسواحل البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أذربيجان وإرمينية فما بين ذلك والحمد لله رب العالمين وأيضا فإن النظر به صلاح الأمور لا ضياعها وأيضا فإن كل امرىء منا مكلف أن يعرف ما يخصه من أمر دينه على ما بينا قبل مما يجب على كل أحد من معرفة أحكام صلاته وصيامه وما يلزمه وما يحرم عليه وما هو مباح له وهذا هو النظر نفسه ليس النظر شيئا غير تعريف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه اللوازم لنا ولو كلفنا الله تعالى إضاعة أمورنا للزمنا ذلك كما لزم بني إسرائيل قتل أنفسهم إذا أمروا بذلك وهذا أعظم من إضاعة الأمور وقد أمرنا بهرق الخمور وطرح الجيف

ورمي السمن الذائب يموت فيه الفأر وحرم علينا الربا وفي هذا كله إضاعة أموال عظيمة لها قيم كثيرة لو أبيحت لكانت من أنفس المكاسب وأوفرها فكيف وليس في النظر إضاعة أمر بل فيه حفظ كل شيء وتوفية كل الأمور حقها ولله الحمد وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم وكلهم يقول أقول في هذا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني وزاد بعضهم ومن الشيطان والله ورسوله بريئان وفعل ذلك أيضا من بعدهم فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي ولم يروه على الناس دينا فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشيء يتدين به إلا أن يصح به نص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا أحمد بن خالد نا أبو علي الحسن بن أحمد قال حدثني محمد بن عبيد بن حساب نا حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد رده إلى أبي العالية قال قال العباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل له كيف ذلك قال يقول العالم من قبل رأيه ثم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذ به وتمضي الأتباع بما سمعت قال حماد بن زيد حدثنا النعمان بن راشد قال كان الزهري ربما أملى علي حتى إذا جاء الرأي ووقفته عليه فأكتبه فيقول اكتب إنه رأي ابن شهاب وإنه لعلك أن يبلغك الشيء فيقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر فليعلم أنه رأيي قال أبو محمد لم يدعا رضي الله عنهما من البيان شيئا إلا أتيا به فأعلمك ابن عباس أن كاتب رأي العالم والآخذ به له الويل وأن العالم يقول برأيه وأنه يلزمه ترك ذلك الرأي إذا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه وأعلمك الزهري أنه يقول برأيه وينهاك عن أن تقول فيما أتاك عنه إنه لم يقله إلا بأثر وهكذا يفعل هؤلاء الجهال فإنهم يقولون لم يقل هذا مالك وفلان وفلان إلا بعلم كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويحكمون بالظن ويتركون اليقين نعوذ بالله من الخذلان واحتج بعضهم في إثبات التقليد بغريبة جروا فيها على عادتهم في الاحتجاج بكل ما جرى على أفواههم وذلك الحديث الذي فيه إن ابني كان عسيفا على هذا قالوا فقد كان الناس يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي

قال أبو محمد وهذا أعظم حجة عليهم في إبطال التقليد لأن المفتين اختلفوا في تلك المسألة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي فأفتى بعضهم على الزاني غير المحصن بالرجم وأفتى بعضهم عليه بجلد مائة وتغريب عام فكان هذا التنازع لما وقع قد وجب فيه الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إليه فحكم بالحق وأبطل الباطل وهكذا الأمر الآن قد اختلف المفتون حتى الآن في تلك المسألة بعينها فقال أبو حنيفة عليه الجلد ولا تغريب عليه حرا كان أو عبدا وقال مالك عليه الجلد والتغريب إلا أن يكون عبدا وقلنا نحن وأصحاب الشافعي عليه الجلد والتغريب على العموم عبدا كان أو غير عبد فوجب أن يرد هذا التنازع الذي بيننا إلى القرآن والسنة فوجدنا نص السنة يشهد لقولنا فوجب الانقياد له فهذا الحديث يبطل التقليد جملة ونحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين وإنما أنكرنا أن يؤخذ بها برهان يعضدها ودون رد لها إلى نص القرآن والسنة لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ وإذا كان في عصره صلى الله عليه وسلم من يفتي بالباطل فهم من بعد موته صلى الله عليه وسلم أكثر وأفشى فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع واحتجوا أيضا فقالوا إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا أسباب الأوامر منه صلى الله عليه وسلم وما خرج منها على رضا وما خرج منها على غضب فوجب اتباعهم في فتاويهم لذلك قال أبو محمد فيقال لهم وبالله التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مبينا على كل من يأتي إلى يوم القيامة لا على أصحابه وحدهم فكل سبب من غضب أو رضى يوجب حكما فقد نقلوه إلينا ولزمهم أن يبلغوه فرضا بقوله صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فقد نقلوا كل ما شهدوه من ذلك إذا لم يكونوا في سعة من كتمانه وقد أعاذهم الله من ذلك ولو كتموا شيئا مما يوجب حكما في الشريعة مما سمعوا أو مما شاهدوا لاستحقوا أقبح الصفات وقد أعاذهم الله من ذلك ونزههم عنه فلم يقتصروا رضي الله عنهم على فتاويهم دون تبليغ منهم لما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم وشاهدوه منه كما نقلوا إلينا غضبه على الأنصاري الذي أراد أن يقول بالخصوص في قبلة الصائم وغضبه على معاذ في تطويله الصلاة إذا كان إماما وغضبه على من

تنزه عما فعل صلى الله عليه وسلم وغضبه على اليهود إذ قال والذي اصطفى موسى على البشر وإعراضه عن عمار إذ تخلق وعن عائشة وفاطمة إذ علقتا السترين المزينين وسروره بقول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد وسروره باجتماع الصدقة بين يديه إذ أمر بالصدقة إذا أتاه القوم المجتابون للثمار وإشاحته بوجهه المكرم صلى الله عليه وسلم وأفضل التحيات إذ ذكر النار أورده مسلم في كتاب الزكاة وحياءه صلى الله عليه وسلم من الأنصارية المستفتية في غسل المحيض ووصفه الجبة التي على البخيل إذا أراد أن يتصدق وإشارته على كعب بن مالك بيده في إسقاط النصف من دينه على ابن أبي حدرد وتعجبه بنظره وهيئة وجهه من العباس إذ احتمل المال الكثير دون أن يكون منه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلام وضربه صلى الله عليه وسلم بعود في يده بين الماء والطين في حديث أبي موسى ومثل هذا كثير جدا فلم يكن له صلى الله عليه وسلم هيئة ولا حال يوجب حكما من كراهة أو نهي أو إباحة أو ندب أو أمر إلا وقد نقلت إلينا لأن كل ذلك مما بين به صلى الله عليه وسلم مراد ربه تعالى ولو كتموا ذلك عنا لما بلغوا كما لزمهم ولو اقتصروا على تبليغ بعض ذلك دون بعض لدخلوا في جملة من يكتم العلم ولسقطت عدالتهم بذلك وقد نزههم الله تعالى عن هذا وحفظ دينه وقضى بتبليغه إلينا جيلا بعد جيل إلى أن يأتي بعض آيات ربك { هل ينظرون إلا أن تأتيهم لملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل نتظروا إنا منتظرون } وقد علموا رضي الله عنهم أن فتاويهم لا تلزمنا وإنما يلزمنا قبول ما نقلوا إلينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وقد خالف بعض التابعين الصحابة بحضرتهم فما أنكر الصحابة عليهم ذلك كما أنكروا عليهم مخالفة ما رووه كفعل ابن عمر في ابنه إذ روى حديث الخذف وحديث النهي عن منع النساء إلى المساجد فقال ابنه لا تفعل ذلك فأنكر ابن عمر ذلك إنكارا شديدا وكان لا ينكر على من خالفه في فتياه وكذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم كإنكار ابن عباس على عروة وغير معارضة

حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وعمر وكإنكار عمرأن ابن الحصين إذ ذكر حديث الحياء على من عارضه بما كتب في الحكمة وكقول أبي هريرة إذا حدثتك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال في حديث الوضء مما مست النار ووجدنا ابن عباس لم ينكر على عكرمة مخالفته له في الذبيح ولم ينكر أبو هريرة على من خالفه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في إفطار من أصبح جنبا وجميعهم رضي الله عنهم على هذا السبيل لا ينكر على من يخالفه في فتياه وينكر على من خالف روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار ولكن أصحابنا يغفر الله لهم ويسددهم أضربوا على الواجب عليهم من تدبر أحكام القرآن ورواية أخبار النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف العلماء ومعرفة مراتب الاستدلال المفرق بين الحق والباطل وأقبلوا على ظلمات بعضها فوق بعض من قراءة طروس معكمة مملوءة من قلت أرأيت فقنعوا بجوابات لا دلائل عليها وأفنوا في ذلك أعمارهم فصفرت أيديهم من معرفة الحقائق وظلموا من اغتر بهم والأقل منهم شغلوا أنفسهم في أنواع القياس وتخصيص العلل واستخراج علل لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله ولا يقوم على صحتها برهان فقطعوا أيامهم بالترهات ولو اعتنوا بما ألزمهم الله تعالى الاعتناء به من تدبر القرآن وتتبع سنن النبي صلى الله عليه وسلم لاستناروا واهتدوا ولاستحقوا بذلك الفوز والسبق وما توفيقنا إلا بالله تعالى وقال بعض من قوي جهله وضعف عقله ورق دينه إذا اختلف العالمان وتعلق أحدهما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو آية وأتى الآخر بقول يخالف ذلك الحديث وتلك الآية فواجب اتباع من خالف الحديث لأننا مأمورون بتوقيرهم ونحن عالمون أن هذا العالم لو تعمد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كافرا أو فاسقا وفي براءته من ذلك ما يوجب أنه كان عنده علم يوجب ترك ذلك الحديث ورفع حكم تلك الآية لم يكن عند القائل بهما وبهذا يوصل إلى توقير جميعهم قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد من وجوه أحدهما أن قائل هذا من أي المذاهب كان أترك الناس لهذا الأصل ويلزمه أن يبيح بيع الخمر تقليدا لسمرة وألا يبيح التيمم للجنب في السفر أصلا تقليدا لعمر وأن يبيح بيع الثمار قبل أن يبدو

صلاحها تقليدا له وأن يسقط الكفارة عن الواطىء في نهار رمضان تقليدا لإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير وأن يتعمد بالجملة كل قولة خالف صاحبها الحديث والقرآن فيأخذ بها وهذا ما لا يفعله مسلم وفيه ترك لمذاهب في الأكثر ومنها أنه لو صح ما ذكر هذا الجاهل لوجب تفسيق ذلك العالم ضرورة ولاستحق لعنة الله عز وجل لأنه كان يكون كاتما لعلم عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل هذا فقد استحق اللعنة بقول الله تعالى { إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون } وأيضا فلو كان ما ذكر هذا الجاهل لكان ذلك النص الذي توهمه عند ذلك العالم المخالف للحديث قد ضاع ولم ينقل وهذا باطل لأن كلامه صلى الله عليه وسلم كله وحي والوحي ذكر والذكر محفوظ قال الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وأيضا فيقال لهذا الجاهل ولعل هذا العالم لم يبلغه هذا الحديث أو بلغه فنسيه جملة أو لم ينسه لكنه لم يخطر على باله إذا خالفه كما نسي عمر أن بين يديه محمد بن مسلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا أيوب الأنصاري صاحب رحل النبي صلى الله عليه وسلم وأبا موسى الأشعري عامله صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن وهذان لا يعرفان إلا بكناهما حتى إن أكثر الناس لا يعرف اسمهما البتة فنهى عن التسمي بأسماء الأنبياء عليهم السلام فإذا جاز كما ترى أن لا يمر بباله شيء وهو بين يديه وفي حفظه حتى ينهى عنه فهو فيما يمكن مغيبة عنه أمكن وأحرى وكما نسي عمر أيضا قوله تعالى { إنك ميت وإنهم ميتون } حين موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما مات ولا يموت حتى يسوسنا كلنا حتى تليت عليه هذه الآية فخر مغشيا عليه ثم قام وقال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما نهى عن المغالاة في صدقات النساء حتى ذكرته المرأة بقول الله تعالى { وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } فاعترف بالحق ورجع عن قوله وقد كان حافظا

لهذه الآية ولكنه لم يذكرها في ذلك الوقت وكما نسي عثمان رضي الله عنه وهو أحفظ الناس للقرآن قوله تعالى { ووصينا لإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك لتي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من لمسلمين } أمر برجم التي ولدت لستة أشهر وهو حافظ للآية المذكورة حتى ذكر بها فذكرها وأمر ألا ترجم أو لعل ذلك العالم كان ذاكرا لتلك الآية وذلك الحديث ولكنه تأول تأويلا ما من خصوص أو نسخ بما لا يصح وجهه كما فعلوا رضي الله عنهم في نهيه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية فقال بعضهم إنما نهى عنها لأنها كانت حمولة الناس وقال بعضهم لأنها لم تخمس وقال بعضهم لأنها كانت تأكل القذر وقال بعضهم بل حرمت البتة ومثل هذا كثير فهذا كله يخرج تارك الحديث من العلماء السالفين عن الفسق وعن المجاهرة بخلاف نص القرآن والحديث ومعصية النبي صلى الله عليه وسلم الموجبة سخط الله تعالى حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندار نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ومصور ورجل قتل نبيا أو قتله نبي قال أبو محمد فنعيذ الله من سلف من القصد إلى هذه المرتبة وإنما البلية على من تدين بما لم يؤده إليه اجتهاده مما هو عالم مقر أنه لم ينزله الله تعالى وكل من سلف من الأئمة رضي الله عنهم إنما أداهم إلى ما أفتوا به اجتهادهم فالمخطىء منهم معذور مأجور أجرا واحدا هذا لا يظن بهم مسلم سواه وإنما أن يكون عندهم علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله ترك الحديث المنقول ولم يبلغوه ولا نقلوه فهم مبرؤون من ذلك ومنزهون عنه لأن فاعل ذلك ملعون وأما الخطأ فليس ذلك منفيا عنهم بل هو ثابت عليهم وعلى كل بشر فصح بما ذكرنا أن التأويل الذي ذكره الجاهل الذي وصفنا قوله ورام به إثبات

التقليد هو الذي يوجب لو صح على العلماء الفسق ضرورة ويوجب لهم اللعنة وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك وأما نحن فننزههم عن ذلك ولكنا نقول إنهم يصيبون ويخطئون وكان كل ما قالوه مردود إلى القرآن والسنة ومعروض عليهما فلأيهما شهد القرآن والسنة فهو الصحيح وغيره متروك معذور صاحبه الذي قاله ومأجور باجتهاده وأما مقلده ومتبعه فملوم آثم عاص لله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وذكر بعضهم أن إبراهيم النخعي قال لو رأيتهم يتوضؤون إلى الكوعين ما تجاوزتهما وأنا أقرؤها { لمرافق ومسحوا } قال أبو محمد هذا كذب على إبراهيم ولو صح ما انتفعوا به ولكان ذلك خطأ من إبراهيم عظيما فما إبراهيم معصوم من الخطأ فكيف ولا يصح عنه لأن راويه عنه أبو حمزة ميمون وهو ساقط جدا غير ثقة وإنما الصحيح عنه خلاف هذا من الطرق الصحاح كما حدثنا أحمد بن عمر بن أنس ثنا أبو ذر الهروي ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ثنا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد الكسي ثنا محمد بن بشر العبدي عن الحسن بن صالح عن أبي الصباح عن إبراهيم النخعي قال لا طاعة مفترضة إلا لنبي وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم الأصلي عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف الفربري عن البخاري محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن يوسف ثنا سفيان هو الثوري عن منصور عن سعيد بن جبير قال كان ابن عمر يدهن بالزيت قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال ما تصنع بقوله حدثني الأسود عن عائشة قالت كأني أنظر وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم قال أبو محمد فهذا الذي يليق بإبراهيم رحمه الله وهو ألا يلتفت إلى قول ابن عمر إذا وجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فكيف يظن من له مسكة عقل أن إبراهيم يترك قول

ابن عمر لشيء رواه عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويترك نص القرآن لقوم لم يسمعهم ما يظن هذا بإبراهيم وينسبه إليه وقاح سخيف جاهل وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وأتى بعضهم بعظيمة فقال إن عمر بن عبد العزيز قال يحدث للناس أحكام بمقدار ما أحدثوا من الفجور قال أبو محمد هذا من توليد من لا دين له ولو قال عمر ذلك لكان مرتدا عن الإسلام وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وبرأه منه فإنه لا يجيز تبديل أحكام الدين إلا كافر والصحيح عن عمر بن عبد العزيز ما حدثناه حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري عن البخاري ثنا العلاء بن عبد الجبار ثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا يقبل إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر بن عبد العزيز لا يأمر ولا يجيز إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحده وروي أيضا أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه عدي بن عدي الكندي عامله على الموصل يقول إن وجدتها أكثر البلاد سرقا ونقبا أفآخذهم بالظنة أم أحكم بمر الحق فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إن أخذتم بمر الحق فمن لم يصلحه الحق فلا أصلحه الله قال فما خرجت منها إلا وهي أصلح البلاد قال أبو محمد والذي اخترع هذه الكذبة على عمر بن عبد العزيز لا يخلو من أحد وجهين إما إن يكون كافرا أو زنديقا ينصب للإسلام الحبائل أو يكون جاهلا لم يدرك مقدار ما أخرج من رأسه لأن إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعد حد الزنى أو حد القذف أو إسقاط جميع ذلك وإما زيادة في شيء منها أو إحداث فرض جديد وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك

وأي هذه الوجوه كان فالقائل به مشرك لاحق باليهود والنصارى والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئا من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين لأنه مبدل لدينه وقد قال صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ومن الله تعالى نعوذ من غضبه لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك واحتجوا بكتابة أبي بكر المصحف بعد أن لم يكن مجموعا وذكروا حديثا عن زيد بن ثابت أنه قال افتقدت آية من سورة براءة هي { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم } فلم أجدها إلا عند رجل واحد وذكروا في ذلك تكاذيب وخرافات أنهم كانوا لا يثبتون الآية إلا حتى يشهد عليها رجلان وهذا كله كذب بحت من توليد الزنادقة وأما جمع أبي بكر رضي الله عنه المصحف فنعم ووجه ذلك بين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن مفرقا فيأمر بضم الآية النازلة إلى آية كذا من سورة كذا فلم يكن يمكن أن يكتب القرآن في مصحف جامع لأجل ذلك فلما مات صلى الله عليه وسلم واستقر الوحي وعلم أنه لا مزيد فيه ولا تبديل كتبه أبو بكر حينئذ وأثبته وأما افتقار زيد بن ثابت الآية فليس ذلك على ما ظنه أهل الجهل وإنما معناه أنه لم يجدها مكتوبة إلا عند ذلك الرجل وهذا بين في حديث حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله عن أبي إسحاق البلخي عن الفربري عن البخاري حدثنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري قال أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال لما نسخنا المصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين { من لمؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا لله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } قال أبو محمد بيان ما قلناه منصوص في هذا الحديث نفسه وذلك أن زيدا حكى أنه سمع هذه الآية من النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت عند زيد أيضا وقد يدخل هذا الحديث علة وهي أن خارجة لم يحك أنه سمعه من أبيه

وأيضا فقد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال ثنا محمد بن معاوية المرواني ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن معمر ثنا أبو داود هو الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سارها قبل وفاته فقال لها إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة وإنه عارضني به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب وذكر باقي الحديث فهذا نص جلي على أن القرآن إنما هو جمعه وألفه الله تعالى وأقرأه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في عام موته مرتين كما هو وإنه لم يجمعه أحد دون الله تعالى فهو كما هو الآن على ذلك الجمع الأول وأيضا فقد حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أي القراءتين تعدون أول قلنا قراءة عبد الله قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه فإنه عرض عليه مرتين فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل قال أبو محمد أبو ظبيان هو حصين بن جندب الجنبي وقد ذكرنا من جمع القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذه الآية في جملته عندهم وليس عدم زيد وجودها إلا عند خزيمة بموجب أنها لم تكن إلا عند خزيمة بل كل من قرأ على عثمان وأبي الدرداء وابن مسعود وعلي قد قرؤوا عليهم هذه الآية بلا شك وفي هذا كفاية وقد روى قوم أن الآية التي افتقد زيد من سورة براءة وهي { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم } وهذا كذب بحت لكل ما ذكرنا آنفا وأيضا فقد روي عن البراء أن آخر سورة نزلت سورة براءة وبعث النبي بها صلى الله عليه وسلم فقرأها على أهل الموسم علانية وقال بعض الصحابة وأظنه جابر بن عبد الله ما كنا نسمي براءة إلا الفاضحة

قال أبو محمد فسورة قرئت على جميع العرب في الموسم وتقرع بها كثير من أهل المدينة ومنها يكون منها آية خفيت على الناس هذا ما لا يظنه من له رمق وبه حشاشة ويبين كذب هذه الأخبار ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم وأنه صلى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه الآية فيرتبها في مكانها ولذلك تجد آية الكلالة وهي آخر آية نزلت وهي في سورة النساء في أول المصحف وابتداء سورة { قرأ بسم ربك لذي خلق } في آخر المصحف وهما أول ما نزل فصح بهذا أن رتبة الآي ورتبة السور مأخوذة عن الله عز وجل إلى جبريل ثم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك ما كان القرآن منقولا نقل الكافة ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد صلى الله عليه وسلم نقل التواتر ويبين هذا أيضا ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل ليلة في رمضان على جبريل فصح بهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقولهصلى الله عليه وسلم تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي والأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ المص والطور والمراسلات في صلاة المغرب وأن معاذا قرأ في حياته صلى الله عليه وسلم البقرة في صلاة العتمة وأنه صلى الله عليه وسلم خطب ب { ق ولقرآن لمجيد } وذكر صلى الله عليه وسلم خواتم آل عمران وسورة النساء وأمره صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ القرآن من أربعة من أبي وعبد الله بن مسعود وزيد ومعاذ وقول عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي عليه السلام في قراءة القرآن كل ليلة وأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقرأ في أقل من ثلاث والذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ذلك منهم أبو زيد وزيد وأبي ومعاذ وسعيد بن عبيد وأبو الدرداء وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بقراءة القرآن في أيام لا تكون أقل من ثلاث فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف هذا محال لا يمكن البتة وهذا كلها أحاديث صحاح الأسانيد لا مطعن فيها وبهذا يلوح كذب الأخبار المفتعلة بخلافها لأن تلك لا تصح من طريق النقل أصلا فبطل ظنهم أن أحدا جمع

القرآن وألفه دون النبي صلى الله عليه وسلم ومما يبين بطلان هذا القول ببرهان واضح أن في بعض المصاحف التي وجه بها عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق واوات زائدة على سائرها وفي بعض المصاحف { له ما في لسماوات وما في لأرض وإن لله لهو لغني لحميد } في سورة الحديد وفي بعضها بنقصان هو وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أقرأ الخلفاء وأقدمهم صحبة وكان يحفظ القرآن كله ظاهرا ويقوم به في ركعة ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع إلى قراءة زيد وهو صبي من صبيانه وهذا ما لا يظنه إلا جاهل غبي ومنها أن عاصما روى عن زر وقرأ عليه لم يقرأ على زيد ولا على من قرأ على زيد شيئا إلا أنه قد صح عنه أنه عرض على زيد فلم يخالف ابن مسعود وهذا ابن عامر قارىء أهل الشام لم يقرأ على زيد شيئا ولا على من قرأ على زيد وإنما قرأ على أبي الدرداء ومن طريق عثمان رضي الله عنهما وكذلك حمزة لم يأخذ من طريق زيد شيئا وقد غلط قوم فسموا الأخذ بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اتفق عليه علماء الأمة تقليدا وهذا هو فعل أهل السفسطة والطالبين لتلبيس العلوم وإفسادها وإبطال الحقائق وإيقاع الحيرة فلا شيء أعون على ذلك من تخليط الأسماء الواقعة على المعنى ومزجها حتى يوقعوا على الحق اسم الباطل لينفروا عنه الناس ويوقعوا على الباطل اسم الحق ليوقعوا فيه من أحسن الظن بهم وليجوزوه عند الناس كما يحكى عن فساق باعة الدواب أنهم يسمون أورايهم بأسماء البلاد فإذا عرض الحمار للبيع أقسم بالله إن البارحة نزل من بلد كذا وكذا وهو يعني الآري الذي اعتلف فيه ويظن المبتاع أنه من جلب المذكور فهذا فعل أهل الشر والفسق وفاعل هذا في الديانة أسوأ حالا وأعظم جرما من فاعله في سائر المعاملات فاعلم الآن أن قبول ما صح بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره

وقبول ما أجمعت عليه الأمة ليس تقليدا ولا يحل لأحد أن يسميه تقليدا لأن ذلك تلبيس وإشكال ومزج الحق بالباطل لأن التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليدا وقام البرهان على بطلانه وهو غير ما قام البرهان على صحته فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وقد قال تعالى { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى } وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها وقد احتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } قالوا وقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر قط بقبول ما قال المنذر مطلقا لكنه يقال إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الله عز وجل لا ما اخترع مخترع من عند نفسه ولا ما زاد زائد في الدين من قبل رأيه ومن تأول ذلك على الله عز وجل وأجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر وحل دمه وماله وقد سمى الله من فعل ذلك مفتريا فقال تعالى { قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون } قال أبو محمد وظن قوم أنهم تخلصوا من التقليد بوجه به تحققوا بالدخول فيه وتوسطوا عنصره وهو أنهم يبطلون حجاجا تؤيد ما وجدوا أسلافهم عليه فقط ثم لا يبالون أشغبا كانت الحجاج أم حقا ويضربون عن كل حجة خالفت قولهم فإن كانت آية أو حديثا تأولوا فيها التأويلات البعيدة وحرفوهما عن مواضعهما فدخلوا في قوله تعالى { من لذين هادوا يحرفون لكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا وسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في لدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا وسمع ونظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم لله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } فإن أعياهم ذلك قالوا هذا خصوص وهذا متروك وليس عليه العمل

قال أبو محمد وهذا أقبح ما يكون من التقليد وأفحشه كالذي يفعل مقلدو مالك وأبي حنيفة والشافعي فإنهم إنما يأخذون من الحجاج ما وافق مذهبهم وإن كان خبرا موضوعا أو شغبا فاسدا ويتركون ما خالفه وإن كان نص قرآن أو خبرا مسندا من نقل الثقات والعجب أنهم ينسون التقليد ويقولون إن المقلد عاص لله ويقولون لا يجوز أن يؤخذ من أحد ما قامت عليه حجة ويقولون ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك ثم إنهم مع هذا لا يفارقون قول صاحبهم بوجه من الوجوه وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتغنى بطلب دليل على مسائلهم وطالبه منهم في الندرة إنما يطلبه كما ذكرنا آنفا فيعرضون كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على قول صاحبهم وهو مخلوق مذنب يخطىء ويصيب فإن وافق قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قول صاحبهم أخذوا به وإن خالفاه تركوا قول الله جانبا وقوله صلى الله عليه وسلم ظهريا وثبتوا على قول صاحبهم وما نعلم في المعاصي ولا في الكبائر بعد الشرك المجرد أعظم من هذه وأنه لأشد من القتل والزنى لأن فيما ذكرنا الاستخفاف بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالدين ولأن من ذكرنا قد جاءته موعظة من ربه فلم ينته وعاد إلى ما نهي عنه وعرف أنه باطل فتدين به واستحله وعلمه الناس وأما القاتل والزاني فعالمان أن فعلهما خطأ وأنهما مذنبان فهما أحسن حالا ممن ذكرنا وقد قال تعالى { لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون } هذا وهم يقرون أن الفقهاء الذين قلدوا مبطلون للتقليد وأنهم قد نهوا أصحابهم عن تقليدهم وكان أشدهم في ذلك الشافعي فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار والأخذ بما أوجبته الحجة حيث لم يبلغ غيره وتبرأ من يقلد جملة وأعلن بذلك نفعه الله به وأعظم أجره فلقد كان سببا إلى خير كثير فمن أسوأ حالا ممن يعتقد أن التقليد ضلال وأن التقليد هو اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله ثم هم

لا يفارقون في شيء من دينهم وهذا مع ما فيه من المخالفة لله عز وجل ففيه من نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو وحدثنا طائفة من الأشعرية أبدعوا في قولهم بالتقليد قولا طريفا في السخف وهو أن قالوا الفرض على العامي إذا نزلت به النازلة أن يسأل عن أفقه من في ناحيته فإذا دل عليه سأله فإذا أفتاه لزمه الأخذ به ولا يحل للعامي أن يأخذ بقول ميت من العلماء قديما كان أو حديثا صاحبا كان أو تابعا أو من بعدهم فإن نزلت بذلك العامي تلك النازلة بعينها مرة أخرى لم يجز له أن يأخذ تلك الفتيا التي أفتاه الفقيه بها ولكن يسأله مرة ثانية أو يسأل غيره فما أفتاه به أخذ به سواء كانت تلك الفتيا الأولى غيرها وقالوا إن الفرض على كل أحد إنما هو ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه فكل مجتهد في هذا الموضع فهو مصيب قال أبو محمد ويكفي من بطلان هذا القول أنها كلها قضايا مفتراة ودعاوى بلا برهان أصلا فإن قالوا قال الله تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون } قلنا صدق الله تعالى وكذب محرف قوله أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بأحكام القرآن برهان ذلك قوله تعالى { ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق } فصح أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن لا لأن يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق

فصل ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد قال أبو محمد قد ذكرنا كل ما موه به القائلون بالتقليد وبينا بطلانه وانتقاضه بعون الله تعالى لنا ولله الحمد ونحن الآن ذاكرون ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد ونبين وجه الحجاج في بيان سقوطه وأنه لا يحل تصريفه في دين الله عز وجل أصلا فمن ذلك أن يقال لمن قلد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت فإن أخذ يحتج في فضل من قلد ووصف سعة علمه سئل أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم أم لم يكن قبله أحدا أعلم منه ولا أفضل منه فإن قال لم يكن قبله أحد أفضل منه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله إننا لا ندرك بإنفاقنا مثل أحد ذهبا مد أحد من أصحابه ولا نصيفه وبقوله صلى الله عليه وسلم إنه ما من عام إلا والذي بعده دونه وقائل هذا مخالف للإجماع وخارج عن سبيل المؤمنين ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليا وعمر ومعاذا وأبيا وزيدا وابن مسعود وابن عباس أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل من سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحدا يقلد غيرهم لا سيما وقد حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا علي بن الحسن بن فهر ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل قلت لمالك بن أنس يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا ونأخذ بقول إبراهيم قال مالك صح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك هؤلاء يستتابون

قال أبو محمد فإن قال بلى قد كان من ذكرتم وغيرهم مما كان بعد ما ذكرتم ومع هؤلاء المذكورين وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين قيل له فلم تركت الأفضل والأعلم وقلدت الأنقص فضلا وعلما فإن قال لأنه أتى بعض الأولين متعقبا قيل له فقلد من أتى بعدهم أيضا متعقبا على هؤلاء فإن كان مالكيا أو شافعيا أو حنفيا أو سفيانيا أو أوزاعيا قيل له فقلد أحمد بن حنبل فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي في سعة علمه وتبجحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة والتابعين وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم أو قلد أبا ثور فقد كان غاية في ذلك كله وإن كان حنبليا فقيل له قلد محمد بن نصر المروزي فإنه أتى متعقبا بعد أحمد ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة وأخذ علمهم وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج ودقة النظر مع الورع العظيم والدين المتين أو محمد بن جرير الطبري فكان في علمه ودينه بحيث عرف أو الطحاوي فقد كان من العلم أو داود بن علي فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والإجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد وقد أتى متأخرا متعقبا مشرفا على مذهب كل من تقدمه فإن قلد داود قيل له قلد من أتى بعده متعقبا عليه ومخالفه كولده وابن سريج وكالطبري وكمحمد بن نصر المروزي والطحاوي وهكذا أبدا يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس وعن الدين جملة وحتى لو مالوا إلى تقليد الأفضل لبطل عليهم بأن الأفاضل على خلاف ذلك فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق وعمر أفضل منها بلا شك وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة ويسألانهم فلو كان قول الأفضل واجبا أن يتبع لما كان لجمعهما الصحابة معنى لأنهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم ولكانا في ذلك مخطئين

وكل هذه أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شيء منها وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شيء فقد يخطىء الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء سلمان أفقه إذ منعه سلمان من قيام جميع الليل ومن مواترة الصيام فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان فأبو الدرداء بدري عقبي لا تجزأ سلمان منه وأول مشاهد سلمان فالخندق فقد شهد صلى الله عليه وسلم أن الأنقص فضلا أتم فقها وقد قال صلى الله عليه وسلم فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقد قال صلى الله عليه وسلم ورب مبلغ أوعى من سامع وإنما خاطب بذلك الصحابة فغير منكر ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق ويكفي من هذا أن كل ما ذكرنا من الفقهاء الذين قلدوا مبطلون التقليد ناهون عنه مانعون منه مخبرون أن فاعله على باطل وقد حدثنا حمام عن الباجي عن أسلم القاضي عن المازني عن الشافعي أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن سعد ثنا أحمد بن خالد أنا يحيى بن عمر أنا الحارث بن مسكين ثنا ابن وهب قال سمعت مالكا وقال له ابن القاسم ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر قال له مالك من أين علموا ذلك قال منك يا أبا عبد الله قال مالك ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها هم قال أبو محمد كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل { مثل لذين تخذوا من دون لله أوليآء كمثل لعنكبوت تخذت بيتا وإن أوهن لبيوت لبيت لعنكبوت لو كانوا يعلمون } ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية { وتلك لأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا لعالمون } قال أبو محمد فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه قول ربه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم

وهو يقر أن هذا قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليا ودخل في جملة الآية المذكورة اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة فلا كبيرة أعظم منها وقال تعالى { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون } { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون } } قال أبو محمد ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر علماء الأمة وقال تعالى { يوم تقلب وجوههم في لنار يقولون يليتنآ أطعنا لله وأطعنا لرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا لسبيلا } وقال تعالى { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } وقال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } قال أبو محمد فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله أو ببرهان على صدق قوله وإلا فليس صادقا لكنه كاذب آفك مفتر على الله عز وجل ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ضل بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار نعوذ بالله منها وما أدى إليها وقال تعالى حاكيا عن الجن الذين أسلموا مصدقا لهم ومثبتا عليهم { وأنا ظننآ أن لن تقول لإنس ولجن على لله كذبا } فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده وقال تعالى { إذ تبرأ لذين تبعوا من لذين تبعوا ورأوا لعذاب وتقطعت بهم لأسباب }

قال أبو محمد هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم وفاز أولئك الأفاضل الأخيار وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد والنهي عن التقليد وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك قال كان ربيعة يقول لابن شهاب إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به وقال أبو حنيفة علمنا هذا رأي من أتانا بخير منه قبلناه منه وقال عز وجل { وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } قال أبو محمد وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح الذي يقرون بصحته وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة فيأبون قبولها لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين } وقال تعالى { أفرأيت من تخذ إلهه هواه وأضله لله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد لله أفلا تذكرون }

قال أبو محمد هذه صفة ظاهرة من كل مقلد يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك ولا بعقله فيما علم من ذلك ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى وكتاب نبيه صلى الله عليه وسلم وطلب الهدى ممن دون الله تعالى فضل ضلالا بعيدا فواحسرتاه عليهم وواأسفاه لهم وقال تعالى { قل أندعوا من دون لله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا لله كلذي ستهوته لشياطين في لأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى لهدى ئتنا قل إن هدى لله هو لهدى وأمرنا لنسلم لرب لعالمين } قال أبو محمد وهذا نص فعل المقلد لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة ولا ينيله من حسناته حسنة ولا يحط عنه من سيئاته سيئة وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال { ولن ترضى عنك ليهود ولا لنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى لله هو لهدى ولئن تبعت أهوآءهم بعد لذي جآءك من لعلم ما لك من لله من ولي ولا نصير } فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى وقال تعالى { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ آباءنا ولله أمرنا بها قل إن لله لا يأمر بلفحشآء أتقولون على لله ما لا تعلمون } وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية وقد جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريمها وآخذوا الناسي وألزموا شريعة الكفارة المخطىء وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها وقال تعالى ذاما لقوم قلدوا أسلافهم وحاكيا عنهم أنهم قالوا { بل قالوا إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون }

وقال تعالى { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون } وقال تعالى { يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون * وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم وهذا نص كلام رب العالمين الذي إليه معادنا وبين يديه موقفنا وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق وأن هذه عهود ربه إليه وليتب عن التقليد وليفتش حاله فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول { ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب } { ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب } فالمحروم من حرم هذه البشرى وخرج عن هذه الصفة المحمودة نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه وبأنه مبشر وأنه من أولي الألباب وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد واختار أحسنها والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بالحسنى مما وافق القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة وعلى هذا كله السلف الصالح أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا

شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر قال أبو محمد هذا هو الحديث الذي موهوا به واستحلوا الكذب بإبراء مفردا مما قبله وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ وأنه ليس كلامه كله صوابا لا في قوله في الكلالة وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف بأنه لم يفهمها قط وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة لأن الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر وأبعد روايته فعن علي على اختلاف في رؤيته أيضا وأما الاضطراب عن عمر في الجد فإن محمد بن سعيد أخبرني عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن ابن أبي عدي شعبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال قال عمر بن الخطاب حين طعن إني لم أقض في الجد شيئا وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة فهو أن حماما حدثني قال ثنا ابن مفرج عن عبد الأعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء عن الديري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي فلم يدر أحد ما كان فيه فقال إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه قال عبد الرزاق وحدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال الكلالة كما قلت قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له قال أبو محمد هذا أصح سند يرد في هذا الباب عن عمر لاتصاله وعدالة ناقليه

وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة لأن أبا بكر كان يقول الكلالة من لا ولد له ولا والد وعمر عند الموت يقول الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليا رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة هذا إن صح أنه رآه أيضا أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن عاصم عن الشعبي قال سئل عبد الله بن مسعود عن امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها فاختلف إليه شهرا فقال ما سئلت عن شيء منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي منه لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان والله منه بريء وذكر الحديث قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يعترف بالخطأ وبمغيب السنن عنه وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه ثم علمها بعد ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد بن نبات عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن غندر ثنا شعبة عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمرا ينتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا فهذا هو المتصل من طريق الشعبي ثم إنا نقول إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة ولا ظهرت عليه آية ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم ممن لا يقطع على غيب إسلامه ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين لا يقطع له على غيره من الناس بفضل ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين

فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر أو أفضل منه في الظاهر أو في الحقيقة من سابقي الصحابة حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه ونجدهم المساكين في أمور دنياهم لا يقلدون أحدا ولا يبتاع أحدهم شيئا فما دونه أو فما فوقه إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الأبد فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيا أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيا أو ما قال الشافعي إن كان شافعيا ولا مزيد ووالله لو أن هؤلاء رحمهم الله وردوا عرصة القيامة بملء السموات والأرض حسنات ما رحموه منها بواحدة ولو أنه المغرور ورد ذلك الموقف بملء السموات والأرض سيئات ما حطوا منها واحدة ولا عرجوا عليه ولا التفتوا إليه ولا نفعوه بنافعة ونجده يضرب عن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم الذي لا يرجو شفاعة سواه ولا أن ينقذه من أطباق النيران بعد رحمة الله تعالى إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك ونقول للحنفيين ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعلي فتماوتم عليها فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله ألم ينهكم عن تقليده وأمركم باتباع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث صح فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد أو ليس قد قال رحمه الله وقد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه فقال

رحمه الله إن صح هذا الحديث فبه أقول ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها ثم أنتم دأبا تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان تقليدا لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد لأنه أفضل وأعلم عند الله عز وجل من الشافعي وقد قال قائلون منهم نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بالتي تملأ الفم فيقال لهم أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عند ما قد ألزمكم فهمه إذ يقول عز وجل { أفلا يتدبرون لقرآن أم على قلوب أقفالهآ } وقد سمعتموه يقول { يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وسمعتموه يقول { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } وسمعتموه يقول { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم وقد أيقنا أن الله عز وجل لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والأحاديث التي

أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها إن صدقتم ربكم وإن كذبتم كفرتم وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك وأبي حنيفة وقول الشافعي فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا أبو الحسن علي بن عبد العزيز نا الأصبهاني نا عبد السلام نا غطيف بن أعين المحاربي عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا ابن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك فألقيته ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى { تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } فقلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحلون لكم الحرام فتستحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه قلت بلى قال فتلك عبادتكم قال أبو محمد فسمى النبي صلى الله عليه وسلم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم عبادة وكل من قلد مفتيا يخطىء ويصيب فلا بد له من أن يستحل حراما ويحرم حلالا وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم ولا بد أن أحدهم مخطىء أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها وضمن له بيان نهج الصواب فيها وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها فيترك ذلك كله ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها ولا ضمن له نهج الصواب فيها بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه ولامه ربه عز وجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده فمن أضل من هؤلاء وقد احتج بعض من قلد مالكا بأنه المعني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن معاوية عن أحمد بن شعيب أنا

علي بن محمد ثنا محمد بن كثير عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله يضربون أكباد الإبل ويطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة فقال النسائي قوله أبو الزناد خطأ إنما هو أبو الزبير قال أبو محمد وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج قال ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا عمرو بن علي ثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن تضرب أكباد المطي فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة قال البزار لم يرو ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر أنا محمد بن علي ثنا محمد بن عبد الله البيع إجازة أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا أبو مسلم عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي نا معن بن عيسى حدثني زهير أبو المنذر التميمي ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة وقال عالم أهل المدينة حدثنا أحمد بن عمر ثنا فهر نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس ثنا ابن الأعرابي ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي ثنا علي بن المديني ثنا سفيان بن عيينة فذكر الحديث فقال ابن عيينة وضعناه على مالك بن أنس قال ابن فراس ثنا محمد بن أحمد اليقطيني نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني ثنا أبو موسى الأنصاري وذكر هذا الحديث فقال بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول نرى أنه مالك بن أنس قال أبو محمد هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة المذكورة في الحديث المذكور على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم يقل حدثنا أو أخبرنا ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك لأنه كان في عصره ابن أبي ذئب وعبد العزيز

بن الماجشون وسفيان الثوري والليث والأوزاعي وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم ولا في فهمه للقرآن ولا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك دون أن يقولوا إنه سعيد بن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال كانوا يرونه مالكا قالوا فإنما عنى سفيان بذلك التابعين قال أبو محمد فزادوا كذبة وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين لو صح عن سفيان ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه قال أبو محمد هذا بارد وكذب وليت شعري أي شيء من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفا من أنه ظن منه ومثل هذا من الإقدام على القطع بالظنون لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب نعوذ بالله من ذلك ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي ثنا غندر ثنا خلف بن القاسم الحافظ ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري قال محمد بن أبي عمر قال سفيان بن عيينة لو سئل أي الناس أعلم لقالوا سفيان يعني الثوري فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس فدخل في ذلك مالك وغيره وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى وبالله تعالى التوفيق وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر في طلب العلم حقا الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة متعلمين للعلم ومتفقهين في الدين وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على أنه أعلم من عمر لا سيما مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالعلم والدين وأقصى ما يمكن أن يشك هل يساويه في العلم علي وعائشة ومعاذ وابن مسعود وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة فلا أصلا

وأما الإكثار من الرأي فليس علما أصلا ولو كان علما لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك لأنهم أكثر فتيا ورأيا منه فإذا ليس الرأي علما وإنما العلم حفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علما منه كشعبة وسفيان ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والأوزاعي وهشيم وغيره فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور وبالله تعالى التوفيق ثم لو صح وصح أنه مالك باسمه ونسبه لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم فبطل احتجاجهم ولم يمنع وجود مثله في العلم وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال ثنا عبد الجبار المقرىء بمصر نا الحسن بن الحسين النجيرمي ثنا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد عن الجارود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما اللهم إنك أذقت أولها عذابا أو وبالا فأذق آخرها نوالا فقالوا هذه صفة الشافعي فما ملأ الأرض علما قرشي غيره وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال نا ابن أبي دليم نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر الأزهري عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشا ولا تؤخروها فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش قال أبو محمد وهذا حديث صحيح أصح من حديثهم الذي شنعوا به وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي أن الصفة التي بين صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا إن صح الحديث المذكور لأن الزمان إلى الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء وكان بمكة ابن عباس ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا ثم أتى التابعون فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن سعيد بن المسيب

وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والأسود ثم أتى صغار التابعين فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز ثم أتى عصر مالك فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج والليس وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة واستقر في الآفاق فإنما ذلك الحديث إن صح إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة ومكة وغلب الدجال على الأرض حاشا مكة والمدينة فحينئذ يكون ذلك وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث وهذا بين ظاهر وأما الإنذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل البخاري حدثنا إبراهيم بن المنذر نا أنس بن عياض حدثني عبيد الله عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج ثنا شبابة بن سوار قال ثنا عاصم بن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد عن الفربري عن البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو عمرو الأوزاعي ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وذكر باقي الحديث ثم نقول لهم هبكم حتى لو صح الحديث المذكور ثم لو صح أنه مالك بلا شك أي شيء كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

رأى رؤيا فيها أنه أعطي قدحا فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر فقيل له يا رسول الله ما أولت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم العلم وصحة الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أري أمته وعليهم قمص بعضها إلى الثديين وعلى عمر قميص يجره وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر من أعلم أمته وأصحابه ومن أئمتهم دينا ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليا وابن مسعود وعائشة أعلم من مالك بلا شك وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا ولا اتباعه على جميع أقواله كما فعلوا هم بمالك فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح وتأولهم فيه كذب بحت لا يحل لأحد نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الفرق بينهم في الإقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الأمر برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم إن المراد بهذا هو الشافعي لأنه قرشي النسب فيجب أن يكون الناس تبعا له وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن العلم أو هذا الدين بالثريا لتناوله رجل أو رجال من أبناء فارس المراد بهذا داود وأبو حنيفة لأنهما من أبناء فارس هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما وحديث عالم المدينة معلول لا يصح فإن قالوا قد كان في قريش علماء غير الشافعي وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة قيل لهم وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستجيزه ذو ورع قال أبو محمد وأما احتجاجهم بقول مالك هذا العمل ببلدنا فهذا لا معنى له لأن العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلا ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان ذهب ما هنالك ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ فبطل الاحتجاج بالعمل جملة ولا يبق

إلا الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم كما حالوا بينهم وبين العمل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث وهي القرون التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق بن السليم عن ابن الأعرابي عن أبي داود عن مسدد وعمرو بن عون قالا ثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم والله أعلم أذكر الثالث أم لا ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويحربون ولا يؤتمنون ويفشون فيهم السمن قال أبو محمد وهكذا في كتابي والصواب يخونون ولا يؤتمنون و بلفظة يخونون رويناه من طريق مسلم عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن أبي حمزة عن زهدم عن عمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم عملوا به واعتقدوه ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة وأصحاب مالك مالكا ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما ولا تفقهوا في القرآن والسنن ولا بالوا بهما إلا من عصمه الله عز وجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الأعصار الثلاثة المحمودة من اتباع السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في القرآن وترك التقليد وأما أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده وقد خالفه أيضا ابن القاسم وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لأبي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم وخالف بن المواز أصبغ وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني في كثير وكذلك خالف الطحاوي أيضا أبا حنيفة وأصحابه فإن كان النظر حقا فقد أخطؤوا في التقليد وإن كان التقليد

حقا فقد أخطؤوا النظر وترك التقليد فقد ثبت الخطأ عليهم على كل حال والخطأ واجب أن يجتنب قال أبو محمد وقد سألناهم فقلنا لهم أنتم مقرون معنا بأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام ينزل إذا خرج الدجال اللعين فيدبر أهل الإسلام بملتهم لا بملة أخرى فقالوا لنا أبرأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أو بتقليد مالك وابن القاسم وسحنون يحكم بين المسلمين ويقضي في الدين ويفتي المستفتين ألا إن هذا هو الضلال المبين ولقد نكس الإسلام وذلت النبوة وهانت الرسالة وخزي الحق وأهله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه وكلمته يرجع تابعا لمثل هؤلاء الذين لا يقطع لهم بنجاة ولا يضمن ما هم عليه عند الله تعالى فلا والله بل ما يقضي ويحكم ويفتي إلا بما أتى به أخوه في الرسالة وصاحبه في النبوة وقسيمه في نزول الوحي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وليبطلن الآراء الفاسدة فلا خوف من أحد فمن أضل طريقه ممن يدين بشيء هو موقن أنه لم يكن أول الإسلام ولا يكون عند نزول المسيح عليه السلام ومن يضلل الله فما له من هاد ابن فراس نا محمد بن علي بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أنا ابن أبي ليلى عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل أن رجلا مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه فأتوا أبا موسى الأشعري فسألوه عن ذلك فقال لابنته النصف والنصف الباقي للأخت فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الأشعري وتركت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص ضلالا وخلافا للهدى وحدثنا أحمد بن عمر نا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا أبو نعيم عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال سئل حذيفة عن قوله تعالى { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج لرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فلله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } قال لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه

قال أبو محمد هذه صفة المقلدين لأبي حنيفة ومالك والشافعي ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي وسعيد بن عثمان العناني قالا نا يونس بن عبد الأعلى نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري أنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا دحيم نا ابن وهب نا ابن لهيعة عن بكير بن الأشج أن رجلا قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عجبا لعائشة كانت تصلي في السفر أربعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين فقال يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدتها فإن من الناس من لا يعاب كتب إلي النمري ثنا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال عمر بن الخطاب إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء قال سالم قالت عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم فسنة رسول الله أحق أن تتبع قال أبو محمد فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين رجلا واحدا قلد عالما كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء فإن وجدوه ولن يجدوه والله أبدا لأنه لم يكن قط فيهم فلهم متعلق على سبيل المسامحة ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم والبدع محرمة وشر الأمور محدثاتها وليعلموا أن طلاب

سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحدا هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة وأنهم أهل الحق في كل عصر والأكثرون عند الله تعالى بلا شك وإن قل عددهم وبالله تعالى التوفيق وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة نعني التقليد إنما حدثت في الناس وابتدىء بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن قط في الأسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة ولا وجد فيهم رجل يقلد عالما بعينه فيتبع أقواله في الفتيا فيأخذ بها ولا يخالف شيئا منها ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموما طبق الأرض إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه وألا يعدل بنا عنه وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال نا محمد بن إسحاق بن السليم قال نا ابن الأعرابي عن أبي داود نا أبو بكر بن شيبة نا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي قلابة قال قال أبو مسعود وهو البدري لأبي عبد الله وهو حذيفة أو قال أبو عبد الله وهو حذيفة لأبي مسعود البدري ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس مطية الرجل وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فهذا التقليد مذموم في التوحيد فكيف ما دونه وقال ابن مسعود لا تكن إمعة فسئل ما هو فقال الذي يقول أنا مع الناس حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا بشار بندار نا ابن أبي عدي أنبأنا شعبة عن

الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال لا يكونن أحدكم إمعة يقول إنما أنا مع الناس ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر وبه إلى بندار نا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يقول سمعت هبيرة وأبا الأحوص عن ابن مسعود قال إذا وقع الناس في الشر قل لا أسوة لي في الشر وبه إلى بندار قال ثنا سعيد بن عامر نا شعبة عن الحكم قال ليس أحد من الناس إلا وأنت آخذ من قوله أو تارك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وبه إلى بندار نا أبو داود نا شعبة عن منصور عن سعيد بن جبير أنه قال في الوهم يعيد قال فذكرت ذلك لإبراهيم فقال ما تصنع بحديث سعيد بن جبير مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد عن القلعي عن الصواف عن بشر بن موسى عن الحميدي قال قال سفيان ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة قال أبو محمد وصدق سفيان فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء ورد الأحاديث فسارع الناس في ذلك واستحلوه والناس سراع إلى قبول الباطل والحق مر ثقيل وقد أوردنا قبل هذا المكان بأوراق يسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا { تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قال له عدي بن حاتم وكان قبل ذلك نصرانيا يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال له صلى الله عليه وسلم كلاما معناه إنهم كانوا يحرمون ما حرموا عليهم ويحلون ما أحلوا لهم وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العبادة قال أبو محمد ولا جرم فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي وحرموا الجمل والأرنب إذا ذكاهما يهودي تقليدا لخطأ مالك في ذلك وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه { ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين } وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى تقليدا لخطأ أبي حنيفة في ذلك وردوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه وهذا نص ما حرم الله

تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من فعل اليهود والنصارى وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال لتركبن سنن من كان قبلكم فقيل له يا رسول الله اليهود والنصارى فقال صلى الله عليه وسلم كلاما معناه نعم حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا ابن دحيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا عطاء بن السائب عن أبي البختري أن سلمان قال لزيد بن صوحان وأبي قرة كيف أنتما عند زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق ودنيا مطغية تقطع الأعناق ثم قال أما زلة العالم فإن اهتدى فلا تحملوه دينكم وإن زل فلا تقطعوا منه أناتكم وأما جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما أضاء لكم فاتبعوه وما شبه عليكم فكلوه إلى الله عز وجل وذكر باقي الحديث قال أبو محمد فهذا سلمان ينهى أن يقلد العلماء ويأمر باتباع ظاهر القرآن الذي هو كمنار الطريق وينهى عن التأويلات والمتشابه منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين حدثنا يوسف بن عبد الله النمري أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات نا محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري نا موسى بن إسحاق نا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال نا معن بن عيسى القزاز قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه فهذا مالك ينهى عن تقليده وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشافعي فلاح الحق لمن لم يغش نفسه ولم تسبق إليه الضلالة نعوذ بالله منها

فصل في سؤال الرواة عن أقوال العلماء قال أبو محمد فإن قال قائل فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته قيل له وبالله تعالى التوفيق يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى إذ يقول { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون } وإذ يقول { وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه ومن أبى فسيرد ويعلم وقد قال الله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فلم يجعل البيان إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان وحصل على الضلالة ونعوذ بالله منها فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع أولها عن آخرها من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام فإن قال قائل فما وجه قوله تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون } قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله فليبلغ

الشاهد الغائب وبينه تعالى بقوله { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فالدين قد كمل فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل وكل هذا كفر ممن أجازه وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين ولم يأمرهم أن يقولوا من عند شيئا بل حرم تعالى ذلك بذمه قوما شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عز وجل { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب ما بلغه إلينا من تقدمنا ومعلمون إياه ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه فإن قال قائل فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم ولا عالما من عامي وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه لقوله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } ولقوله تعالى { فتقوا لله ما ستطعتم وسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم لمفلحون } والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط ويسقط عنا ما لا نستطيع وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد ومقدار طاقته منه فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا

البحث وإن قال له لا أو قال له هذا قولي أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذبا على رسوله عليه السلام ومقولا له ما لم يقل وقد وجبت له النار يقينا بنص قوله صلى الله عليه وسلم من كذب علي فليلج النار وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله لأنه لا يكون أحد من الناس مسلما حتى يعلم أن الله تعالى ربه وأن النبي عليه السلام وهو محمد بن عبد الله رسول الله بالدين القيم فإن قال قائل فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليست من قوله سهوا أو تعمد ذلك فما الذي يلزم العامي من ذلك وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه وقوما من أصحاب الرأي من يسأل فقال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من الرأي قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا ينقسم ستة عشر قسما وهي من بلغه خبر منسوخ أو آية منسوخة ولم يعلم بنسخ ذلك فالعامي والعالم في ذلك سواء والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ قال تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } فأخبر تعالى

أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه وقد لزمه الأمر الأولى بيقين فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها ما لم يبلغهم النسخ وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيمانا فقال تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم } وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت لكن لما لم يعلموا ذلك لم يلزمهم ما لم يعلموا ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم وهكذا القول في كل ما صح نسخه ولم يصح عند بعض الناس وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليدا ففاسق وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ فهو عاص لله تعالى لأنه ترك الفرض الواجب عليه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم ظنه عالم من العلماء منسوخا فترك العمل به وأفتى بذلك عاميا وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ وهذا خلاف ما تقدم لأنهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما إلا أن من ترك ذلك مجتهدا يرى أن الذي فعل هو الحق ولم يتبين له غيره

بعد فهو مخطىء له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلدا فهو عاص لله عز وجل آثم لا حظ له في الآخرة أصلا لأنه ترك الحق للباطل دون اجتهاد فهذه أربعة أوجه ثم وجهان آخران وهما من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك فإن تركه وهو عنده غير صحيح ولم تقم الحجة عليه بصحته فهو محسن مأجور ولا شيء عليه لأنه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه وأما من صح عنده الخبر فتركه فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدما مستجيزا لخلاف ما صح عنده من الله عز وجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق فهذا قسم وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لقول الله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } ثم وجهان آخران وهما عكس اللذين قبلهما وهما من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحا فعمل به فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق لأنه لم يقصد والأعمال بالنيات فلو تركه عمدا لكان متسهلا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط آثما فيها فإن لم يكن مستسهلا لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك فلا إثم عليه لأنه لم يترك حقا وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة فإنها لا تلزمه ولا هو مأمور بها ولو كان عاصيا بترك العمل بها لكان مأمورا بها وهي باطل فكان يكون مأمورا بالباطل وهذا خطأ متيقن لكنه إن تركها مستسهلا لترك العمل

بالواجب عليه فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب وبالله تعالى التوفيق ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل فإنه إن عمل بها مقلدا فهو آثم في تقليده مأجور إن شاء الله تعالى بعمله بها إن أراد الله تعالى ثم وجهان وهما من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه ولم يبلغه الخصوص وترك العمل بعمومه فوافق الحق وهو لا يعلمه أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموما فمأجور أجرين لأن فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك لكن مطارفة فعمل بالخصوص فوافق الحق فإن كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم بلا دليل فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل لأنه لم يخطىء في ذلك فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه البتة والقياس وقول من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير نص ولا إجماع والرأي كل ذلك خطأ ولم يكن قط حقا البتة ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده رجلان هما عنده عدلان فوافق أن شهدا بباطل إما عمدا وإما غلطا فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما لأنه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا ولم نكلف علم غيبهما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين ولعل الباطن خلاف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده وإن كانوا كاذبين أو مغفلين وهو في ذلك مأجور أجرين ولا إثم عليه فيما خفي عنه فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عز وجل فاسق بتلك النية وبعمله معا والإثم عليه في تركه الحكم بها ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما فهو غير مأمور

بالحكم بشهادتهما ولا يحل له أن يحكم بها أصلا وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك فلو حكم بها فهو آثم عاص بهذه النية وبعمله فاسق بها والإثم عليه في نفس حكمه وإن كان بما وافق الحق وعمدة القول في هذا الباب كله أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمدا أو تقليدا وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقا لا ما أفتاه به المفتون مما لم يأت به نص ولا إجماع وأخبر بأنه نص أو إجماع وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها فإن كانت خيرا فخير وإن كانت شرا فشر وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به وإن لم يعلم أنه ليس مأمورا به وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل إلا أن يبلغه نص فيخالفه وإن كان مخصوصا أو منسوخا بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص ومن هذا الباب من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها وهو يظنها أجنبية فإذا بها امرأته ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها أو لقي إنسانا فقتله وهو يظنه مسلما حرام الدم فإذا به قاتل أبيه عمدا أو كافر حربي أو انتزاع مالا من مسلم كرها فإذا به ماله نفسه فكل هذا إن كان مستسهلا للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل ولا إثم عليه في وطئه ولا أخذه ماله ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحا له وقد يظن ظان أن المستسهل للإثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة قال أبو محمد وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة التي لم يعملها وهذا ما لا شك فيه ولم يقل صلى الله عليه وسلم إن إثم الهم بالسيئة لا يكتب عليه والهم بالشيء غير العمل به قال ضابىء بن الحارث البرجمي هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله ثم استدركنا هذا وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الهم جملة وأنه هو اللمم المغفور جملته

فإن قال قائل فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قيل له قد صح ذلك وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فمن هم بسيئة ثم تركها قاصدا بتركها إلى الله تعالى كتبت له حسنة بهذه النية الجميلة فإن تركها لا لذلك لكن ناسيا أو مغلوبا أو بدا له فقط فإنها غير مكتوبة عليه لأنه لم يعملها ولا أجر له في تركها لأنه لم يقصد بذلك الله تعالى ولا يكون من هم بالسيئة مصرا إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل قال الله تعالى { ولذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فستغفروا لذنوبهم ومن يغفر لذنوب إلا لله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } فصح أن لا إضرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه وهو عالم بأنه حرام عليه وأما من هم بقبيح ولم يفعله قط فهو هام به لا مصر عليه بالنصوص التي ذكرنا فإن قال قائل ما تقولون في حربي كافر لقي مسلما فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم ثم علمه الشرائع وقال له هذه شرائع الإسلام أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا قيل له وبالله تعالى التوفيق الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم وهو أن ما كان مما أمره به موافقا للنص أو الإجماع فهو واجب عليه قبوله ومأجور فيه إن عمله أجران وعاص فيه إن لم يفعله وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه ولا يأثم في ترك العمل به إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص فهو آثم في هذه النية فقط فلو عمل بذلك أجر أجرا واحدا بقصده إلى الخير فقط ولم يؤجر على ذلك العمل ولا إثم فيه لأنه ليس حقا فيؤجر عليه ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه وهذا حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء وهذا حكم العالم فيما اعتقده وأفتى به باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند الله عز وجل فهي أربع مراتب هو إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل فله إثمان إثم النية وإثم العمل

وقال تعالى { ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } فالنية عمل النفس المجرد والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها فهما عملان متغايران وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلا أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق فلا إثم عليه فيما عمل ولا فيما ترك لأنه لم يعمل محرما عليه ولا ترك واجبا عليه ولا يؤجر أيضا في شيء من ذلك لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط لا بما فعل ولا بما ترك ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقا أو ترك الحق وهو يظنه باطلا فهذا مأجور في نيته للخير أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضا لأنه لم يعمل صوابا فيؤجر ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه فقد قال قوم يأخذ بالأخف وقال قوم يأخذ بالأثقل وقال قوم لا يلزمه منها وقال قوم هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك قال أبو محمد أما من قال هو مخير فقد أمره باتباع الهوى وذلك حرام وأخطأ بلا شك وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء وأجاز فيه الاختلاف والله تعالى يقول { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } وقال تعالى { وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين } وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين } فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد وأن سائر ذلك خطأ وباطل فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه وأباح له خلاف حكم الله تعالى وهذا الباطل المتيقن بلا شك فسقط هذا القول بالبرهان الضروري

وأما من قال يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضا وكذلك قول من قال يأخذ بالأخف وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة فإن احتج بقول الله عز وجل { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر وبقوله تعالى { وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير } قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إنه إن أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير فاسق بتركه قبول شيء منها لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة وهو لم يدره بعده فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه لكنه يتركهم ويسأل غيرهم ويطلب الحق مثال ذلك رجل سأل كيف أحج فقال له فقيه أفرد فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون اقرن فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون تمتع فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم ثم يلزمه ما قلنا آنفا قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه إياه بعد اجتهاده ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما إما بتعارض أحاديث أو آي أو أحاديث وآي فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث حتى يلوح له الحق أو يموت وهو باحث عن الحق عالي الدرجة في الآخرة في كلا الأمرين ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمرا لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده والأصل إباحة كل شيء بقوله تعالى { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } وبقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته

والأصل ألا يلزم أحدا شيء إلا بعد ورود النص وبيانه وبقوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم } وبقوله عليه السلام لو قلتها لوجبت فاتركوني ما تركتكم وبقوله صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان خشيت أن يفرض عليكم فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم لا بما لا يعلم ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم ولا يؤاخذ الله تعالى أحدا بشيء لم تقم عليه الحجة ولا صح عنده وجهه لأنه لم يبلغه ذلك الحكم قال تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } وأما من قال إن الفرض على العامي أن يقبل ما أفتاه به الفقيه ولم يفسر كما فسرنا فقد أخطأ ونحن نسأل قائل هذا القول فنقول له إن كنت شافعيا فماذا تقول في عامي سأل مالكيا أو حنفيا عن رجل أعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها فأفتاه بأنها ليست له بزوجة وأن نكاحه فاسد أتجيز له أن يعتر بغير طلاق فيزوجها من غيره فيبيح له فرجا حرمه الله عليه أو تراه عاصيا إن قام معها وإن كان مالكيا قلنا له ما تقول في عامي سأل شافعيا أو حنبليا عن نكاح امرأة أمه أرضعته رضعتين فأفتاه بنكاحها أتبيح له ذلك وتقول إنه لازم الأخذ بقوله أو سأل حنفيا عن المساقاة أتجوز فحرمها عليه أيكون الأخذ بتحريم المساقاة واجبا عليه فإن قال نعم قيل له من أوجب عليه تحريم ذلك إذ يقول إنه واجب عليه أن يأخذ بقول الفقيه الذي يفتيه أنت أم الله عز وجل فإن قال الله عز وجل كذب على الله تعالى وأقر مع ذلك أن الله تعالى أوجب عليه خلاف مذهبه وإن قال أنا أوجبت ذلك ترك مذهبه وزادنا أنه يحرم ويحلل وهذا خروج عن الإسلام

وكذلك يسأل الحنفي عن عامي استفتى مالكيا عن كلام الإمام في الصلاة بما فيه إصلاحها فأفتاه بجواز ذلك أيلزمه الأخذ بقوله فيصير له الكلام في الصلاة مباحا ثم يلزمه كل ما ذكرنا آنفا وهكذا نسأل كل معتقد لمسألة يستعظم مخالفة من خالفه فيها من عامي سأل فقيها فأفتاه بما يستعظمه هذا الذي نسأله نحن أفرض الله تعالى عليه قبول ذلك المعنى أم لا فإن قال لا ترك قوله الفاسد إن العامي قد فرض الله تعالى عليه قبول ما أفتاه الفقيه المسؤول وإن لج وقال نعم صار حاكما بتحريم شيء وتحليله في وقت واحد وجعل حكم الله تعالى مردودا إلى حكم ذلك المفتي وجعل حكم ذلك المفتي مبطلا لحكم الله تعالى ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل دين الله تعالى موكولا إلى آراء الرجال ومتبدلا بتبدل الفتاوى فمرة ساقطا ومرة لازما وفي هذا مفارقة الإسلام ومكابرة العقل وإبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق والناس فيما يعتقدونه ولا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقا فاعتقده على بصيرة وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ فأما الوجهان الأولان فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من اجتهد فأصاب فله أجران وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر وقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم عموم لكل مجتهد لأن كل من اعتقد في مسألة ما حكما ما فهو حاكم فيها لما يعتقد هذا هو اسمه نصا لا تأويلا لأن الطلب غير الإصابة وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا ويصيب من لا يطلب فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلا ثانيا يؤجر عليه أجرا ثانيا أيضا فإن أشكل عليه بعد طلبه فلم يأت محرما عليه ولا اعتمد معصية فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الإصابة فلا أجر له فيما لم يفعل وله بالطلب أجر واحد ولكن الطلب يختلف فمنه طلب أمر به وطلب لم يؤمر به فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر فله أجر الطلب لأنه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا

والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس وفي دليل الخطاب وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي صلى الله عليه وسلم فلم يطلب كما أمر فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عز وجل وطلب الحق وابتغاءه كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة وهي الطلب الذي لم يفعله وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من هم بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة والحسنة بلا شك أجر فالأجر هنا يتفاضل فمن هم بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات لأنه هم بحسنة فعملها ومن هم بالطلب كما أمر فله حسنة واحدة لأنه لم يعملها كما أمر حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا أبو كريب ثنا أبو خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت وبه إلى مسلم حدثنا شيبان بن فروخ ثنا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري عن الجعد أبي عثمان ثنا أبو رجاء العطاري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة قال أبو محمد وأما القسم الثالث وهو المقلد المصيب فهو في تقليده عاص لله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق لأنه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به وكل من عمل عملا بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل ولا شك أن المجتهد المخطىء أعظم أجرا من المقلد المصيب وأفضل لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطىء مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك

فإن قال قائل فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الإسلام من طريق الاستبدال لأنه مقلد والمقلد عاص قيل له ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلدا بل هو مطيع فاعل ما أمر به محسن وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فهذا عاص لله تعالى ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الإسلام تقليدا لأبيه وجاره ولمن نشأ معه ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلما لما جاز قبول شهادته وهذا لا يبعد من الكفر بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف فتنة الناس في قبورهم فقال صلى الله عليه وسلم وأما المنافق أو المرتاب لا ندري أسمى أي ذلك قال فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وهذا نص ما قلنا والمسلمون بحمد الله في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا بل تجد منهم الأكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلدا والحمد لله رب العالمين وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فعند فهو فاسق مردود الشهادة ولو لم يفهمها فهو معذور ولا يضر ذلك شهادته قال الله تعالى { يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون } فذم عز وجل من عند بعد أن تبين له الحق وعذر النبي صلى الله عليه وسلم عمر إذ لم يفهم آية الكلالة فهذا فرق ما بين الأمرين وبالله تعالى التوفيق وأما القسم الرابع وهو المقلد المخطىء فله إثم معصية التقليد وإثم المعصية باعتقاده الخطأ فعليه إثمان وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليصلي الصلاة وما له منها إلا نصفها ثلثها ربعها فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والأحاديث والاستثناء والإضافة وزيادات العدول والناسخ والمنسوخ والمحكم والعام والخاص والمجمل والمفسر والإجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة وفهم البراهين والشغب على

حسب ما تنتهي إليه طاقته وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا من نهي الله تعالى عن التقليد جملة ومع خطئه فقد تناقض لأن القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده وهذا النوع من أنواع الاجتهاد فقد فارق التقليد وتركه ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفا وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه وأيضا فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقا على ذلك بل في الأغلب يدله قوم على رجل ويدله آخرون على آخر وأيضا فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه ومن لا يعلم عنده ومن غيره أعلم منه وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم وقد رأيت أنا بعضهم وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافا ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه ويفتي بالهوى للصديق فتيا وعلى العدو فتيا ضدها ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه شاهدنا نحن هذا عيانا وعليه جمهور أهل البلد إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه بالتقليد والقياس والاستحسان وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم ولا بما لا يصح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عز وجل ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة ما سألوهم ولا استفتوهم بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداما يتلفهم فمن استفتى فقيهين فأفتاه كل واحد منهما بفتيا غير الذي أفتى به الآخر وقال له أحدهما كذا قال الله عز وجل وقال الآخر كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاللازم له أن

يأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله عز وجل { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يخالف ربه عز وجل لكنه يبين مراده تعالى ولأنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نعلم أن القرآن كلام الله تعالى ولا درينا دين الله تعالى ولا عرفنا مراد ربنا تعالى ولا أوامره ولا نواهيه ولا خلاف بين أحد المسلمين في وجوب المصير إلى قوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أمرنا أن نترك العمل به من القرآن فمن ذلك أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين حاشا الأزارقة في وجوب الرجم على الزاني المحصن وليس ذلك في القرآن ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها إلا من شذ عن الحق في ذلك وليس في القرآن شيء من ذلك أصلا وهكذا سائر الأحكام والعبادات كلها وبالله تعالى التوفيق وبرهان قولنا في هذا ما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي ثنا محمد بن إسحاق بن السليم عن أبي داود نا أحمد بن حنبل نا سفيان بن عيينة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله تبعناه فصل هل يجوز تقليد أهل المدينة وقال قوم بتقليد أهل المدينة وقد ذكرنا في باب الكلام في الأخبار من كتابنا هذا وفي باب الإجماع من كتابنا هذا بطلان من احتج بعمل أهل المدينة وإجماعهم فأغنى عن تردده ولكن لا بد أن نذكر ههنا طرفا نشاكل غرضنا في هذا الباب إن شاء الله تعالى

احتج قوم في تقليد أهل المدينة بقبول قولهم في المد والصاع وهذا لا حجة لهم فيه لأن هذا داخل فيما نقلوه مسندا بالتواتر على أن ذلك أيضا مما قد اختلفوا فيه فقد روي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله وهو مدني ما يخالف قولهم ويوافق قول أبي حنيفة ولو كان قبول قولهم في المد والصاع موجبا لقبول قولهم في غير ذلك لوجب تقليد أهل مكة في جميع أقوالهم لاتفاق الأمة كلها يقينا بلا خلاف من أحد منهم على قبول قولهم في موضع عرفة وموضع مزدلفة وموضع منى وموضع الجمار وموضع الصفا وموضع المروة وحدود الحمى فما خالف أحد من جميع فرق الإسلام لا قديما ولا حديثا قول أهل مكة وهذا أكثر من المد والصاع على أن الأمة لم توافق قولهم في المد والصاع وأيضا فإن قولهم في المد والصاع هو أقل ما قيل فهو حجة عندنا من هذه الجهة كما لو قال غيرهم ذلك سواء ولا فرق لأن ما قالوا الصاع ثمانية أرطال وقال قوم أكثر من ذلك وقال جمهور أهل المدينة وقوم من غيرهم خمسة أرطال ونيف فكان هذا المقدار متفقا على وجوب إخراجه في زكاة الفطر وجزاء الصيد وكفارة الواطىء في رمضان والمظاهر وحلق الرأس للمحرم قبل بلوغ الهدي محله فوجب الوقوف عند الإجماع في ذلك وكان ما زاد مختلفا فيه لم يجب القول به إلا بنص ولا نص مسندا صحيحا في ذلك فلم يجب القول بإخراج الزيادة على ذلك بغير نص ولا إجماع وأجمعت الأمة كلها بلا خلاف في أحد منها على أن المد والصاع المذكورين في زكاة الفطر هما المذكوران في المقدار الذي تلزم فيه الزكاة من الحب والتمر وأنهما سواء فلما صح المقدار المذكور في زكاة الفطر صح أنه يعينه في زكاة الحب والتمر ولا فرق ويكفي من هذا أنه نقل مبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكافة وأما الخلاف في المد والصاع فإنما هو خلاف رأي لا خلاف رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فسقط ذلك الخلاف والحمد لله رب العالمين واحتجوا في ذلك بما روي من قول عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما إن الموسم يجمع رعاع الناس فاصبر حتى تأتي المدينة فتخلو بوجوه الناس فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع من عبد الرحمن بن عوف وهذا رسول

الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل التبليغ الذي أمره الله به إلا في مكة في حجة الوداع في الموسم الجامع لكل عالم وجاهل وهنالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل بلغت فقال الناس اللهم نعم فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اشهد ولم يجعل صلى الله عليه وسلم ذلك التبليغ العام الذي أقام به الحجة في المدينة ولا في خاص من الناس ولا بحضرة وجوه الناس خاصة دون الرعاع وكذلك لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة براءة في المدينة وهي آخر سورة نزولا وهي الجامعة للسير وأحكام الخلافة والإمامة حتى يبعث بها عليا ليقرأ في الموسم بمكة في حجة أبي بكر رضي الله عنهما بحضرة كل من حضر وإنما يكون الانفراد بوجوه الناس في الآراء التي تدار ويستضر بكشفها وتجري مجرى الأسرار ومثل هذا كانت مقالة عمر التي حضه عبد الرحمن على تأخيرها إلى أن يخلو بوجوه الناس ولم تكن من الشرائع الواجب معرفتها من الفرض والحرام والمباح ونحن إنما نتكلم مع خصومنا في الشرائع التي تلزم أهل صين الصين والخالدات ومن في حوزارين وأقاضي الزنج وأقاضي بلاد الصقالبة كما يلزم الصحابة وأهل المدينة لزوما مستويا لا تفاضل فيه ولم ننازعهم في إدارة رأي ولا في تحذير من طالب خلافة فلو تركوا التمويه لكان أولى بهم ولو كانت تلك المقالة من واجبات الشرائع ما أخرها عمر ولا أمره ابن عوف بتأخيرها والعجب أن القائلين بهذا قد خالفوا إجماع أهل المدينة حقا فمن ذلك سجودهم مع عمر في { إذا لسمآء نشقت } يوم جمعة فقالوا ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة ومن ذلك اشتراكهم في الهدي يوم الحديبية فقالوا ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة الصحيح وادعوه حيث لا يصح وهكذا يكون عكس الحقائق والأمور في الديانة لا تؤخذ إلا من نص منقول ولا نص على وجوب اتباع أهل المدينة دون غيرهم فإذا كان ذلك دعوى بلا برهان فهو افتراء على الله عز وجل أنه أوجب ذلك وهو تعالى لم يوجبه وهذا عظيم جدا ونسأل الله التوفيق وإذا كان نقل أهل المدينة وغيرهم إنما حكمه أن يراعى الفاسق فيجتنب نقله والعدل فيقبل نقله ففي المدينة عدول وفساق ومنافقون وغيرهم شر خلق الله تعالى

وفي الدرك الأسفل من النار وقال تعالى { وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } وقال تعالى { إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا } وفي سائر البلاد أيضا عدول وفساق ومنافقون ولا فرق وكيف يدعي هؤلاء المغفلون تقليد أهل المدينة وهم يخالفون عمر بن الخطاب في نيف وثلاثين قضية من موطأ مالك خاصة وخالفوا أبا بكر وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وغيرهم من فقهاء المدينة في كثير من أقوالهم جدا فإن كان تقليد أهل المدينة واجبا فمالك مخطىء في خلافه لهؤلاء فيجب عليهم أن يتركوه إذا خالف من أهل المدينة والحقيقة التي لا شك فيها هي أن مرادهم بالدعاء إلى أهل المدينة والتشييع بوجوب طاعتهم إنما هو دعاء إلى قول مالك وحده لا يبالون بأحد سواه من أهل المدينة وأعجب من هذا أنهم فيما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من المسائل ليس عندهم في صحة ذلك إلا نقل مالك وحده ومن المحال أن يثبت الإجماع بنقل واحد لا برهان بيده وكل ما جوزوه على سائر الثقات من رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمن دونه إلى قيام الساعة فهو جائز على مالك ولا فرق فظهر بطلان قولهم لكل ذي حس سليم وأيضا فإن مالك بن أنس رحمه الله لم يدع إجماع أهل المدينة في موطئه إلا في نحو ثمان وأربعين مسألة فقط مع أن الخلاف موجود من أهل المدينة في أكثر تلك المسائل بأعيانها وأما سائرها فلا خلاف فيها بين أحد لا مدني ولا غيره ولم يدع إجماعا في سائر مسائله فاستجاز أهل الجهل على الحقيقة من اتباعه الكذب المجرد والجهل الفاضح ونعوذ بالله من الخذلان في إطلاق الدعوى على جميع أقوالهم أو أكثرها أنها إجماع أهل المدينة وحتى لو صح لهم هذا القول الفاسد لوجب ألا تقبل رواية القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وسائر المالكيين قديما وحديثا لأنهم ليسوا مدنيين فإن قال قائل إنهم أخذوا عن أهل المدينة قيل وكذلك أهل البصرة والكوفة

والشام ومصر ومكة واليمن أخذوا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل وأعلم من الذين أخذ عنهم المذكورون وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به هدى الله تعالى من شاء من أهل المدينة وغيرهم والقرآن واحد مشهور في غير المدينة كما هو بالمدينة وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم معروفة منقولة في غير المدينة كما هي بالمدينة والدين واحد ويهب الله من يشاء من أهل المدينة وغير أهل المدينة ما شاء من الحظ في دينه والفهم في كتابه وأهل المدينة وغيرهم سواء ولا فرق بينهم وما عدا هذا القول فإفك وزور وكذب وبهتان وبالله التوفيق وقد ذكرنا أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي لم يقلدوا ولا أجازوا لأحد أن يقلدهم ولا أن يقلد غيرهم وروي أن مالكا أفتى في مسألة في طلاق البتة أنها ثلاث فنظر إلى أشهب قد كتبها فقال امحها أنا كلما قلت قولا جعلتموه قرآنا ما يدريك لعلي سأرجع عنها غدا فأقول هي واحدة وهذا ابن القاسم لا يرى بيع كتب الرأي لأنه لا يدري أحق فيها أم باطل ويرى جواز بيع المصاحف وكتب الحديث لأنها حق وقال مالك عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط وذكر الشافعي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض جلسائه يا أبا عبد الله أنأخذ به فقال له يا هذا أرأيت علي زنارا أرأيتني خارجا من كنيسة حتى تقول لي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنأخذ بهذا ولم يزل رحمه الله في جميع كتبه ينهي عن تقليده وتقليد غيره وهكذا حدثني القاضي أبو بكر حمام بن أحمد عن عبد الله بن محمد الباجي عن القاضي أسلم بن عبد العزيز بن هشام عن أبي إبراهيم المزني عن الشافعي فترك هؤلاء القوم ما أمرهم به أسلافهم وعصوهم في الحق واتبعوا آراءهم تقليدا وعنادا للحق حدثنا القاضي يونس بن عبد الله ومحمد بن سعيد بن نبات قال يونس نا يحيى بن مالك بن عائن نا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخشاب نا أبو جعفر أحمد

بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي الجحيم نا محمد بن معاذ نا سفيان بن عيينة وقال محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا أبو موسى الزمن هو محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري ثم اتفق ابن عيينة والثوري واللفظ للثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال قال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي قال لا ولا على ملة عثمان أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم قال محمد بن المثنى وثنا مؤمل نا سفيان الثوري عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال لي معاوية أنت قلت ما أنا بعلوي ولا عثماني ولكني على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يونس بن عبد الله نا يحيى بن مالك بن عائذ حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فإذا كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم لا يستجيزون نسبة ما يعبدون به ربهم ولا مذاهبهم إلى أبي بكر ولا إلى عمر ولا إلى عثمان ولا إلى علي ولا ينتسبون إلى أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بهم لو شاهدوا ما نشاهده من المصائب الهادمة للإسلام على من امتحنه الله به من الانتماء إلى مذهب فلان وفلان والإقبال على أقوال مالك وأبي حنيفة والشافعي وترك أحكام القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ظهريا والحمد لله على تثبيته إيانا على دينه وسنته التي مضى عليها أهل الأعصار المحمودة قبل أن تحدث بدعة التقليد وتفشو وبالله نعتصم كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله الحافظ نا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن يزيد بن أبي زيادة عن إبراهيم هو النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم عليها الكبير وتتخذ سنة المبتدعة جرى عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثر أمراؤكم وقل أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين

حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر عبد بن أحمد نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خزيم بن مهر نا عبد بن حميد نا محمد بن الفضل نا الصعق بن حزن عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدري أي الناس أفضل قلت الله ورسوله أعلم قال فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذ فقهوا في دينهم ثم قال يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال هل تدري أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان تزحف على استه كتب إلي النمري نا سعيد بن سيد نا عبد الله بن محمد نا أحمد بن خالد نا ابن وضاح نا إبراهيم بن محمد الشافعي نا أبو عصام رواد بن الجراح العسقلاني عن سعيد بن بشر عن قتادة قال من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه كتب إلي النمري ثنا أحمد بن سعيد بن بشر نا أحمد بن أبي دليم نا ابن وضاح نا إبراهيم بن يوسف الفريابي نا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال لا ينبغي لأحد أن يفتي أحدا من الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه هكذا روينا عن سعيد بن جبير وهكذا قال أحمد بن حنبل وغيره كتب إلي النمري قال روى عيسى بن دينار عن أبي القاسم قال سئل مالك قيل له لمن تجوز الفتيا قال لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يفتي ولا يجوز لمن لم يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي قال النمري وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لم يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي كتب إلي النمري نا خلف بن القاسم نا الحسن بن رشيق نا علي بن سعيد الرازي نا محمد بن المثنى نا عيسى بن إبراهيم سمعت يزيد زريع يقول سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما

كتب إلي النمري أخبرني خلف بن القاسم نا محمد بن شعبان القرظي نا إبراهيم بن عثمان نا عباس الدوري قال سمعت قبيصة بن عقبة يقول لا يفلح من لم يعرف الاختلاف كتب إلي النمري أخبرني قاسم بن محمد نا خالد بن سعيد نا محمد بن فطيس نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت أشهب يقول سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خطأ وصواب فانظر في ذلك كتب إلي النمري وذكر يحيى بن إبراهيم بن مزين حدثني أصبغ قال قال ابن القاسم سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كما قال ناس فيه توسعة ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب كتب إلي النمري أخبرني عبد الرحمن بن يحيى أنا أحمد بن سعيد نا محمد بن ريان نا الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطىء ومصيب فعليك بالاجتهاد وذكره إسماعيل في المبسوط عن أبي ثابت المدني عن ابن القاسم عن مالك كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير حدثني أبي عن سعيد بن عامر ثنا شعبة عن الحاكم بن عتيبة قال ليس أحد من خلق الله تعالى إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري ثنا خلف بن القاسم نا ابن أبي العقب بدمشق نا أبو زرعة ثنا ابن أبي عمر نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس أحد من خلق الله عز وجل إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير أنا الغلاقي نا خالد بن الحارث قال قال سليمان التيمي لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا يوسف بن عدي نا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عز وجل { تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قال

أما أنهم لو أمروهم أن تعبدوهم من دون الله تعالى ما أطاعوهم ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله تعالى حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية قال ابن وضاح وحدثنا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة بن اليمان في قول الله تعالى { تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } أكانوا يعبدونهم قال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه كتب إلي النمري أنا سعيد بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال قال معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال المنافق بالقرآن فسكتوا فقال أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فله منار كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ما شئتم فيه فكلوه إلى عالمه وذكر باقي الحديث قال أبو محمد هذا هو نص ما ذهبنا والحمد لله رب العالمين في اتباع الظاهر وترك تقليد كتب إلي النمري ثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا أبو سعيد البصري بمكة ثنا الحسن بن عفان العامري ثنا الحسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال قال سليمان الفارسي كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا فكلوه إلى عالمه كتب إلي النمري ثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا أنا قاسم بن أصبغ ثنا بكر بن حماد ثنا بشر بن حجر أنا خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء يعني ابن السائب عن أبي البختري عن علي بن أبي طالب قال

إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه وذكر الحديث كتب إلي النمري قال ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه يقول الله عز وجل { لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب } قال أبو محمد لو اتبع مقلدوه وهذا القول منه لاهتدوا ونعوذ بالله من الخذلان وقالوا أيضا إن جمهور الصحابة كانوا بالمدينة وإنما خرج عنها الأقل ومن المحال أن تغيب السنة عن الأكثر ويدريها الأقل قال أبو محمد وهذا فاسد من القول جدا لأن الرواية إنما جاءت عن ألف صاحب وثلاثمائة صاحب ونيف أكثرهم من غير أهل المدينة وجاءت الفتيا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط أكثرهم من غير أهل المدينة وهذه الأمور لا تطلق جزافا ولا يؤخذ الدين عمن لا يبالي أن يطلق لسانه بما لا يدري ولا اهتبل به يوما من دهره قط ولا شغل بالبحث عنه ليلة من عمره وإنما يؤخذ ممن جعله وكده وعمدته وآثره على طلب رياسة الدنيا وأعده حجة ليلقى بها ربه إذا سئل يوم القيامة ثم إن كل قولة قلدوا فيها مالكا من تلك الآراء المضطربة وتلك المسائل التي فيها القولان والثلاثة وهي أكثر أقواله فليس كل واحدة منها شهدها جميع أصحابه الباقين بالمدينة نعم ولا سائر الأحكام التي أسندها إلى من أسندها إليه إنما هي حكم حكم بها حاكم إما رضيه غيره منهم وإما سخطه ومن ادعى إجماعهم عليه فقد ادعى الكذب الذي لا يخفى على أحد إذ لا شك أنهم لم يكونوا كلهم ملازمين لكل حكم حكم به الإمام هنالك أو قاضيه فظهر سقوط ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق

الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب قال أبو محمد هذا مكان عظيم فيه خطأ كثير من الناس وفحش جدا واضطربوا فيه اضطرابا شديدا وذلك أن طائفة قالت إذا ورد نص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها وقالت طائفة أخرى وهم جمهور أصحاب الظاهريين وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل كان موقوفا على دليل قال أبو محمد هذا القول هو الذي لا يجوز غيره وتمام ذلك في قول أصحابنا الظاهريين أن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها ولا تعطيك حكما في غيرها لا أن ما عداها موافق لها ولا أنه مخالف لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله وتحير في هذا بعض أصحاب القياس من الحنفيين والشافعيين والمالكيين كأبي الحسين القطان الشافعي وأبي الفرج القاضي المالكي لما رأوا عظيم تناقضهم في هذا الباب فقالوا دليل الخطاب على مراتب فمنه ما يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها كحكم هذه التي خوطبنا ومنه ما لا يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها بخلاف حكم هذه التي خوطبنا ومنه ما لا يفهم أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها موافق لحكم هذه التي خوطبنا بها ولا مخالف

ومثلوا القسم الأول بقوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } قالوا ففهمنا أن غير { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } وبآيات كثيرة سنذكرها في باب القياس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى لأن ذلك المكان أمكن بذكرها ومثلوا القسم الثاني بأمثلة اضطربوا فيها فقال الشافعيون والحنفيون من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة قالوا فدل ذلك على أن ما عدا السائمة لا زكاة فيها وأنها ليست بمنزلة السائمة وأدخل المالكيون هذا الحديث في القسم الأول وقالوا بل ما دل إلا أن غير السائمة بمنزلة السائمة وقال الألوان هذا بمنزلة من قال إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فيعلم أن هذا شرط فيه وإنه إن دخل أعطى درهما وإن لم يدخل لم يعط شيئا ومثل المالكيون هذا القسم الآخر بقوله تعالى { ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } قالوا فدل ذكر الركوب والزينة على أن ما عداهما ممنوع كالأكل ونحوه قال أبو محمد فأما هؤلاء المتحيرون الذين ذكرنا آخرا يعني الذين قالوا إن الخطاب قد يدل في مواضع على أن ما عداه بخلافه ويدل في مواضع أخر على أن ما عداه ليس بخلافه فإنهم لعبوا في هذا المكان بالخطاب كما يلعب بالمخراق فمرة حكموا لغير المنصوص بأن المنصوص يدل على أن حكمه كحكمه ومرة حكموا بأن المنصوص يدل على أن حكمه ليس كحكمه فليت شعري كيف يمكن أن يكون خطابان يردان بالحكم في اسمين فيفهم من أحدهم أن غير الذي ذكر مثل الذي ذكر ويفهم من الآخر أن غير الذي ذكر بخلاف الذي ذكر وهذا ضد ما فهم من الأول وتالله ما خلق الله تعالى عقلا يقوم فيه هذا إلا عقل من غالط نفسه فتوهم ما لا يصح بدعوى لا يعجز عن مثلها أحد بلا دليل وكل من لم يبال بما قال يقدر أن يدعي أنه فهم من هذا اللفظ غير ما يعطي ذلك اللفظ

قال أبو محمد وأما أكياسهم فإنهم سموا القسم الأول قياسا وسموا الثاني دليل الخطاب فقد رأوا إذ فرقوا بين معنى واحد باسمين أنهم قد سلموا بذلك من التناقض وهم من التورط فيه بمنزلة من سمى كل ذلك دليل الخطاب ولا فرق ونحن نسألهم من كلامهم فنقول لهم ما الفرق بينكم إذ قالت طائفة منكم إن ذكر السائمة يدل على أن غير السائمة بخلاف السائمة وقالت طائفة أخرى بل ذكر السائمة إلا على أن غير السائمة موافق لحكم السائمة ما الفرق بينكم وبين من عكس عليكم قولكم إن قول الله تعالى { ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون } إن ذكر القنطار يدل على أن ما عدا القنطار مثل القنطار فقال بل ما يدل ذكر القنطار إلا على أن ما عدا القنطار بخلاف القنطار فقد يفزع الخائن من خيانته إذا كانت كثيرة وقد يحتقر اليسير فلا يخونه فهلا جعلتم القنطار ههنا حدا للكثير كما جعلت طوائف منكم ذكره صلى الله عليه وسلم المائتي درهم في وجوب الزكاة فيها دليلا على أن العشرين دينارا كثير فلا يحلف عند المنبر أحد في أقل منها وأن ما دونها قليل فلا يحلف فيها إلا في مجلس الحاكم وجعلت طوائف أخر منكم ذكره صلى الله عليه وسلم ربع الدينار في قطع السارق دليلا على أن ربع الدينار كثير وأن ما عداه قليل فلا يستباح فرج بأقل منه ولا يحلف عند المنبر في أقل منه وجعلت طوائف أخر ما رووا من ذكره صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم في قطع السارق دليلا على أن العشرة دراهم كثيرة وإن ما دونها قليل فلا يستباح فرج بأقل منها حتى جعلوا ذلك حدا فيما يسقط مما بين قيمة العبد ودية الحر قال أبو محمد ومما ادعوا فيه أنهم فهموا منه أن المسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه قوله تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } قالوا فهذا يدل على أن غير الحامل بخلاف الحامل قال أبو محمد هذا خطأ لأن المطلقة لا تخلو من أن يكون طلاقها رجعيا أو غير رجعي فإن كان رجعيا فلها النفقة إذا كانت ممسوسة كانت حاملا أو كانت غير

حامل باتفاق من جميعنا وإن كان غير رجعي فلا نفقة لها بنص السنة سواء كانت حاملا أو غير حامل وإنما جاء النص المذكور في الطلاق الرجعي وبنص الآيات في قوله تعالى في الآية التي ابتدأ فيها في هذه السورة بتعليم الطلاق ثم عطف سائر الآيات عليها { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا } وهذا لا يكون إلا في رجعي وأمسك تعالى عن ذكر غير الحامل في هذه السورة فبينت السنة أن التي هي موطوءة وليست حاملا بمنزلة الحامل ولا فرق ولا يحل لأحد أن يقول لم سكت عن ذكر غير الحامل ههنا فإن قال ذلك مقدم قيل له سكت عن ذلك كما سكت فيها عن ذكر الخلع وعن ذكر المتوفى عنها زوجها وعن الفسخ وغير ذلك فإن قالوا قد ذكر الله تعالى ذلك في آيات أخر قيل وكذلك أيضا قد ذكر وجوب النفقة لغير الحامل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن أراد أن يجد جميع الأحكام كلها في آية واحدة فهو عديم عقل متعلل في إفساد الشريعة ويأبى الله إلا أن يتم نوره وادعوا أن جماعة من أهل اللغة منهم المبرد وثعلب قالوا بذلك قال أبو محمد أما إدخال هذا الباب في اللغة فتمويه ضعيف وإيهام ساقط لأن اللغة إنما يحتاج فيها إلى أربابها في معرفة الحروف المجموعة التي تقوم منها الكلمات وأن يخبرونا على ماذا تركبت من المسميات فقط وأما معرفة هل يدخل في حكم الخبر عن الاسم ما قد أقروا لنا أنه ليس يقع عليه ذلك الاسم أو لا يدخل في حكمه فليس هذا في قوة علم اللغة ولا من شروطها إنما يظن هذا من اختلطت عليه العلوم ولم تبلغ قوته أن يفرق بينها وهذا أمر موجود في طبائع العرب والعجم وحتى لو صح ذلك عن ثعلب وعن المبرد وعن الأصمعي وخلف معهم لكان قولهم مع قول جميع أهل اللغة أولهم عن آخرهم بلا خلاف منهم بل قول أهل كل لغة للناس من عرب وعجم إن اسم حجر لا يفهم منه فرس وإن اسم جمل لا يفهم منه كلب وإن من قال ركبت اليوم سفينة أنه لا يفهم منه أنه ركب أيضا حمارا أو أنه لم

يركبه وأن من قال أكلت خبزا أنه لا يفهم منه أكل لحما مع الخبز أم لم يأكله ولكان في شهادة العقول كلها باتفاقها على صحة ما ذكرنا كغاية في إبطال قول من قال بخلاف ذلك كائنا من كان ومبين صدق من قال إنما عدا الخبر المخبر به موقوف على دليله قال أبو محمد واعترض بعضهم بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في الاستغفار لمن مات من المنافقين لأزيدن على السبعين فقال هذا القائل في هذا دليل على أن ما عدا السبعين يغفر لهم به ولا بد قال أبو محمد وهذا خطأ من وجهين أحدهما أن ذلك دعوى بلا دليل ولو قطع صلى الله عليه وسلم بذلك لكان حقا ولكنه لم يقطع على ذلك وأنه لما يئس من المغفرة لهم بالسبعين رجا بالزيادة وهذا الحديث من أعظم حجة عليهم في دعواهم التي نسوا أنفسهم فيها فقالوا إن ما عدا القنطار في قوله تعالى { وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } وما عدا الأف من قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } بمنزلة القنطار والأف فهلا قالوا إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين كما قالوا إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين كما قالوا إن ما عدا القنطار بمنزلة القنطار أو هلا قالوا إن ما عدا القنطار بخلاف القنطار كما قالوا إن ما عدا السبعين بخلاف السبعين بل قد أكذب الله تعالى قولهم بإنزاله { سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر لله لهم إن لله لا يهدي لقوم لفسقين } وبنهيه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم جملة فبين تعالى بهذه الآية العامة أن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين ولا يظن جاهل أننا بهذا القول يلزمنا أن ما عدا المنصوص عليه له حكم المنصوص ومعاذ الله من ذلك ولو ظننا ذلك كما ظنوا لكنا مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رجا أن يكون ما عدا السبعين بخلاف السبعين فإننا لم نقل إن بذكر السبعين وجب أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين ولا مخالفا لها بل قلنا ممكن أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين في ألا يغفر لهم وممكن أن يكون بخلاف السبعين في أن يغفر لهم وإنما ننتظر في ذلك ما يرد في البيان كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فرق ثم ينزل الله تعالى ما شاء إما بموافقة لما قد ذكر وإما بمخالفة له وكان الأصل إباحة الاستغفار جملة

بقوله عز وجل { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } والصلاة ههنا الدعاء بلا خلاف والاستغفار دعاء وهو نوع من أنواع الدعاء فلما نص على خروج السبعين من جملة الدعاء لهم كان ما بقي على ظاهر الإباحة المتقدمة حتى نهى عن الاستغفار لهم جملة وعن الصلاة عليهم البتة وقد جاء نص الحديث هكذا كما قلنا من أخباره صلى الله عليه وسلم أنه مخير في ذلك فأخذ بظاهر اللفظ حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة نا عبيد الله بن عمير عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين اعترضه عمر في الصلاة على عبد الله بن أبي إنما خيرني الله فقال { ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي لقوم لفاسقين } وسأزيد على السبعين فأخذ صلى الله عليه وسلم بظاهر اللفظ في التخيير والأصل المتقدم في إباحة الاستغفار حتى نهى عن ذلك جملة وقال بعضهم ما عدا الاسم المذكور فبخلاف المذكور إلا أن تقترن إليه دلالة قال أبو محمد فنقول له ما الفرق بينك وبين من عارضك من أهل مذهبك أراد أن ينصر القياس نفسه كما أردت أنت أن تنصر دليل الخطاب فنسيت نفسك فقال لك ما عدا الاسم المذكور فهو داخل في حكم المذكور ما لم تقترن إليه دلالة قال أبو محمد وهكذا يعرض للحمل المائل المرتب على غير اعتدال وبخلاف القوام إذا أراد صاحبه أن يعدل أحد شقيه مال عليه الآخر ثم يقال لهم جميعا ما هذه الدلالة المقترنة التي يشير كل واحد منكما إليها أهي كهانة منكم أم هي طبيعية توجب ضرورة فهم ما ذكر كل واحد منكما على تضادكما أم هي نص واحد فهم لا يدعون كهانة فلم يبق إلا أن يقولوا هي ضرورة توجب فهم كل ما لم يذكر أو أن يقولوا هو نص يبين حكم ما لم يذكره في هذا النص الآخر فأي ذلك قالوا فقد وافقونا في قولنا إنه لا يدل شيء مذكور على شيء لم يذكر وإن الذي لم يذكر في هذا النص فإنما ننتظر فيه نصا آخر إلا أن توجب ضرورة ما أن نعرف حكمه كما أوجبت ضرورة الحس في قوله

تعالى { هو لذي جعل لكم لأرض ذلولا فمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه لنشور } إننا لا نقدر أن نمشي في الهواء ولا في السماء ولا أن نأكل من غير رزقه واحتج بعضهم في قول أبي عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا وأنكر أبو عبيد قول من قال إن ذلك إنما هي في الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيد لو كان ذلك لكان قد أباح القليل من الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لا يحل قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو على خلاف ما ظنوا وهو أن الأصل أن رواية الشعر حلال باستنشاد النبي صلى الله عليه وسلم للأشعار وسماعه إياها وأما رواية ما هجي به صلى الله عليه وسلم فحرام سماعه وقراءته وكتابته وحفظه بقول الله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تدخلوا بيوت لنبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فدخلوا فإذا طعمتم فنتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي لنبي فيستحيي منكم ولله لا يستحيي من لحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول لله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند لله عظيما } وبقوله تعالى آمرا بتعزيره وتوقيره في غير ما آية فلما جاء النهي عن امتلاء الجوف من الشعر كان ذلك مخرجا لكثير منه من جمله كله المباح وبقي ما دون الامتلاء مما سوى هجو النبي صلى الله عليه وسلم على الإباحة وحد الامتلاء هو ألا يكون للإنسان علم إلا الشعر فقط وحد ما دون الامتلاء أن يعلم المرء ما يلزمه ويروي مع ذلك من الشعر ما شاء واحتجوا أيضا بقول أبي عبيد فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أن ذلك مخرج لغير الواحد عن إحلال العرض والعقوبة قال أبو محمد وليس هذا كما ظنوا ولكن لما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أعراضنا علينا حرام وأن المسلم أخو المسلم لا يسلمه لا يظلمه كان كل أحد حرام العرض والعقوبة فلما جاء النص بتغيير المنكر باليد وكان لي الواجد منكرا لأنه منهي عنه كان ذلك مدخلا لعقوبته في جملة تغيير المنكر المأمور به ومخرجا له مما حرم من أعراض الناس جملة وعقوباتهم هذا الذي لا يفهم ذو لب سواه ولا ينفقه غيره واحتجوا بأن الشافعي أحد أئمة أهل اللغة وقد قال إن ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة دليل على أن ما عدا السائمة بخلاف السائمة قال أبو محمد أما إمامة الشافعي رحمه الله في اللغة والدين فنحن معترفون بذلك

ولكنه رضي الله عنه بشر يخطىء ويصيب وليت شعري أين كان الشافعي رحمه الله عن هذا الاستدلال إذ قال جل ذكره في رقبة القتل أن تكون مؤمنة دليل على أن المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار بمنزلة المنصوص في رقبة القتل أن تكون أيضا مؤمنة وليت شعري أي فرق بين ذكره تعالى الأيمان في رقبة القتل وذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في حديث أنس فبقول قائل رقبة الظهار التي سكت عن ذكر دينها بمنزلة رقبة القتل التي ذكر دينها وأما غير السائمة من الغنم وإن كان السوم لم يذكر في حديث ابن عمر فبخلاف السائمة وما الفرق بين من عكس الحكم فقال بل غير السائمة بمنزلة السائمة كما قال المالكيون وأما الرقبة المسكوت عن دينها فبخلاف الرقبة المنصوص على دينها فتجزىء في الظهار كافرة كما قال الحنفيون وفي هذا كفاية وأما نحن فنقول لو لم يرد في السائمة إلا حديث أنس لما أوجبنا زكاة في غير السائمة لأن الأصل أن لا زكاة على أحد إلا أن يوجبها نص فلو لم يأت نص إلا في السائمة لما وجبت زكاة إلا فيها لكن لما ورد حديث ابن عمر بإيجاب زكاة كل أربعين من الغنم كان حديث السائمة بعض الحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة فأوجبنا الزكاة في الغنم سائمة كانت أو غير سائمة ولما نص تعالى في القتل على رقبة مؤمنة قلنا لا يجزىء في القتل إلا مؤمنة كما أمر الله تعالى ولما لم يذكر الإيمان في رقبة الظهار قلنا يجزىء الظهار أي رقبة كانت كما قال تعالى سواء كانت كافرة أو مؤمنة إلا أن المؤمنة أحب إلينا لقوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } { ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم } إلا أن الكافرة تجزىء لعموم ذكره تعالى الرقبة فقط واحتجوا أيضا بإجماع المسلمين على أن ما عدا المنصوص عليه من عدد الزوجات أن يكون أربعا حرام قال أبو محمد وليس هذا من الوجه الذي ظنوا ولكنه لما أمر تعالى بحفظ الفروج جملة حرم النساء البتة إلا ما استثنى منهن فقط أيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسخ نكاح

الزائدة على أربع فكفى حكمه صلى الله عليه وسلم من كل دليل سواه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى { ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم } قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه تعالى قد أباح لهن النكاح بالنص فقال عز وجل { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير } قال أبو محمد والنكاح المباح من المعروف واحتجوا أيضا بقوله تعالى { ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير } قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الأم إن أرادت أن ترضعه أقل من حولين أو أكثر من حولين فذلك مباح لها ما لم يكن في الفطام قبل الحولين ضرر على الرضيع وكنا نقول إنه لا يحرم إلا ما كان في الحولين من الرضاع لأن الأصل أن الرضاع لا يحرم شيئا فلما حرم تعالى نكاح النساء بالرضاع ووجدناه تعالى قد جعل حكم الرضاع الذي أمر به حولين وما زاد عن الحولين فليس مأمورا ولكنه مباح وجب أن يكون الرضاع المحرم هو الرضاع المأمور به لا ما سواه إلا أن يقوم دليل على ما سواه من نص أو إجماع فيصار إليه ولكن المصير إلى قول الله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } وحمل ذلك على عمومه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبر أن سالما وهو رجل ذو لحية تحرم عليه التي أرضعته لا يجوز مخالفة شيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق هذا على أن أكثر القائلين بدليل الخطاب المذكور قد جعلوا ما زاد على الحولين بشهر وقال بعضهم بستة أشهر وقال بعضهم بسنة كاملة بمنزلة الحولين وحرموا بكل ذلك تناقضا لما أصلوه وهدما لما أسسوه وبيانا منهم أن حكمهم بذلك من عند غير الله تعالى

واحتجوا فقالوا قد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فمحال أن يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم لفظة إلا لفائدة وقد ذكر عليه السلام السائمة فلو لم يكن لها فائدة لما ذكرها قال أبو محمد وهذا سؤال أهل الإلحاد وهو مع ذلك غث وتمويه شديد ونحن مقرون أن الله تعالى لم يذكر لفظه إلا لفائدة وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنا نخالفهم في ماهية تلك الفائدة فنحن نقول إن الفائدة في كل لفظة هي الانقياد لمعناها والحكم بموجبها والأجر الجزيل في الإقرار بأنها من عند الله عز وجل وألا نسأل لأي شيء قبل هذا وألا نقول لم لم يقل تعالى كذا وألا نتعدى حدود ما أمرنا الله به فنضيف إلى ما ذكر ما لم يذكره أو نحكم فيما لم يسم من أجل ما سمي بخلاف أو وفاق وألا تخرج مما أمرنا به شيئا بآرائنا بل نقول إن هذه كلها أقوال فاسدة واعتراضات كل جاهل زائغ عظيم الجرأة فلا فائدة أعظم مما أدى إلى الجنة وأنقذ من النار وأما هم فهم أعرف بالفوائد التي يبطلونها من غير ما ذكرنا وقالوا قد كان يغني ذكر الغنم جملة عن ذكر السائمة قال أبو محمد فيقال لهم هذا تعليم منكم لربكم عز وجل كيف ينزل وحيه ولنبيه صلى الله عليه وسلم كيف يبلغ عن ربه تعالى فمن أضل ممن ينزل نفسه في هذه المنزلة ويقال لهم ما الفرق على مذهبكم الفاسد بين ذكره تعالى في الاستغفار سبعين مرة ومراده تعالى بلا خوف منا ومنكم أن ما فوق السبعين بمنزلة السبعين بما بين في الآية الأخرى وبين ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة ومراده أيضا مع السائمة غير السائمة بما بين في حديث آخر وهلا اكتفى بذكر النهي عن الاستغفار جملة عن السبعين مرة ويقال لهم في سؤالهم فما معنى ذكر السائمة وقد كان يغني ذكر الغنم جملة ما معنى ذكره تعالى جبريل وميكائيل بعد ذكره الملائكة في قوله تعالى { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن لله عدو للكافرين } وقد كان يغني ذكر الملائكة جملة وما معنى قوله تعالى { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } أترى إسماعيل لم يكن حليما أواها وما معنى قوله تعالى في إسماعيل { وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا } أترى إبراهيم وموسى وعيسى لم يكن وعدهم صادقا

ويقال لهم قد وجدنا الله تعالى يأتي في القرآن وهو المعجز نظمه بذكر قصة من خبر أو شريعة أو موعظة فيذكر من كل ذلك بعض جملته في مكان ثم يذكر تعالى ذلك الخبر بعينه وتلك الشريعة بعينها وتلك الموعظة بعينها في مكان آخر بأتم مما ذكرها به في غير ذلك الموضع ولا يعترض في هذا إلا طاعن على خالقه عز وجل لأن الذي ذكرنا موجود في أكثر من مائة موضع في القرآن في قصة موسى ونوح وإبراهيم وآدم وصفة الجنة والنار وأمر الصلاة والحج والصدقة والجهاد وغير ذلك وقد كان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام إذا تكلم به ثلاثا ولا فرق بين تكرار جميعه وبين تكرار بعضه فكرر صلى الله عليه وسلم ذكر الغنم السائمة في مكان وذكر في مكان آخر الغنم جملة كما كرر قوله تعالى { ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين } وكما كرر تعالى ذكر موسى عليه السلام في القرآن في مائة وثلاثين موضعا وإبراهيم عليه السلام في أربع وستين موضعا ولم يذكر إدريس واليسع وإلياس وذا الكفل إلا في موضعين من القرآن فقط وكما كرر تعالى { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أكثر من آية في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة فهل لأحد أن يعترض فيقول هلا بلغها أكثر أو هلا اقتصر على عدد منها أقل أو ما كان يكفي مرة واحدة كما قال هؤلاء المخطئون هلا اكتفى بذكر الغنم عن ذكر السائمة وقد بينا أنه لا فائدة لله تعالى في شيء مما خلق ولا في تركه ما ترك وأن الفائدة لنا في ذلك الأجر العظيم في الإيمان بكل ذلك كما قاله تعالى { وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما لذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وأخبر تعالى أن الكفار قالوا { وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } فنحن نزداد إيمانا بما أوردنا ولا نسأل ماذا أراد الله بهذا مثلا فليختاروا لأنفسهم أي السبيلين أحبوا كما قال علي بن عباس أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج وقد يمكن أن تكون الفائدة في تكرار السائمة والاقتصار عليها في بعض المواضع فائدة زائدة على ما ذكرنا وهي أننا قد علمنا أن بعض الفرائض أوكد من بعض مثل الصلاة فإنها أوكد من الصيام وليس ذلك بمخرج صيام رمضان على أن يكون فرضا ومثل القتل والشرك فإنهما أوكد في التحريم من لطمة المرء المسلم ظلما وليس ذلك بمخرج للطمة ظلما من أن تكون

حراما وإنما المعنى فيما ذكرنا من التأكيد أن هذا أعظم أجرا وهذا أعظم وزرا وما استواء كل ذلك في الوجوب وفي التحريم فسواء لا تفاضل في شيء من ذلك وكل ذلك سواء إن هذا حرام وهذا حرام وإن هذا واجب وهذا واجب فيكون على هذا أجر المزكي غير للسائمة أعظم من أجر المزكي غير السائمة وكل مؤد فرضا ومأجور على ما أدى ويكون إثم مانع زكاة السائمة أعظم من إثم مانع زكاة غير السائمة وكلاهما مانع فرض ومحتقب إثم فلتخصيص السائمة بالذكر في بعض المواضع على هذا فائدة عظيمة كما أن الزاني بامرأة جاره أو امرأة المجاهد والحريمة أعظم إثما من الزاني بامرأة أجنبية أو امرأة أجنبي ذمي أو حربي وكل زان وآت كبيرة وآثم إلا أن الإثم يتفاضل ومثل هذا قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } وكقوله تعالى { فأما ليتيم فلا تقهر * وأما لسآئل فلا تنهر } فهل في هذا إباحة قهر غير اليتيم ونهر غير المسكين أو المنع من الإحسان إلى غير الآباء من ذوي القربى والجيران وسائر المسلمين ولكنه لما كان قهر اليتيم ونهر المسكين وترك الإحسان إلى الوالدين أعظم وزرا وأعظم أجرا خصوا بالذكر في بعض المواضع وعموا مع سائر الناس في مواضع أخر فلعل السائمة مع غير السائمة كذلك وكذلك ذكره تعالى الصلوات إذ يقول عز من قائل { حافظوا على لصلوات ولصلاة لوسطى وقوموا لله قانتين } فيسأل هؤلاء المقدمون كما سألوا فيقال لهم المعنى في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم السائمة بالذكر في بعض الأحاديث كالمعنى في تخصيصه تعالى الصلاة الوسطى بالمحافظة دون الصلوات في لفظ مفرد وقد عمهما تعالى في سائر الصلوات كما عم رسوله صلى الله عليه وسلم السائمة مع غير السائمة في حديث ابن عمر فبطل بما ذكرنا اعتراضهم بطلب الفائدة في تكرار السائمة وبأن ذكر الغنم جملة كان يكفي ولاح أن سؤالهم سؤال إلحاد وشر وبالله تعالى التوفيق وقد يكفي من هذا قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون ولا تنطع أعظم من قول قائل لم قال الله تعالى

أمرا كذا ولم يقل أمرا كذا وبالله تعالى نستعين وقالوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن ولاء لمن لم يعتق قال أبو محمد وليس كما ظنوا ولكن لما كان الأصل أن لا ولاء لأحد على أحد بقوله تعالى { يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس لتقوى ذلك خير ذلك من آيات لله لعلهم يذكرون } وبقوله تعالى { بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال لكافرون هذا شيء عجيب } وبقوله صلى الله عليه وسلم كل المسلم على المسلم حرام ثم جاء الحديث المذكور وجب به الولاء لمن أعتق وبقي من لم يعتق على ما كان عليه مذ خلق من أن لا ولاء لأحد عليه إلا من أوجب عليه الإجماع المنقول المتيقن إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولولا مثل من تناسل من المعتق من أصلاب أبنائه الذكور من كل من يرجع إليه نسبه ممن حمل به بعد الولاء المنعقد على الذي ينتسب إليه كأسامة بن زيد وغيره ولولا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق ما وجب المعتق ولاء على المعتق لأن ذلك إيجاب شريعة وشرط والشرائع لا تكون إلا بإذن من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ووجدنا هذا الحديث الذي احتجوا به لم يمنع من وجوب الولاء لغير من أعتق مثل ما ذكرنا من وجوب ولاء ولد المعتق ولم يعتقه أحد ولا ولدته أمه ولا حمل به إلا وهو حر لولد معتق أبيه وهو لم يعتقه قط ولا ملكه قط ولا أعتق أباه ولا جده ولا ملكهما قط ولا أعتقه أبو هذا الذي ولاؤه الآن ولا جده ولا ملكاه قط فبطل ما ادعوه من القول بدليل الخطاب ومن أعجب الأشياء أن هؤلاء المحتجين بهذا الحديث في تصحيح الحكم بدليل الخطاب هم أشد الناس نقضا لأصولهم في ذلك وهدما لما احتجوا به لأنهم قد حكموا بالولاء لغير المعتق على من لم يعتق قط بلا دليل لا من نص ولا من إجماع لكن تحكما فاسدا فأوجبت طوائف منهم أن الولاء يجزىء العم والجد إذا أعتقا وأوجبوه ينتقل كانتقال الكرة في اللعب بها وقد أكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا ينتقل فوجب ضرورة أن الولاء كالنسب لا ينتقل وهم يقولون في العبد ينكح معتقة فتلد له إن ولاء ولدها لسادتها قالوا أعتق أبوهم يوما ما عاد ولاء والدها إلى معتق أبيهم

قال أبو محمد أفيكون أعجب من هذا بينما المرء من بني تميم لكون أمه مولاة منهم ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حملوه على غير وجهه مولى القوم منهم إذ صار بلا واسطة من الأزد بعتق رجل من الأزد لأبيه أفيكون في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلع عن ربه تعالى أكثر من هذا أو يكون في إكذابهم أنفسهم أن قالوا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن لا ولاء لمن لم يعتق وهذا الذي حروا ولاءه مرة من اليمانية إلى المضرية ومرة من الفرس إلى قريش لم يعتقه أحد ولا ملك قط ولا حملته أمه إلا وهو حر وأوجبوا الولاء لموالي الأم على ولدها من حربي وعلى ولد الملاعنة بلا نص ولا إجماع فأين احتجاجهم بدليل الخطاب ولكن غرض القوم إقامة الشغب في المسألة التي هم فيها فقط ولا يبالون أن ينقضوا على أنفسهم ألف مسألة بما يريدون به تأييد هذه حتى إذا صاروا إلى غيرها لم يبالوا بإبطال ما صححوا به هذه التي انقضى الكلام فيها في نصرهم للتي صاروا إليها فهم دأبا ينقضون ما أبرموا ويصححون ما أبطلوا ويبطلون ما صححوا فصح أن أقوالهم من عند غير الله عز وجل لكثرة ما فيها من الاختلاف والتفاسد وإنما هم قوم توغلوا فانتسبوا في التقليد لأقوال فاسدة يهدم بعضها بعضا فألفوها ألفة كل ذي دين لدين أبيه ودين من نشأ معه فلا يبالون بما قالوا في إرادتهم نصر ما لم ينصره الله تعالى من تلك المذاهب الفاسدة وقالوا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات دليل على أن لا عمل إلا بنية وأن ما عمل بغير نية باطل قال أبو محمد ليس ذلك كما ظنوا ولكن لما قال الله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقال تعالى { ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة } كان قد بطل كل أمر إلا تأدية ما أمرنا به من العبادة بإخلاص القصد بذلك إلى الله تعالى فبهذه الآية بطل أن يجزى عمل بغير نية إلا ما أوجبه نص أو إجماع فكان مستثنى من هذه الجملة مثل ما ثبت بالإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواز لحاق دعاء الحي للميت بالميت ومثل لحاق صيام الولي عن الميت بالميت وصدقته عنه والحج عنه وتأدية الديون إلى الله تعالى وللناس عنه وإن لم يأمر هو بذلك

ولا نواه ولحاق الأجر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه ولحاق الوزر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه وإنما وجب بالحديث الذي ذكروا أن من عمل شيئا بنية ما فله ما نوى فإن نوى به الله تعالى وتأدية ما أمر به من كيفية ذلك العمل فله ذلك وقد أدى ما لزمه وإن نوى غير ذلك فله أيضا ما نوى فإن لم ينو شيئا فلا ذكر له في هذا الحديث لكن حكمه في سائر ما ذكرنا قبل والعجب ممن احتج بهذا الحديث من أصحاب القياس وهم أترك الناس له فأما الحنفيون فينبغي لهم التقنع عند ذكر هذا الحديث والاحتجاج به فإنهم يجيزون تأدية صيام الفرض بلا نية أصلا بل بنية الفطر وتأدية فرض الوضوء بغير نية الوضوء لكن بنية التبرد وقالوا كلهم وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك إن كثيرا من فرائض الحج التي يبطل الحج بتركها تجزي بغير نية فأما الحنفيون فقالوا من أحرم وحج ينوي التطوع أجزأه ذلك عن حج الإسلام وقال الشافعيون أعمال الحج كلها حاشا الإحرام تجزيه بلا نية أداء الفرض وقال المالكيون الوقوف بعرفة يجزي بلا نية وأن الصيام لآخر يوم من رمضان يجزي بنية كانت قبله بنحو ثلاثين يوما والصلاة تجزيه بلا نية مقترنة بها وقال بعضهم غسل الجمعة يجزي من غسل الجنابة وقال بعضهم دخول الحمام بلا نية يجزي من غسل الجنابة فأبطلوا احتجاجهم بالحديث المذكور وأكذبوا قولهم في دليل الخطاب وأوجبوا جواز أعمال بلا نية حيث أبطلها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأبطلوا صيام الولي عن الولي والحج عن الميت وأداء ديون الله تعالى عنه وقد أوجبها الله تعالى واحتجوا أن لا عمل إلا بنية العامل ولا نية للمعمول عنه في ذلك فاستدركوا على ربهم ما لم يستدركوه على أنفسهم وهذا غاية الخذلان واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن يعلى بن منبه رحمة الله عليه إذ سأل عن قصر الصلاة وقد ارتفع الخوف قالوا فلما جاء القصر في القرآن في حال الخوف دل ذلك على أن الأمر بخلاف الخوف

قال أبو محمد وقد غلط في ذلك من أكابر أصحابنا أبو الحسن عن عبد الله بن أحمد بن المغلس فظن مثل ما ذكرنا وهذا لا حجة لهم فيه لأن الأصل في الصلوات كلها على ظاهر الأمر الإتمام وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدد ركعات كل صلاة ثم جاء النص بعد ذلك في القصر في حال السفر مع الخوف فكان ذلك مستثنى من سائر الأحوال فلما رأى عمر القصر متماديا مع ارتفاع الخوف أنكر خروج الحال التي لم تستثن في علمه عن حكم النص الوارد في إتمام الصلاة في سائر الأحوال غير الخوف فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حال السفر فقط مستثناة أيضا من إيجاب الإتمام وإن لم يكن هنالك خوف فكان هذا نصا زائدا في استثناء حال السفر مع الأمن فإنما أنكر ذلك من جهل أن هذه الصدقة الواجب قبولها قد نزل بها الشرع وهو عمر رضي الله عنه ولسنا ننكر مغيب الواحد من الصحابة أو الأكثر منهم عن نزول حكم قد علمه غيره منهم وأما الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة فلا حجة فيه علينا بل هو حجة لنا وقد يظن عمر إذا نقلت صلاة الحضر إلى أربع ركعات أن صلاة السفر أيضا منقولة والغلط غير مرفوع عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وتعلل بعض من غلط في هذا الباب من أصحابنا بأن قالوا قوله صلى الله عليه وسلم استنشق اثنتين بالغتين إلا أن تكون صائما في حديث لقيط بن صبرة الأيادي في ذلك مانع من مبالغة الصائم في الاستنشاق قال أبو محمد وليس ذلك كما ظنوا ولكن حديث لقيط فيه إيجاب المبالغة على غير الصائم فرضا لا بد له من ذلك وفيه استثناء الصائم من إيجاب ذلك عليه فسقط عن الصائم فرض المبالغة وليس في سقوط الفرض ما وجب المنع منها فليس في الحديث المذكور منع الصائم منها لكنه له مباحة لا واجبة ولا محظورة لأن الإباحة واسطة بين الحظر والإيجاب فإذا سقط الإيجاب لم ينتقل إلى الحظر إلا بنهي وارد لكن ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الندب وإذا سقط التحريم ولم ينتقل إلى الوجوب إلا بأمر وارد لكنه ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الكراهة وقد بينا هذا في باب النسخ من هذا الكتاب

قال أبو محمد وقال بعض من غلط في هذا الفصل أيضا من أصحابنا إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال المرادي ألا ينزع المسافرون الخفاف ثلاثا إيجاب لنزعها بعد الثلاث وإيجاب على المقيم نزعها بعد يوم وليلة فأوجبوا من ذلك أن يصلي الماسح بعد انقضاء الأمدين المذكورين حتى ينزع خفيه ولم يوجبوا عليه بعد ذلك أن يجدد غسل رجليه ولا إعادة وضوئه وأنكر ذلك أبو بكر بن داود رحمهما الله وأصاب في إنكاره قال أبو محمد وليس في الحديث المذكور إيجاب نزع الخفين ولا المنع من نزعهما وإنما فيه المنع من إحداث مسح زائد فقط وهو الخيار بعد انقضاء أحد الأمدين بين أن ينزع ويصلي دون تجديد وضوء ولا غسل رجليه وبين ألا ينزعهما ويصلي بالمسح المتقدم ما لم ينتقض وضوءه فإذا انتقض وضوءه فقد حرم عليه المسح وإذا حرم عليه المسح لزمه فرض الوضوء فلا بد حينئذ من غسل الرجلين وإذا لم يكن بد من غسل الرجلين فلا سبيل إلى ذلك إلا بإزالة الخفين فحينئذ لزم نزع الخفين لا قبل أن يحدث وبلغنا عن بعض أصحابنا أنه يقول إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شيء دليل على أن ما عداه ينجس فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا ليس بشيء لوجوه أولها أنها دعوة مجردة بلا دليل ويقال ما الفرق بينك وبين من قال بل ما هو إلا دليل على أنه مثل الماء في أنه لا ينجس فإن قال هذا قياس والقياس باطل قيل له هل كان القياس باطلا إلا لأنه حكم بغير نص فلا بد له من نعم فنقول له وهكذا حكمك لما عدا الماء أنه بخلاف الماء حكم بغير نص ولا فرق ومنها أننا نقول به أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم الطعام بالطعام مثلا بمثل أفيه منع من بيع ما عدا الطعام مثل بمثل أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم نعم الإدام الخل أفيه حكم على أن ما عداه بئس الإدام أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث أو لم ينجس على أنه أصح من حديث بئر بضاعة أيصح منه أن ما دون القلتين ينجس ومثل هذا كثير لو تتبع فلو قال قد جاء فيما عدا ما ذكر في هذه الأحاديث نصوص صح بها عندنا حكمها قلنا له وقد جاء فيما عدا الماء نص على إباحته بقوله تعالى ف { يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين }

فلا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك إلا بنص وارد فيه ولا إلى تنجيس شيء منه من أجل نجاسة حلته إلا بنص وارد فيه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد واحتجوا بأن الناس مجمعون على أن من قال لآخر لا تعط غلامي درهما حتى يعمل شغلا كذا قالوا فهذا يقتضي أنه إذا عمله وجب أن يعطي الدرهم قال أبو محمد وهذا خطأ وإن أعطاه المقول له هذا القول الدرهم بعد انقضاء ذلك الشغل وكان ذلك الدرهم من مال السيد فعليه ضمانه إن تلف الدرهم ولم يوجد المدفوع إليه ودليل ذلك إجماع الناس على أن المقول له ذلك يسأل الآمر فيقول له إذا عمل ذلك الشغل أعطيه الدرهم أم لا فلو اقتضى هذا الكلام إعطاءه الدرهم بعمل الشغل المذكور ما كان للاستفهام المأمور به معنى وأيضا فإن الأمة مجمعة على أن الآمر لو قال للمأمور عند استفهامه إياه لا تعطه إياه حتى أجد لك ما تعمل فيه أن ذلك حسن في الخطاب ولازم للمأمور وإنما في الكلام المذكور المنع من إعطاء الدرهم قبل عمل الشغل وليس فيه بعد عمل الشغل لا إعطاؤه ولا منعه وذلك موقوف على أمر له حادث إما بمنع وإما بإعطاء فإن قالوا فقول الله تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } أليس إعطاؤهم الجزية مانعا من قتلهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إنما في الآية الأمر بقتلهم إلى وقت إعطاء الجزية ثم ليس فيها إلا المنع من قلتهم بعد إعطائها ولا إيجاب قتلهم ولكن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقتل ذا عهد في عهده وقال صلى الله عليه وسلم لمن كان يبعث من قواده فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم هذا نص كلامه صلى الله عليه وسلم لكل من يبعثه إلى كتابي حربي حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن هاشم قال أبو بكر ثنا وكيع بن الجراح وقال إسحاق ثنا يحيى بن آدم وقال

عبد الله ثنا عبد الرحمن بن مهدي كلهم قالوا ثنا سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فلما قال صلى الله عليه وسلم ذلك مبينا أن دماءهم وأموالهم وأذاهم بالظلم وسبي عيالهم وأطفالهم حرام بإعطائهم الجزية بنص قوله صلى الله عليه وسلم كف عنهم فالكف يقتضي كل هذا وكثير ممن يحتج علينا بما ذكرنا قد نسوا أنفسهم فقالوا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الزرع حتى يشتد إن ذلك غير مبيح لبيعه بعد اشتداده ولكن حتى يضفى من تبنه ويداس قال أبو محمد وبيع الزرع عندنا بعد اشتداده مباح وإن لم يصف ولا ديس لقوله تعالى { لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون } فلا يخرج من هذه الجملة إلا ما جاء نص أو إجماع بتحريمه ولهذه الجملة أجزنا بيع منخل بعد أن تزهى والعنب بعد أن يسود والثمر بعد أن يبدو فيه الطيب وليس لأن هذه النواهي توجب إباحة البيع بعد حلول الصفات المذكورة فيها وكذلك قلنا في قوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } وإنما حرم الأكل من حين يتبين طلوع الفجر بالأمر المتقدم لهذا النسخ فإن الأمر قد كان ورد بتحريم الأكل والشرب والوطء مذ ينام المرء إلى غروب الشمس من غد ثم نسخ ذلك وأبيح لنا الوطء والأكل والشرب إلى حين يتبين طلوع الفجر الثاني فبقي ما بعده على الأصل المتقدم في التحريم وبنصوص وردت في ذكر تحريم كل ذلك بطلوع الفجر الثاني وبقوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } ولو لم يكن ههنا إلا قوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } ما كان فيه إيجاب الصيام ولا المنع منه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إنما حرم القتال بقوله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وهكذا سائر النصوص التي وردت على هذا الحسب وبالله تعالى التوفيق

وذكروا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع أو كما قال صلى الله عليه وسلم قالوا فدل ذلك على أن التي لم تؤبر بخلاف التي أبرت وأنها للمبتاع قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقض من هذا الحديث أن الثمرة التي تؤبر للمبتاع لكن لما كانت التي تؤبر غائبة لم تظهر بعد كانت معدومة وكانت بعض ما في عمق النخلة المبيعة كانت داخلة في المبيع لأنها بعضه ثم نقول لهم وبعد أن بينا بطلان ظنكم فنحن نريكم إن شاء الله تعالى تناقضكم في هذا المكان فنقول إن كنتم إذا قضيتم بأن المسكوت عنه بخلاف المذكور فما قولكم لمن قال لكم بل ما المسكوت عنه ههنا إلا في حكم المذكور قياسا عليه فتكون الثمرة التي لم تؤبر للبائع أيضا قياسا على التي أبرت وقد قال أبو حنيفة لا فرق بين الإبار وعدمه فنسي قوله لم يذكر صلى الله عليه وسلم السائمة إلا لأنها بخلاف غير السائمة ولولا ذلك لما كان في زكاة السائمة فائدة وجعل ههنا ذكره صلى الله عليه وسلم الإبار لا لفائدة وجعله كترك الإبار فبان اضطراب هؤلاء القوم جملة وبالله تعالى التوفيق واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها الحديث قال فلو كان في أرض الخراج شيء غير الخراج لذكره صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فيقال للطحاوي أرأيت إن قال لك قائل إن قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر دليل على أن لا خراج على شيء من الأرض لأنه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث فإن قال قد ذكر الخراج في الحديث الذي قدمنا آنفا قيل له وقد ذكر العشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفا فإن قال قائل ما تقولون في خطاب ورد من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم معلقا بشرط قيل له ينظر أتقدمت ذلك الخطاب جملة حاظرة لما أباح ذلك الخطاب أو مبيحة لما حظر أم لم يتقدمه جملة بشيء من ذلك لكن تقدمت جملة تعمه وتعم معه غيره موافقة لما في ذلك النص ولا بد من أحد هذه الوجوه لأن الجملة التي نص عليها بقوله تعالى { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } مبيحة عامة لا يشذ عنها إلا ما نص عليه وفصل

بالتحريم فلا سبيل إلى خروج شيء من النصوص عن هذه الجملة ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكورا فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم فإن وجدنا النص الوارد وقد تقدمته جملة مخالفة له استثنيناه منها وتركنا سائر تلك الجملة على حالها ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط ولم نبح إلا ما أباح فقط ولم نتعده وإن وجدناه موافقا لجملة تقدمته أبحنا ما أباح ذلك الخطاب وأبحنا أيضا ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه أو حظرنا ما حظره لك الخطاب وحظرنا أيضا ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه ولم نسقط من أجل ذلك الشرط شيئا مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم عربهم وعجمهم ولا يجوز غير ذلك وقد ذكرنا في باب الأخبار من كتابنا هذا بيان هذا العمل ونظرناه بمسائل جمة ولكن لا بد لنا أيضا ههنا من تشخيص شيء من ذلك ليتم البيان بحول الله وقوته فليس كل أحد يسهل عليه تمثيل مسائل تقضيها الجملة التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وليس قولنا آنفا تقدمته جملة بمعنى تقدم وقت النزول فليس لذلك عندنا معنى إلا في النسخ وحده وإلا فالقرآن والحديث كله عندنا ككلمة واحدة وكأنه نزل معا لوجوب طاعة جميع ذلك علينا وإنما نعني بقولنا تقدمته أي عمت ذلك الخطاب وغيره معه ولكن لما كنا نجعل تلك الجملة مقدمة يستثنى منها ذلك النص أو نضيفه إليها على معنى البيان لها سمينا ورودها من أجل ما ذكرنا تقدما قال أبو محمد فمما ذكرنا قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } فالجملة المتقدمة لهذا الشرط هي أمره تعالى باستعمال الماء فرضا على كل حال لمن أراد الصلاة الواجبة أو التطوع فإن تيمم مع وجود الماء والصحة ولم يستعمل الماء كان عاصيا لأنه لم يأت بما أمر به ولأنه لم يستعمل ما أمر باستعماله في غسل أعضائه المذكورة في آية الوضوء والغسل فإن تيمم مع وجود الماء والصحة واستعمل الماء أيضا كان متكلفا لم يؤمر به والمتكلف لذلك إن سلم من سلم من الإسم لم يسلم من الفضول وسوء الاختيار وقد أمر الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم أن يقول { قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من لمتكلفين } فإن اعتقد

وجوب التيمم مع استعمال الماء في حال الصحة ووجود الماء كان عاصيا كافرا لاعتقاده ما لا خلاف أنه لم يؤمر به وزيادة في الدين وتعديه حدود الله تعالى فلما بطلت هذه الوجوه كلها لم يبق إلا استعمال التيمم عند عدم الماء المقدور عليه في السفر وعند المرض وهكذا القول في قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم } إلى منتهى قوله { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم } قال أبو محمد فنظرنا هل نجد جملة متقدمة لإباحة نكاح الفتيات المؤمنات بالزواج فوجدنا قبلها متصلا بها ذكر ما حرم الله تعالى من النساء من قوله تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } إلى منتهى قوله فحرم الله تعالى بهذا النص كل محصنة والإحصان يقع على معان منها العفة ومنها الزوجية ومنها الحرية فلم يجز لنا إيقاع لفظة { ة على بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي ذكرنا في باب العموم فحرم بقوله تعالى كل عفيفة من أمة أو حرة وكل حرة وكل ذات زوج وقد حرم الزواني من الإماء والحرائر بقوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } فحرمت كل امرأة في الأرض بهذين النصين إلا ما استثنى من ذلك بنص أو إجماع ثم قال تعالى متصلا بالتحريم المذكور غير مؤخر لبيان مراده تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } فأباح تعالى ما شاء مما ملكت أيماننا وليس في هذا إباحة الزواج ثم زادنا تعالى بيانا متصلا فقال { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } فاستثنى تعالى الزواج أيضا بالإباحة المذكورة

والعمل في هذا يكثر إلا أن اختصار القول والغاية في ذلك قول الله تعالى { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فهذه آية لو تركنا وظاهرها لكان كل ما خلق الله تعالى في الأرض حلالا لنا لكن حرم الله تعالى أشياء مما في الأرض فكانت مستثناة من جملة التحليل فمن ذلك قوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } مع الآية التي تلونا آنفا من قوله تعالى في آية التحريم { والمحصنات من النساء } فلو تركنا وهذين النصين لحرم النساء كلهن وكن مستثنيات من جملة التحليل ثم قال تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } فاستثنى الله عز وجل من جملة النساء المحرمات الأزواج وملك اليمين فلو تركنا وهذه الآية لحلت كل امرأة بالزواج خاصة وبملك اليمين فقط لا بالزنى من أم أو إبنة أو حريمة لأن المتزوجات والمملوكات بعض النساء وكانت هذه الآية موافقة لقوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ولقوله تعالى { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } ولا فرق بين شيء من هذه الآيات ثم قال تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } الآية إلى منتهى قوله { وأن تجمعوا بين الاختين } وقال تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } وقال تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وقال تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا }

وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وحرم بالرضاعة ما يحرم من النسب وحرم النص فعل قوم لوط ونكاح الزواني ونكاح الزناة للمسلمات وحرم بالإجماع والنص بقوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } إلى قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } ووطء البهائم والمشركة وبدليل النص أيضا فكان كل ما ذكرنا مستثنى مما أبيح من النساء بالزواج وملك اليمين لأن ما في هذه النصوص أقل مما ذكر في آية إباحة الأزواج وملك اليمين وقال تعالى { ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين } إلى قوله عز وجل { ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين } فاستثنى تعالى الكتابيات بالنكاح خاصة وهذا يقع على الإماء منهن والحرائر وبقيت الأمة الكتابية حراما وطؤها بملك اليمين خاصة وبقوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } ولما يأت في شيء من النصوص ما يبيحها ثم نظرنا في قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم } فوجدناه تعالى إنما ذكر في هذه الآية إباحة نكاح الأمة لمن لم يجد طولا وخشي العنت وبقي حكم واحد الطول الذي لا يخاف العنت فلم نجده تعالى ذكر في هذه الآية إباحة ولا تحريما عليه فرجعنا إلى سائر الآي فوجدناه تعالى قد أباح نكاح الإماء المؤمنات لكل مسلم ولم يخص فقيرا من غني ولا من عنده حرة ممن ليست عنده حرة بقوله تعالى { وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم } فكان للعبد مباحا أن ينكح حرة وأمة وللحر أيضا كذلك ولا فرق

وكذلك الأمة الكتابية نكاحها للمسلم حلال بقوله تعالى { ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين } وهذا قول عثمان البتي وغيره والعجب من الحنفيين في منعهم الزكاة عن غير السائمة بذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في حديث أنس وإباحتهم ههنا نكاح الأمة المسلمة لمن وجد طولا لحرة مسلمة فهلا سألوا أنفسهم عن الفائدة في ذكره تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم } كما سألوا هناك عن الفائدة في ذكر السائمة ولكن هكذا يكون من اتبع رأيه وقياسه وهواه المضل والعجب من المالكيين في عكسهم ذلك فقالوا ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في السائمة ما يوجب أن يسقط الزكاة من غير السائمة وقالوا ههنا ذكره تعالى عادل الطول والأمة المؤمنة موجب التحريم الأمة الكتابية ثم في الوقت أباحوا الأمة المؤمنة لواجد الطول قال أبو محمد فكلا الفريقين تناقض كما ترى وحرم بعضهم نكاح الأمة المؤمنة على واجد الطول بحرة كتابية وليس هذا في نص الآية أصلا وإنما منع من منع من ذلك قياسا للكتابية على المسلمة وقد أكذب الله تعالى هذا القياس الفاسد بقوله { أفنجعل لمسلمين كلمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } فلو كان القياس حقا لكان هنا باطلا وإذا قاسوا واجد الطول للحرة الكتابية على واجد الطول للحرة المسلمة ولم ينص تعالى إلا على واجد الطول للحرة المسلمة فقط فهلا فعلوا مثل ذلك فقاسوا إباحة الأمة الكتابية بالنكاح لعادم الطول لحرة وخائف العنت على إباحة الأمة المؤمنة لخائف العنت وعادم الطول كما فعلوا في التي ذكرنا قبل قال أبو محمد وهذا مما تركوا فيه القول بدليل الخطاب لأنه كان يلزمهم على أصلهم أن يقولوا إن ذكره تعالى المحصنات المؤمنات دليل على أن الكافرات بخلافهم ولكن أكثرهم لم يفعلوا ذلك فنقضوا أصلهم في دليل الخطاب ونحن وإن وافقنا أبا حنيفة في بعض قوله ههنا فلسنا ننكر اتفاقنا مع خصومنا في هذه المسائل وقد يجتمع المصيب والمخطىء في طريقهما الذي يطلبانه أحدهما بالجد والبحث والعلم بيقين ما يطلب والثاني بالجد والبحث والاتفاق وغير منكر أن يخرجهم الرؤوف

الرحيم تعالى إلى الغرض المطلوب وإن تعسفوا الطريق نحوه ولكنهم مع ذلك تحكموا بلا دليل أصلا فقالوا من كانت عنده حرة فحرام عليه نكاح الأمة وهذا قول ليس في النص ما يوجبه أصلا وقولنا في هذا هو قول عثمان البتي وغيره وقد روي عن مالك إجازة نكاح الأمة على الحرة إذا رضيت بذلك الحرة وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح المسلمة والكتابية لواجد طول لحرة مسلمة وإن لم يخش العنت إذا لم تكن عنده حرة فيؤخذ من قول كل واجد ما أصاب فيه فبان بما ذكرنا تحليل الله تعالى حرائر أهل الكتاب وإماءهم في الزواج وبقي ما ملكت منهن على التحريم لبراهين ذكرناها في باب الإخبار من كتابنا هذا ويقال لهم إنكم منعتم من نكاح الأمة الكتابية وقلتم ليست كالأمة المسلمة فنقيسها عليها وقد تناقضتم فأبحتم نكاح الحرة الكتابية لواجد طول لحرة مسلمة وإن لم يخف عنتا وحرمتم عليه نكاح الأمة المسلمة حتى أن بعضهم قال إن من وجد طولا لحرة كتابية لم يحل له نكاح الأمة المسلمة وحتم أن بعضهم لم يقتل الحر الكتابي المسلم ولا خلاف بين مسلمين أن الأمة المسلمة خير عند الله عز وجل وعند كل مسلم من كل حرة كتابية كانت في الدنيا أو تكون إلى يوم البعث فإن قالوا فأي معنى أو أي فائدة في قصد الله تعالى بالذكر في الآية المذكورة آنفا عادم الطول وخائف العنت والمحصنة المؤمنة والأمة المؤمنة إذا كان واجد الطول وآمن العنت والأمة الذمية والمحصنة والكافرة سواء في كل ذلك قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا سؤال إلحاد وقد ذكر الله تعالى في بعض الآيات التي تلونا بعض ما ذكره في غيرهن فلم يكن ذلك متعارضا وقد قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وليس تخصيصه الذين آمنوا بالذكر ههنا موجبا أن طاعة الله عز وجل لا تلزم الذين كفروا بل هي لازمة للكفار كلزومها للمؤمنين ولا فرق وقد ذكرنا طرقا من هذا في باب الأخبار وفي باب العموم من كتابنا هذا قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } وهم كلهم قد وافقونا على أن كل من لم يخف أيضا

ألا يعدل فمباح له الاقتصار على واحدة وعلى ما ملكت يمينه فتركوا ههنا مذهبهم في دليل الخطاب وكان يلزمهم ألا يبيحوا الواحدة فقط إلا لمن خاف ألا يعدل فإن قالوا إن ذلك إجماع قيل لهم قد أقررتم أن الإجماع قد صح بإسقاط قولكم في دليل الخطاب ويقال لهم سلوا أنفسكم ههنا فقولوا أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر من خاف أن يعدل كما قلتم لنا أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر لمن خاف العنت وعدم الطول وهذا ما لا انفكاك منه والحمد لله فإن قالوا فهلا قلتم مثل هذا في قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } وقوله تعالى أيضا { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } وقوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما } فتوجبوا إباحة الصيام لمن وجد الرقبة والهدي قلنا لا سواء والأصل أنه لا يلزمنا صيام فرض أصلا إلا ما أوجبه نص كما أن الأصل إباحة نكاحة الإماء بقوله تعالى { ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين } وقوله تعالى { وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم } فلم نوجب الصوم فرضا إلا حيث أوجبه النص وأحللنا النكاح في كلتا الآيتين لأنهما معا نص واجب وطاعته وأيضا فإن حكم واجد الرقبة في كفارة الوطء وواجد النسك من الهدي في التمتع وواجد الغنى في الإطعام والكسوة والرقبة في كفارة اليمين منصوص على لزوم كل ذلك لهم فلو صام كان عاصيا لله عز وجل تاركا لما نص على وجوبه عليه وليس كذلك واجد الطول وآمن العنت لأنه لا نص على منعه من نكاح الإماء أصلا لا في نص ولا في إجماع فبين الأمرين أعظم الفرق وقد ذهب بعضهم وهو أبو يوسف إلى المنع من صلاة الخوف على ما جاءت به الروايات ولقوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا } قال فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن فينا لم نصل كذلك

قال أبو محمد فأول ما يدخل عليه أنه لا يلزمه ألا يأخذ الأئمة زكاة من أحد لأن الله تعالى قال { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } فإنما خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما خوطب بتعليمه كيفية صلاة الخوف ولا فرق فقد ظهر تناقضه وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي ملزم لنا أن نصلي صلاة الخوف وغير صلاة الخوف كما رئي صلى الله عليه وسلم يصليهما وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أرضوا مصدقيكم وقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الزكاة فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سئل فرقها فلا يعط موجب لأخذ الأئمة الزكاة بإرسال المصدقين وبالله تعالى التوفيق فصل من هذا الباب قال أبو محمد كل لفظ ورد بنفي ثم استثني منه بلفظة إلا أو لفظة حتى فهو غير جار إلا بما علق به مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ ومثل لا صلاة إلا بأم القرآن و لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وهذا هو المفهوم من الخطاب بالضرورة لأنه نفى قبول الصلاة إلى أن يتوضأ ووجب قبولها بعد الوضوء بالآية التي فيها { يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } وبالحديث من توضأ كما أمر ونفى الصلاة إلا بأم القرآن وأثبتها بأم القرآن لأنه لا بد لكل مصل من أن يقرأ أم القرآن أو لا يقرؤها ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا بوجه من الوجوه والصلاة فرض فلما لم يكن بد من الصلاة ولم يكن فيها بد من قراءة أم القرآن أو ترك قراءتها وكان من لم يقرأها ليس مصليا فمن قرأها فيها فهو مصل بلا شك وفرض على كل مسلم بالغ أن يصلي كما أمر ففرض عليه أن يقرأ أم القرآن وهذا برهان ضروري قاطع

وكذلك نفيه صلى الله عليه وسلم القطع جملة ثم أوجبه مستثنى في ربع دينار فصاعدا إلا أن هذا لو لم يتقدم فيه نص أو إجماع لم قطعنا إلا في الذهب فقط ولكن لما قال تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وأجمعت الأمة على أن حديث ربع دينار لم يقصد به صلى الله عليه وسلم إبطال القطع في غير الذهب وجب علينا أن نستعمل الآية على عمومها فلا يخرج منها إلا سارق أقل من ربع دينار ذهب فقط فمن سرق أقل من ربع دينار ذهب فلا قطع عليه ومن سرق من غير الذهب شيئا قل أو كثر أي شيء كان له قيمة وإن قلت فعليه القطع بالآية والحديث الذي فيه لعن الله السارق قال أبو محمد ومن أبى هذا فإنما يلجأ أن يقول المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في ذكره ربع الدينار إنما عنى القيمة قال أبو محمد وهذه دعوى لا دليل عليها وأن من ظن النبي صلى الله عليه وسلم سها عما تنبه له هذا المتعقب فقد عظم غلطه { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا } وليت شعري أي شيء كان المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا قطع إلا في قيمة ربع الدينار فصاعدا فيكشف عنا الإشكال وقد أمره ربه تعالى بالبيان والذي نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أراد القيمة ولم يبينها فإنما هو تلبيس لا بيان وقد أعاذ الله تعالى من ذلك والحديث الذي فيه ذكر القيمة ليس فيه بيان بأن القطع من أجل القيمة فليس لأحد أن يقول إن التقويم كان من أجل القطع إلا كان لآخر أن يقول بل لتضمين السارق ما جنى في ذلك قال أبو محمد ثم يقنعوا إلا بأن نسبوا إلى الذي وصفه ربه تعالى بأنه رؤوف بنا رحيم وأنه عزيز عليه ما عنتنا إنه زادنا تلبيسا بقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده إنه إنما في بيضة الحديد التي يقاتل بها وأنه صلى الله عليه وسلم عنى حبلا مزينا يساوي ربع دينار هذا مع أنها دعاوى بارية عارية من الأدلة فهي أيضا فاسدة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا عذر السارق وكيف يريد عذره وهو يلعنه وإنما أراد صلى الله عليه وسلم شدة مهانة السارق ورذالته وأنه يبيح يده فيما لا خطب له من بيضة أو حبل وهذا الذي لا يعقل سواه

ولهم من مثل هذا ما ينسبونه إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم غثائث جمة يوقرون أنفسهم عن مثلها فمن ذلك ما ينسبون إلى الآية التي في الوصية في السفر أن قول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين } أي من غير قبيلتكم وهذا من الهجنة بحيث لا يجوز أن ينسب إلى من له أدنى معرفة باللغة ومجاري الكلام فكيف بخالق الكلام والبيان لا إله إلا هو ومن ذلك قول بعض المالكيين في قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب المرأة ولا شيء معه التمس ولو خاتما من حديد قال هذا القائل إنما كلفه صلى الله عليه وسلم خاتما مزينا مليحا يساوي ربع دينار وهذا وهم يسمعون كلام الرجل أنه لا يملك إلا إزاره فقط وأنه لا يقدر على حيلة فيقول له صلى الله عليه وسلم ولو خاتما من حديد أفيسوغ عن عقل من له مسكة أن يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلف من هذه صفته خاتما بديعا يساوي ربع مثقال وهذا مع ما فيه من الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب عليه فقول مفضوح ظاهر العوار لأنه لم يكن بلغ عن غلاء الحديد بالمدينة ومنه مساحيهم ومناحلهم لعمل النخل ودروعهم للقتال أن يساوي خاتم منه قريبا من وزنه من الذهب ولو نطقت بهذا مخدرة غريرة لأضحكت بقولها وبالله عز وجل نستعين قال أبو محمد وقد اعترض بعض الحنفيين على قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فقال هذا اللفظ لا يوجب قطعا في الربع دينار قال أبو محمد وهذه قحة ظاهرة ومجاهرة لا يرضاها لنفسه من في وجهه حياء وهو بمنزلة من قال { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } أن هذا اللفظ لا يوجب نهيا ولا منعا ومن قال في مثل هذا إن هذا الخطاب لا يوجب القطع في ربع دينار وأن لا صلاة إلا بقراءة القرآن ألا يوجب القراءة ثم قال في الأوامر أنها غير لازمة وأنها على الندب

ثم قال في الألفاظ إنها على الخصوص ثم قال في الكلام إنه ليس على ظاهره ثم ترك النص فلم يحكم به ثم أتى إلى أشياء لم تنص فحرمهاوأحلها برأيه فما نعلم أحدا ولا الحلاج ولا الغالية من الروافض أشد كيدا للإسلام منه وأما الجاهل فهو معذور وأما من قامت عليه الحجة فتمادى فهو فاسق بلا شك وسيرد فيعلم وما توفيقنا إلا بالله فإن قال قائل إن مثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا إيمان لمن لا أمانة له قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا على ظاهره ونعم لا إيمان أصلا لمن لا أمانة له ولا يجوز أن نخص بذلك أمانة دون أمانة والإسلام هو الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض وقبول الشرائع فمن عدم هذه الأمانة التي هي بعض الأمانات فلا إيمان له ومن قيل فيه لا أمانة له فهو محمول على كل أمانة لا على بعضها دون بعض وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه فكذلك نقول إن الفعل المذموم منه ليس إيمانا لأن الإيمان هو جميع الطاعات والمعصية إذا فعلها فليس فعله إياها إيمانا فإذا لم يفعل الإيمان فلم يؤمن يعني في تركه ذلك الفعل خاصة وإن كان مؤمنا بفعله للطاعات في سائر أفعاله وقد بينا هذا في كتاب الفصل والإيمان هو الطاعات كلها وليس التوحيد وحده إيمانا فقط فمعنى لا إيمان له أي لا طاعة وكذلك إذا عصى فلم يطع وإذا لم يطع فلم يؤمن وليس يلزمنا أنه إذا لم يؤمن في بعض أحواله أنه كفر ولا أنه لا يؤمن في سائرها لكن إذا لم يطع فلم يؤمن في الشيء الذي عصى به وآمن فيما أطاع فيه فإن قال أنه يلزمكم بهذا أن تقولوا إنه مؤمن لا مؤمن قلنا نعم هو مؤمن بما آمن به غير مؤمن فيما لم يؤمن به وهذا شيء يعلم ضرورة ولم نقل إنه مؤمن لا مؤمن على الإطلاق وهكذا يلزم خصومنا في مسيء ومحسن ولا فرق فإن قلتم من أحسن في جهة وأساء في أخرى فهو مسيء عاص فيما أساء فيه ومحسن طائع فيما أحسن فيه أفترى يلزمكم من هذا أن تقولوا هو عاص طائع ومحسن مسيء على الإطلاق ونحن لا نأبى هذا إذا كان من وجهين مختلفين ولا نعيب به أحدا

وأما من قال لا صلاة لمن لم يقرأ و لا صيام لمن لن يبيته من الليل إنما معناه لا صلاة كاملة فهذه دعوى لا دليل عليها وأيضا فلو صح قولهم لكان عليهم لا لهم لأن الصلاة إذا لم تكن كاملة فهي بعض صلاة وبعض الصلاة لا تقبل إذا لم تتم كما أن صيام بعض يوم لا يقبل حتى يتم اليوم فإن قال إنما معناه أنها صلاة كاملة إلا أن غيرها أكمل منها فهذا تمويه لأن الصلاة إذا تمت بجميع فرائضها فليس غيرها أكمل منها في أنها صلاة ولكن زادت قراءته وتطويله الذي لو تركه لم يضر ولا سميت صلاته دون ذلك ناقصة وقد أمر تعالى بإتمام الصيام وإقامة الصلاة فمن لم يقمها ولا أتم صيامه فلم يصل ولا صام لأنه لم يأت بما أمر به وإنما فعل غير ما أمر به والناقص غير التام وقد قال صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وليس هذا مما يكتفى به في إقامة الصلاة وإتمام الصيام فقط لكن كل ما جاءت به الشريعة زائدا أبدا ضم إلى هذا ومن العجب العجيب أن قوما لم يبطلوا الصلاة بما أبطلها به صلى الله عليه وسلم من عدم القراءة لأم القرآن ومن ترك إقامة الأعضاء في الركوع والسجود ومن فساد الصفوف وأبطلوها بما لم يبطلها به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من وقوف الإمام في موضع أرفع من المأمومين ومن اختلاف نية الإمام والمأموم ثم فعلوا مثل ذلك في الصيام فلم يبطلوه بما أبطله به الله تعالى من عدم النية في كل ليلة ومن الغيبة والكذب ثم أبطلوه بما لم يبطله به الله تعالى من الأكل ناسيا ومن الحقنة ومن الكحل بالعقاقير فقلبوا الديانة كما ترى وحرموا الحلال وأحلوا الحرام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وإياه نسأل التوفيق لا إله إلا هو قال أبو محمد وكذلك نقول في حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يقطع الصلاة فذكر الكلب الأسود وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض فقال صلى الله عليه وسلم الكلب الأسود شيطان فليس في هذا الحديث أن سائر الكلاب لا تقطع الصلاة ولا أنها تقطع فلما ورد حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب كان هذا عموما لكل كلب وهو قول أنس وابن عباس وغيرهما

ومن أنكر هذا علينا من الشافعيين والمالكيين فليتفكروا في قولهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن تولى رجلا بغير إذن مواليه فيلزمهم أن يبيحوا له تولي غير مواليه بإذنهم وهذا قول عطاء وغيره وهم يأبون ذلك ومثل هذا من تناقضهم كثير فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد والمفهوم من الخطاب هو أن التأكيد إذا ورد فإنه رفع للشغب وحسم لظن من ظن أن الكلام ليس على عمومه وقد ضل قوم في قوله تعالى { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } فقالوا إن حملة العرش ومن غاب عن ذلك المشهد لم يسجد قال أبو محمد ويكفي من إبطال هذا الجنون قوله تعالى { مآ أشهدتهم خلق لسماوات ولأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ لمضلين عضدا } فليت شعري من أين استحلوا أن يقولوا إن أحدا من الملائكة لم يسجد مع قوله تعالى { فسجد لملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع لساجدين } ومثل هذا من الإقدام يسيء الظن بمعتقد قائله إذ ليس فيه إلا رد قول الله تعالى بالميت وقد رام بعض الشافعيين أن يجعل قول الله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } بعد قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } من استطاع إليه على معنى أن ذلك ليس بيانا للذين ألزموا الحج ولا على أنه موافق لقوله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وقال إن هذا خطاب فائدة أخرى موجب أن الاستطاعة من غير قوة قال أبو محمد ولسنا نأبى أن تكون الاستطاعة أيضا شيئا غير القوة للجسم لكننا نقول إن الاستطاعة كل ما كان سببا إلى تأدية الحج من زاد وراحلة وقوة جسم ولا نقول كما قال المالكيون إن الاستطاعة هي قوة الجسم فقط وإن من عدمها وقدر على زاد وراحلة فهو غير مستطيع ولا كما قال الشافعيون إنما الاستطاعة إنما هي الزاد والراحلة فقط وأن قوة الجسم ليست استطاعة بل نقول

إن قوة الجسم دون الراحلة استطاعة وإن الزاد والراحلة وإن كان واجدهما مقعد الرجلين مبطل اليدين أعمى أنه مستطيع بماله حملا للآية على عمومها مع شهادة قول الله تعالى وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لصحة قولنا يعني حديث الخثعمية وقوله تعالى { وأذن في لناس بلحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } قال أبو محمد وقد ذكرنا فيما خلا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء فأجاب أن ذلك الجواب محمول على عموم لفظه لا على ما سئل عنه صلى الله عليه وسلم فقط لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلما فلا فرق بين ابتدائه بأمر وتعليم وبين جوابه عما سئل ومخبرا أيضا عما لم يسأل عنه فإن قال قائل فاحملوا قوله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان على عمومه فاجعلوا الخراج للغاصب بضمانه قيل له وبالله تعالى التوفيق الحديث في ذلك لا يقوم بمثله حجة لأنه عن مخلد بن خفاف وعن مسلم بن خالد الزنجي وكلاهما ليس قويا في الحديث وأيضا فلو صح لمنع من حمله على الغاصب قوله صلى الله عليه وسلم من الطريق المرضية ليس لعرق ظالم حق حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن إسحاق عن ابن الأعرابي عن سليمان بن الأشعث حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب هو الثقفي حدثنا أيوب هو السختياني عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فخص هذا الحديث الظالمين من جملة الضامنين فنفى الخراج للمشتري بحق وأيضا فقوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون } مانع من أكل مال بغير حق جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالبيان فلفظه كله جوابا كان أو غير جواب محمول على عمومه فإن لم يعط الجواب عموما غير ما سئل عنه لم يحمل على ما سواه حينئذ كما أفتى صلى الله عليه وسلم الواطىء في رمضان بالكفارة فوجب ألا يجعل على غير الواطىء لأنه ليس في لفظه صلى الله عليه وسلم ما يوجب مشاركة غير الواطىء للواطىء في ذلك وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن أساء الصلاة أو صلى

خلف الصفوف منفردا بالإعادة أمر لمن فعل مثل ذلك الفعل وحكم في ذلك الفعل متى وجد وأمره صلى الله عليه وسلم بغسل المحرم أمر في كل ميت في حال إحرام وذكر صلى الله عليه وسلم أو ذكر ربه تعالى المسجد الحرام حكما في المسجد الحرام أنه لا يشركه فيه غيره لأنه ليس ههنا مسجد حرام غيره وليس لكل لفظ إلا مقتضاه ومفهومه فقط وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش حكم في قريش لا يشاركهم فيه غيرهم ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض إلا من منع منه إجماع من امرأة أو مجنون أو من لم يبلغ وكذلك حب الأنصار فضل في جميع الأنصار لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض وكذلك ذو القربى وكذلك فضل أبي بكر لا يشركه فيه غيره وكذلك فضل علي لا يشركه فيه غيره لأن الحكم على الأسماء فكل اسم مسماه لا يعدي به إلى غيره ولا يبدل منه غيره ولا يقتصر به على بعض مسماه دون بعض ولا في الأحوال دون بعض فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد قد أوعينا بحول خالقنا تعالى لا بحولنا الكلام في كل ما شغبوا به وأبنا حل شكوكهم جملة ثم نأتي بالبراهين المبطلة لدعواهم في ذلك إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يقال لهم أرأيتم قول الله عز وجل { ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } فيه إباحة أن يقرب مال من ليس يتيما بغير التي هي أحسن فإن قالوا لا ما فيه إباحة لذلك تركوا قولهم الفاسد إن ذكر السائمة دليل على أن غير السائمة بخلاف السائمة ولا فرق بين ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في موضع والغنم جملة في موضع آخر وبين قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون } في مكان ثم قال في آخر { ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } وكذلك

لا فرق بين من قال إن الحديث الذي فيه ذكر السائمة بيان للحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة وبين من قال إن ذكر مال اليتيم في الآية بيان للأحوال المحرمة ويعلم أن المراد بها مال اليتيم خاصة ويقال لهم أترون قول الله تعالى { إن عدة لشهور عند لله ثنا عشر شهرا في كتاب لله يوم خلق لسماوات ولأرض منهآ أربعة حرم ذلك لدين لقيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا لمشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة وعلموا أن لله مع لمتقين } مبيحا للظلم في سائر الأشهر غير الحرم أو ترون قوله تعالى { لملك يومئذ لله يحكم بينهم فلذين آمنوا وعملوا لصالحات في جنات لنعيم } مانعا من أن يكون الملك في غير يومئذ لله وكذلك قوله تعالى { وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم } أتراه مبيحا للبغاء إن لم يردن تحصنا وكذلك قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة لنسآء أو أكننتم في أنفسكم علم لله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة لنكاح حتى يبلغ لكتاب أجله وعلموا أن لله يعلم ما في أنفسكم فحذروه وعلموا أن لله غفور حليم } أتراه مبيحا لمواعدتهن في العدة جهرا وكذلك قوله تعالى { لعن لذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أتراه مانعا من لعن من كفر من غير بني إسرائيل وكذلك قوله تعالى { أحل لكم صيد لبحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد لبر ما دمتم حرما وتقوا لله لذي إليه تحشرون } أتراه مانعا من أكل الثمار والحبوب وما ليس من صيد البحر ولا طعامه كما قال المالكيون إن قوله تعالى { ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } مانع من أكل الخيل إذ لم يذكر الأكل وإذا عارضوا بهذه الآية الحديث الذي فيه إباحة للخيل فهلا عارضوا بالآية التي ذكرنا إباحة كل ما اختلف فيه فحرموه بها ويقال لهم أترون قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها مسقطا لقتلهم إن جحدوا نبوة موسى وعيسى عليهما السلام

ويقال لهم لو كان قولكم حقا إن الشيء إذا علق بصفة ما دل على أن ما عداه بخلافه لكان قول القائل مات زيد كذبا لأنه كان يوجب على حكمهم أن غير زيد لم يمت وكذلك زيد كاتب وكذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله ويلزمهم أيضا إذ قالوا بما ذكرنا أن يبيحوا قتل الأولاد لغير الإملاق لأن الله تعالى إنما قال { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا } ويلزمهم في قوله تعالى { وآمنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فتقون } إن ذلك مبيح لأن يشترى بها ثمن كثير فلما تركوا مذهبهم في كل ما ذكرنا وكان قول القائل مات زيد وزيد كاتب ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيلمة كذاب حقا ولم يكن في ذلك منع من أن غير زيد قد مات وأن غير زيد كتاب كثير وأن موسى وعيسى وإبراهيم رسل الله وأن الأسود العنسي والمغيرة الجلاح وبناتا كذابون بطل قول هؤلاء القوم إن الخطاب إذا ورد بصفة ما وفي اسم ما أو في زمان ما أن ما عداه بخلاف ولا يغلط علينا من سمع كلامنا هذا فيظن أننا إذ أنكرنا قولهم إن غير المذكور بخلاف المذكور إننا نقول إن غير المذكور موافق للمذكور بل كلا الأمرين عندنا خطأ فاحش وبدعة عظيمة وافتراء بغير هدى ولكنا نقول إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضي لفظه فقط وأن لكل قضية حكم اسمها فقط وما عداه فغير محكوم له لا بوفاقها ولا بخلافها لكنا نطلب دليل ما عداها من نص وارد اسمه وحكم مسموع فيه أو من إجماع ولا بد من أحدهما وبالله تعالى التوفيق

فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب قال أبو محمد وبالجملة فإن مذهبهم في القياس ومذهبهم في دليل الخطاب ومذهبهم في الخصوص مذاهب يبطل بعضها بعضا ويهدم بعضها بعضا وذلك أنهم قالوا في القياس إذا نص على حكم ما فنحن ندخل ما لا ينص عليه في حكم المنصوص عليه ونتبع السنة ما لا سنة فيه فإذا أوجب الربا في البر بالبر أوجبناه نحن في التبن بالتبن وإذا وجبت الكفارة على العامد في الصيد أوجبناه نحن على المخطىء وقالوا في دليل الخطاب إذا نص على حكم ما فنحن نخرج ما لم ينص عليه من حكم المنصوص عليه ولا نتبع السنة ما لا سنة فيه فقالت طوائف منهم لا نزكي غير السائمة لأنه ذكرت السائمة في بعض الأحاديث وقالت طائفة منهم لا نأكل الخيل لأنه إنما ذكر في الآية الركوب والزينة وقالت طوائف منهم لا نقضي بالمتعة إلا التي طلقت ولم تمس ولا فرض لها لأن هذه قد ذكرت بصفتها في بعض الآيات قال أبو محمد وهذا ضد قولهم في القياس وإبطاله وقالوا في الخصوص لا نقضي لجميع ما اقتضاه النص لكن نخرج منه بعض ما يقع عليه لفظ فقالوا في قوله تعالى { يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم } إنما عنى الذكر من الأولاد دون الإناث وقالوا في قوله تعالى { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا } إنما عنى من الأحرار لا من العبيد ومن الأباعد لا من الإخوة والآباء والأبناء والأزواج وقالوا في قوله تعالى { لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين } وفي قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون } لا قصاص من

جرح إلا من الموضحة فقط ولا قصاص من متلف ولا من لطم ولا من نتف شعر قال أبو محمد وهذا مذهب يبطل قولهم في القياس وفي دليل الخطاب معا ونحن نرى إن شاء الله تعالى تناقضهم في مذاهبهم هذه في مسألة واحدة روى المالكيون حديث القطع في ربع دينار فقالوا لا يستباح فرج زوجة بأقل من ربع دينار قياسا على ما يقطع فيه يد السارق وذكر ربع الدينار في القطع موجب ألا يكون الصداق أقل منه ثم قالوا لا يقطع المستعير لأنه ليس سارقا وذكر الله تعالى السارق موجب ألا يقطع من ليس سارقا ثم قالوا من سرق شيئا فأكله قبل أن يخرج من حرزه وإن كان يساوي دنانير فلا قطع عليه فخصوا بالقطع بعض السراق دون بعض وكذلك فعل الحنفيون سواء بسواء إلا أنهم قالوا لا يقطع سارق لحم ولا مصحف ولا فاكهة ولا زرنيخ وروى محمد بن المغيرة المخزومي عن مالك أن الإناء يغسل من ولوغ الخنزير سبعا قياسا على الحديث الوارد في الكلب ثم قالوا لا يغسل من لعاب الكلب ثوب ولا جسد لأنه إنما ذكر في الحديث الإناء ولم يذكر غيره ثم روى ابن القاسم عنه أنه قال لا يهرق الإناء إلا أن يكون فيه ماء وأما غير الماء فلا يضره ولوغ الكلب وأما الشافعيون فأتوا إلى آية الظهار فقاسوا على الأم والأخت وقالوا ذكر الله تعالى الأم دليلا على أن الأخت مثلها ثم قالوا ذكر الله تعالى المظاهر دليلا على أن المرأة إذا ظاهرت من زوجها بخلاف ذلك ثم قالوا ومن ظاهر من أمته فلا كفارة عليه فخصوا بعض النساء المذكورات في الآية بلا دليل كل ذلك ومثل هذا في أقوالهم كثير بل هو أكثر أقوالهم وما سلم منها من التناقض إلا الأقل وكلها يهدم بعضها بعضا ويدل هذا دلالة قطع على أن أقوالهم من عند غير الله تعالى إذا ما كان من عند الله تعالى فلا اختلاف فيه ولا تعارض وبعضه يصدق بعضا

فصل من تناقضهم في ذلك أيضا قال أبو محمد نص الله تعالى على إيجاب الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ فأوجبها القياسيون في قتل المؤمن الذمي خطأ ولا ذكر له في الآية أصلا ثم اختلفوا فطائفة أوجبت الكفارة في قتل العمد قياسا على قتل الخطأ وطائفة منعت من ذلك وكان تناقض هذه الطائفة أعظم لأنهم أوجبوا الكفارة على قاتل الصيد خطأ قياسا على قاتله عمدا ومنعوا من الكفارة في قتل المؤمن عمدا ولم يقيسوه على قتله خطأ هذا وكلهم يسمع قول الله تعالى { دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فوجب بهذين النصين ألا يؤخذ أحد بخطأ من فعله إلا ما جاء به النص من إيجاب الكفارة على المخطىء في قتل المؤمن وما أجمعت الأمة عليه من ضمان الخطأ في إتلاف الأموال وأن الوضوء ينتقض بالأحداث الخارجة من المخرجين بالنسيان كالعمد فقط ومن تناقضهم أن قالت طوائف منهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم من باع نخلا وفيها تمر قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترط المبتاع فقال بعضهم إذا ظهر أبر أو لم يؤبر فهو للبائع وهذا قول أبي حنيفة وقد كثر تناقض أصحابه في دليل الخطاب جدا وقالت طوائف منهم واجب أن تكون الرقبة في الظهار إلا مؤمنة لأن الرقبة التي ذكرت في كفارة القتل لا تكون إلا مؤمنة فوجب أن تكون الرقبة المسكوت عن ذكر دينها في الظهار مثل الرقبة المذكور دينها في القتل ثم قال بعض هذه الطائفة لما ذكر صلى الله عليه وسلم القلتين في قوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا وجب أن يكون لها ما دون القلتين بخلاف القلتين قال أبو محمد فهلا قالوا في الرقبة كذلك وأوجبوا أن يكون المسكوت عنها بخلاف المذكور دينها كما جعلوا المسكوت عنه فيما دون القلتين بخلاف المذكور من القلتين أو

هلا جعلوا المسكوت عنه مما دون القلتين مثل القلتين كما جعلوا المسكوت عن دينها في الظهار مثل المذكور دينها في القتل وقالت طائفة أخرى منهم لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده لأن ذلك لم يذكر في بعض الأحاديث ولا يقول الإمام آمين لأنه لم يذكر ذلك في بعض الأحاديث وإن كان قد ذكر في غيرها لكن يغلب المسكوت ههنا فلا نقول إلا ما جاء في كلا الحديثين ذكره ثم قالت الجزية من غير أهل الكتاب وإن كان الله تعالى لم يأمر بأخذها إلا من أهل الكتاب وادعوا ذلك على عثمان رضي الله عنه قال أبو محمد وهذا لا يصح عن عثمان أصلا وأول من أخذ الجزية من غير أهل الكتاب فالقاسم بن محمد الثقفي قائد الفاسق الحجاج أخذها من عباد البد من كفرة أهل السند وأما عثمان رضي الله عنه فلم يتجاوز إفريقية وأهلها نصارى ولا تجاوز في الشرق خراسان وفي الشمال أذربيجان وأهلها مجوس ومن عجائبهم التي تغيظ كل ذي عقل ودين والتي كان يجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في القول بها أو يستحيوا من تقليد من أخطأ فيها إطباقهم على أن قول الله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } فليس يدخل فيه القاتل خطأ وأن القاتل خطأ بخلاف القاتل عمدا في ذلك ثم أجمع الحنفيون والشافعيون والمالكيون على قول الله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام } إلى منتهى قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام } فقالوا كلهم إن القاتل الصيد وهو محرم خطأ تحت هذا الحكم وهم يسمعون هذا الوعيد الشديد الذي لا يستحقه مخطىء بإجماع الأمة فيكون في عكس الحقائق والتحكم في دين الله تعالى أعظم من هذا التلاعب في حكمين وردا بلفظ العمد ففرقوا بينهما كما ترى وحسبنا الله ونعم الوكيل