أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل

أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
بين العقل الفاعل والعقل المنفعل ، علاء الدين الأعرجي، الطبعة الأولى، منشورات كتابات، بيروت، 2004

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تمهيد

هذه مجموعةُ فصولٍ مختارة نُشِرتْ معظمها تِباعًا بشكل بحوثٍ ودراسات منذ بضعِ سنوات. وهي تُشكِّل حلقاتٍ متكاملةً من موضوعٍ واحد يتعلَّقُ بأَزمة التطوُّر الحضاريِّ في الوطن العربيِّ، في بعضِ أبعادها التاريخية والسوسيولوجية والفلسفية، وبما يُعانيه الشعبُ العربيُّ، بسبب تلك الأزمة، من نكبات حاليا ً، وما ينتظره من ويلات مستقبلا ً.

ففي الفصل الأَوَّل التمهيديِّ من هذا الكتاب (غير منشور سابقا)، جازَفْنا بالتحذير صراحةً، من إمكانيَّة انقراض الأمُّة العربيَّة، واستشرافِ مُستقبلـِها في ظلِّ التداعيات القائمة والظروف الراهنة، وبيَّـنَّا مؤشِّراتِ ودلائل تَدَهْور أو سقوط هذه الأُمَّة العظيمة، ما لم يُسارع عُقلاؤها وزُعماؤها لإنقاذها قبل فوات الأوان. كما استعرضنا، في هذا الفصل، أَهمِّ المحاور التي تدور حولها موضوعاتُ الكتاب.

ثمَّ بحثنا في الفصل الثاني شيئا ً من مسأَلةَ نشوء الحضارات وسقوطِها من خلال بعض آراء ونظرياتِ مُفكِّرٍ هو من أَوائل الذين طـَرَقوا هذا الموضوع:ابن خلدون، ومفكِّرٍ هو من أَواخر الذين عالجوه: أرنولد توينبي. كما بحثنا في مصير الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة الكالح، إلاَّ إذا تحوَّلتْ، على يدِ أبنائها، من حالة الجمود إلى حالة الحركة. ورأَينا أَنَّ مسأَلةَ ثنائيَّة الحركة والجمود تُشكِّل المحورَ الرئيس الذي يقرِّر ظهورَ الحضارة وتقدُّمَها وازدهارَها، أَو ضُمورَها وانهيارَها. ولكنْ كيف السبيلُ إلى أَن يُحقِّقَ أَبناؤها هذه الخطوةَ الكبيرة التي يُمكن أن تنقلهم من حالة الجمود إلى حالة الحركة، في الوقت الذي يخضعون فيه لأَلف قيدٍ وقيد؟

للإجابة عن هذا السؤال رأَينا أَن نبحثَ في أَمر تحرير الإنسان العربيِّ أَوَّلاً ليتمكَّن من الحركة والتفكير والإبداع، وبالتالي التقدُّم. بيدَ أَنَّنا سنُلاحظُ أَنَّ تحريرَ الإنسان يتطلَّب النظرَ في تحرير عقله قبل كلِّ شيء. ذلك العقلُ المكبَّل بأَغلالٍ مفروضة عليه من سلطات متعدِّدة، منها سلطة "الآخر" الحاكم بأمره، سواءٌ في الداخل(الزعيم المدني أو الديني) أَو من الخارج(الاستعمار، النفوذ الأجنبي إلخ)، و/أَو سلطة الماضي، و/أَو سلطة المجتمع (سلطة العقل المجتمعيِّ) بكلِّ ما يحملُه من تقاليدَ وأَعرافٍ وقِيَمٍ وعقائدَ متخلِّفةٍ ورثَها من الفترة المظلمة، بوجهٍ خاصّ-أَقول: العقل المكبَّل لا يخلـِّف إنسانًا حُرًّا مُبدِعًا، بل دُمية تحرِّكها الخيوطُ المتَّصِلة بتلك السلطات.

وهذا ما بحثـناه في الفصلَين الثالث والرابع. فبعد أَن حدَّدْنا مفهومَ العقل وميَّزنا بين العقل والفكر، تساءلنا عن وجود عقلٍ عربيٍّ متميِّز، كما يوجد عقلٌ متميِّز لكلِّ شعبٍ أَو وحدةٍ مجتمعيَّة معيَّنة. وشرحنا أَنواعَ وأَبعادَ السجون التي يخضعُ لها العقلُ العربيّ. ثمَّ عرَّجنا على صدمة العقل العربيِّ منذ احتكاكه بالغرب ونكوصه إلى ماضيه التليد، يتوكَّأُ عليه أَو يسترُه ويَحميه، كدفاعٍ تلقائيٍّ بدائيٍّ عن الذات. ثم طرحنا فكرة إرساء نظريَّة "العقل المجتمعيّ" باعتباره، من جهةٍ، ذاكرةَ المجتمع ومحورَ هُويَّته وثقافته، وباعتباره، من جهةٍ ثانية، قيدًا ثقيلاً على حرِّيَّة الإنسان وقدراته الإبداعيَّة، نظَرًا لأَنَّ العقلَ المجتمعيَّ العربيَّ، في هذه الحالة بالذات، خاضعٌ، بوجهٍ خاصٍّ، لتاريخ التخلُّف الذي أَعقب فترةَ ازدهار الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. ولذلك لجأْنا إلى نظريَّة "العقل الفاعل" و"العقل المنفعِل" التي تُوَصِّفُ، من جهةٍ، كيفيَّةَ الخلاص من قهر العقل المجتمعيّ، كما تُحلِّلُ وتُنَظِّرُ، من جهةٍ ثانية، الصراعَ المتواصل بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، على صعيد الفرد والجماعة؛ وهو صراعٌ يتوقَّف على نتائجه تقدُّمُ المجتمع أَو تخلُّفُه.

وعليه، فقد بحثنا في الفصول الثلاثة الأَخيرة أَزمة العقل العربيِّ المعاصر من خلال ثنائيَّة الإبداع والاتِّباع، باعتبارها ترتبطُ، ارتباطًا مباشرًا وغيرَ مباشَر، بالعقل المجتمعيِّ وبنظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعل. فبقدرِ ما يتحرَّر الإنسانُ العربيُّ من العقل المجتمعيِّ في جانبه السلبيِّ، ومن عقله المنفعل باستخدام عقله الفاعل، يكون قادرًا على الإبداع، مفتاحِ تقدُّم الأُمَم وانطلاقِ الحضارة.

هذه المقالات البحثيَّة تُمثِّلُ الجزءَ الأَوَّل من المجموعة المنشورة. وسنواصل في الجزء الثاني دراسةَ أَزمة التطوُّر الحضاريِّ في الوطن العربيِّ، فنبحثُ في مسأَلة العِلم والتكنولوجيا وأَثرِهما الفعَّال في تقدُّم الأُمَّة؛ ثمَّ نتعرَّضُ لنظريَّة الحرب وعلاقتِها بالتفوُّق الحضاريِّ، وخاصةً العلميَّ والتكنولوجيَّ؛ كما نعالجُ معضلةَ التراثِ والحداثة في ترابُطِها الوثيق بالعقل المجتمعيِّ السائد وبالصراع القائم بين العقل الفاعل والعقل المنفعل. وتُمثِّل هذه الموضوعاتُ حلقاتٍ أَساسيَّةً في سلسلة الأَسباب التي أَدَّتْ إلى أَزمة التطوُّر الحضاريِّ في الوطن العربيِّ منذ اصطدام العرب بالحضارة الغربيَّة المعاصِرة حتَّى يومِنا هذا.


الفصل الأَوَّل: مدخل

الخيار الحاسم:النهضة أو السقوط

كلَّما أَنعمتُ النظَرَ في أَمر هذه الأُمَّة، لاحظتُ، بكلِّ أَلَمٍ، أَنَّها تنحدرُ نحو الانقراض التدريجيِّ منذ فترةٍ طويلة وكلَّما تقدَّمَ الزمن، ولا سيَّما إذا قارنَّا جمودَها المحزِن أَو تراجُعَها المؤسِف بالحركة المتفجِّرة التي يَجري بها العالَمُ المتقدِّم نحو الأَمام بسرعةٍ هائلة، الأَمر الذي يؤدِّي إلى زيادة الفجوة الحضاريَّة بين الطرفَين، وبالتالي إلى ما يُلاحَظُ، اليومَ، بكلِّ وضوح، من التبعيَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والعِلميَّة والثقافيَّة التي تَزيدُ من التخلُّف؛ وهكذا تعود هذه الدورةُ القاتلة إلى تكرار نفسها. وهذا ما سأشرحه في عدَّة مناسبات تالية. حتى بعض المنجزات التي حققتها هذه الأٌمَّة، وخاصَّةً الاستقلال، تحوَّلَتْ، فيما بعد، إلى استبدادٍ من جانب السُّلطات الحاكمة، وإلى تبعيَّةٍ داخليَّة، أَو تبعيَّةٍ خارجيَّة واستعمارٍ جديد بثوبِ معاهدةِ تعاون "عسكريٍّ" أَو اقتصاديٍّ أَو ثقافيٍّ أَو تطبيع... إلخ.

وأُبادرُ إلى القول إنَّ مُنطَلَقاتي، في بحث هذا الموضوع الشائك، قوميَّةٌ وإنسانيَّة تحرصُ على السعي إلى إيجادِ وسيلةٍ للخروج من هذه الأَزمة. ولئن تعرَّضتُ لعلامات انقراض هذه الأُمَّة، فما توخَّيتُ إلاَّ التنبيهَ والإنذارَ قبل فَوات الأَوان، فضلاً عن شَحْذ الهِمَم وتكريسِ الجهود والحثِّ على التوصُّل إلى حلولٍ عمليَّةٍ يمكنُ أَن تُنقذَ الموقف؛ وقد تطرَّقتُ إلى بعضها في هذا الكتاب.

وهكذا قد تُقدِّم هذه الفصول بعضًا من تلك الحلول، بعد محاولةِ تحليل الإشكاليَّات التي يتعرَّضُ لها الوطنُ العربيُّ وتفسيرِها وتنظيرِها. وهي تُعرِبُ عن عددٍ من الأَفكار التي كانتْ تُلِحُّ على عقلي وتستغرقُ فكري منذ بضعةِ عقود. كما إنَّها تُمثِّل نُتَفًا من الهمِّ الذي أَحملُه إزاءَ هذه الأُمَّة المنكوبة لا بـ"الآخَر" فحسب؛ "الآخَرِ" الذي انتهكَ أَرضَها ونهبَ خيراتِها وأَذلَّ شعبَها واخترقَ كيانَها، بل المنكوبة، بالأَحرى، بـ"الأَنا"، بوجهٍ خاصٍّ؛ أَي المنكوبة بأَهلها: زعمائها وحُكَّامِها، بل معظمِ حُكمائها وشيوخها، وكثيرين من مُثـقَّـفيها ونُخَبِها المتعلِّمة. دَعْ عنك سَوادَ الناس البسطاء الذين يُخيِّم عليهم الجهلُ (نصفُ السكَّان العرب، تقريبًا، أُمِّيُّون).(1) وغالبًا ما أَتذكَّرُ، بمرارةٍ، القولَ المأْثور: "يفعلُ الجاهلُ بنفسه ما لا يفعلُه العدوُّ بعدوِّه."

ولو استمرَّتْ هذه الأُمَّة على هذا الحال الذي يزدادُ تفاقُمًا، بمرور الزمن، فلا مناصَ من انحدارها نحو الانقراض، كما انقرضتْ قبلَها أُمَمٌ كثيرة، هذا إذا لم نقلْ إنَّها تنحدرُ فعلاً في هذه الهاوية منذ فترةٍ طويلة. وهذا ما يشير إليه صراحةً المؤرِّخُ والمفكِّر "أرنولد توينبي" الذي يحصر الحضارات التي ظهرَتْ بـ21 حضارة، انقرضَتْ منها 14حضارة، ولم يبقَ منها إلاَّ سبعٌ، ستٌّ منها تمرُّ بدور الانحلال، وهي (العربية) الإسلامية، والأُرْثوذكسيَّة المسيحيَّة البيزنطيَّة، والمسيحيَّة الروسيَّة، والهندوكيَّة، والصينيَّة، والكوريَّة-اليابانيَّة. أَمَّا السابعة، وهي الغربيَّة، فإنَّ مصيرَها ما يزال مجهولاً، حسبَ رأْيه. وسنأْتي على تفصيل رأي توينبي في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، في الفصل الثاني.

وليس من الضروريِّ أَن يكون هذا الانقراض، الذي تتعرَّضُ له الأُمَّة، مادِّيًّا أَو جسديًّا-مع أنَّ ذلك يشكِّل جزءًا مهمًّا منه-بل قد يكون جزؤُه الأَكبر ذوبانًا في المجتمعات الجديدة المسيطِرة والمتفوِّقة، أَو خضوعًا تامًّا لها، بحيث يُصبح أَبناؤها أَدواتٍ أَو قوًى عاملةً رخيصة، كما يحدث اليومَ، مثلاً، في إسرائيل التي تستخدمُ القوى العاملة العربيَّة من غزَّة والضفَّة الغربيَّة في ممارسة الأَعمال البسيطة أَو الحقيرة، مثلاً.

وهكذا يُمكنُ تقسيمُ مَظاهر انقراض هذه الأُمَّة، بوجهٍ عامٍّ، إلى مادِّيَّة ومعنويَّة واقتصاديَّة وتكميليَّة؛ وقد تتداخلُ هذه المظاهر، في الغالب.

من المظاهر المادِّيَّة:

1- الحروبُ الخارجيَّة والبَيْنيَّة والأَهليَّة، ومنها حروبُ الخليج الثلاث وحربُ الكويت، وقبلَها الحروبُ مع إسرائيل فضلاً عن محاولاتها اليومَ لتهجير الشعب العربيِّ الفلسطينيِّ أَو تركيعِه. ومن تلك الحروب، الحربُ الأَهليَّة التي قامتْ في اليمن، ثمَّ في لبنان، والحربُ الأَهليَّة المستمرَّة في السودان منذ عشرين عامًا، والحربُ الناشبة في الجزائر منذ أَكثرَ من عَقد من السنين. والواضحُ تمامًا أَنَّ النتائجَ النهائيَّة لتلك الحروب كانت كارثيَّةً على الأُمَّة ككلٍّ، وبخاصَّة على بعض الأَقطار والشعوب المَعنيَّة أَكثرَ من غيرها. وسنذكر بعضًا من تلك النتائج في الفقرات التالية.

2- عمليَّاتُ التهجير والإبادة الجماعيَّة التي قُتِل أَو شُرِّد في خلالها عشراتُ الملايين، خاصَّةً في حروب العراق وحصارِه، وحروب فلسطين والجزائر واليمن والسودان ولبنان. إنَّ استمرارَ هذه الحروب وارتفاعَ حصائلها من الضحايا وتدميرَها البنى التحتيَّة سيؤدِّي، في النهاية، إلى تآكُلِ كيان الأُمَّة.

3- والجديرُ بالملاحظة أَنَّ الحروب الداخليَّة، البينيَّة والأَهليَّة-خاصَّةً إذا اعتبرنا الحربَ العراقيَّة الإيرانيَّة ضمنَها-فضلاً عن المذابح الجماعيَّة الداخليَّة التي اقترفَتْها بعضُ الأَنظمة، قد تعادلُ، في ضحاياها وآثارِها المدمِّرة، جملةَ الأَضرار والضحايا التي سبَّبها العدوانُ الأَجنبيُّ والحروبُ الخارجيَّة، بما فيها الحروبُ مع إسرائيل-هذا، إنْ لم تتجاوَزْها. وهذا واحدٌ من مظاهر الانتحار الذي تمارسُه الأُمَّة على نفسها.

4- عمليَّاتُ الهجرة الطوعيَّة والاضطراريَّة التي تعصفُ بملايينَ أُخرى؛ وهي تحدثُ يوميًّا وتَطول جميعَ الشرائح السُّكَّانيَّة، ابتداءً من الطبقات الكادحة التي تبحثُ عن لقمة العيش إلى المثقَّفين والعلماء الذين يَنشدون مُناخًا أَرحَب وحياةً أفضَل.

5- الاحتلالُ المباشَر لبعض البلدان العربيَّة كالعراق، مثلاً، أَو الاستعمارُ الاستيطانيُّ كما يحدثٌ في فلسطين، أَو الاحتلالُ غيرُ المباشر بزَرْع القواعد العسكريَّة وَوَزْع القوَّات المسلَّحة في الأَراضي العربيَّة.

أَمَّا مؤشِّرات الانقراض المعنويِّ، فقد تتداخل مع الأُولى أَحيانا، وتتجلَّى بعدَّة أَساليب منها:

6- عمليَّاتُ الضغط أَو التهديد والتطويع والتركيع أَو المقاطعة أَو الحصار الاقتصاديِّ التي يمارسُها "الآخَر" للقضاء على بقايا وجود هذه الأُمَّة ومعنويَّاتِها، وعلى البقيَّة الباقية من ماءِ وجهها. ونحن نلاحظ ذلك يوميًّا في مختلف المناسبات الدوليَّة والإقليميَّة (وتمثِّل هذه أَنماطًا متداخِلةً مع المظاهر المادِّيَّة).

7- سيطرةُ "الآخَر" غيرُ المباشَرة اقتصاديًّا وثقافيًّا، عِلميَّا وتكنولوجيًّا، وصولاً إلى جَعْل الشعب العربيِّ يعتمدُ اعتمادًا مصيريًّا على ذلك "الآخَر"، كما يحدث اليومَ فعلاً، وإلى حدٍّ بعيد، من خلال العَوْلمة الاقتصاديَّة والثقافيَّة بين طرفَين غير متكافئَين لا اقتصاديًّا ولا حضاريًّا.

8- الغزوُ الثقافيُّ الذي يتجلَّى في حملاتِ وسائط الإعلام الموجَّهة للتأْثير على العقول وتوجيهِها، فضلاً عن الترويج لوسائل اللهو والمُتْعة والجنس، بل حتَّى نَشْر المخدِّرات بشكلٍ غيرِ علنيٍّ، أَو من خلال الضغوط المباشَرة وغيرِ المباشَرة، بالتلويح بالعصا والجَزَرَة.

9- إنَّ عمليَّاتِ التجزئة المُتعمَّدة التي حدثَتْ في خلال القرن الماضي، سواءٌ بواسطة القوى الاستعماريَّة (معاهدة سايْكس بيكو) أَو بواسطة السلطات أو المشايخ الحاكمة في بلدان الخليج، بوجه خاصٍّ (وهي التي أَرادت أَن تحافظَ على امتيازاتها العشائريَّة والأُسريَّة بتشجيعٍ من القوى الاستعماريَّة)-إنَّ عمليَّات التجزئة المتعمَّدة هذه أَدَّت إلى تفتيت الوحدة العربيَّة التي كانت الأَملَ الأَقوى الذي يُراود أَبناءَ الأُمَّة بعد تحرُّرهم من الحكم التركيِّ، وأَسفَرَتْ عن خلقِ واقعٍ جديدٍ على الأَرض يُسهِمُ في تكريسه الحكَّام والمحكومون، بوعيٍ أَو بدون وعي، إلى حدٍّ يتوارى فيه "الإنسانُ العربيُّ" وراء الإنسان القَطَريِّ والإنسان الكويتيِّ والإنسان البحرَينيِّ والإنسان العُمانيِّ إلخ، ويذوبُ تدريجيًّا في خِضمِّ هذه التسميات التي يُشجِّعُها "الآخر"، خاصَّةً في تلك البلدان الصغيرة والضعيفة التي لا يتجاوزُ حجمُها حجمَ مُدُنٍ متوسِّطة في بلدانٍ عربيَّة مُجاوِرة، ناهيك عن حجمِها على الصعيد الدوليِّ الذي يكاد لا يُذكَر.

10- أَنظمةُ الحكم المستبدَّة والفاسدة التي استمرَّتْ في الحكم منذ حصلَتْ معظمُ البلدان العربيَّة على استقلالها، مع أَنَّ معظمَ البلدان في العالَم تحولَّتْ إلى النظام الديمقراطيِّ الحُرِّ، خاصَّةً بعد انهيار الاتِّحاد السوفيتيِّ. كما نلاحظ، بخَجَلٍ، أَنَّ زعماءَ هذه الأنظمة لا يُغادرون كرسيَّ السلطة إلاَّ عندما يَقضون نَحْبَهم، موتًا أَو قتلاً. كما إنَّهم يَحرصون على توريث ذلك الكرسيِّ إلى أَبنائهم. وقد ذهب قَسَمُ أَحمد عرابي باشا أَدراج الرياح حين قال: "والله الذي نفسي بيده، إنَّنا لسنا عبيدَ أَحد، ولن نتوارث بعد اليوم."

أَمَّا على الصعيد الاقتصاديِّ، فهناك مؤشِّراتٌ جِدُّ كثيرةٍ يَضيقُ بها المقام، منها على سبيل المثال:

11- يُشير تقرير برنامج الأُمَم المتَّحدة الإنمائيُّ، المتعلِّق بالتنمية الإنسانيَّة العربيَّة لعام 2002، إلى تراجُع الدَّخْل الفرديِّ بوجهٍ عامّ. ويقول التقرير: "لقد شهدَ العالَمُ العربيُّ عامَّةً حالةً من شبه الركود خلالَ رُبع القرن الأَخير. وجديرٌ بالذِّكْر أَنَّ البلدان العربيَّة ذاتَ الدَّخْل المرتفع (بلدان الخليج) سجَّلَتْ أَعلى نسبةٍ في التدهوُر منذ 1980، إذ تراجَعَتْ حصَّةُ الفرد في الناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ الذي كان ينمو بمعدَّل متوسِّط بلغَ 3 في المئة سنويًّا بين عامَيْ 1975 و1980—تراجعت إلى ناقص 4 ،4 في المئة بين عامَيْ 1980 و1990، ثمَّ إلى ناقص7 ،1 بين عامَيْ 1990و1998. وكانت مُحصَّلةُ ذلك تطوُّرًا سالبًا للناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ للفرد في مجمل الفترة بمعدَّل ناقص 8 ،1. وقد امتدَّ هذا التدهورُ ليشملَ أَيضًا البلدانَ ذاتَ الدَّخْل المنخفض."(2)

12- ويمكن الاستنتاج من التقرير نفسِه، وخاصَّة من الجداول والإحصاءات التي أَورَدَها، أَنَّ الوطنَ العربيَّ يُعتَبَرُ أَكثرَ المناطق تخلُّفًا في العالم بعد إفريقيا جنوب الصحراء. هذا على الرغم من إشارةِ مصادرَ أُخرى إلى أَنَّ الوطنَ العربيَّ قد استثمرَ أكثرَ من ثلاثةِ آلاف مليار من الدولارات في التكوين الإجمالي لرأْس المال الثابت (G F C F) خلال العقدَين السابقَين.

13- وأهم من ذلك أَن نلاحظَ تَزايُدَ اتِّساع الفجوة الحضاريَّة والاقتصاديَّة بين الوطن العربيِّ والبلدان المتقدِّمة. فقد ارتفعَتْ تلك الفجوةُ من 30 ضعفًا عند دخول نابليون مصرَ عام 1798، إلى آلاف الأَضعاف في بعض المجالات العِلميَّة والتكنولوجيَّة في الوقت الحاضر. وهذه الفجوة المتزايدة قد تُقرِّرُ فعلاً مصيرَ الأُمَّة العربيَّة، لأَنَّه كلَّما اتَّسَعَتْ وتعمَّقتْ، تزايدَتْ تبعيَّةُ الأُمَّة أَو سيطرةُ الآخَر على مقدَّراتها ومستقبلها. وكمثالٍ على زيادة الفجوة من الناحية الاقتصاديَّة فقط، نُورد هذا المثال البسيط: كانت نسبةُ الناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ الحقيقيِّ للفرد في الوطنِ العربيِّ إلى الناتج المحلِّيِّ للفرد في منظَّمة التعاون والتنمية تبلغ 21.3 في المئة في عام 1975، ثمَّ هبطَتْ هذه النسبة إلى 13.9 في عام 1998،(3) أَي أَنَّ هناك تزايُدًا متواصلاً في اتِّساع الفجوة. هذا، فضلاً عن الفجوات الأُخرى الأُكبر في مجالات الإعلام والمعلومات والتكنولوجيا والتسلُّح والفكر العلميِّ خاصَّة.

14- هذه الفجوات لا تقتصرُ على مؤشِّرات التفوُّق الغربيِّ على العرب، بل تشملُ أَيضًا تفوُّقَ إسرائيل المتواصل عليهم كذلك، على الرغم من آلاف المليارات من الأَموال التي دخلتْ في حوزتهم من عوائد الذهب الأَسود، وعلى الرغم من أّنَّ عددَ نفوس إسرائيل لا يُشكِّل سوى قرابة 2 في المئة من نفوس الأُمَّة العربيَّة . ويُشير الدكتور نادر فرجاني إلى تصاعُدِ مؤشِّرات تفوُّق إسرائيل على العرب نسبةً إلى عدد السكَّان، فيقول إنَّها تتفوَّق بـ"حوالى عشر مرَّات في الأَفراد العلميِّين، وأَكثر من ثلاثين مرَّةً في الإنفاق على البحث والتطوير، وأَكثر من خمسين مرَّةً في وصلات الإنترنت، وأَكثر من سبعين مرَّةً في النشر العِلميِّ، وقرابة ألفِ مرَّةٍ في براءات الاختراع."(4) ويُشير تقريرُ برنامج الأُمم المتَّحدة الإنمائيِّ إلى أَنَّ الناتجَ المحلِّيَّ الإجماليَّ للفرد في إسرائيل يفوقُ نظيرَه في البلدان العربيَّة مجتمعةً. فبعد أَن كانت الزيادةُ ثلاثةَ أَضعافٍ في عام 1970، بلغَتْ ما يُقارب سبعةَ أَضعافٍ في عام 1995. كما ارتفع الناتجُ الإجماليُّ لإسرائيل من 5 في المئة في 1980 إلى حوالى 20 في المئة في 1995 ، من الناتج الكلِّيِّ لمنطقة الشرق الأَوسط .(5) وهكذا تتزايد الفجوةُ اتِّساعًا بمرور الزمن، الأَمر الذي سيؤدِّي تلقائيًّا إلى سيطرة إسرائيل على مُقدَّرات الأُمَّة العربيَّة في المستقبل القريب.

15- وأَخطرُ من كلِّ ذلك أَنَّ هناك فجوةً غذائيَّةً كبيرةً متزايدة في الوطن العربيّ؛ أَي إنَّنا نستهلكُ من الغذاء أَكثرَ بكثير ممَّا نُنتج. فقد بلغَتْ تلك الفجوةُ في عام 1998 ما قيمته 13.01 مليار دولار بعد أَن كانت 12.64 في عام 1997، أَي أَنَّ الفجوة تتزايد بنسبة 2.88 في المئة سنويًّا، لتصبح 13.40 في عام 2000.(6)

أَمَّا المؤشِّرات التكميليَّة، فنُوجِزُها بما يلي:

16- ولعلَّ الأَهمَّ من كلِّ ما تقدَّمَ، كما أعتقدُ، هو غفلةُ الأُمَّةُ نفسُها عن هذا المصيِر الوشيكِ الذي ينتظرُها. وأنا لا أقصدُ غفلةَ العامَّةِ فقط، وهو أَمرٌ طبيعيٌّ، بل غفلةُ معظمِ الخاصَّةِ وبعضِ أَعضاء النُخبةِ التي قد تتجاهَلُ هذا الأمرَ الخطير. نعم ، طـُرحَ السؤالُ القديمُ الجديدُ، منذُ القرنِ التاسعَ عشر: "لماذا تقَدَّمَ الغربُ وتخلَّفَ المسلمون؟" وكـُتب عن هذا الموضوعِ مئاتُ البحوثِ، وقامَ ما يُسمَّى بحركةِ النهضةِ الفكريـَّةِ العربـيَّة للإجابة عنه. ومع ذلكَ، فقد فشِلتْ جميعُ الجهودِ في سدِّ الفجوةِ المُتزايدة بـيننا وبـينَ الآخرِ، بل إنَّها ازدادت اتِّساعاً وعُمْقًا، خاصَّةً في الخمسين عاماً الأَخيرةِ، كما شرَحْتُ سابقاً. وعندي أَنَّ أَهمَّ سببٍ في ذلك هو عدمُ وعْينا بمدى تخلُّفنِا، وبالتالي عدمُ اعترافِنا الصريحِ والهادف بذلك؛ بل حصلَ العكسُ تمامًا، في الغالب، لأَنَّنا أَخذنا نُكابرُ ونُجادلُ ونُفاخِرُ بِحَضارتِنا العَريقةِ وفَضْلِها على العالَمِ عامَّةٍ وعلى الغرب خاصَّةٍ، كالعزيزِ الذي فَقَدَ ثروَتَه ومَجْدَه، فأُصيبَ بلوْثةٍ عَقْليَّة جَعَلتْهُ يَهذي ويُفاخر بأَنَّه ما يزالُ"ربَّ الخورْنَقِ والسَّديرِِ". إنَّ الاعترافَ بتخَلُّفِنا، بوعيٍ عَميقٍ به وفَهْمٍ دَقيقٍ لأَسْبابِه، ومنها قهرُ "العقلِ المجتمعيِّ" والخضوعُ لـ"العقلِ المنُفَعِل"، كما سأشرحُ ذلكَ في الفُصولِ التالية، هو خطوةٌ أُولى وأساسيَّةٌ قد تَضَعُنا في بِدايةِ الطريقِ. وإنَّ إنكارَ ذلكَ أو تجاهُلَه أَدَّيا، منذُ عدَّةِ قرونٍ، إلى فَشَلِ حركةِ النهضةِ العربيَّة، كما يؤدِّيان الآن إلى انزلاقِ الأُمَّةِ نحو هاويةِ الانقراضِ المُحتَّمِ، كما بيَّنتُ آنفًا.

17- وقد يجدرُ الإيماءُ إلى أَنَّ جميعَ مؤشِّراتِ انقراضِ هذه الأُمَّةِ تكادُ تدورُ، على الأَغلبِ، حولَ محورٍ واحدٍ أو عاملٍ مُنْفردٍ اسمُه"التخلُّفُ"، بجميعِ أَشكالهِ وأَلوانهِ ومظاهرهِ، وباعتباره عاملاً مركَّبًا يَتَشابكُ ويَتَقاطعُ مع عواملَ متعدِّدةٍ أُخرى. فقدْ كانَ هذا التخلُّفُ سببًا في فَشَلِنا في مَنع العدوِّ الصهيونيِّ من التمركزِ في بلادِنا واحتلالِ أَراضينا، وتَشريدِ شَعْبِنا، وإرغامِنا على التَطبيعِ أَو بالأَحرى التركيعِ والقبول بالواقعِ المُرِّ. ولولا هذا التخلُّفُ، لَما نَشَبَتْ جميعُ هذهِ الحروبِ الأهليَّة والبَيْنِيَّةِ، في وقتٍ كانَ الآخرُ يُبارِكُها و يُغذِّيها ويدعمُها بالسلاحِ والمعلوماتِ، لكلا الطرفَيْنِ، كما حصلَ، مثلاً، في الحربِ العراقيَّة الإيرانيَّة التي استَنْزَفَتْ وأنهكَتْ كلا الغَريْمَيْنِ، فأخذَ ينقضُّ على كلِّ طرفٍ على حِدَة، كما حَدَثَ ويحدثُ وأنا أخُطُّ هذه السطور. ولولا تخلُّفُنا، لَما سيطرتْ علينا هذه الزُمرةُ من الطبقاتِ الحاكمةِ المستبدَّةِ والفاسدة. والمُعْضِلُة الأدهى أَنَّ معظمَ الناسِ في الوطنِ العربيِّ لا يَعُونَ تخلُّفَهُمْ، بل إنَّ معظمَ المتعلِّمينَ والمثقَّفينَ لا يَعُونَ، على الأَرجحِ، هذا السببَ الحاسمَ في نكباتنا وفشلنا، كما أَرى. وأَنْكى من ذلك أَنَّ بعضَ هؤلاءِ قد يَرُدُّ على هذا الطَّرحِ باتِّخاذِ مواقفَ دفاعيَّةٍ تَتجلَّى إمَّا بإظهارِ مثالبِ "الآخرِ" وعيوبِهُ، وإمَّا بالمُزايدة على الماضي التالدِ ومُنْجَزاتِه الشامخةِ. وقد يَرُدُّ بَعضُهم على ذلكَ بأَنَّنا تَقدَّمْنا كثيراً عمَّا كُنَّا عليه قَبلَ مئةِ عامٍ مثلاً ، أَو بأَنَّنا نُفَضِّلُ أنْ نُحافظَ على دينِنا وتقاليدِنا العريقة بدلاً من أَنْ نَتَشَوَّهَ بالحَضارةِ الحَديثَةِ وفَسادِها المادِّيِّ والأَخلاقيِّ والجنسيِّ. والردُّ الأَكثرُ شيوعاً هو أَنَّ الغربَ كان، وما يزال، يُشكِّل العائقَ الأَوَّلَ والحاسمَ في سبيلِ تَقدُّمِنا. وسأُحاولُ الردَّ، بشكلٍ أَو آخرَ، وبقَدْرِ ما يَسمحُ به المقامُ، على بعضِ هذهِ الاعتراضاتِ والحججِ في الفصولِ التالية.

ومع ذلك يجبُ أَنَّ ننوِّهَ بظهورِ نخبةٍ من المفكِّرينَ والمثقَّفينَ العربِ الذين عالجوا موضوعَ تخَلُّفِ الأُمَّةِ بكفاءةٍ عاليةٍ، سأَذكرُ بعضَهم، مُشيدًا بفضلهم، في أَثناء بحثي فيما بعدُ.

ويَطولُ الحديثُ عن المظاهرِ التي تُوحي بِسقوطِ هذه الأُمَّةِ أو انقراضِها، إلا إذا حصلَ تغيُّرٌ جذريٌّ في كيانِها البُنيويِّ، وخاصَّةً الاجتماعيَّ والفكريَّ. ونحن نَنطلقُ في هذا الطرحِ من مصالحَ قوميَّةٍ مُخْلصةٍ تـنظرُ في إمكاناتِ إنقاذِ هذهِ الأُمَّةِ من هذهِ الغُمَّةِ. وآمل أن لا يُفسَّرَ أَيُّ شيءٍ من هذا العرضِ باعتبارهِ مسًّا بالعربِ أَو بالأُمَّةِ العربيَّة، بالتفصيلِ الذي سأَشرحُه في ختامِ هذا الفصلِ.

مَنْ يتَحمَّلُ مسؤوليَّةَ ذلك؟ أَي مَن يتحملُ مسؤوليَّة انقراضِ هذه الأُمَّة؟

يَبدو، ممَّا تقدَّمَ ذِكْرُهُ من بعضِ المؤشِِّراتِ ( من 5إلى 9) وممَّا يَتجلْى واضحاً للعَيانِ من عددٍ من الدلائِل، أَنَّ الغربَ كانَ يُشكِّلُ عائقًا كبيرًا في سبيلِ تقدُّمِ هذهِ الأُمَّةِ ووحْدَتِها القوميَّةِ؛ أَي إنَّ مسؤوليَّةَ انقراضِ هذهِ الأُمَّةِ تقعُ، في رأي الكثيرينَ، على عاتقِ الآخرَ، في المقامِ الأَوَّل. ومع أَنَّني أُوافقُ على أَنَّ الغربَ كان، وما يزالُ، ضالعاً في الوقوفِ ضِدَّ أَيِّ مشروعٍ يتعلَّقُ بوحْدةِ هذه الأُمةِ-والتاريخُ يشهدُ على ذلك-كما أَنَّه يحاول أَن يقفَ دونَ تقدُّمِ العربِ العلميِّ والتِّقانِيِّ، بُغْيَةَ أَن يَبقى مُهيْمِنًا، هو وإسرائيل، على مُقدَّراتِهمْ، وأَنَّ هناكَ خطوطًا حمراءَ في هذا الشأْنِ لا يمكنُ تجاوزُها، فإنَّني لا أَعتبِرُه مسؤولاً عن تخلُّفِنا ولا عن سقوطِنا، لعدمِ وجودِ مسؤوليَّةٍ أصلاً تقعُ على الطَّرفِ الرابحِ في أيٍّ رهِانٍ أو حَربٍ أو مُباراةٍ أو مُنافسةٍ. لذلكَ أَرى أَنَّ مسؤوليَّةَ خسارتِنا في هذا الِمضْمارِ تقعُ عليْنا حصراً، نحنُ الطرف الخاسر في الرِّهان، بِصرفِ النظرِ عن الأَسباب.

لذلك سأُبيِّنُ، في هذا المطبوعِ، أَنَّ المسؤوليَّةَ الأَساسيَّة تقعُ، في المقامِ الأَوَّلِ، على الإنسانِ العربيِّ، أَو، بالأَحْرى، على العقلِ العربيِّ الذي تُمثِّلهُ العامَّةُ أَوَّلاً، كما تُمثِّله، إلى حدٍّ بعيدٍ، تلك النُّخبةُ من المُثقَّفينَ والمتعلِّمينَ الخاضعينَ لـ"العقلِ المجتمعيِّ"(الذي سأشرحُه في هذا الكتاب)، من حيثُ يعلمونَ أَو لا يعلمون.

ومن جهةٍٍ أُخرى أَهمَّ، لو سَلَّمْنا جَدَلاً بأَنَّ الآخرَ (الغرب) هو المسؤولُ عن مُعظمِ مشاكِلِنا ونَكَباتِنا، فالسؤالُ المطروحُ هو: مَن الذي سيُسائلُه؟ أَو، بالأَحْرى، مَن الذي سيُحاكِمه؟ ونحنُ نَعلَمُ أَنَّ حَضارةَ الغربِ الحديثةِ قامَتْ على أَشلاءِ مئاتِ الملايينِ من البشرِ، ابتداءً من الإبادةِ الجَمَاعيَّة لسُكَّانِ أَمريكا الأَصليِّين، إلى إبادةِ الشعوبِ المستعمَرةِ في أَفريقيا وآسيا أَو استِعبادها. والمعركةُ مُستمرَّةٌ ومُتواصلةٌ، ولكنَّها انصبَّت اليومَ، انصبابًا أَكبرَ، على الشعوبِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، على نحوٍ مُكثَّفٍ، خاصَّةً مُنذُ أَحداثِ الحادي عَشرَ من أيلولٍ/سِبتمبر 2001، بلْ مُنذُ انهيَّارِ الاتِّحادِ السوفيـتيِّ وإعلانِ مقولةِ "صراعَ الحضارات".

وهُنا أُريدُ أَنْ أَخلصَ إلى أَنَّ الواقعَ يَقتضي مِنَّا أَنْ نَعتَرفَ، شئِنا أَو أَبَيْنا، بـ"عَدالةِ" تَنازعِ البقاءِ، و"الحقِّ" في بقاءِ الأَصلَحِ أَو الأَقوى و/أَو الأَذكى والأَعلَمِ والأَعقلِ أَو الأَفطنِ والأَدهى، بِصرفِ النَظرِ عنْ مفهومِ العدالةِ بِمعناها المطلق. أَلم تُشَكِّلْ هذه الحقيقةُ المُرَّةُ، بالنِسبةِ للفاشِلين أَو المُهَمَّشينَ، والحُلوةُ بالنِسبةِ للناجِحينَ والبارزينَ، واقعَ التاريخِ البَشريِّ على مَرِّ العُصور، بلْ واقعَ التاريخِ الأَحيائيِّ مُنذُ بدايةِ الخليقةِ حتَّى يومِنا هذا؟ يقولُ المثَلُ الشعبيُّ: "الحقّ بالسيف، والعاجز يريد شهود". وسيفُ اليومِ لا يختلفُ كثيرًا عن سيفِ الأَمسِ الذي يحتاجُ إلى دَعمٍ من الرأْي: "الرأْيُ قبلَ شَجاعةِ الشُجعانِ". ولكنَّ رأْيَ اليومِ أَصبحَ مُستـنِداً إلى العقلِ والعلمِ والمعرفةِ والتخصُّصِ والفِكرِ الناضجِ والمُبدعِ، أَكثرَ من أَيِّ وقتٍ مضى، وكلُّها عواملُ أَنشأَتْ أَعمدةَ الحضارةِ الحديثةِ، وأَسهمتْ في استغلالِ بلْ استعبادِ الشعوبِ الجاهلةِ والخاملةِ التي سُمِّيَت "النامية"، بما فيها الشعوبُ العربيَّة والإسلاميَّة التي ستُخيَّرُ بين التطبيعِ والتركيعِ أَو الإزاحةِ والتقطيعِ، ما لم تَتَفهَّمْ واقعَ وعدالةَ تنازعِ البقاءِ وبقاءِ الأَصلح، وذلك من أَجل أَن تتكيَّفَ وتنهضَ وتُدافعَ عن حقوقِها، لا بِجَعْجَعَةِ الكلام الفارغ والتباهي بمجد آفل، بلْ بِقَعْقَعَةِ المصانعِ ودويِّ الآلاتِ والمحرِّكاتِ، وبالخلقِ والإبْداعِ، وتحريرِ العقلِ المنُْفَعِلِ من سُجُونِ العقلِ المُجْتَمعيِّ، لتحْويلهِ إلى عقلٍ حرٍّ فاعلٍ ومُنتِجٍ.

  • * *

في مُنتصفِ القرنِ العشرين كنَّـا نعتقد، وكان مُعظمُ العربِ، إنْ لم يكنْ جميعُهم، يَعتقدونَ أَيضًا، أنَّ المعضلةَ الأساسيَّة التي كانت تُواجهَنا هي الاستعمارَ الأَجنبيَّ الذي كان مُسيْطرًا على جميعِ البُلدانِ العربيَّة تقريبًا: يَنهبُ موارِدَها ويستعبدُ أَهلها ويُنَـصِّبُ مُلُوكَها وزُعماءَها ووزراءَها.

وكنَّا نَتَصوَّرُ أَنَّ جميعَ مشاكِلنا، كعراقيِّينَ وكعربَ، يُمكنُ مواجهتُها وحلُّها تدريجيًّا بمجرَّدِ التَحرُّرِ من هذا الماردِ الجبَّار. وكنَّا نتصوَّر أَنَّنا سَنتمكَّنُ من مُواكبَةِ التطوُّرِ الحضاريِّ والوصولِ إلى تحقيقِ أَهدافِ الأُمَّة في الوَحدةِ والتنميةِ والتقدمِ، خِلالَ عقودٍ قليلةٍ، ولاسيَّما أَنَّ العراقَ، مثلاً، كان يَمْلِكُ، وما يزال، مواردَ طبيعيَّةً هائلةً (النِفطُ والمياهُ والأَرضُ الخَصبة والموادِّ الأَوَّليَّةِ الأُخرى) فضلاً عن المواردِ البشريَّة ذات الكفاءاتِ العالية.

لذلكَ حَقَّقتْ الحركاتُ والثوراتُ التحريريَّةُ التي انطلقتْ مُنذُ مطلعِ الخمسينيَّاتِ، خاصَّةً في ِمصرَ والعراقِ وسوريَّةِ وليـبـيا والجزائر، تأْييدًا جماهيريًّا كاسحًا على جميعِ المُستوياتِ، وفي طليعتها المُستوياتُ العالِمةُ والمثقَّفة.

وبعد فترةٍ من قِيامِ تلكَ الثورات، تبيَّن لنا مَدى فشَلِنا في تحقيقِ مُعظم الأَهدافِ التي كانت مَرجوَّةً منها، بل تعقَّدَتْ خلافاتُنا، وتفاقمتْ مشاكلُنا، وتتابعتْ هزائمُنا وكوارثُنا، وتكرَّسَت التجزئة، وازدَدْنا بُعداً عن الوحدةِ العربيَّة والتكاملِ الاقتصاديّ.

ولَطالما تساءَلْتُ: لماذا حدثَ ويحدثُ كلُّ ذلكَ؟ ولماذا فشلَتْ نهضتُنا وتبدَّدَتْ جميعُ آمالِنا ومشاريعِنا بعد الاستقلالِ؟ بل لماذا ازدادتْ أَوضاعُنا، على وجه العمومِ، سوءًا؟

الأسئلةُ كثيرةٌ وسهلة، لكنَّ الإجابةَ عنها قليلة وعسيرة، بالرغمِ ممَّا طُرح بشأْنِها من آراءٍ وحلولٍ، وما كُتبَ عنها من عشرات بل مئات الكتب. وعندي أَنَّ سببَ ذلك يعودُ إلى أَنَّ الظواهرَ الاجتماعيَّة تختلفُ عن الظواهرِ الطبيعيَّة، من جهةِ إمكانيَّة حصرِ الأَسبابِ والنتائجِ وتشخيصِها، بالتفصيلِ الذي شرحتُه في"ملاحظاتِ" الفصلِ الأَوَّل (ثانياً). ومع ذلك، فهذه محاولةٌ متواضعةٌ، لا أَدَّعي أَنَّها ستحلُّ الإشكاليَّة التي نحن بصددها، ولكنَّها قد تُلقي خَيْطًا من الضوءِ عليها.

وتدورُ هذه المحاولةُ التي يتضمَّنُها هذا البحثُ حولَ محاورَ أًساسيَّةٍ محدَّدةٍ ستبدو خِلافيَّةً، بل ربَّما صِداميَّة ، أَذكرها بإيجاز فيما يأْتي:

1- إنَّ المعضلةَ التي تواجِهُها الأُمَّةُ العربيَّةُ و البلادُ الإسلاميَّة، كما أَرى، لا تتعلَّقُ بتحريرِ الأَرضِ بقَدْر ما ترتبط ارتباطًا مباشَرًا وغيرَ مباشَرٍ بـ"تحريرِ الإنسانِ العربيِّ" بالذات، أَو، بالأَحرى، تحريرِ عقلهِ من القهرِ الخارجيِّ: السياسيِّ والاجتماعيِّ، بما فيه قهرُ "العقلِ المجتمعيِّ" الذي يتحوَّلُ، لدى الفردِ الذي ينتمي إلى ذلك المجتمع، إلى قهرٍ داخليٍّ ذاتيٍّ يصعبُ الفَكاكُ منه، بل يُصبحُ جزءًا من شخصيَّة الإنسانِ وتكوينِه العقليِّ وبُنيتِه الفكريَّة. وهذا ما شَرحْناهُ باختصارٍ في الفصلينِ الثالثِ والرابعِ من هذا البحثِ، وسنعودُ إليه في الجزءِ الثاني منه .

2- وهكذا أَرى أَنَّ السببَ الأَوَّلَ والأَهمَّ لجميعِ مُعضِلاتِنا ونكَباتِنا لا يتعلَّقُ بـ"الآخرِ" بقدْرِ ما يرتبطُ بـ"الأنا"، وينصبُّ بوجهٍ خاصٍّ على "تخلُّفِنا الحَضاريِّ" الذي نُعانيه، كشعوبٍ ناميةٍ، وكشعوبٍ عربيَّة وإسلاميَّة خاصَّةً. وهذا ما ذكرناهُ في الفقرةِ 17 أَعلاه، وما ستُفصِحُ عنه الفصولُ الآتية التي ستُعالج ُبعضَ الحلولِ الواقعيَّة الممكنةِ لتجاوُزِه.

3- القضيَّةُ الثالثةُ التي ستُطرحُ في هذه الفصولِ هي أَنَّ الفجوةَ الحضاريَّة، بما فيها العِلميَّةُ والتكنولوجيَّةُ والاقتصاديَّةُ والعسكريَّة، بين العالمِ المُتقدِّمِ والأُمَّةِ العربيَّةِ، تتزايدُ بمرورِ الزمن. وكلَّما اتَّسعَ حجمُ تلك الفجوةِ، تزايدَتْ هَيْمنةُ الدُّوَلِ المتقدِّمةِ، ومنها إسرائيل، على مُقدَّراتِ الأُمَّةِ العربيَّة. وهذا أَمرٌ خطيرٌ للغاية قد يُؤدِّي، كما أَسْلَفنا، إلى انقراضِ هذه الأُمَّةِ تدريجيًّا.

4- ولإثباتِ هذه الدعاوى، سنُحاوِلُ أَنْ نتعرَّضَ إليها، بعدَّةِ أساليبَ، وخاصَّةً من خلالِ ثلاث أُطروحاتٍ نعرضُها باعتبارها فرضيَّاتٍ تنحو إلى التبَلْوُرِ بِشكلِ نظريَّاتٍ قابلةٍ للمُناقشةِ والتمحيصِ والتعديلِ والتعميقِ: الأُولى، نظريَّةُ عدمِ مرورِ العربِ بمرحلةِ الزراعةِ قبل انتقالهمْ إلى مرحلةِ الحضارةِ بعدَ الفتوح الإسلاميَّةِ، وهم يتعرَّضونَ، اليومَ، لهذه الظاهرة منذ اكتشافِ النِّفط في مَنطقةِ الخليجِ، خاصَّةً بالنسبةِ لتلك المجتمعاتِ البدويَّةِ(الخليجيَّة مثلاً)؛ والثانيةُ، نظريَّةُ "العقلِ المجتمعيِّ"؛ والثالثةُ، نظريَّة "العقل الفاعل والعقل المنفعل".

  • * *

ومع تقديري البالغِ للقرَّاءِ الأَفاضلَ الذين نَوَّهوا بهذهِ المقالاتِ، حينَ نُشرتْ، فإنَّني قد أَتعرَّضُ لاتِّهاماتٍ، وربما لهجماتٍ من جهاتٍ مختلفةٍ أُخرى، بعد نَشْرِ هذا الكتابِ، كما سبقَ أَن تعرَّضْتُ عند نَشْرِ بعضِ آرائي عن "أَزمةِ العقلِ العربيِّ"، ومنها رأْيي في عدمِ مرورِ العربِ بمرحلةِ الزراعةِ، واعتقادي أَنَّ الأُمَّةَ العربيَّة عُرضةٌ للانقراض... وقد أُتَّهمُ باللاوطنيَّة واللاقوميَّة! وربَّما أُخِذَتْ عليِّ الخيانةُ أَو العمالةُ للآخر! قد يُقال مثلاً إنَّني، بهذه الآراء، أَتَّفقُ، بل أُروِّجُ لوجهاتِ نَظرٍ تُعبِّرُ عن آراء موتورةٍ تُهاجمُ العربَ وتُحاولُ المسَّ بهمْ وبالإسلامِ والمسلمين، والتقليلَ من دور الأُمَّة العربيَّة الحضاريِّ، بل من وجودِها كأُمَّةٍ لها مُمَيِّزاتُها وفضلُها على الحضارةِ العالميَّة. ومع أَنَّني أَفهمُ هذه الآراءَ المتحيَّزةَ للعروبةِ والإسلامِ وأَعتبرُها صادرةً، على الأَكثَر، من جهاتٍ مخلصةٍ، فإنَّني أَراها، من جهةٍ أُخرى، خاضعةً للعقلِ المجتمعيِّ السائدِ في جوانبِه السلبيَّة الموروثةِ من الفترةِ المظلمة. وهكذا، فإنَّها أًضرَّتْ، من حيثُ لا تَدري، بالقضيَّة نفسِها التي تدَّعي الدفاعَ عنها، وبالتالي أَضرَّتْ بالمصالِح العُليا للشعبِ العربيِّ والإسلاميِّ.

وأَرى، من جهةٍ أُخرى، أَنَّنا كنَّا، وما نزالُ، نحاولُ دائمًا أَنْ نُخفيَ سَلبيَّاتِنا ونُمجِّدَ إيجابيَّاتِنا مُختبئين وراءَ مُنجزاتِنا خلال فترةِ الحَضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة في عهدِها المُشرِق التالد. وقد أَدَّى هذا السلوكُ، في جُملة ما أَدَّى، إلى تفاقُمِ إشكاليَّات العربِ ومضاعفةِ نَكَباتِهم وزيادةِ تخلُّفِهم. وسأَشرحُ بعضاً من هذا الموضوعِ الدقيقِ والشائكِ خلالَ فصولِ هذا الكتاب والكتابِ الذي سيليه ، وخاصَّةً من خلالِ بحثِ إشكاليَّة التراثِ والحداثة.

وأَستدركُ فأَقولُ إنَّ هذا لا يعني اللجوءَ إلى جَلْدِ الذاتِ كردِّ فعلٍ لنكباتِنا وإخفاقاتِنا، لكنَّني أَرى أَنْ نتعرَّضَ لتلك الإخفاقاتِ بموضوعيَّةٍ صارمةٍ تستَنِدُ إلى تحليلٍ دقيقٍ بصرفِ النظرِ عن النتائجِ الصادمةِ والمؤلمةِ التي قد يتمخَّضُ عنها. إنَّ نقدَ الذاتِ المتأَنِّي والمدروسَ لا يؤدِّي إلى التقليلِ من شأْنِها إزاءَ الآخرَ، بل يُسفِرُ، بالعكس، عن احترامِه لها من جهة، ويؤدِّي، من جهةٍ أَوْلى، إلى فَهمِنا الدقيقِ لنقاطِ ضَعفنِا، الأَمر الذي سيُشكِّلُ عاملاً من عواملِ قوَّتِنا، فيُعَرِّفُنا إلى موْضعِ الداءِ وتشخيصهِ كمرحلةٍ حتميَّة لوضعِ وصفةِ الدواءِ التي نحنُ في أَمسِّ الحاجةِ إليها، وإلاَّ سنظَلُّ نعيشُ في الأَوهامِ والأَحلامِ، كما حدثَ خلالَ العقودِ الماضيةِ، مثلاً، بادِّعائنا أَنَّنا خيرُ أُمُّةٍ أُخرِجَتْ للناس، فلا يمكنُ لليهودِ الذين حَكمَ الله عليهم بالمذلَّةِ أَن يتغلَّبوا علينا! والنتيجةُ الماثلة هي أَنَّ إسرائيل مخطَّطٌ لها أَن تُصبحَ في عام 2020 بمصافِّ الدولِ المصنِّعة الكبرى، في الوقتِ الذي يزدادُ الوطنُ العربيُّ تخلُّفًا وتبعيَّةً، سواءٌ لأَمريكا أَو لإسرائيل الكبرى. فمنَ المحتملِ جدًّا أَن يُصبحَ ذلك "الكيانُ"، الذي كان يوصفُ بـ"العصاباتِ الصهيِونيَّة"، مُسَيطِرًا تمامًا على اقتصاديَّاتِِ البلدانِ العربيَّة ومواردِها البشريَّة والطبيعيَّة، بما فيها النِفطُ، وبالتالي مسيطِرًا على سياساتِها الداخليَّة والخارجيَّة.

ومن جهةٍ أُخرى، فأَنا لا أَدَّعي أَنَّني أُصيبُ كبدَ الحقيقةِ في كلِّ ما أَكتُبُ؛ ذلك أَنَّ جميع الأَفكارِ قابلةٌ للمناقشةِ والمراجَعة. وعليه، فأَنا بحاجةٍ دائمةٍ إلى توجيهاتِ القُرَّاءِ النابهين، أُرحِّبُ بنقدِهمْ، خاصَّةً إذا كان بنَّاءً يعتمِدُ على بحثٍ وتمحيصٍ، ويلتزمُ الموضوعيَّة قَدْرَ الإمكان. وأَعِدُ بأَنَّني على استعدادٍ لإعادةِ النظرِ في آرائي واستنتاجاتي، إذا اقتضى الأمرُ ذلك.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مراجع الفصل الأول: مدخل

1- يشير تقرير الأُمم المتَّحدة للتنمية الإنسانيَّة إلى أَنَّ نسبةَ الأُمِّيَّة في البلدان العربيَّة تتجاوز نسبتَها في جميع مناطق العالم بما فيها البلدانُ النامية، إذ وصلَتْ هذه النسبةُ في عام 1995 إلى 43 في المئة. أَمَّا نسبةُ الأُمِّيَّة لدى الإناث، فتقارب الـ60 في المائة. (أنظرْ تقرير التنمية الإنسانيَّة العربيَّة للعام 2002، ص 47).

2- المرجع السابق ، ص85.

3- المرجع السابق، ص85.

4- أنظر نادر فرجاني، "الإمكانات البشريَّة والتقانيَّة العربيَّة"، فصل في كتاب" العرب ومواجهة إسرائيل"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 2000)، ص 736.

5- فرجاني، المرجع السابق، ص719.

6- التقرير السنويّ لـ"حال الأُمَّة" (2002) الذي يُصدِره " المؤتمرُ القوميُّ العربيّ"، ص79 (توزيع محدود على أعضاء المؤتمر).




الفصل الثاني: بين ابنِ خلدون وتُوينبي

نشوءُ الحضاراتِ وسقوطُها - ومصيُر الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة *

تساؤلات

المُتأمِّلُ في بطونِ تاريخ البشريَّة تستغرقُه عدَّةُ تساؤلات، بل يتعرَّضُ لألغازٍ مُعقَّدة وظواهرَ عجيبة، يقفُ إزاءَها، في الغالب، حائرًا، مُتردِّدًا، وأحيانًا، يائسًا، حتَّى لو استنجدَ بأُمَّهاتِ المَراجِع التي كتبَها مَن يُسمَّون بعُلماء فلسفةِ التاريخ، لأنَّه لن يجدَ، غالبًا، تفسيرًا مُقنِعًا لمسيرةِ التاريخ وأبرزِ ظواهره، مثلِ ظاهرة نشوء أو انتقال الحضارات في الزمان والمكان.

فكيف ظهرت الحضارة؟ ولماذا اضطلع بها بعضُ الشعوب دون شعوبٍ أُخرى؟ وما هي أسبابُ نُموِّها وازدهارها ثمَّ ذبولِها وتدهورِها وتلاشيها لدى تلك الشعوب، ومِن بعدُ، أسبابُ ظهورها لدى شعوبٍ أُخرى، لتعودَ إلى النموِّ والازدهار ثمَّ الاضمحلال فالموت؟

فلماذا انبثقَت، مثلاً، أوَّلُ حضارةٍ على هذا الكوكب في أرض الرافدَين، قبل ما يُقارب ستَّة آلاف سنة؟ ولِمَ نمت وتطوَّرت، ثمَّ ذبُلَت وتدهوَرت وبادت، بعد أَن نشرَت في العالَم أَهمَّ المُؤسَّسات الحضاريَّة الأُولى، مثلِ أوَّل مدرسة، وأوَّل برلمان يتألَّف من مَجلسين، وأوَّل نثر وشِعرٍ فـنِّيّ، وأوَّل مكتبة تحتوي على قوائمَ مُصنَّفة، وأَوَّل التشريعات، وأُولى القِيَم الأخلاقيَّة، وأُولى التجارب الزراعيَّة، وأُولى الحِكَم والمواعظ، وأُولى أناشيد الحبِّ والغَزل، وغير ذلك من سبعة وعشرين “أوَّل”، ذكَرها العَالِم الآثاريِّ “صموئيل نوح كريمر” في مؤلَّفه القَيِّم “التاريخ يَبدَأ في سومَر” 1.

ولماذا ظهرت بعد ذلك حضاراتٌ أُخرى عظيمة في نفس المنطقة، منها حضارةُ الفراعنة في مِصر، وحضاراتُ الأَكَّدييِّن والآشورييِّن والبابلييِّن في العراق، والفينيقييِّن في بلادِ الشام التي كانت تضمُّ سوريا ولبنان وفلسطين والأُردنّ، ولاقت نفس المصير المحتوم الذي تعرَّضت له الحضاراتُ السابقة!؟2

ثمَّ لماذا انتـقـلت الحضارةُ إلى أرض اليونان منذ القرن التاسع والثامن قبل الميلاد، وحقـَّقت أَعظم إنجازٍ فلسفيٍّ وفكريٍّ في العصور القديمة، ثمَّ بلغت أَوجَها في عصر أَرسطو فالإسكندر، لتبدأ بالانحطاط والتدهور بعد ذلك؟

وفي أثناءِ تدهور الحضارتَين الفارسيَّة والرومانيَّة، لماذا ظهرت فجأةً الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّة، في القرن السابع الميلاديِّ، في شِبهِ الجزيرةِ العربيَّة القاحلة، وحقَّقت خلال فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا ما لم تُحقـقه حضارةٌ أُخرى على الأرجح؟3

ولماذا انتقلت الحضارةُ بعد ذلك إلى أوروبَّا مرَّةً أُخرى، فحقـقت النهضةَ الحضاريَّة الأُوروبيَّة على أَنقاضِ الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّة، وقدَّمت، خلال القرون الأربعة الأخيرة، مُنجَزاتٍ هائلةً في مُختلف المَيادين العلميَّة والفكريَّة والتشريعيَّة والفلسفيَّة والتكنولوجيَّة إلخ... كما سيطرت على مُعظم أَجزاء العالَم إمَّا بشكلٍ مُباشر أو غير مُباشر؟

ثمَّ كيـْف انتقلَ مركزُ الحضارة العلميَّة التكنولوجيَّة إلى أمريكا الشماليَّة، حيثُ حقـقت أهمَّ المُنجَزات، وتكلَّلت بغَزو الفضاء والنزول على القمر والمريخ؟

وما هي مؤشِّراتُ وبوادرُ انتقال الحضارة الغربيَّة الحديثة إلى الشرق الأقصى، لتُحقِّقَ نمطًا من الحضارة التكنولوجيَّة أكثر تقدُّمًا وثورةً صناعيَّة وتِقنيَّة جديدة، لاسيَّما في اليابان والصين ودُوَل النُّمور الآسيويَّة بما فيها ماليزيا وكوريا الجنوبيَّة وتايوان التي أخذت تُحقِّق تقدُّمًا اقتصاديًّا يقرب من الـ10 بالمئة سنويًّا؟

هل يُمكن القول إنَّ للحضارةِ دورةً حياتيَّة مُعيَّنة تُشبه إلى حدٍّ بعيد دورةَ حياة الإنسان كما يقول ابنُ خلدون وأُوزولد شبنغلِر Oswald Spengler، من حيث أنَّها تولَد وتنمو وتشبُّ ثمَّ تمرُّ في دور الكهولة، وتنحدرُ تدريجيًّا إلى الشيخوخة فالموت؟

وفي خضمِّ هذا التقدُّم الحضاريّ الجارف والأحداث المُعاصرة السياسيَّة والاجتماعيَّة، ولاسيَّما العلميَّة والتكنولوجيَّة التي أخذَت تسيرُ بسرعةٍ هائلةٍ لم يسبقْ لها مثيلٌ في تاريخ البشريَّة، إذْ أضحت الحضارةُ الحديثة تقفزُ بوتيرةٍ مُتسارعة فتُنجزُ في عَقدٍ من الزمن ما يُعادل مُنجَزاتِ مئاتِ السنين مِمَّا أنجزته أيُّ حضارةٍ سابقة، بل تـُضاعفُ حصيلتها في كلِ عَـقدٍ على الأرجح — أقول في هذا المُعترَك الرهيب، ما هو موقعُ وموقفُ الأمَّة العربيَّة والشعب العربيّ، وماذا سيكون مصيرها ومصيره في المستقبل القريب والبعيد؟

هل سيكون المصيرُ شبيهًا بالحضارات القديمة البائدة أو مصير حضارات أمريكا الوُسطى والجنوبية مثلاً؟ وهل يمكن أن يصبحَ مصيرُ الشُعوب العربيَّةِ كمصيرِ شعوب الأمريْـكتين ِ بعد أن غزاها الغربُ المسلـَّحُ بالحضارة الحديثة؟ أو سنتحوَّلُ، في أفضل الأحوال، إلى مُجرَّد قِوًى بشريَّة رخيصة عاملة ومُستهلِكة تَجِدُّ لخدمة القِوى العلميَّة والتكنولوجيَّة العالَميَّة، أو المحلِّـيَّة المُتمثِّلة بإسرائيل باعتبارها قطعةً من حضارة الغرب التكنولوجيَّة الصاعدة؟ أليس هذا نمط من الاستعباد المؤدي إلى الانقراضِ التدريجي، كما حدثَ ويحدثُ تماماً اليومَ ومنذ بـِضعة قرونٍ بالنسبةِ للسكانِ الأصليين في الأمريكتين مثلا ً؟

وفي هذا السياق قد يتبادر إلى أذهان البعض أنَّ الشعبَ الإسرائيليَّ والشعب العربيَّ يُمكن أن يُكمِلَ أحدُهما الآخر، لأنَّ الشعب الإسرائيليّ يُمثِّلُ القوى العلميَّة والفنِّـيَّة والفكريَّة المُتطوِّرة بما يملكُه من عُلماء واختصاصيِّين في شتَّى مَيادين المعرفة الحديثة، بينما تحتوي أرضُ شِبه الجزيرة العربيَّة، التي عاش فيها اليهودُ أيضًا منذ آلاف السنين، ثرواتٍ طبيعيَّة هائلة، فضلاً عمَّا يملكه الشعبُ العربيُّ من قوًى بشريَّة رخيصة (وهذا ما يحدث الآن بالفعل حينما تستخدم إسرائيل اليَدَ العامِلةَ العربيَّة الرخيصة المُتوفِّرة في الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة). وهكذا—كما يُقال أو قيل لي فعلاً في عدَّة مُناسبات—يُمكنُ إحياءُ حضارةٍ جديدة في مهد الحضارات، في الهلال الخصيب، على يَدِ شعبٍ عريق، إن لم يكن أعرقَ شعوب المنطقة، تشرَّب بروح العَصر التكنولوجيّ وتمرَّس بالنُّظُم التجاريَّة والماليَّة والاقتصاديَّة على مَدى آلاف السنين... ومعنى ذلك طبعًا أنَّ الشعبَ الإسرائيليَّ مُرشَّحٌ لإحياء حضارةٍ جديدة في المِنطقة، لاسيَّما بعد أن ضَمَّ إليه مئاتِ الآلاف من العُلماء والمُتخصِّصين الروس الذين هاجروا إلى إسرائيل في العقد الماضي. تـُرى هل سيتمُ انقراض الحضارةِ العربيـّة الإسلاميـّة على عتـَبَة الحضارةِ اليهوديـّة الجديدة التي تـُعتبرُ جزءًا من حضارة الغرب؟

وإذا عُدنا إلى الحضارة الغربيَّة المُعاصرة نفسها، قد يقفز إلى الذهن سؤالٌ خطيرٌ آخر، هو: ما دام للحضارات دورةٌ عُمريَّةٌ مُعيَّنة تُشبه إلى حدٍّ بعيد دورةَ عُمرِ الكائنات الحيَّة، فهل هذه الحضارةُ الغربيَّة ستُلاقي نفس المصير القاتم المحتوم، كما أشار إلى ذلك أزْولد شبنغلر، في كتابه الشهير “انحطاط الغرب” منذ عام 1918؟ وهل يُمكن أن نُضيفَ علاماتٍ مُستجدَّة إلى انحطاط الحضارة الغربيَّة المُعاصرة، ظهرَت في العقدَين الأخيرين، أهمُّها : التلوُّثُ وتدهورُ البيئة، أوَّلاً، وازديادُ نسبة الجريمة المنظَّمة، ثانيًا، وانتشارُ استعمال المخدِّرات، ثالثًا، واستشراءُ مرض نقص المناعة المكتَسَب (الإيدز)، رابعًا، وتدهورُ العقل المِعياريّ، كما يقول ماكس هوركهيمر M. Horkheimer في كتابه “كسوفُ العقل”، خامسًا، وتدهورُ المثُل الأخلاقيَّة والروحيَّة، كما يقول ألبرت شفايتسر A. Schweitzer في كتابه “فلسفة الحضارة”، سادسًا؟

هذه الأسئلةُ وغيُرها تثورُ أمام المتأمِّل والباحث، فلا يجدُ لها، على الأغلب، إجاباتٍ شافية على الرغم ممَّا كرَّس لها الباحثون من دراساتٍ طويلة.

ويُمكن القول إنَّ أوَّلَ مَن طرَقَ بابَ هذه المسائل وبحثَ في بعض كوامنها العالِمُ العربيّ عبد الرحمن بن خلدون الذي سأتحدَّث عنه فيما بعد. كما أعقبَه عُلماء أوربـيُّون، من أهمِّهم فيكو Vico الإيطاليّ (1668–1744)، وهيغل Hegel (1770–1831)، وماركس Marx (1818–1883) من الألمان، ودانيلفسكي Danilevsky (1822–1885) الروسيّ، وشبنغلر (1880–1936) الألمانيّ، وأخيرًا تُوينبي Toynbee البريطانيّ (1889–1975).

ولئن أعترفُ بتعذُّر الإجابة عن جميع هذه الأسئلة، لاسيَّما في هذا البحث المقتضَب، فسأكتفي في هذه الدراسة بالتركيز على بعض نقاطٍ رئيسيَّة في نظريَّة ابنِ خلدون ونظريَّة تُوينبي في نشوء الحضارة وتطوُّرها وسقوطها، وبتقويم نظريَّة ابن خلدون في حضارة العرب، ثمَّ إبداء مُلاحظات عن مكان الأُمَّة العربيَّة من الحضارة الحديثة وآفاق مصيرها.

وقبل أن أدخل في صُلب الموضوع، أودُّ أن أتطرَّقَ إلى بعض الملاحظات التفسيريَّة والإجرائيَّة التي يقتضيها هذا البحث.

مُلاحظات تفسيرية

أَوَّلاً: تعريفٌ موجزٌ للحضارة والتمييز بينها وبين الثقافة

قد يختلط معنى “الحضارة” Civilization بمعنى “الثقافة” Culture في كثير من المناسبات. ويذهبُ بعضُ الكتَّاب إلى عدَم التمييز بين الحضارة والثقافة مثل تايلور E.B.Tylor في كتابه المعروف Primitive Culture؛ ولكنَّنا سنميِّز في هذه الدراسة بين الأُولى والثانية. فـ“الثقافة” هي مجموعُ المظاهر البارزة في حياة أيّ مجتمع أو مجموعة بشريَّة، والشاملة العاداتِ والتقاليدَ والأَعرافَ والمُعتقداتِ والفنونَ والأفكار وغيرها ، بصرف النظر عن مستواها وتميُّزها على المستوى العالميّ، وعن مقارنتها بما يُقابلُها في المجتمعات الأُخرى. بينما نعني بـ“الحضارة” تلك المظاهر البارزة من حياة المجتمع التي تتميَّز بحظوظٍ وألوانٍ من التقدُّم والرقيّ، كما يقول قسطنطين زرَيق.4 ويُعرِّف ويل ديورانت Will Durant الحضارة بأنَّها نظامٌ اجتماعيّ يُعينُ الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافيّ، وهي تتألَّف من عناصرَ أربعة: المواردِ الاقتصاديَّة، والنُّظمِ السياسيَّة، والتقاليدِ الخُـلُقيَّة، ومُتابعة العُلوم والفنون. وهي تبدأُ عندما ينتهي الاضطراب والقلق.5

أمَّا كاتبُ هذه السطور فإنَّه يُحدِّدُ الحضارة، وفقًا لمفهومه السائد في هذا البحث، بأنَّها “حالة اجتماعيَّة مَرحليَّة تتميَّزُ بالصيرورة والتطوُّر المستمرَّين، ويجري في إطارها تفاعلٌ مُتبادَل ومُتواصل بين الفرد والجماعة في سبيل الخَلق والإبداع في مجالات العلوم والفنون والمَعارف، على الصعيدَين النظريّ والعَمَليّ، لتحقيق حياة أفضل، ضمنَ نُظُمٍ اقتصاديَّة وسياسيَّة وقانونيَّة مُتكاملة ومُتطوِّرة.” ومن أهم شروطها:

1. السيطرةُ على المحيط بما فيه البيئة الطبيعيَّة والقُدرة على تكييفه إلى حدٍّ أو آخر.

2. الاستقرارُ الطبيعيّ في الأرض بما يقتضيه من شروطٍ مُتعدِّدة، منها: الفلاحة والزراعة وتدجين الحيوان، والصناعة التحويليَّة، وسُكنى المُدُن والقُرى.

3. التعاوُنُ الاجتماعيّ بين الأفراد، وبين الفرد والجماعة.

4. اللغةُ المُتقدِّمة والكتابة لتحقيق التعامُل والتعارُف بين الأفراد.

5. قَدْرٌ معيَّنٌ من الجهاز الحكوميّ أو السُلطة المُنظّمة بشكلٍ أو آخر.

وهذه محاولةٌ جدُّ متواضعة لتحديد مفهوم الحضارة، وهي خاضعة للتعديل والتنقيح.

ثـانـيــًا:

تتَّسم دراساتُ العلوم الإنسانيَّة، خلافًا لدراسات العلوم الطبيعيَّة، بأنَّها تعتمدُ على الفَرضيَّات القائمة على الاستقراء، للتوصُّل إلى استنتاجات قد تُؤدِّي إلى وَضع نظريَّات. ونظرًا لتعذُّر إمكانيَّة فصل الظاهرة الاجتماعية وفحصها فحصًا مِجهريًّا أو إخضاعها للفحوص المُختَبريَّة كما يجري في العلوم الطبيعيَّة (الكيميائيَّة والفيزيائيَّة) مثلاً، فإنَّ جميع هذه الدراسات وما قد يتمخَّض عنها من نظريَّات تُعتَبَرُ مُقارَبات ناجحة نسبيًّا أو غير ناجحة، بمقدار دُنوِّها من الواقع الحقيقيّ، الذي هو بحدِّ ذاته يُمثِّلُ حالةً نسبيَّة غير مُطلقة. وهكذا، قد تختلف الآراءُ في كلِّ قضيَّة من هذه القضايا. ومع ذلك فإنَّ الكاتبَ المدقِّق يُحاول، قَدرَ الإمكان، الاقترابَ من تلك الحقيقة المفترَضة، بأسلوبٍ موضوعيٍّ objective، أي دون أن يكون مُتأثِّرًا بأفكارٍ أو مُعتقداتٍ قَبْليَّة تُؤثِّر في نتائج أحكامه. ومع تعذُّر الوصول إلى الموضوعيَّة المُطلقة، فإنَّ آراءَ الكاتب ينبغي أن تُقَوَّم بمدى التزامه إيَّاها (أي الموضوعيَّة) واحترامه لمنهجيَّتها. لذلك أَستميحُ القارئ عُذرًا، مُقدَّمًا، عن الخطإ والشَّطَط، أو عن التعصُّب أو المَيل إلى أيِّ رأيٍ أو فكرةٍ نظريَّة أكثر ممَّا ينبغي، أو بالقَدْر الذي يُعميني عن اكتشاف ما عليها. وهكذا فإنَّ جميعَ الآراء المطروحة في هذه الدراسة قابلةٌ للنقد الذي قد يُغْنيها، والتعديل الذي قد يُطوِّرُها ويُثريها.

ثـالـثــًا:

ترمي الدراساتُ التاريخيَّة العلميَّة والنقديَّة، على ما أرى، إلى الكشف عن وقائع الماضي وتمحيصها ومُحاولة تفهُّمها للتقرُّب إلى فهم الحاضر واستشراف المستقبل قدْرَ الإمكان. فتاريخُ أيِّ أُمَّة—أو مجتمع—يمكن أن يُمثِّلَ ذاكرتَها وعقلَها الباطن، إن صحَّ التعبير. وقد يجوز القولُ إنَّ تاريخَ أُمَّةٍ ما يُشبه، إلى حدٍّ بعيدٍ، سيرةَ الفَردِ الشخصيَّة منذ طفولته الأُولى مرورًا بصباهُ وشبابه، مع ما فيها من عوامل بيئتـه البـيتيَّة، والطبيعيَّة، والمدرسيَّة، وكلّ ما يطبعُ حياتَه المُستقبلَة بطابعه وتأثيره. ومن هذا المُنطلَق يمكن أن نعتبرَ التاريخ علمًا، لأنَّه لا يُعنى بالوقائع الماضية إلاَّ بقَدْر ما يُمكن أن تُؤثِّرَ في الحالة الراهنة للتوصُّل إلى بعض القوانين التي قد ترسمُ اتِّجاهاتِ المستقبل، بعد دراسة خطوط الماضي. فوجودنا الراهنُ، في واقع الأمرِ، هو امتدادٌ لوجودِنا في الماضي، وحلقةٌ واحدةٌ من سلسلةٍ طويلةٍ، تمتدُّ من أَزمنة التاريخ الغابر إلى التاريخ المستقبل، إن صحَّ التعبير.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رابـعــًا:

لعلَّ من أهمِّ ما نفتقرُ إليه، كأُمَّةٍ عربيِّةٍ مُتطلِّعة إلى حياةٍ أفضل، هو إعادةُ كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ بأسلوبٍ علميٍّ موضوعيّ يتوخَّى—بالإضافة إلى الدِّقَّة والحَذر في استقصاء المعلومات والحقائق من مَصادرها الأصليَّة، قَدْرَ الإمكان، وتمحيصِها ونقدِها—بحثَ جميع القضايا التي تطرحُها تلك الأحداثُ وتحليلَها ونقدَها باعتبارها قضايا اجتماعيَّة وفلسفيَّة وإنسانيَّة وحَضاريَّة، أو بالأَحرى معرفيـَّة (إبستِمولوجيَّة)، أي ليست إيديولوجيَّة أو فِئَويَّة أو دينيَّة. ذلك فضلاً عن عرض جميع جوانب التاريخ العربيّ الإسلاميّ الإيجابيَّة والسلبيَّة، دون أيّ مُجاملة أو مُوارَبة أو مُحاباة، مع استعراض مُختلف وُجهات النظر في القضايا الخلافيَّة. فالتاريخ العربيُّ الإسلاميُّ كُتِبَ في العصر الحديث بأَقلامِ المُستشرقين بوجهٍ خاصّ؛ ومع الاعتراف بأنَّ بعض هذه الدراسات كانت جديرةً بالاعتبار،7 فإنَّ بعضَها الآخر تميَّزَ بالتحيُّز أو عدم التزام الموضوعيَّة على الأقل.ّ8 أمَّا دراساتُ العرب، والمسلمين بوجهٍ خاصٍّ، فكانت—على الأرجح—إمَّا سطحيَّة، في الغالب، أو مُتحيِّزة، أو تتَّخذ موقفاً دفاعيًّا إزاء “الآخَر”.9 إنَّ قُدرة العرب على إعادة كتابة تاريخهم بمنهجيَّة علميَّة رصينة تعكسُ، من جهة، مدى نضوجهم الفكريّ، كما تنعكس، من جهة أُخرى، على وجودهم وكيانهم الحضاريّ، ومدى إمكانيَّاتهم في الصمود أمام تحدِّيات “الآخَر”10. وترتبطُ كذلك بعقليَّة الفرد والأُمَّة التي ما زالت، إلى حدٍّ بعيد، تعيشُ ماضيها، لا باعتباره ماضيًا، بل باعتباره حاضرًا ومُستقبلاً. 11 وهذا ما طرحناه في كتاباتنا بشأن اقتراح مشروع الموسوعة العربيَّة.12

وإن حاولنا مثل هذه المحاولة—مُحاولة إعادة كتابة تاريخنا—فلعلَّنا نتأسَّى بعالِمنا الكبير عبد الرحمن بن خلدون الذي يُعتَبَر بحقّ الرائدَ الأَوَّل الذي فتح لعلم التاريخ مَدخلاً.

عبد الرحـمن بن خلدون

وُلِدَ ابنُ خلدون في عام 1332 في تونس، وعاش مُتنقِّلاً بين إشبيلية وغرناطة وفاس وتونس والقاهرة. وتُوفِّيَ في عام 1406، ويعودُ نسَـبُـه إلى عَرب جنوبِ الجزيرةِ العربية.

نشأ ابن خلدون في بيتِ علم ٍ ورئاسة. وكانت أسرتـُه تـتمتعُ بنفوذٍ وجاه في الأندلس وتونس، حيثُ شغلَ أجدادُه مناصبَ سياسية ً ودينية ًمرموقة. وقد نزح أهلـُه من الأندلس إلى تونس في أواسط القرن السابع الهجريِّ ، حينما بدأتْ الحواضرُ العربية ُ في الأندلس تسقط ُ تباعاً.

حصَّـلَ ابن خلدون علومَهُ الأوليَّـة َ على أبيه ثم على كبار ِ علماء تونس، ونبغَ باللغة والأدب، وطارتْ شُهـرَتـُه في الفقه المالكيِّ، الذي تولى القضاءَ فيه عددٌ من أجداده. وتولى عدة مناصب في الإدارة والسياسة والقضاء. وأخيرا تولى القضاء في القاهرة، ثم اصبحَ قاضي القضاة في عام 1384. وكان يُحاضرُ في الفقه المالكي في الجامع الأزهر.

وسأُحاول في هذا القسم أن أُوجز، بقدر ما يتيحه هذا المقام، بعضا من الجوانبَ البارزة من نظريَّته في نشوء الحضارة المستخلَصة من مُقدَّمته المشهورة التي تُشكِّلُ المجلَّدَ الأوَّل من كتابه في التاريخ الموسوم بـ "كتابُ العِبَر وديوانُ المُبتَدإِ والخَبَر في أيَّام العرَب والعَجَم والبربَر ومَن عاصَرَهم مِن ذَوي السلطان الأكبر."

يقول ابنُ خلدون في تصدير مُقدَّمته: " أمَّا بعد، فإنَّ فنَّ التاريخ من الفنون التي تتداولُه الأمَم والأجيال، وتُشَدُّ إليه الركائبُ والرحال... إذْ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل... وفي باطنه نظرٌ وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلمٌ بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعدَّ في علمها وخليق."13 وهكذا افتتح ابنُ خلدون بوَّابة علم التاريخ بالمعنى الحديث لأوَّل مرَّة.

ويرى ابنُ خلدون أنَّ المجتمع يمرُّ في تطوُّره من الحالة البدائيَّة إلى الحالة الحضاريَّة بثلاث مراحل هي: مرحلة الكفاف أو الضرورة، ثمَّ مرحلة تقسيم العمل، فمرحلة الرفاهية حيث تُؤدّي زيادةُ الإنتاج إلى مجتمع الرفاهية الذي يتميَّز بزيادة السِّلع وزيادة مطامع الإنسان مِمَّا يدفع إلى العدوان والظلم.

ولئن تنبَّه ابن خلدون إلى تطوُّر الأَحياء واستحالتها قبل دارون بخمسة قرون14، فإنَّه يرى أنَّ الإنسان تطوَّر من الحالة الحيوانيَّة إلى الحالة الإنسانيَّة عن طريق الاجتماع أو التضامُن الاجتماعيّ وذلك لعجزه بمفرده عن مواجهة أخطار الحيوانات الأُخرى والكوارث الطبيعيَّة. فإذا “حصل الاجتماع بداعي طلب الغَوث ودفع العدوان، طمع الفرد في الاستكثار من الأقوات، والاستزادة من الأمن”، ثم ينشأ تقسيم العمل المُفضي إلى إنشاء الصناعات للوصول إلى زيادة العمران15.

ولكن ما هي العوامل المُؤثِّرة في نشوء الحضارة وتقدُّمها؟

يُشير ابنُ خلدون إلى طبيعة الإقليم من حيث المناخ؛ وهو يقسمُ الأرض من أقصى الشمال إلى خطِّ الاستواء إلى سبعة أقاليم، أعدلُها الإقليمُ الرابع الذي يقعُ في الوسط، وأقلُّها اعتدالاً الإقليمُ الأوَّل الذي تزدادُ فيه حرارةُ المُـناخ، والسابعُ الذي تزداد فيه برودةُ المُناخ. وهكذا تتدرَّجُ الحرارةُ والبرودة بين هذه الأقاليم. وتِبعًا لذلك يتحقَّقُ العُمران أو الحضارةُ فيها. ففي الإقليم الرابع الذي هو الأعدل يزدادُ العُمران ويكون سكَّانُه “أعدلَ أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا وأديانًا” كما يقول. ويقلُّ الاعتدالُ والعمران كلَّما توغَّلنا في الجنوب أو الشمال. وإنَّ أهلَ الأقاليم الحارَّة يميلون إلى التبلُّد والخفَّة وحُبّ اللَهو، بينما تتَّصف الأقاليمُ الباردة بالنشاط والانقباض والمُغالاة في التخوُّف والتحسُّب للطوارئ. أَمَّا أخلاقُ أهل الإقليم الثالث والرابع والخامس فتعتدلُ تِبعًا لاعتدال المناخ16.

ويمكنُ القول إنَّ ابنَ خلدون يعتقدُ أنَّ أسبابَ تطوُّر المجتمع البشريّ إلى مرحلة الحضارة هي الاجتماع ونظام تقسيم العمل ومبدأُ التعاون؛ وكلُّ ذلك مرهون أيضًا بعواملَ طبيعيَّة هي الإقليم والمناخ والتُربة.

ولعلَّ أهمَّ ما يُواجهُنا في فلسفة ابن خلدون التاريخيَّة أنَّه أوَّلُ مَن نظرَ إلى المجتمع باعتباره يُمثِّلُ كيانًا ديناميكيًّا مُتطوِّرًا، وذلك خلافًا لِما تصوَّره الفلاسفةُ الأقدمون، مثل أفلاطون وإخوان الصَّفا والفارابي، الذين كانوا يعتقدون أنَّ المجتمعَ يُمثِّل بناءً هندسيًّا إذا استقام تصميمُه، حافظَ على كيانه وروعته على اختلاف المَواطن وتقلُّب الأزمنة. لذلك وضع أفلاطون “جمهوريَّته” والفارابي “مدينته الفاضلة”، كما وضع ابنُ باجة كتابه في “تدبير المتوحِّد”. إلاَّ أنَّ ابنَ خلدون يعتقد أنَّ المجتمع، شأنه شأن الكائن الحَيّ، يُمثِّل كيانًا متطوِّرًا ينشأ صغيرًا، ثمَّ ينمو ويزدهر، ثمَّ يأخذ في الذواء والانحلال. وفي غضون ذلك يتعرَّض إلى عواملَ ومُؤثِّرات متعارضة ومتفاعلة ومتداخلة، تعمل على توجيه مسيرته، فلا يصحُّ التفكير في مجتمعٍ فاضل تختفي فيه جميعُ المشاكل، ويعيشُ فيه جميع الناس في سعادة دائمة.

وبذلك جمَعَ ابنُ خلدون بين الحتميَّة في التاريخ والتطوُّريَّة في المجتمع، بمعنى أن “ تطوُّريَّة المجتمع” غدَت أمرًا حتميًّا؛ ومع ذلك فإنَّ حتميَّة التطوُّر هذه مَرهونة بأسبابٍ وعِلَلٍ مُعيَّنة واعتباراتٍ إنسانيَّة طبيعيَّة مَحضة. وهو بذلك أخضعَ حركة المجتمع لنواميس العالَم والإرادة البشرية، خلافًا لزملائه من المؤرِّخين المسلمين الذين كانوا يُخضِعون التاريخَ وشؤونَ المجتمع “لمشيئة إلهيَّة مُباشرة تعملُ فيه طليقة بحكمة طُويت عن عقول الناس.” 17

هل أجاب ابن خلدون عن بعض الأسئلة المطروحة؟

إلى حدٍّ ما، فهو يرى أنَّ الحضارة تنشأ أوَّلاً نتيجةَ شعور الإنسان بوجوب التعاوُن في كسب العيش والدفاع عن النفس ثمَّ تقسيم العمل، ثمَّ يحصلُ التَرفُ ورفاهيةُ العَيش المؤدِّية إلى الكسل، الأمر الذي يقضي على كيان الحضارة، وينقلُها إلى قومٍ آخرين. ثمَّ يجعل من الإقليم والمناخ والتُربة عواملَ حاسمة في تحقيق الحضارة عند بعض الشعوب دون غيرها، إذ يُقرِّر أنَّ الإقليمَ المُعتدل هو أكثر الأقاليم حضارة.

مُناقشة رأي ابن خلدون في حضارة العرب

يرى ابنُ خلدون أنَّ العرب "أبعد الأُمم عن سياسة المُلك؛ والسببُ في ذلك أنَّهم أكثرُ بداوةً من سائر الأُمم، وأبعدُ مجالاً في القـفـرِ، وأغنى عن حاجات التُّلُول وحبوبها، لاعتيادهم الشظفَ وخشونةَ العيش، فاستغنَوا عن غيرهم، فصعُبَ انقيادُ بعضهم لبعض، لإيلافهم ذلك وللتوحُّش.” وله فصلٌ خاصٌّ تحت عنوان “العربُ أبعدُ النَّاس عن الصنائع”، يقول فيه: “والسببُ في ذلك أنَّهم أعرقُ في البدو وأبعدُ عن العمران الحضَريّ وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها. والعَجَمُ من أهل المَشرق وأُمَم النصرانيَّة عُدْوَةَ البحر الروميّ أقوَمُ النَّاس عليها، لأنَّهم أعرقُ في العمران الحضَريّ18.”

كما خصَّص فصلاً في مُقدَّمته المذكورة أعلاه تحت عنوان “في أنَّ حَمَلةَ العِلْم في الإسلام أكثرُهم العَجَم”، قال فيه: “من الغريب الواقع أنَّ حَمَلة العلم في الملَّة الإسلاميَّة أكثرُهم العَجَم، لا من العلوم الشرعيَّة ولا من العلوم العقليَّة إلاَّ في القليل النادر. وإن كان منهم العربيّ في نسبته، فهو عَجَميٌّ في لغته ومَرباه ومَشيَخته، مع أنَّ الملَّة عربيَّة، وصاحبَ شريعتها عربيّ، والسببُ في ذلك أنَّ الملَّة، في أوَّلها، لم يكن فيها عِلمٌ ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة . . .” 19

وقد تصدَّى لآراء ابنِ خلدون لدى تعرُّضه للعرب عدَّةُ باحثين، من بينهم ساطع الحُصَريّ، والدكتور ناجي معروف، أستاذ التاريخ في جامعة بغداد، الذي وضع مؤلَّفًا قيِّمًا تحت عنوان “عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميَّة”، بعدَّة مُجلَّدات، حاول أن يُفنِّد فيه نظريَّةَ ابنِ خلدون، فحقَّق في أنساب وبيئات مئاتٍ من العُلماء العرب المسلمين المنسوبين إلى البلدان الأعجميَّة، ليُثبت بالأدلَّة التاريخيَّة أنَّ مُعظم هؤلاء العُلماء ينتمون إلى أُصول عربيَّة20.

بَيدَ أنَّني أرى أنَّ العالِم—أو الفردَ بوجه عامّ—ينتسبُ إلى بيئته ولُغته وانتمائه، بصرف النظر عن أصله. فإذا عاش الفردُ في بيئةٍ عربيَّة، وتحدَّث بلغة عربيَّة، وشعرَ بالانتماء العربيّ، فإنَّه يُعتَبرُ عربيًّا بصرفِ النظر عن أصله، بل حتَّى مولده. " فالمرء من حيث يوجَد لا من حيث يولَد، والإنسان من حيث يثبت لا من حيث ينبت"، كما قالت العرب.


أمَّا نظريَّةُ ابن خلدون في بداوة العرب وأثرِها على حضارتهم فلي فيها رأيٌ خاصّ فصَّلتهُ في دراسةٍ تحتَ عُنوان “نقدُ الحسِّ النقديِّ عند العرب.” 21 وملخَّصهُ أنَّ المجتمعات البشريّةِ تـَمرُّ، على الأرجح، في أدوارِ تطوُّرها، من مرحلةِ جمعِ الثمار والبذور والصَّيد(مرحلة البداوة الأولى)، إلى مرحلةِ الزراعةِ وتدجين الحيَوانِ، ثم إلى مَرحلةِ تقسيم العَملِ والتحضرِ والاستقرارِ في المُدنِ وتبادلِ السِلَعِ، ثم التقدم التجاريّ والصناعيّ والحضاريّ، لدى بعض الشعوب القليلة التي حققت حضارات، يحصرها آرنولد توينبي بـ21 حضارة. علماً أن معظم الشعوب الأخرى توقف تطورها في واحدةٍ من المراحل السابقة على الحضارة بمعناها الوارد في الملاحظات أعلاه.

وهذا ما حَصلَ لعرب الجزيرةِ العربيةِ الذين مَروا بمرحلةِ البداوة الأولى، حين كان مُناخُ الجزيرة العربية ملائماً لذلك، أي في نِـهايةِ العَصرِ الجليديِّ الأخيرِ، ومطلعِ العصرِ المُعتدل الراهنِ، حين كانتْ هذه المنطقة ُغنية ً بمياهها وغاباتها وحَيَواناتها. وحدث ذلك قبل قرابة 20 إلى 25 ألف عامٍ . ثم بدأت فترة الجفاف، حين قلت الأمطارُ وتصحرت الأراضي التي كانت مُعشبة ً، فهاجرَ بعضُ سكـانها إلى ما يُعـْرَفُ بمنطقةِ الهلالِ الخصيبِ، حيث تعلموا الزراعة َ، ثم قاموا بإنشاءِ أولى الحضاراتِ في التاريخ، كما يقول توينبي في نظريته حول التحدي والاستجابة، التي سأشرحها فيما بعد. أما البقية الباقية من الشراذم البشرية التي تخلفت في المنطقة التي أصبحت صحراوية ً، فقد كـَـيَّـفـَتْ معيشتـَها لتلك البيئةِ الجـَديدةِ، حيثُ أصبحتْ تـَـتـَـنقـَلُ مع حَـيَـواناتها سعيا ً وراءَ الماءِ والكلإ. أي انتقلوا إلى ما يمكن أن يُطلقَ عليه مرحلة البداوة الثانية. وكان هذا حال معظم العربِ عندما نزلَ عليهم الإسلامُ. ثم حصلتْ الفتوحاتُ الإسلامية السريعة والكاسحة ُ، فوجد العربُ أمامَهم حضاراتٍ عريقة ً ومتقدمة ً، أهمُها الفارسيَّة والرومانيَّة والهنديَّّـة، فانتحلوها. ونظرًا لأنَّهم أصبحوا الأسياد فقد استغنَوا عن مُمارسة الفلاحة، بل تركوها لسكَّان البلاد الأصليِّين، لاسيَّما أنَّهم يَستـَنكِـفون عنها أصلا، بسبب قِيَمِهم البدويَّة المُتأصِّلة، وابتعدوا عن المِهن العَمليَّة الأخرى لنفس السبب. يقول الجاحظ: "والعربُ لم يكونوا تُجَّارًا، ولا صُنَّاعًا، ولا أطبَّاء، ولا حُسَّابًا، ولا أصحابَ فلاحة، فيكونوا مَهَنَة، ولا أصحابَ زَرع...".22 كما أكَّد هذا المعنى ابنُ خلدون في مُقدَّمته في عدَّة مناسبات.

ومن جهةٍ أُخرى، لِمَ يُمارس العربُ الزراعة أو المِهنَ الأُخرى وقد انهالت عليهم الأموالُ من كلِّ جانب؟... إرتقى الخليفة عُمَر المِنبر، وقد جاءه أبو هُرَيرة بخمسمئة ألف درهم من البحرَين، فقال: " أيُّها النَّاس، جاءنا مالٌ كثير، إن شئتم كِلنا لكم كَيلاً، وإن شِئتم عَددنا لكُم عدًّا." 23 وقد أصبح هذا المبلغ في عصر مُعاوية ومن خَلِفَهُ تافهًا جدًّا.

إنَّ عدمَ مرور العرب بمرحلة فِلاحة الأرض وزراعتها، التي من شأنها أن تصقلَ وتُهذِّبَ الطِباع البدائيَّة، وتُؤدِّي إلى إزالة القِيَم والعادات البدَويَّة المستحكمة، وتُشكِّل مرحلةً تحضيريَّةً للصناعة والتجارة المتقدمة، قد أسفرَ، على الأرجح، عن استمرار تمسُّكهم ببعض قِيَمِهم البدويَّة المُتخلِّفة، التي رافقت عددًا كبيرًا منهم حتَّى العصر الحديث.

ومن ناحيةٍ أُخرى، فإنَّ واقعَنا القائمَ اليوم يدلُّ على أنَّ البَداوةَ الفعليَّة ضاربة أطنابَها في العالَم العربيّ؛ إذ يُقدِّر الدكتور علي الورديّ (عَالِم اجتماعيّ عراقيّ) أنَّ 25 في المائة من سكَّان البُلدان العربيَّة هم من البَدْو. وأنَّ 75 في المائة منهم يعيشون في أواسط شِبه الجزيرة العربيَّة وجنوبها.24

وقد حاول الإسلامُ أن يقضيَ على مُعظم القِيَم والأعراف المُتخلِّفة التي كانت معروفة عند البَدو في الجاهليَّة، ومنها الثأر، فقال: "ولا تِزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى" (فاطر:18)، وعلى العصبيَّة القَبَليَّة، فقال: " إنَّما المؤمنونَ إخوة " (الحجرات: 10)، و"لا فَضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاَّ بالتَقوى" (حديث)، وعلى وأدِ الأبناء، فقال "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " (الإسراء: 31). بيدَ أنَّ العرب لم يتخلَّوا عن كثيرٍ من قِيَمِهم البَدويَّة حتَّى ما بعدَ الفَتح الإسلاميّ، ومنها العَصبيَّة القَبَليَّة التي ظلَّت سائدةً بشكلٍ واضح، وتَجلَّت في النزاع الدَّمَويِّ على الخلافة، فضلاً عن السلوك العامّ. يقول أحمد أمين: “...وصرنا نسمع العربيّ يفتخرُ بقَبَليَّته في الإسلام، كما كان في الجاهليَّة.” 25

وقد يجوز لنا أن نقول إنَّ بَقايا العَقليَّة البَدويَّة/ البدائيَّة ظلَّت تنعكسُ، حتى اليوم، في العقليَّة العربيَّة بعدَّة أشكال غير مباشِرة، نذكر منها بكل اختصارٍ وعلى سَبيل المِثال فقط:

1- احتقارُ العمل اليدويّ أو العضليّ. روى لي أستاذي السابق، في علم الاجتماع، الدكتور"علي الوردي"، حادثـاً طريفاً يعبـِّر على ذلك . فـقد شتمَ أحد أمراء المملكة العربيَّة السعوديّة أحدهم بقوله: "يا ابن الصانع". وسمعتْ زوجتـُه بذلك، فعادت إلى أهلها قائلة: إنني لا أستطيع أن أعاشرَ أحداً من أبناءِ الصنـّاعِ، وأنا من أبناء العشائر. ونـُلاحِظـُ أنَّ اليدَ العاملة الأجنبية أصبحتْ تشكل نسبة كبيرة جدا من السكان في الخليج، تفوق عدد السكان الأصليين أحيانا. وإلى وقت قريب، كانت لا تزالُ أَصنافٌ من المِهن مُحتَقَرة لدى بعض المجتمعات في العالم العربيّ، مثل مِهَن الحائك والحلاَّق والمُعلِّم. وكلمة "المِهْـنـَةِ" نفسها مُشتـقـَّة من فِعل مَهُنَ، أي حَــقـُرَ وضعُفَ. ويُحلِـلُ الهادي شقرون، في كتابه"نقد العقليـَّة العربية"، آثارَ ومضارَ هذه الظاهرة ويستذكِرُ شواهدَها الكثيرة التي ما بـَرِحَتْ ماثلة ً وعاملة ً حتى يومنا هذا.

2- عدمُ فهم أهميـَّة التخطيط للمستقبل. ويذكرُ الهادي شقرون، في نفس الكتاب(ص104)، أن أحدَ الخبراءِ عَرضَ على الملكِ عبد العزيز آل سعود، أن يَستصلِحَ أراضيَّ وادي بـيشة لتـُصبَحَ بعد خمسٍ أو عشرِ سنوات مصدراً يكفي لتزويدِ المملكةِ بالقمحِ. فأجابه الملكُ: عشرُ سنواتٍ مدة طويلة ، نحن البدو لا نـَعرِفُ إلا شيئاً واحداً: إنَّ ما نحصل عليه بأيدينا نضعه في أفواهِنا ونأكله.

3- انتشارُ الوساطات والمحسوبيَّات في جميع البلدان العربية تقريبا، وتفضيل أسرة أو عشيرة الحاكم في شغل الوظائف الكبرى، كما يحدث في بلدان الخليج والعراق وغيرها. وتقييمُ المسؤول في الحكومة، في مجتمعاته المصغرة، في بعض الأوساط، بمقدار ما ينفع أبناءَ عشيرته أو قريته أو أُسرته أو جماعته، وبمَدى ما يُعيِّن منهم في المناصب. حتَّى إذا كان ذلك على حِساب المَصلحة العامَّة.

4- تمجيدُ السلف وإظهارُ حسناته فقط، في الغالب، دون نقدِ سلوكيَّاته نقدًا علميًّا لكشفِ جَوانب القوَّة والضعف فيها.( وهذه الظاهرة، بالإضافة إلى الظاهرة الواردة في الفقرة السابقة، قد تـنـتسبُ في جذورها إلى العصبية القبلية).

5- الحُكمُ على الأُمور بالصِّحة والخَطإ، دون مُراعاة الهامش العريض الكامن بين هذين النقيضَين. ويُؤدِّي ذلك إلى إصرارٍ يَغلبُ على الرَأي، لاسيَّما إذا تَصدَّى المُتكلِّم أو الباحث لقضيَّةٍ خلافيَّة. فكثيرًا ما يتمسَّكُ كلُّ طرَفٍ برأيه أو موقفه دون مُحاولة التعرُّف بإخلاص على أوجه الصحَّة في رأي الطرَف الآخر. وهذا ناتجٌ عن عقلية التغالبِ والتناحر حتى بالنسبةِ للجدل، الذي يصبح مثل حوار الطرشان.

6- وقد يتفرَّع من ذلك عدمُ إدراك العَامَّة، بل حتَّى كثيرٍ من المثـقـفـين، أبعاد حُرِّيـَّة الفِكر ومُستَلزَماتها. فقد يدَعي أفرادُ الفِئة الأخيرة أنَّهم يؤمنون بها، ولكنَّهم في الواقع يَحيدون، في كثيرٍ من الأحيان، عن أبسطِ شروطِها، حين يتعرض من يخالفهم للإرهاب الفكريّ. أو يُعالجون أيّ موضوعٍ بطريقةٍ مُتشنِّجة، لاسيَّما إذا تعلق الأمرُ بقِيَم ومُعتقداتٍ مُتأصِّلة. وفي هذه الحالة قد يُتـَهمُ المعارضُ بمختلف الاتهامات المُشينة. وهذا ما حدثَ لكاتبِ هذه السطورِ حينَ طرحَ نظريةَ عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة، ونشـَرَها في صحيفة عربية واسعة الانتشار( انظر الحاشية 21). فقد تلقى عدداً من الردودِ المتـشنـِّجَةِ والاتهامات المهينة، حتى من بعض من يدعون أنهم من المثـقـفـين. أما "التكفـير" فقد أصبحَ سلاحاً مُشهرا ً ضد الكثير من الكتـّاب الذين يُحاولون الإصلاحَ أو التجديدَ أو الإبداع.

7- ولعلَّ الأهمَّ من كلِّ ذلك هو الاتِّجاهُ السائد، في بعض الأوساط، لإبقاء القديم على قِدَمِه وإحياء تقاليد وقيم السلف ومُحاربة التطوير والتحديث، أي ما يُسمِّيه توينبي بالاتِّجاه الاستاتيكيّ static، الذي تـتـَسمُ به المُجتمعاتُ البَدويَّة.

لقد فشلَ مشروعُ النهضة العربيَّة، الذي بذَرَته حملةُ نابليون على مِصر، ورعاه محمَّد عليّ في مَطلع القرن الماضي، ثمَّ أنشأه محمد عبده و الطهطاوي واختتَمَه علي عبد الرازق و طه حسين، لا لأنَّه يُحاربُ الدِّين، كما يرى البعض، فإنَّ جميع هؤلاء المُفكِّرين كانوا أزهَريِّين في الواقع، بل لأنَّ العقليَّة البَدويَّة الاستاتيكيَّة المُسَيطرَة، على الأرجح، على مُعظم رجال الدِّين الآخرين والعامَّة هي التي أجهضَته.

أرنولد تُوينبي Arnold Toynbee

وُلِدَ أرنولد تُوينبي في لندن، في عام 1889، ودرَسَ اليونانيَّة واللاتينيَّة في أكسفورد، وتقلَّب في عدَّة مناصب، منها: أستاذ الدراسات اليونانيَّة والبيزنطيَّة في جامعة لندن، ومُدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجيَّة البريطانيَّة؛ وتُوفِّيَ في عام 1975.

يُعتبرُ تُوينبي أحدثَ وأهمَّ مُؤرِّخ بحَثَ في مَسألة الحضارات بشكلٍ مُفصَّلٍ وشامِل، ولاسيَّما في موسوعته التاريخيَّة المُعنونَة “دراسة للتاريخ” التي تـتألَف من اثـني عشرَ مُجلَّدًا أنفق في تأليفها واحدًا وأربعين عامًا. وهو يَرى، خِلافًا لمُعظم المؤرِّخين الذين يعتبرون الأُمَم أو الدُول القوميَّة مَجالاً لدراسة التاريخ، أنَّ المُجتمعات (أو الحضارات) الأكثر اتِّساعًا زمانًا ومكانًا هي المجالات المعقولة للدراسة التاريخيَّة. وهو يُفرِّقُ بين المُجتمعات البِدائيَّة والحَضاريَّة؛ وهذه الأَخيرة أقلُّ عددًا من الأُولى، فهي تبلغُ واحدًا وعشرين مُجتمعًا اندثَرَ مُعظمُها، ولم يبقَ غيرُ سبع حضارات تمرُّ ستٌّ منها بدَور الانحلال، وهي: الحضارة الأُرثوذكسيَّة المسيحيَّة البيزنطيَّة، والأُرثوذكسيَّة الروسيَّة، والإسلاميَّة، والهندوكيَّة، والصينيَّة، والكوريَّة-اليابانيَّة؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربيَّة، فلا يُعَرف مصيرُها حتَّى الآن.26

ويُفسِّرُ تُوينبي نشوءَ الحضارات الأُولى، أو كما يُسمِّيها الحضارات المُنقطعة، من خلال نظريَّته الشهيرة الخاصَّة بـ"التحدِّي والاستجابة"، التي يعترفُ بأنَّه استلهمَها من عِلم النَفس السلوكيّ، وعلى وَجه الخصوص من كارْل يونغ Carl Jung (1875–1961). ويقول هذا العالم إنَّ الفَرد الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفقدُ توازُنَه لفترةٍ ما، ثمَّ قد يستجيبُ لها بنوعَين من الاستجابة: الأُولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فيُصبح انطوائيًّا؛ والثانية، تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثمَّ مُحاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيًّا. فالحالة الأولى تُعتَبرُ استجابةً سلبيَّة، والثانية إيجابيَّة بالنسبة لعلم النفس. (لاحظْ أنَّ ذلك ينطبقُ على حالة العرب، فإنَّهم تعرَّضوا لصدمة الحضارة، فلجأوا إلى النكوص إلى الماضي دفاعًا عن النفس).

كيف طبَّق تُوينبي هذه النظريَّة على نشوء الحضارات؟ يقول في تفسير ذلك إنَّ المجتمعات البدائيَّة لدى مُواجهتها تحدِّياتٍ بيئيَّة أو بشريَّة مُعيَّنة تستجيبُ استجاباتٍ مُختلفة، أي إنَّها تُواجه ذلك الحافزَ برُدودِ فِعلٍ تختلفُ من جماعةٍ إلى أُخرى، بعضها سلبيَّة وبعضها إيجابيَّة.

وعلى هذا المِنوال يُفسِّر ظهورَ الحضارات الأصليَّة الأُولى في كلٍّ من وادي الرافدَين ووادي النيل، فيقول: كان السهل الأفروآسيويّ (أي جنوب شبه الجزيرة العربيَّة وشمال إفريقيا) يتمتَّع بجوٍّ مُعتدل ومَراعٍ شاسعة ومياهٍ غزيرة، خلال نهاية الفترة الجليديَّة الأخيرة، كما ذكرنا سابقا. وكانت الشراذمُ البشريَّة المُنتشرة فيه تعيشُ عيشةً راضية على الصَّيد والقَنص وجمع الثمار والبذور. ولكن حدثَ تغيُّرٌ مناخيّ تدريجيّ في الفترة المُعتدلة أو الدفيئة الأخيرة التي نعيشها الآن، الأمر الذي سبَّب انحباسَ الأمطار وانتشارَ التصحُّر وجفافَ الأنهر.(كما يحدث الآن وبشكلٍ مُستمرّ في بعض أجزاء إفريقيا الوُسطى حيث تمتدُّ الصحراء الكُبرى وتتَّسعُ باستمرار).

وهذا هو نَمطُ التحدِّي الذي واجهَته تلك المجتمعات، فاستجابت له بأساليبَ مُختلفة: إذْ تحوَّل بعضُها إلى قبائلَ رُحَّل تسعى وراءَ الكلإ والماء، وترعى أنعامَها التي تقتاتُ عليها. وانحدر الجزءُ الثاني إلى الجنوب نحو المناطق الاستوائيَّة المُشابهة للبيئة السابقة إلى حدٍّ بعيد، فظلَّ مُحافِظًا على نَمطِ مَعيشته البدائيَّة السابقة إلى يومنا هذا. ورحَل قسمٌ ثالث إلى دِلتا النيل، حيثُ وَاجه أحوالاً طوبوغرافيَّة جديدة تتمثَّلُ بوجود هذا النهر العظيم وتلك البيئة المُختلفة، فكافح عوائقها وسخَّرها لأغراضه، بعد أن اكتشف الزراعة، الأمر الذي أدَّى إلى إنشاء الحضارة المصريَّة الرائعة. كما إنَّ انتقالَ بعض الجماعات من شِبه الجزيرة العربيَّة إلى أهوار جنوب العراق والفُرات الأسفل تمخَّض عن انبثاق حضارات ما بين النهرَين، كما أسلفنا. وبعبارةٍ أُخرى فإنَّ هذه الجماعات قد استجابت إلى التحدِّي الطبيعيِّ بأساليبَ مُختلفة: منها بالبقاء في أرضها وتحوُّلها إلى قبائل بدويَّة، أي كانت استجابتُها سلبيَّة، ومنها بالرحيل إلى مناطقَ جديدة مُختلفة قريبة من الأنهار، حيث أسَّست تلك الحضارات الأُولى، أي كانت استجابتُها ديناميكيَّة حضاريَّة، تعتمد على الحركة أو الهجرة، ثم التغيير والتطوير والإبداع.

أمَّا فيما يتعلَّق بنُموِّ الحضارة، فيُعيدها تُوينبي إلى الدافع الحَيويّ Elan Vital، وهي الطاقة الكامنة لدى الفَرد والمُجتمع التي تنطلق بغرض التحقيق الذاتيّ. ويعني ذلك كما يقول: “أنَّ الشخصيَّة النامية أو الحضارة تسعى إلى أن تصيرَ هي نفسُها بيئةَ نفسها، وتحدِّيًا لنفسها، ومجالَ عمل لنفسها. وبعبارةٍ أُخرى إنَّ مقياس النموّ هو التقدُّم في سبيل التحقيق الذاتيّ.” ويكون ذلك “عن طريق المُبدِعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة المُلهَمين”، إذ تستجيبُ لهم الأكثريَّةُ عن طريق المُحاكاة الآليَّة mimesis التي تُمثِّلُ الطريقةَ الغالبة في عمليَّة الانقياد الاجتماعيّ. وتـقود هذه المُحاكاةُ في الجماعة البدائيَّة إلى حركةٍ سَلَفيَّة تـنزعُ إلى مُحاكاةِ القُدَماء، بينما هي في المُجتمعات الحضاريَّة النامية حركةٌ تقدُّميَّة تُؤدِّي إلى مُحاكاة الطليعة الخلاَّقة. 27

وعلى صعيد سقوط الحضارات يرى تُوينبي أنَّه يعودُ إلى ثلاثة أسباب:

“1– ضعف القوَّة الخلاَّقة في الأقلِّـيَّة المُوجِّهة وانقلابها إلى سلطةٍ تَعسُّفيَّة؛

“2– تخلِّي الأكثريَّة عن مُوالاة الأقلِّـيَّة الجديدة المُسيطرة وكفِّها عن مُحاكاتها؛

“3– الانشقاق وضياع الوحدة في كيان المُجتمع.” 28

ما سبقَ كان لمحةً مُختصرة جدًّا عن تفسير تُوينبي لنشوء الحضارة وسقوطها، كنتُ أتمنَّى أن يتَّسعَ المقامُ لبسطها وإغنائها.

مصيُر الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة في نظَر تُوينبي

يرى توينبي أنَّ العَالم الإسلاميّ بما فيه العَالَم العربيّ يُواجه اليوم التحدّي الغربيّ بطريقتَين: الأُولى سَلَفيَّة منغلِقة (استاتيكيَّة) تُمثِّـلُها الحركاتُ الوهَّابيَّة والسنوسيَّة والمهديَّة وما جرى مجراها من حركاتٍ سَلَفيَّة حديثة؛ أمَّا الطريقةُ الأُخرى فهي تقدُّميَّة منفتحة ظهرت في نهضة محمَّد عليّ في مصر. ويَرى أنَّ الموقف السَلَفيّ يُمثِّلُ انحلالاً حَضاريًّا، بينما يُمثِّلُ الموقفُ التقدُّميّ حركةً ديناميكيَّة جديرة بالتقدير، ولكنَّها لا تعدو أن تكون، مع ذلك، خطوةً تقليديَّة أو استجابة محدودة النجاح يتعذَّرُ عليها الوصول إلى الإبداع والمُشاركة الحضاريَّة الفعليَّة.29

ويرى تُوينبي أنَّ تحوُّلَ المُجتمعات البدائيَّة إلى مُجتمعات حضاريَّة يعتمد على مَدى الانتقال من حالة الجمود إلى حالة الحركة الديناميَّة وأنَّ هذه القاعدة تَصحُّ كذلك في عمليَّة نشوء الحضارات الأُخرى وتعاقبها.

ويعتقد أنَّ الطريقة المُثلى لمُحاربة الغَرب أو التَصدِّي لعمليَّاتِ اغتصابه واستغلاله الشعوب والأراضي والثروات هي تبنِّي نفس أيديولوجيَّـته التـقـنيَّة وأسلحته؛ ويُقدِّم أمثلة على ذلك، منها أنَّ روسيا أمعَنَت في تبنِّي التكنيك الغربيِّ على يَد بطرس الأكبر، إذ “استطاع العَالَمُ بفضله، منذ أكثر من قرنَين ونصف، أن ينجوَ من سيطرة الغرب التامَّة، لأنَّه شجَّعَ العَالم ودفعه إلى الصِراع والنضال ضدَّ الهجمات الغربيَّة باستخدامه الأسلحة نفسها التي طلع بها الغرب.” 30

وقد حاولَ بعضُ السلاطين العثمانيِّين اقتفاءَ أثره، إلاَّ أنَّهم لاقَوا مُعارضةً شديدة من مُعظم العَناصر الإسلاميَّة المتزمِّتة، ولاسيَّما الجيش الانكشاريّ، بَيد أنَّ مصطفى كمال أتاتورك نجح في نهاية الأمر في تحقيق ثورة اجتماعيَّة وتكنولوجيَّة أنقذت البلاد من الدمار، كما نجح محمَّد علي في مصر بشكلٍ مَحدود، في حين أنَّ رجال الدولة في اليابان قد نالوا قصبَ السبق في هذا المَجال منذ عام 1860 كما يقول تُوينبي (في كتابه “العالم والغرب”).

وهكذا فإنَّ تُوينبي يعتقد أنَّ الحضارة الإسلاميَّة بما فيها العربيَّة حضارةٌ تمرُّ في دَور الانحلال، وأنَّ مُحاولات إنقاذها كانت غير كافية ومُجدية في تحقيق التقدُّم واللحاق بالحضارة الغربيَّة. ولكنَّه مع ذلك كان مُتفائلاً في السنوات الأخيرة من حياته بالنهضة العربيَّة والوحدة العربيَّة حينما زار مصر وبُلدان المَغرب العربيّ خلال السنوات 1961–1964. فقد توقَّع أن تتحقَّق الوحدةُ العربيَّة قريبًا وقال: “إنَّ كلَّ دولةٍ عربيَّة تمتلك مواردَ من شأنها أن تُفيدَها جميعًا إذا كُدِّست في كومةٍ واحدة.” 31 ولاسيَّما إذا استُغلَّت عوائد النفط استغلالاً اقتصاديًّا شاملاً واستُزرعت الأراضي الشاسعة، وأُقيمت صناعاتٌ عربيَّة مُتقدِّمة.

تقويمٌ وتحليل

يتميَّز تُوينبي بصراحته الثَّوريَّة التي أثارت حفيظةَ غالبيَّة الأوساط الغربيَّة المُتعصِّبة، ولاسيَّما بعض الكتَّاب اليهود الصهاينة، لأنَّه انتقدَ إسرائيل وسياستَها التوسُّعيَّة غير الإنسانيَّة إزاءَ شعب فلسطين32. وسأتعرَّض هنا باختصار لتحليل وتقييم بعض آرائه ونظريَّاته بما يسمحُ به المَقام.

تنبثقُ أهمِّـيَّةُ نظريَّة تُوينبي في التحدِّي والاستجابة من كَونها نظريَّة مُتحدِّية فعلاً، لأنَّها تفترضُ أنَّ الشعوبَ نفسها هي التي تَخلقُ الحضارة. فالظروف المناخيَّة أو الجغرافيَّة ليست ذاتَ أثر حاسم بدليل وجود أماكن أُخرى في العَالم يُشابه مناخُها وظروفُها الجغرافيَّة مواقعَ الحضاراتِ الأُولى، مثل حوض مُري ودارلنغ Murray & Darling الذي يُشابه وادي الرافدَين والنيل. ومع ذلك لم تنشأ فيه حضارةٌ حتَّى استوطنه الأوروبيُّ الحديث.إذاً هناك عاملٌ آخَر: هو ذلك التفاعُل الخلاَّق بين العوامل الجغرافيَّة والعوامل البيولوجيَّة كما يذكر توينبي، أو بالأحرى ذلك "الدافع الحيويّ" الذي يؤدِّي إلى الاستجابة الظافرة للتحدِّيات الطبيعيَّة أو التحدِّيات البشريَّة.

ويرى تُوينبي أنَّ النكبات تُعتبرُ تحدِّيات جديرة بالاعتبار، لأنَّها قد تدفع الشعبَ المنكوب بالهزيمة والدمار إلى استعادة عافيته بعد فترة. ويُعطي أمثلةً كثيرة، منها هزيمة ألمانيا في الحرب العالميَّة الثانية. كما يستعرض “دافع العقوبات” ويقول إنَّ الاضطهادَ يحفزُ أولئك المحرومين على التعويض عمَّا فقدوه، كما يُعوِّض المحرومون من البصر عن هذه الحاسَّة باستخدام إمكانات سائر حواسِّهم الأُخرى في مجال العمل والإنتاج. ويقدِّمُ اليهودَ كمثالٍ على هذا التعويض.

ولدينا مُلاحظاتٌ مُتعدِّدة على هذه النقطة، منها أن نتساءل لماذا لم يعوِّض سُكَّان أمريكا الأصليُّون عن النكبات التي أصابتهم، بأيِّ شكلٍ من الأشكال؟ ولماذا لم يُعوِّض العربُ عن النكبات التي أصابتهم على أيدي اليهود الصهاينة الذين احتلوا أرضَهم وشرَّدوا الشعب العربي في فلسطين الذي عاش على أرضه هذه منذ آلاف السنين؟ لذا أرى أنَّ هناك شروطًا أُخرى يجبُ أن تتوافر لدى الشعب الذي يتعرَّض للنكبة، من أجل أن يستطيع أن يُعوِّض عنها ولو على المَدى البعيد. ومن هذه الشروط، بالإضافة إلى وَعي الشعب المنكوب لنكبته، توفُّر العقليَّة المتطوِّرة، أو بالأحرى العقليَّة التي يُمكنها أن تحوِّلَ ذلك الوعي، وتلك الطاقة الكامنة أو الدافع الحيويّ، من وجودٍ "بالقوَّة" إلى وجودٍ "بالفِعل" بتعبير أرسطو. وهذه العقليَّة لا يُمكن أن تتحقَّق إلاَّ من خلال مُعايشة الحاضر والتفاعُل مع الحضارة القائمة، وتفهُّم فلسفتها، وروحها، ولا أقصد تقليدها وحذوها حذو النعل للنعل، كما تقول العرب. ولنا من اليابان مثالٌ واضحٌ على ما أقول. فقد خرجت من الحرب مُدمَّرة، شأنها شأن ألمانيا، ومع ذلك تمكَّن هذا الشعب خلال نصف قرن من استعادة عافـيَّـتة ، بل أصبح يُنافس الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. ولتُوينبي تفسيرٌ لحالة اليابان سأُبيِّنه فيما بعد.

  • * *

وقد يجوز أن نتساءل الآن: كيف حاول تُوينبي الإجابة عن بعض الأسئلة الواردة في المقدَّمة؟

في ما يتعلَّقُ بسبب نشوء الحضارة وانتقالها، رأينا تُوينبي يقول إنَّ عنصرَي الحركة والجمود يُشكِّلان مناطَها. فالديناميكيَّة (الفعَّاليَّة، الحركة، الصيرورة، التغيير، الإبداع) هي السِمَة التي تنقل المُجتمع من التخلُّف إلى الحضارة، في حين أنَّ الاستاتيكيَّة (الركود، الجمود، المحافظة على القديم بل تقديسه) تجعل المُجتمعَ مُتخلِّفًا أو بدائيًّا. وهكذا إذا استجابَ المُجتمع إلى أيِّ تحدٍّ ُمناخيٍّ أو بَشريٍّ استجابةً ديناميكيَّة، بالتكيُّف والتغيُّر والتحوُّل، فإنَّه يسيرُ في طريق الحضارة. أمَّا إذا استجابَ له بطريقةٍ استاتيكيَّة، إمَّا بالتمسُّك بتقاليده أو بالمُحافظة على طريقة عيشه، فإنَّ ذلك يُعتَبرُ تخلُّفًا، وهذا يُؤدِّي إلى تدهور الحضارة ثمَّ انهيارها.

وإذا قارنّا بين العَالم العربيّ واليابان بمنظور توينبي في هذا المَجال، فإنَّنا سنلاحظ أنَّ اليابان قد جابَهَ الغزوَ الغربيَّ الوشيك الذي شعرَ بخطره بشكلٍ مُباشر في مُنتصف القرن الماضي بتبنِّي التكنيك الغربيّ ومُؤسَّساته، لا باعتباره أمرًا مَرغوبًا فيه بل لأنَّه أهونُ الشرَّين. ويقول توينبي في كتابه “العَالم والغرب”: “وهكذا كان تبنِّي رجالِ الدولة في الشرق الأقصى للتكنيك الغربيّ في القرن التاسع عشر شرًّا لا بُدَّ منه. وهذا يُفسِّر لنا لماذا أخذوا، في تلك الحِقبة، عن الغرب ما كان يبدو لهم بَالغ الضَرر، ولكنَّه مع ذلك أفضل من الاحتلال والخضوع لإرادة الأجنبيّ الغربيّ. لقد قرَّروا إذًا أن يتبنَّوا أسلحة هذا الغرب لتكونَ درعًا واقيًا عسكريًّا وسياسيًّا.” 33

خاتـمة

بمناسبة الذكرى السَّنويَّة العاشرة لتأسيس مجلَّة “الصناعيّ” (لسان حال اتِّحاد الصناعات العراقيّ)، نشرَت هذه المجلَّة، في أعقاب نكسة حزيران/يونيه 1967، مقالاً افتتاحيًّا، كـَـتـبْـتـه بصِفتي رئيسًا لهيئة التحرير، تحت عنوان “التـقـنيَّة، التصنيع والمعركة”، قُلتُ فيه، بين أمورٍ أُخرى:

“إنَّنا لا نفتـقرُ إلى المُـقوِّمات المادِّيـَّـة الرئيسيَّة للتصنيع بقدر ما نفتقرُ إلى مُقوِّمات ٍ ذاتـيَّـةٍ، فكريَّة وفلسفيَّة، من طبيعةٍ أُخرى.

“وقد يُعزى ذلك إلى الإدراك الهزيل للترابط العميق الكامِن بين قضيـَّتـنا وقضيَّة الحضارة العصريَّة القائمة على التـقـنيَّة الصناعيَّة كأهمِّ دعامةٍ فيها.

“واعتماد إيديولوجيَّة التـقـنيَّة الصناعيَّة لا يعني ببساطة استيرادَ الآلات الحديثة ثمَّ تشغيلَها وإنتاجَ ما يُمكن إنتاجُه من السِّلَع الاستهلاكيَّة بوجهٍ خاصّ، إذ إنَّ ذلك سيتحوَّل إلى استعباد مثاليّ بثوبٍ جديد. بل ما نقصدُه بالتقنيَّة الصناعيَّة إنَّما هو نظامٌ كاملٌ يقومُ على فلسفةٍ جديدة يُمكن أن تنقلَ المُجتمعَ العربيّ من مُجتمعٍ زراعيٍّ، بل بدويٍّ جامد ومُتخلِّف إلى مجتمعٍ صناعيٍّ تبرزُ فيه طاقة ُالإنسان الخلاَّقة وقدرتـُه على التحويل والتغيير والإنشاء والتطوير. فينطبع الإنسان العربيُّ بإيديولوجيَّةٍ صناعيَّةٍ ديناميكيَّةٍ تُمكِّنه من مُواجهة حضارة الغرب وتحدِّياته بذات أسلحته”(انتهى الاقتباس).

وأرى أنَّ صراعنا مع إسرائيل والغرب يُمثـِلُ صِراعًا حضاريًّا في المقام الأوَّل. وقد آن الأوان أن نعترف، بشجاعة، بأنَّ إسرائيل تُمثـل جزءًا من الحضارة الغربيَّة الصاعدة، في حين أنـَّنا نُمثـِل حضارة عربيَّة إسلاميَّة هابطة، كما يقول تُوينبي. لذلك فشِلنا في جميع حروبنا مع إسرائيل تقريبا، على الرغم من كثرة عددنا وعُدَّ تـنا، لأننا نفتقرُ، على الأرجح، إلى ذلك العقل التِقنيّ الحضاريّ، ولأننا كما أشارَ موشي دايان، كما سمعته بأذني عَشيَّـة حرب حزيران/يونيه 1967، من محطة إذاعة إسرائيل، فقال: “إنَّ العرب يُخطِّطون لكلِّ شيء... إلاَّ للهزيمة.”

وأُرجِّح أنَّ محوَر المُعضلة التي كانت—وما بَرحت—تُواجه العرب، منذ اصطدامهم المفزع بالحضارة الغربيَّة، في بداية القرن الماضي، هو تصوُّرهم أنَّ الأخذ بمُقوِّمات الحضارة الغربيَّة سيُهدِّد دينَهم وتقاليدَهم وهويتهم المتميِّزة، على الرغم من مُحاولة كِبار المُصلحين، أمثال الأفغانيّ ومحمَّد عبده وغيرهم، إثباتَ عكس ذلك.

ولنتساءلْ: هل تخلَّت إسرائيل عن دينها إكرامًا للحضارة التكنولوجيَّة الحديثة؟ وهل تركَ الشعبُ اليابانيُّ تقاليدَه وعاداتِه وشخصيَّته المتميِّزة إكرامًا للحضارة التـقـنيَّة الصاعدة، التي بزَّ بها الغربَ أحيانًا!؟ تـُرى لماذا لم يفقه العربُ هذه الحقائق!؟ قد يكون سببُ ذلك، على ما أظنُّ، أنَّنا ما نزالُ نخضعُ لقَدْرٍ كبيرٍ من القِيَم والعقليَّة البدويَّة الموروثة التي تظلُّ تتمسَّكُ بقاعدة الثبات (الاستاتيكيَّة) بدل قاعدة التغيُّر والصيرورة المُستمرَّة (الديناميكيَّة)، التي يقوم عليها صَرحُ الحضارة الحديثة، بل كلّ حضارة سَالِفة.

وختامًا، فإنَّ الآراء الواردة في هذه الدراسة مفتوحة للمُناقشة بلا تحفُّظ، بما في ذلك التفنيد أو التعديل، وكاتبُها يتيمَّن بقول فُقهائنا المسلمين “مَن اجتهدَ فأصابَ له أجران، ومن اجتهدَ ولم يُصِبْ فله أجرٌ واحد.”«

المراجع والحواشي

1.Samuel Noah Kramer. History Begins at Sumer, Twenty-Seven "Firsts" in Man's Recorded History. New York: Doubleday, 1959.

2. يُقسِّم توينبي الحضارات عدَّة أقسام، منها الحضارات المنقطعة أو الأصليَّة، أي التي لا ترتبط بأيِّ حضارة قبلها، من مِثل الحضارة السومريَّة والأكَّديَّة والمصريَّة والإيجيَّة والأندوسيَّة (نسبةً لنهر وادي الأَندوس في باكستان ومُحيطها)، والحضارات المُتَّصلة، من مِثل الحضارات السريانيَّة والهيلينيَّة (أو اليونانيَّة) والأرثوذكسيَّة المسيحيَّة والإسلاميَّة وغيرها. أنظر:

Arnold Toynbee. Study of History. Abridged, (New York: Portland House), p. 72.

3. خلال أقلّ من مائة عام، ومنذ فتح مكَّة في عام 630 ميلاديَّة إلى عام 711، امتدَّت الإمبراطوريَّة العربيَّة الإسلاميَّة من نهر السند شرقًا إلى إسبانيا والمحيط الأطلسيّ غربًا، ومن بحر العرب جنوبًا إلى حدود القسطنطينيَّة والبحر الأسود وأرمينيا وجورجيا شمالاً، وحملَت معها دينًا وتشريعًا ولغةً مُتقدِّمة.

4. أنظر المؤلَّف القَيِّم الذي وضعه قسطنطين زريق تحت عنوان “في معركة الحضارة”، (ص 39)، وفيه بحثٌ واسع عن تعريف الحضارة في مُختلف الكتابات والتمييز بينها وبين الثقافة. وقد أشرنا إلى هذا المرجع في الحاشية (6) أدناه.

5. ويل ديوارنت، “قصَّة الحضارة”، ترجمة زكي نجيب محمود، ج1، ص 3.

6. قسطنطين زريق، “في معركة الحضارة” (بيروت: دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، 1981)، ص 41.

7. أنظر دائرة المعارف الإسلاميَّة: Encyclopedia of Islam. (Leiden, Netherlands: Brill), 1913­-1936.

إنَّ هذه الموسوعة كٌتِبت في معظمها بأقلام المستشرقين الأجانب، وتُعتَبر أكمل مَصدر لتاريخ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. إنِّ تلكّؤ العرب في إخراج موسوعة عربيَّة أصيلة يُعتَبر وصمةً في جبين كلِّ مثقَّفٍ عربيٍّ واعٍ، لأنَّه يعكس تخلُّفَنا الفكريَّ والعلميَّ والحضاريّ. لذلك دَعَونا المثقَّفين منذُ سنوات إلى إخراج موسوعة عربيَّة أصيلة (لا مُترجمة كما حصل الآن “للموسوعة العربيَّة العالميَّة” التي أصدرها مكتب الشويخات في الرياض). أنظر بحث كاتب هذه السطور تحت عنوان “لمناسبة صدور الموسوعة العربيَّة العالميَّة: تعدُّد الأعمال الموسوعيَّة إثراءٌ للفكر العربيّ المُعاصر”، صحيفة “القدس العربي”، 4/5 كانون الثاني (يناير) 1997.

ومع ملاحظة ما يشوب دائرةَ المعارف الإسلاميَّة من هَنات، فهي جديرة بالاعتبار، خاصَّة من حيث أنَّها قد تُشكِّل تحدِّيًا للمثقَّفين العرب عامَّة والمسلمين خاصَّة لإخراج ما يُوازيها على الأقلّ. ومع شكوى الكثيرين من الكُتَّاب العرب من المستشرقين الذين بخسوا حقَّ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، يجبُ التنويه بكتابات بعضهم، مِثل المؤلَّف القيِّم ALLAHS SONNE UBER DEM ABENDLAND, UNSER ARABISCHES ERBE لسكريد هونكه Sicrid Hunke، حيث بيَّنت الكاتبة دورَ العرب والمسلمين في نشوء الحضارة الأوروبيَّة كما يبدو من عنوان الكتاب “شمس الله تسطع على الغرب، تراثنا العربي”. وقد تُرجمَ إلى العربيَّة تحت عنوان مُحرَّف هو “شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة في أوروبة”، والأصحّ الترجمة الفرنسيَّة Le soleil d'Allah brille sur l'occident, notre héritage arabe .

أنظر أَيضًا المُؤلَّفَ الثمين الذي أَعدَّه وترجمَه المُفكِّرُ هاشِم صالح تحت عنوان “الاستشراق: بين دُعاته ومُعارضيه، بأقلام محمد أركون و مكسيم رودنسون وآلان روسيُّون و برنارد لويس وفرانشِسكو غابريِلِّي وكلود كاهين، بيروت: دار الساقي، ط 1، 1994.

8. أنظر إدوارد سعيد “الاستشراق”، Edward Said. Orientalism, New York: Random House, 1979.

9. أنظر محمد حسين هيكل ، “حياة محمَّد”، مصر: دار القلم، 1935. مع احترامي الشديد وتقديري البالغ لهذا العمل العظيم، فإنَّني أشعر، وقد يشعر مُعظم القرَّاء، أنَّه كُتِبَ بدافع الردّ على المستشرقين والكتَّاب الذين افترَوا على الإسلام. (أنظر المُقدِّمة، وخاصَّة ص 10 وما بعدها) كما إنَّه يتضمَّن بعض الثغرات، وخاصَّة عدم تعرّضه (وهو الذي يتحدَّث عن حياة محمَّد (ص) بالتفصيل) بالتحليل الدقيق والكافي للحَدث المهمّ الذي غيَّر وجهَ الإسلام وربَّما مصيره، وأقصد “الهجرة” في حين عالجها الكثيرون من المؤرِّخين؛ منهم المؤرِّخ البريطانيّ المعروف أرنولد توينبي الذي يعتبرها “بدءَ انحدار الإسلام لا بدء تأسيسه كما هو شائع بين المؤرِّخين”. (أنظر منح خوري، “التاريخ الحضاريّ عند توينبي”، دار العلم للملايين، ص 63، والردّ على رأي توينبي في هذا الشأن في الصفحة 118. كذلك أنظر آراء توينبي في الإسلام في كتابه “دراسة للتاريخ”، (الموجز) المُشار إليه في الحاشية رقم (2) أعلاه، في الصفحات 537، و348، و264، و338، و336).

10. أنظر في هذا الصدد، دراسات ومقالات كاتب هذه السطور المتعدِّدة المنشورة في صحيفة “القدس العربيّ”، لندن، ومنها: “نظريَّة التحدِّيات الحضاريَّة المباشرة وغير المباشرة وتطبيقها على كوارث العالم العربيّ”؛ “خطابُنا تخديريّ سطحيّ اتِّهاميّ نِفاقيّ تهوينيّ تأثيميّ” (دراسة نُشرت في ثلاث حلقات، في 7 و8 و9 تمُّوز/يوليه 1997)؛ “على هامش نظريَّة العقل؛ اللاشعور المعرفيّ للفرد والمجتمع”؛ “فشلَت نهضتنا لأنَّنا أهملنا استخدام عقلنا الفاعل”؛ “نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعل وتأثيرها عربيًّا” (دراسة في ثلاث حلقات في 16و 17و 18 حزيران/يونية 1997)؛ “محاولة تطبيق نظريَّة توينبي في التحدّي والاستجابة على كوارث الوطن العربيّ” (القدس العربيّ، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1996)؛ “خواطر في العقل الفاعل والعقل المنفعل من لالاند إلى الجابريّ” (القدس العربيّ، في 18 شباط/فبراير 1997)؛ “معالجة غياب المشروع النهضويّ العربيّ للقرن الحادي والعشرين” (2 أيَّار/مايو 1996)؛ “الإبداع والاتِّباع عند العرب؛ فقدان الإيداع إلى جانب الهيمنة الداخليَّة والخارجيَّة علَّة تخلُّفنا” (دراسة من حلقتين نُشرت في نفس الصحيفة في 21و 22 كانون الثاني/يناير 1998)؛ “حرِّروا الإنسان قبل الأرض؛ كوارث الوطن العربيّ بعد الاستقلال ترتبط بإشكاليَّة تحرير الفرد العربيّ والعقل العربيّ” (21 تشرين الأوَّل/أكتوبر 1996)، وغيرها. وكلُّ هذه الموضوعات تدور في محور تحدِّيات الحضارة الحديثة للأمَّة العربيَّة، وتجذير أسباب كوارث الأمَّة.

11. في هذا السياق، أنظر مؤلَّفات عدد من المُفكِّرين العرب المُعاصرين، منهم محمَّد عابد الجابري، في ثلاثيَّته “نقد العقل العربيّ”، وخاصَّة “ تكوين العقل العربيّ ” ؛ وعبد الله العرويّ، وخاصّة في كتابه “العرب والفكر التاريخيّ”؛ وزكي نجيب محمود، في كتابه “تجديد العقل العربيّ”، وقسطنطين زريق في كتابه “في معركة الحضارة”. وأنوِّه بوجه خاصّ بوقائع ندوة “أزمة التطوُّر الحضاريّ في الوطن العربيّ” التي نظَّمتها جامعة الكويت في عام 1974، وما وردَ فيها من أبحاث ودراسات جديرة بالاهتمام.

12. نشرَ كاتبُ هذه السطور سلسلةً من المقالات والأبحاث بشأن مشروع الموسوعة العربيَّة الجامعة منها: “الموسوعة العربيَّة الجامعة، مسؤوليَّة المثقَّفين العرب في المهجر” (القدس العربيّ، 20/3/1996) و “الموسوعة العربيَّة في المهجر، مُحاولة شابَّة بين عدَّة محاولات هَرِمة” (القدس العربيّ، 25/7/1995). وفي معظم هذه الأعمال طرحنا فكرة إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ كجزءٍ من أهداف مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة، كما وردَ في ورقة العمل الموضوعة بهذا الشأن.

13. عبد الرحمن بن خلدون، “المقدِّمة”، التي تشكِّل الجزء الأوَّل من كتاب “العِبَر وديوان المبتدأ والخبر، في أيَّام العرب والعَجَم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، (بغداد: طبعة مكتبة المثنى، بدون تاريخ)، ص 3.

14. المرجع السابق، المقدَّمة ص 95–96. كما أشار إلى هذه النقطة الهامَّة فايبلمان Feibelman في كتابه “فهم الحضارة”: J. Feibelman. Understanding Civilization. (New York: Horizon Press), p. 70.

15. ابن خلدون، “المقدِّمة”، ص 42.

16. المرجع السابق، ص 82.

17. أنطون غطَّاس كرَم وكمال اليازجيّ، “موسوعة أعلام الفلسفة العربيَّة” (بيروت: مكتبة لبنان، 1990)، ص 819. أعترف بأن نظرية ابن خلدون في نشوء الحضارة وسقوطها، بحاجة إلى توسع أكثر، ولكنني حاولت أن أعتصر بعض ملامحها الرئيسية، وأستميح القارئ عذرا إن كان هذا الإيجاز لا يشفي الغليل.

18. عبد الرحمن بن خلدون، “المقدِّمة”، ص 151–152. يكرِّر ابنُ خلدون هذا المعنى أو ما يشابهه في عدَّة مناسبات، مثلاً في فصل “إنَّ العرب لا يتغلَّبون إلاَّ على الساقط”، ص 149، وفي هذا إجحافٌ لأنَّ العرب قد تغلَّبوا على دولة الروم ودولة الفرس، أعظم إمبراطوريَّتين في العالم في ذلك الوقت. أنظر كذلك الفصل الذي يليه تحت عنوان “إنَّ العرب إذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب”، والسبب في ذلك أنَّهم أمَّة وحشيَّة لاستحكام عوائد التوحُّش... الخ.. وهناك عدَّة مُبرِّرات وتفسيرات لكلمة العرب عند ابن خلدون منها أنَّه يقصد الأعراب، أو البدو. أنظر ساطع الحُصَريّ، “دراسات عن مقدمة ابن خلدون”، مكتبة الخانجي، القاهرة 1961، ص 166. ومنها أنه “كان ينطق بلسان الوطن البربريّ الذي غزاه العرب”. أنظر محمَّد عبد الله عنَّان، “ابن خلدون، حياته وتراثة” (القاهرة: المكتبة التجاريَّة، 1953)، ص 121... وغير ذلك.

19. ابن خلدون، “المقدِّمة”، المرجع السابق، ص 543.

20. ناجي معروف، “عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميَّـة”، بغداد: مطبعة الشعب، 1974.

21. نُشرت هذه الدراسة في صحيفة “القدس العربيّ” في عدَّة حلقات تحت عنوان رئيسي ، هو: “نقدُ الحسّ النقديّ عند العرب، مدخل لتحليل بعض جوانب تخلُّفنا الفكريّ”، 11/11/1996. وتحت عدَّة عناوين فرعيَّة أخرى، منها “انتقال العرب السريع من البداوة إلى الحضارة أسفرَ عن آثار نفسيَّة واجتماعيَّة ظلَّت تواكبهم حتَّى الآن” (12/11/1996)، فضلاً عن حلقتين إضافيَّتين للردِّ على المعترضين والمهاجمين نُشرتا في 21 و22 كانون الثاني 1997، تحت عنوانين: “مصيبة الإرهاب الفكريّ والفَوقيَّة الأَبويَّة مُقابل ميزة التعدُّديَّة والاختلاف في الرأي”، و “الصراع بين البداوة والحضارة صراعٌ مستمرٌّ حتى اليوم ما بين العرب المغتربين.”

22. أحمد أمين، “ضحى الإسلام”، (بيروت: دار الكتاب العربيّ، ط10، ج1)، ص6، نقلاً عن رسائل الجاحظ، ص41.

23. أحمد رفاعي، “عصر المأمون”، (القاهرة: دار الكتب المصريَّة، 1928، ط4، ج1)، ص1.

24. علي الورديّ، “دراسة في طبيعة المجتمع العراقيّ”، ص80. والأهمّ من نسبة عدد البَدوْ للحضر، هو انتشار القِيَم البدويَّة خاصَّة في الخليج، فالقبائل لا تتزاوج مع الذين لا ينتمون إلى قبيلة معروفة مثلاً، وحتَّى الانتخابات التي جرت في الكويت في 3/7/1999، قامت على أساس قَبَليّ. يقول حامد أحمد الحمود (باحث كويتيّ)، “تظلُّ القبيلة في الكويت كما هي في معظم أقطار المشرق العربيّ مؤسَّسة لها ثِقلُها الاجتماعيّ والسياسيّ وإن كانت غير رسميَّة.” أنظر مقاله المهمّ تحت عنوان “القبيلة والطائفة والعائلة” صحيفة “الحياة” 16/6/1999.

25. أحمد أمين، “ضحى الإسلام”، المرجع السابق، ج1، ص 19.

26. إعتمدنا في عرض آراء توينبي، بوجهٍ خاصّ، على كتابه المُشار إليه في الرقم 2 من المراجع، فضلا عن كتابه “العالَم والغرب”، ترجمة نجده هاجر وسعيد الغُرّ. كما رجعنا إلى كتاب منَح خوري “التاريخ الحضاريّ عند تُوينبي” (بيروت: دار العلم للملايين، 1960).

27. المرجع السابق، منح خوري، ص 35–36.

28. المرجع السابق، ص 39–40.

29. المرجع السابق، ص 127.

30. أرنولد توينبي، “العالم والغرب”، ص 16–17.

31. أرنولد توينبي، “الوحدة العربيَّة آتية”، ترجمة عمر الديراوي أبو حجلة، (بيروت: دار الآداب، 1968)، ص 178.

32. كنموذج واحد من الهجمات التي وجهتها الأوساط الصهيونية ضد توينبي، أنظر الهجوم الشديد الذي ورد في محاضرة سفير إسرائيل في الولايات المتحدة، آبا إيبان بعنوان The Toynbee Heresy،(هرطقة توينبي)، وقد ألقاها في بنيويورك في معهد إسرائيل في جامعة يشيفا، في 18/1/1955؛ وردت في كتاب:

M. F. Ashley Montagu (Editor). Toynbee and History: Critical Essays

33. توينبي-*، "العالم والغرب"، المرجع السابق، ص62.

الفصل الثالث: تحرير العَقلِ العربيّ لتحرير الإنسان العربيّ

العنوان يـُثيرُ عدَّة تساؤلات:

– ما معنى العَقل؟ وما الفرقُ بين العَقل والفِكر؟

– هل يُمكنُ التحدُّث عن عَقل عربيّ مُتميِّز؟

– هل العقلُ العربيّ سَجينُ لاتاريخيَّته: تُراثِه وثقافتِه؟ أم سجينُ قَهره السياسيّ والاجتماعيّ؟ أم سجينُ تخلُّفه الحضاريّ الذي استمرَّ ما يُربي على ستَّة قرون؟

– هل أسفرَت صدمةُ العقل العربيّ-الإسلاميّ بالحضارة الغربيَّة الحديثة، منذ حملة نابليون على مصر، ثمَّ هزيمة الأُمَّة العربيَّة بأسرها أمام إسرائيل، إلى “نكوص” ذلك العقل، ولجوئه إلى الماضي، تعويضًا عن فشله وعن واقعها المُرّ ؟

– هل ثمَّةَ “عَقل مُجتَمعيّ” قاهر يتحكَّم في عقولنا إلى الحدِّ الذي نُصبح فيه دُمًى يُحرِّكُها بخيوطه؟

– ما السبيل لتحرير العَقل العربيّ من سِجنه اللاشعوريّ المؤبَّد، وإطلاق طاقاته الجبَّارة من عِقالها؟

– هل يؤدِّي إحلالُ استخدام العَـقـل الفاعِل محلَّ استخدام العَقل المنفعِل إلى تحقيق طفرة فكريَّة واجتماعيَّة قد تُـنـقِـذ هذه الأُمَّة من هذه الغمَّة؟

– ما وجهُ الترابُط العُضويّ بين تحرير العقل العربيّ وتحرير الإنسان العربيّ؟

سنُحاول الإجابة عن هذه التساؤلات الخطيرة والواسعة، بقدر ما يسمح به المقام، وأرجو أن أستميح القارئ عُذرًا لأنَّني قد أُقصِّر في إيفاء هذا الموضوع حقـَّّـه من العَرض والبحث، ومع ذلك، فإنَّ “ما لا يُدرَكُ كـُـلّـُه، لا يُترَكُ جـُـلـُّه” كما قال أسلافـُنا المجتهدون

أَوَّلاً: ما هو العَقل؟ وما الفَرقُ بين العَـقـل والفِكْر؟

في العربيَّة: ورد في "لسان العرب" أنَّ العقل هو الحِجْرُ والنُّهى، ضدّ الحُمق؛ والعاقل هو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقـَلتُ البعير إذا جمعتُ قوائمَه؛ والعاقـل من يحبسُ نفسه ويردُّها عن هواها …واعتـُـقـِلَ لسانـُه إذا حُبِسَ ومُنِعَ الكلام …وسُمِّيَ العقلُ عقلاً لأنَّه يعقِلُ صاحبَه عن التورُّط في المهالك …

أمَّا في القرآن الكريم فلم تَرِدْ كلمة "العَقل" كاسم، بل وردَت بصيغة الفِعل: "وإذا قـيل لهم اتَــبِعوا ما أنزَلَ الله ، قالوا بل نتـَّبع ما ألفَينا عليه آباءَنا، أَوَ لو كان آباؤهم لا يَعـقـلون شيءًا ولا يهتدون." (سورة البقرة: 170(

في الإنكليزيَّة:mind أصلُها من اللغة الجرمانيَّة Menos بمعنى روح أو نشاط. ورَدَت في اللاتينيَّة بلفظة Mens بمعنى العَقل؛ أَمَّا أُصولها فتعود إلى اللُغات الهنديَّة- الأوروبيَّة حيث يمكن وضعُها بالحروف اللاتينيَّة بشكل men، بمعنى العقل أيضًا. وكلمة mind بالإنكليزيَّة لها عدَّة معانٍ أو مُقابلات بالعربيَّة؛ منها الذاكرة، والنيَّة، والرأي، والمزاج، والمقدرة العقليَّة، بالإضافة إلى “العقل” المُراد بهذا البحث. بَيد أنَّ صاحب “المُعجَم الفلسفيّ” لا يورد كلمة mindبما يقابل كلمة “عَقل”، بل يورد ألفاظًا أُخرى؛ منها reason وintellect وunderstanding، و.intellectual powers1 وقد صدَر كتابٌ بالإنكليزيَّة تحت عنوان The Arab Mind ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ هذه اللفظة مُستعمَلة بالمعنى الذي نُريده وما سنـُبـيـّـِنـُه فيما بعد.2 وتعترف موسوعة الفلسفة بصعوبة تعريف “العقل” The mind، وتورِد عدَّةَ تعريفات وشروح تفصيليَّة لا مجالَ للدخول فيها. لذلك نُـشـير فقط إلى تعريف هيوم Hume الذي يقول: “ليس العقل إلاَّ مجموعة من المُدركات المختلفة”. أمَّا وِليام جايمس William James فإنَّه يُعرِّف العَقل بأنه “ دَفـْـقٌ من الشعور أو الوَعْي” 3 .

  • في اللاتينيَّة :intellectus من الفِعل intelligere بمعنى يفهم. وقد ميــَّز الرومان بين العقل والروح، فأطلقوا لفظmens على العَقل، ولفظَ anima على الروح.4 كما استُعمِلت كلمة ratio بنفس المعنى في اللاتينيَّة؛ وهي تعود إلى لفظة ratus اسم المفعول من الفعل reor بمعنى يتفكَّرcroire penser,.
  • في الفرنسيَّة raison ؛ وهو كما يقول ديكارْت Descartes"القدرة على الُحكْم الجيِّد"، أي التمييز بين الخير والشر، الحقّ والباطل، والجميل والقبيح.5

في الفلسفة العربيَّة-الإسلاميَّة يتضمَّنُ العقل عدَّة معانٍ؛ منها:

– أنَّ العَقل جوهرٌ بسيط مُدرِكٌ للأشياء بحقائقها (الكِنْديّ، "رسالة في حدود الأشياء ورسومها").

– والعَقل هو جوهرٌ مُجرَّد من المادَّة في ذاته مُقارِنٌ لها في فِعله، وهو النفس الناطقة التي يُشير إليها كلُّ أحد بقوله: أنا (الجُرجانيّ، في "كتاب التعريفات"). ويلاحظ أن هذا التعريف مأخوذ من ابن سينا مع تعديل بسيط.

– العَقل قوَّة تجريد تـنـتـزع الصُّوَر من المادَّة وتُدرك المعاني الكـُـلـِّـيَّة كالجوهر والعَرَض، والعِـلـَّة والمعلول، والغاية والوسيلة، والخير والشرّ إلخ. 6

أخيرًا، قد نتمكَّـن من تعريف العقل اصطلاحًا، وبقدر ما يتعلّـَقُ بهذا البحث بوجهٍ خاصّ، بأنّه المَلَكة التي يحكمُ المرءُ بواسطتها على الأُمور، على صعيدَي الموضوع والذات، عن طريق إدراك العلاقات والروابط بين الأَشياء (الأَعيان والمُجرَّدات)، وتفهُّم الأَسباب والنتائج... وبعبارة مُختصَرة ومُجرَّدة أَكثر هو الأداةُ الفكريَّة التي يستخدمُها المرءُ للحُكم على الأُمور أو التميـيز بينها. ونحن نُحاول، في هذا التعريف، تغطيةَ الجانب الإبستمولوجيّ (المَعرِفيّ المُجرَّد) للعقل، فضلاً عن الجانب الإيديولوجيّ التابع لمفاهيمَ واعتباراتٍ قـَبـْليَّة، وذلك بالإضافة إلى تغطية كلٍّ من الجانب الموضوعيّ والذاتيّ.7 وتتكوَّن هذه “الأداة” الفكريَّة منذ أن يولدَ الإنسان، تدريجيًّا، وتظلُّ تنمو معه أو تتضاءل حتَّى الممات. وتتشكَّل من تفاعُل عنصرَين أساسيَّين هما: الوراثة والبيئة، أو التكوين الجينيّGenetics والمحصول التربويّ. ويدخل في الأخير كلُّ ما يتلقَّاه الإنسانُ من مُؤثِّرات خارجيَّة، بما فيها تربيتُه البيتيَّة والمدرسيَّة و "الشارعيَّة" (نسبة إلى الشارع)، وعلاقاته الاجتماعيَّة، والمؤثِّرات المُجتَمَعيَّة. إنَّ التفاعُلَ المُركَّب والمُعقَّد بين هذَين العنصرَين المنفردَين يتمخَّض عن “عقل الإنسان”، أو بالأحرى عن "الإنسان ذاته"، في تفكيره وسلوكه.

لذلك يُمكن أن يُقالَ إنَّ الإنسانَ "يُفكِّر بعقله"، أي يتَّخذ قراراتِه التي تتجسَّم في تصرُّفاته، من خلال تفكيره بهذه "الأداة" الموصوفة أعلاه. بَيد أنَّ هناك نمطًا آخر من التفكير “لا بالعقل” كما هو معروف، بل "في العقل". أي بدل أن يتفكَّرَ الإنسان في الأشياء أو الأعيان، أو بالأحرى "الموضوع"، بتلك "الأداة" (العقل)، فإنَّه يتفكَّر في تلك الأداة (أي العقل)، التي تصبح في هذه الحالة هي "الموضوع"، أو يتفكَّر في الذات كموضوع بدل أن يتفكَّر في الموضوع خارج الذات. فالنمطُ الأوَّل من التفكير، أي التفكير بالعقل في الموضوع، هو تفكير بـ"العقل المنفعل"، على الأغلب. أمَّا النمطُ الثاني، أي التفكير بالعقل في العقل، فهو تفكير بـ"العقل الفاعل"، بدرجات ومستويات مختلفة.

من هنا تبرزُ أهمّـِيَّة " نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعِل"، باعتبارها تـُحاول أن تُحلّـِل وتُفسِّر طُرُقَ التفكير، وبالتالي سُبل السلوك التي يتَّخذُها جميعُ البشر، كما تُحاول أن تُلقيَ ضوءًا على أبعاد "زنزانة" السِّجن التي يقبع فيها العقلُ البشريّ، إن صَحَّ التعبير، كما سنُحاول إيضاحَه فيما سيأتي ذكرُه (وبخاصَّة في الحلقة الثانية من هذا البحث، أي الفصل الرابع).

التمييزُ بين العَقل والفِكر

الفِكر، في الإنكليزيَّةthought ، وفي الفرنسيَّـة pensée ، يعني عند ابن سينا "إجماع الإنسان أن ينتـقـل من أُمور حاضرة في ذهنه إلى أُمور غير حاضرة فيه. وهذا الانتقال لا يخلو من ترتيب" (الإشارات والتنبيهات). وعند كانط E. Kant، قوَّة نقديَّة للأحكام.

والفِكر إعمالُ العقـل في الأشياء للوصول إلى معرفتها، وهو مُرادِف للنظَر العقليّreflexion والتأمُّـل meditation، ومـُـقابل للحَدس intuition .

ويطول الحديث عن الفِكر8 ، ويختلط أحيانًا بالعقل إلى الحَدِّ الذي اعتبره "الجابِريّ" مُرادِفًا له عندما يُستخدَم كـ"أداة". فهو يُشير إلى أنَّه كان بإمكانه استخدام لفظة "فِكر" بدل "عَقل" في رباعيته المعروفة بـ" نَقد العقل العربيّ"، لولا أنَّ هذه الكلمة "تعني في الاستعمال الشائع اليوم مضمونَ هذا الفكر ومُحتواه، أي جملة الآراء والأفكار التي يُعبِّر بها، ومن خلالها، [أيُّ] شعب، عن اهتماماته ومشاغله، وأيضًا عن مُثُله الأخلاقيَّة ومُعتقداته المذهبيَّة وطموحاته السياسيَّة والاجتماعيَّة " .9

وهكذا فإنَّ الفكرَ يعني كذلك ما أنتجه أيُّ شعب من أدَب وعِلم وفلسفة، أي من ثقافة؛ لذلك يُقال "الفِكر العربيّ"، أي حصيلة ذلك الفكر، أو "الفكر الفرنسيّ"، أي حصيلـتـُه من أدب وفن وفلسفة إلخ. ولكن مع ذلك فإنَّ هناك جانبًا آخر من "الفِكر" هو الجانب الذي يُستخدَم "كـأداة" لا كـ"مُحتوى" أو "ناتج"، ويُمكن أن يختلطَ بالعقل؛ لذلك يقول الجابريّ: "إنَّ ما سنهتمُّ به في هذا الكتاب ليس الأفكار ذاتها، بل ’الأداة‘ المُنتِجة لهذه الأفكار10، أي العقل ".

ثانيًا: هل ثمَّةَ عقلٌ عربيّ مُتميِّز؟

قلنا، لدى تعريفنا للعقل، إنَّ العقل يتكوَّن من تفاعُل عنصرَين أساسيَّين هما الوراثة والبيئة. ونترك الوراثة الآن جانبًا، وإلى حين، فنُحلِّل عنصرَ البيئة الذي يتكوَّن من جميع ما يتلقَّاه الكائنُ البشريُّ من انطباعات ومُؤثِّرات خارجيَّة، ابتداءً من لحظة ميلاده حتَّى مماته؛ وتدخل فيها، كما أسلفنا، التربيةُ البيتيَّة والمدرسيَّة وعلاقاتُه الاجتماعيّة إلخ. ولا شكَّ بأنَّ بيئةَ الإنسان العربيّ تختلف عن بيئة الإنسان الصينيّ، أو الأُوروبيّ، تمامًا كما تختلف بيئةُ الفرد الهنديّ عن الفرد الزمبابويّ، وهكذا …

وبالتالي فإنَّ عقولَ هذه المجموعات المختلفة من البشَر ينبغي أن تكونَ مختلفة بعضَ الاختلاف. وهذا لا يعني أنَّنا نقضي بذلك على المبدإ القائل بتجانُس العقل البشريّ، أي أنَّه لا يختلف من حيثُ أنَّه عقلٌ بشريّ، ويتميَّز عن عقل الحيوان، بل نعترف بهذا التجانس العامّ؛ ولكنْ ما إن ندخلُ في الخاصّ، وخاصّ الخاصّ، حتَّى تبدو الفروقات، بل تتجلَّى تلك الفروقات بين طباع البَشر أو عقولهم، باختلاف البيئات، والمجتمعات الكبيرة والصغيرة.

يقول الجابريّ: “بما أنَّ الحياةَ الاجتماعيَّة ليست واحدة، ولا على نمطٍ واحد، فمن المنتظر أن تتعدَّدَ أنواعُ القواعد العقليَّة—ولنقُلْ أنواع المنطق—بتعدُّد وتبايُن أنماط الحياة الاجتماعيَّة. من هنا كان للشعوب المُسمَّاة "بدائيَّة" منطقُها(أو عقلُها) وكان للشعوب "الزراعيَّة" منطقها، وكان للشعوب التجاريَّة الصناعيَّة منطقُها؛ ومن هنا أيضًا، ولنفس السبب، كان لكلِّ مرحلة تاريخيَّة منطقها."11

وهكذا يُمكن القول بأنَّ هناك عقلاً عربيًّا مُتميِّزًا، لأنَّ المجتمع العربيَّ مرَّ بأدوار تختلفُ عن أيّ مجتمع آخر، تراكمَت خلالها الأحداثُ والوقائعُ والقِيَم، فأصبحت جزءًا من الثقافة التي تُشكِّلُ العقلَ العربيّ.

يقول جورج طرابيشي: “إنَّ العقلَ البشريَّ عندنا هو ثمرة تراكُم تاريخيّ، ومثَـلـُه مثَـلُ ’ الرأسمال‘ عند مارْكس، فإنَّه لا يمكن فهمُه في أطوار تطوُّره اللاحقة بدون أن تؤخَذَ في الاعتبار سَيرورةُ تراكُمِه البدائيّ." 12

وفي مُناسبات سابقة13 تصوَّرتُ أنَّ لكلِّ أُمَّة "عقلاً مُجتمَعيًّا لاشعوريًّا مستقلا ً" يُمثــّـِلُ حصيلة تاريخها وتُراثها وثقافـتها، يُشابِه، إلى حدٍّ بعيد، عقلَ الفرد اللاشعوريّ الذي تتراكمُ فيه حصيلة تجارب ذلك الفرد. كما قارنتُ سيرة الفرد الشخصيَّة التي تـُكوِّن، "عقلَه الشعوريَّ واللاشعوريَّ "، بمسيرة المجتمع التاريخيَّة التي تـُكوِّن بدورها "عقلَ المجتمع اللاشعوريّ " الذي يُشـكـّـِلُ بدوره "عقلَ الفرد الذي يعيش في ذلك المجتمع. فيُصبح الفردُ مُمثِــّلا ً لنفس المجتمع بل الناطق بلسانه، مع ملاحظة اختلاف الأفراد في التعبير عن عقل المجتمع تبعًا لوضعهم الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والثقافّي إلخ. بيد أنَّ هناك في كلِّ المجتمعات فئة معيَّنة محدودة من الأشخاص قد تكون قادرة على تحويل "مخزون العقل المجتمعيّ" من المستوى اللاشعوريّ إلى المستوى الشعوريّ، بعد إلقاء الأضواء عليه بغرَض كشفه أو فَضحه.14

ثالثًا: العقلُ العربيُّ السجين

قلنا إنَّ عقلَ الإنسان يُمثـِلُ الحصيلةَ النهائيَّة لِما مَرَّ به من أحداثٍ وتجاربَ خلال فترة حياته وتفاعُـل تلك الحصيلة مع العوامل الوراثـيـَّة أو الجيـنـيَّة الطبيعيَّة (انظرْ: أوَّلاً، التعريف الاصطلاحيّ للعقل). كما افترضنا أنَّ للمجتمع "عقلاً لاشعوريًّا"، تكوَّنَ نتيجةَ تراكُم الماجَريات التي مرَّت على المجتمع خلال مَسيرته التاريخيَّة. (انظرْ: ثانيًا، في الفقرة الأخيرة السابقة). وهناك علاقة جَدَليَّة مُتشابكة بين عقل المجتمع وعقل الفرد، من حيث تأثيرُ الأوَّل في الثاني على نحوٍ متواصل ومُكـثــَّف إلى الحدِّ الذي يُصبح فيه الفردُ صورة ً مُصغَّرة "للعقل المجتمعيّ ". كما قد يُؤثِّر العقلُ الفرديُّ في العقل المجتمعيّ أحيانًا، ولكن بدرجةٍ أقلّ وفي حالاتٍ مُحدَّدة ؛ عِلمًا بأنَّ عقلَ الفرد يخضعُ للعقل المُجتمَعيِّ لاشعوريًّا، في الغالب. وهذا الأمرُ لا ينطبق على الفرد العربيّ والمجتمع العربيّ وحسب، بل يعمُّ جميع المجتمعات. وهكذا فإنَّ العقلَ البشريَّ محكومٌ عليه بالسَّجن المُجتمعيّ المؤبَّد، دائمًا وأبدا، مع اختلاف في خصائص تلك السجون ومدى قساوتها أو رحابتها، ثمَّ مدى صرامة العقوبة التي تقع على مَن يُحاول الإخلالَ بقواعد السلوك في هذا السِّجن أو ذاك، ناهيك عن عقوبة منْ يحاول الهربَ من السجن أو التحريض على الهرَب، أو على الشغب والثورة على إدارة السِّجن.

وكنموذجٍ للمقارنة بين نوعَين من السجون نـُشير، على سبيل المثال لا الَحصر، إلى أسماء بعض "المُجرمين" العرَب الذين قاموا بأعمال شغب، اعتـُـبـِرَت انتهاكا ً لقواعد السلوك داخلَ السِّجن العربيّ "الرَّحب"، فضلاً عن كونها قد تـتـَّسمُ بالتحريض على الهرب أو على بَثِّ روحِ التمرُّد على الأقـلّ. منهم الدكتور طه حسين، مُؤلـِف كتاب "في الشعر الجاهليّ"، وغيره؛ والشيخ عَليّ عبد الرازق، مُؤلِف كتاب "الإسلام وأُصول الحُكم"؛ والدكتور نَصر حامد أبو زيد، مُؤلِف كتاب "مفهوم النصّ"، و"إشكاليَّات القراءة وآليَّات التأويل"، وغيرهما؛ والدكتور صادق جلال العَظم، مُؤلِف كتاب " نقدُ الفِكر الدينيّ"؛ والدكتور فرَج فَوده، الذي تجرَّأ على مُناقشة بعض المبادئ المعتمَدة لدى العقل المُجتمَعيّ مِمَّا قد يؤدِّي إلى التشكيك فيها؛ والدكتور لويس عوض، مُؤلِّف الكتاب الهامّ في "فقه اللُغة العربيَّة". وقد عوقِبَ هؤلاء "المجرمون" بعقوباتٍ مختلفة تتراوحُ بين التعزير (طه حسين)، والطرد من التدريس في الجامعة (علي عبد الرازق)، والطرد وتطليق الزوجة والتشريد (نَصر أبو زيد)، أو حتى الإعدام (فرَج فوده). أمَّا الأستاذ لويس عوض، فقد حوكِم، وحُجِزَ كتابُـه، ومُنِعَ من التداوُل .

والملاحَظ أنَّ مِثلَ هؤلاء الأشخاص لا يُعتَبرون "مجرمين"، في سجونٍ مُجتمَعيَّة أُخرى مثل "سِجن المجتمع الغربيّ" إلاَّ إذا اقترنَت أعمالُهم باستخدام "الذخيرة الحيَّة"؛ أمَّا المناقشة والكلام والنَّشر والتبشير بآراء جديدة أو مُخالفة لإدارة السّجن، فلا تـترتب عليها عقوبة عادة.

وهكذا فإنَّ العقـلَ العربيّ، وبالتالي الإنسان العربيّ العادي، سجين في سجون منيعة متعددة الأصناف والأسوار. وما أن يظهرَ بعضٌ من ذوي الأفكار الثورية النيّرة لتحرير الناس من سجونهم المركبة، حتى يتعاون على قمعه ورفضه وإلغائه كلٌ من السلطة الحاكمة(السجّان)، والمجتمع بأفراده السجناء أنفسهم الذين ألِـفوا سجنهم الدائم، واستساغوا قهرهم الأبدي. بل أن معظمهم لا يعيَّ سجنـَه، أي لا يدري أنه سجين أصلا ً، لأنه ولد وعاش في هذا السجن ِالكبير وسيموتُ فيه.

وإثباتا ً لدعوى "سجن العقل العربي" نقدم بعضا من الأمثلة التي تبـيّـنُ مدى مسجونية العقل العربيّ أو الإنسان العربيّ المعاصر، وما هيّ أصناف السجون التي يخضع لها:

فالعقل العربيّ سجينُ سلطات متعددة ، سواء رسميّة أو مجتمعيّة، ثقافيّة ودينيّة، خارجيّة أو ذاتيّة، وكلها تتعاونُ وتتفاعلُ للتأثير المركبِ على طريقة تفكيره ثم على سلوكه وتصرفه ونظرته إلى الأمور، مثلا:

العقلُ العربيّ سجينُ السلطة الحاكمة القاهرة التي تواصلت منذ أكثر من ألف عام: الخلافات (جمع خِلافة) الفاسدة، والحكم المملوكي، والحكم العثماني، والحكم الاستعماري، وأخيرا الحكم الوطني الجائر الذي تجاوز في قهره وعسفه أحيانا جميع العصور السابقة.

العقلُ العربيّ سجينُ قَهره السياسيّ الذي يفرضُ عليه أن يُصفِـقَ للحاكم بأمره، أو ينتخبَه مثـنىً وثـلاثَ ورُباع، ويـُسبّـِح بَحمدِه جهرا ويلعنه سرا.

العقلُ العربيّ سجينُ ضرورات وحاجات الجسد اليومية من غذاء ودواء وبحث عن عمل يعيله وأسرته.

العقلُ العربيّ سجينُ تخلـُفِه الحضاريّ الذي دام أكثر من سبعة قرون، وخاصة منذ سقوط بغداد.

العقلُ العربيّ سجينُ قَهره الاجتماعيّ الذي يفرضُ عليه أن يُفكِّرَ ويتصرَّفَ ويسلكَ تبعًا لِمُستلزماتٍ ومُحدَّدات ومسلمات العقل المجتمعيِّ السائد. والمفارقة الكبرى أن الإنسان العربي يخضع لهذه المسلمات القاهرة دون وعي، بل تصبح جزءا من عقله الواعي يدافع عنها ويتزايد عليها باعتبارها تمثلُ قيـَّمه الخاصة، كما سأفصله في الحلقة الثانية (الفصل التالي).

العقلُ العربيّ سَجين في “زنزانة” مُحكـَمة لا يرى فيها سوى أشباح السلـَف الصالح الذي عاش ومات قبل أربعة عشر قرنا، وهو لا يزال يتوسَّـل إليه وبه عبثا ً لحـّـِل مشاكل عصره الراهن!

العقلُ العربيّ سَجين لاتاريخيَّـته، التي تفرضُ عليه حضورَ القديم جنبًا إلى جنب مع الجديد، حضوراً يُنافسه بل يـُكـبِّـله. فالإنسان العربيّ يعيش ماضيه لا باعتباره يـُـشكلُ جزءًا أساسياً من حاضره وحسب، بل حتى من مستـقـبله أيضًا.

العقلُ العربيّ سجينُ خلافاته الدينيَّة والمذهبيَّة والطائفيَّة والإيديولوجيَّة، التي تمتدُّ جذورُها إلى الصراع الدَّمَويّ بشأن الخلافة منذ أكثر من 1400عام.

العقلُ العربيّ سجينُ تمزُقه بين عصرٍ متقدِّم يغلي بالحركة والتطوُّر، وعصرِه الثابت التالد، الذي لا يزال يعيش فيه في كنف الخليفة الراشد عُمر بن الخَطاب، والخليفة الصالح عُمَر بن عبد العزيز...

العقلُ العربيّ سجينُ بداوتِه العريقة التي لا تزال تفرضُ قِيَمَها العشائريَّة المؤدِّية، بين أُمورٍ أُخرى، إلى تفضيل النـَّسَب، والحسب والجاه ، لا الكفاءة، أساسًا لاختيار الرجُل الصالح في المنصب الملائم، كما إلى تمجيد السلف، واحتقارِ المِهنة (من فعل مَهَنَ أي حقـّرَ وأضعفَ).15

العقلُ العربيّ سجينُ النظام الأبَويّ Patriarchy system الذي يفرضُ التراتب والفَوقيَّةَ الشموليَّة، وتمجيد الزعيم الأوحد، وينتظر المستبد العادل، فضلا عن احترام الراعي والأكبر والأقوى. كما يقبل سيادة الرأيَ الواحد، ويُحاربُ النقدَ والتعدُّديَّة الإيديولوجيَّة والاختلافَ الفكريَّ الذي يُؤدِّي إلى الإبداع والتقدُّم. 16 ومن هنا أيضا يأتي وضعُ المرأةِ في مستوى أقل من الرجل دائماً.


رابعًا: صدمة العقلِ العربيّ

العقلُ العربيّ، وبالتالي الإنسان العربيّ أُصيبَ بصدمةٍ عنيفة trauma ، منذ حملة نابليون على مصر في عام 1798، وتكرار الهزائم أمام الغرب المتقدم. ثمَّ تفاقمت هذه الصدمة في واقعيَّة الهزيمة الكـُبرى في حرب 1967، وازدادت تفاقمًا وتأزُّمًا بعد "عواصف الصحراء". أصيب العقل العربي بتلك الصدمة العنيفة بسبب فشله في مواجهة "الأخر"، وقد يُبرر الإنسان العربيّ هزائمَه أمام الغرب لأنه يمثل دولا ًكبرى، فكيف يبرر هزائمه المنكرة أمام الكيان الصهيوني أو الدويلة القميئة أو العصابات الصهيونية، كما كان يقال عنها أحيانا؟

في نظريته الشهيرة حول "التحدي والاستجابة"، تأثر آرنولد توينبي بنظرية كارل يونغ Carl Jung —وهو من عُلماء النفس المعروفين— الذي يُـشير فيها إلى أنَّ الفردَ الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفـقـدُ توازنـَه لفترةٍ ما، ثمَّ قد يستجيبُ لها بنمطَين من الاستجابة: الأَوَّل تـقـبُـلُ هذه الصدمة والاعترافُ بها وعَـقـلـَنـتــُها، ثمَّ يحاول التغلـُبَ عليها باتِّخاذ مواقفَ جديدة أكثرَ مُلاءَمة، أو حتَّى العمل على تغيير نمَطِ حياته وتكييف وسائلِ تعامُـلِه مع نفسه ومع الآخرين، فيُسمَّى في هذه الحالة شخصًا “انبساطيًّا “ extrovert. أمَّا النمطُ الثاني من الاستجابة فتظهرُ بأنواع الانحرافات النفسيَّة أو العقليَّة التي يؤدِّي بعضُها إلى انطواء المريض على ذاته، فتكون حالتـه، إذ ذاك، “انطوائيَّة” introvert، أو إلى رجوعه إلى فترة صِباه أو طفولته، ليعيشَها فعلاً في مُخيّـلتـِه، وهكذا يستعيدُ الماضي مُعظـِّمًا إيَّاه ، مُتمسِّـكًا به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فتـُسمَّى هذه الحالة الارتداد أو النكوص regression. 17

من أقوال الإمام جمال الدين الأفغانيّ المشهورة إنَّ: “العربيَّ... يُعجَبُ بماضيه وأسلافه … وهو في أشدِّ الغفلة عن حاضره ومستقبله“.

وهكذا ترانا كنَّا، ولا نزال، نعيش على أمجادنا السالفة (نكوص). إنَّ ارتباطنا بهذا الذي نُطلق عليه تارة ًماضينا التليد أو تاريخنا المجيد أو تراثـنا الثرّ، أو سلفـَنا الصالح، ليس له ما يضارعه أو يُعادله لدى أيِّ أمَّة من أُمَم الأرض، على حَدِّ علمي. إنَّ الإلحاح في التنويه بماضينا التالد وفضله على العالم عامَّةً، وعلى الغرب خاصَّة، قد يُعتـَـبـَرُ ظاهرةً مَرَضيَّة، إنْ لَم يقـترن بالعَمل الجادّ والإبداع الفكريّ والحضاريّ، بما فيه العلميّ والتكنولوجيّ على وجه الخصوص، لمواكبة الحضارة الحديثة القائمة على هذه المُعطـَيات.

بل أصبح ذلك التراث يُشكـّـِلُ بالفِعل عاملاً مُعوِّضًا ومُعَـوِقـًا، أو بالأحرى مُخدِّرًا، يُضاعِف أسبابَ تخلـُّـفنا، لأنَّه يُعمينا عن إدراك أُسُس الأزمة التي تـُواجهنا والكارثة التي تـنتـظرنا. إنَّ عدمَ الوعي بمدى تخلـُّـفنا وأبعاده ونتائجه القريـبة والبعيدة، وبالفجوة المتزايدة في سعَتِها وعُمقها بيننا وبين الحضارة الغربية التي تتضاعف وتائرُ سرعتها بمرور الزمن— أسفر عن زيادة نفوذ القوى العظمى على مـُـقـدَّراتـنا، وهَيمـنـتِـها على مواردنا الطبيعيَّة والبشريَّة ونهبها أو استنزافها، فضلاً عن إذلالنا وتركيعنا، وهذا ما هو حاصل بالفِعل18.

ومن جهة أخرى، فإنَّ التـنويه بالسَـلَف واحترام التراث يقتضي، قبل كلِّ شيء، إعادة دراسته وتحليله بتعمُّق واستكناه، انطلاقًا من أُسُس أبستمولوجيَّة (مَعرِفـيَّة)، لا إيديولوجيَّة، مِمَّا يصعبُ أو يتعذَّرُ تحقـيـقـُه بهذا “العقل العربيّ السجين” (انظر: ثالثًا، أعلاه)؛ الأمر الذي يوقِعـُـنا في “مسألة الدَّور” أو “الحلقة المُفرَغة”. لذلك كنَّا ولا نزال نُبشِّرُ بأهمِّيـَّة إنشاء المؤسَّسة الموسوعيَّة في المهجر، بغيةَ كَسر هذه الحلقة، عن طريق إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ، كما وردَ في ورقة عَمل ذلك المشروع.(أنظر الحاشية 12 من الفصل الثاني)

وليس بوسعي أن أتذكـَّر أيَّ أُمـَّـة لها مثلُ حضارتنا العريقة، أضرَّ بها ماضيها التالد إلى الحدِّ الذي أضرَّ بالأُمَّة العربيَّة. فنحن ننشأ منذ نعومة أظفارنا على تمجيد وتعظيم ماضينا وأسلافنا: في أُسرتنا أوَّلاً، ثمَّ في مدرستـنا، ومن خلال أدبنا شعرًا ونثرًا، وتمثـيـليَّاتـنا، وتاريخنا المكتوب بسطحيَّة إلخ... فننشأ مُشبَعين بفخر الأجداد وتعظيم السَّـلَف وتمجيد الماضي بل حتّى وضعه في منزلة تفضلُ منزلةَ الحاضر. ولا رَيبَ في أنَّ المقصودَ بكلِّ ذلك تحقيقُ أهدافٍ نبيلة؛ منها حَفزُ الهِمَم وإيقاظ العقول لاستعادة مجد الأجداد، وتحقـيق التـقـدُّم. بَيد أنَّ هذا التأكيد أَو التنويه الذي جرى على هذا النحو المكـثــَف، وبدون أن يقترن بالنقد العلميّ الموضوعيّ، قد أدَّى إلى عكس المطلوب تمامًا. فقد أسفر عن إمعاننا في التـلـذُّذ بأحلام الماضي وأمجاده وشخصيَّاته، غافلين واقعَنا الذي يزداد تخلـُفا. وفي هذا السياق، يقول الجابريّ:

"ماذا تغيَّر في الثقافة العربيـَّـة منذ الجاهلية إلى اليوم؟... آية ذلك أنـَّـنا نشعر جـميعًا بأنَّ امرأَ القـيس و عنترة و زهير و لبيد … و ابن عباس و علي بن أبي طالب و سيبويه و الشافعي والغزالي و ابن حنبل … والجاحظ tt و الأصمعي و الغزالي و الجُنَيد و ابن تَيميَّة ... و الطبري و المسعودي ... والفارابي و ابن سينا و ابن رشد و ابن خلدون إلخ... نشعر بهؤلاء جميعًا معنا هنا، أو يقـفـون هناك أمامنا على خشبةِ مسرح واحد، مسرحِ الثـقافـة العربيَّة الذي لم يُسدل الستارُ فيه بعد، ولو مرَّة واحدة" 19 .

وقلنا في مناسبة أخرى:

ونحن لا نريد، بل ليس من صالحنا، أن نسدلَ الستار على هذا المسرح العظيم لذلك التاريخ الحافل بكلِّ ما فيه من صفحات بيضاء وسوداء، وبكلِّ ما بينها من صفحات متـدرِّجة في العـتمة والبـياض، وبكلِّ ما فيه من مجدٍ ومآسٍ وانتصاراتٍ وانكسارات، بل يجب أن نُعيدَ كتابة هذه المسرحيَّة، ونُعيدَ إخراجها بعقولٍ ناضجة، بعـقـول العـصر الذي نعيشُه، بعقولٍ نقديَّة، صارمة في موضوعيَّتها وعلميَّتها،20 وأَلاَّ نظلَّ نُكرِّر عرضَ هذه المسرحيَّة كما كُتِبت وأُخرِجت في عصرها قبل أكثر من ألف عام، وعُرِضت مئات، بل آلاف المرَّات، بنفس الطريقة القديمة، فراحت تُؤثِّرُ وتُخاطبُ الجانبَ الساذج من عقولنا، فنـتأثـر بها كما يتأثر الطفلُ عندما يُشاهد مسرحيَّة رومانسيَّة أو شريطًا سينمائيًّا مثيرا، فيظـلُّ يعيش قصّـته وكأنَّ شخصيَّاتِه أحياء يُرزَقون، يأكلون ويشربون معه كلَّ يوم... وهذا ما حصل عندنا نتيجةَ كثرة التنويه والإشادة أو الاقـتباس من تاريخنا. فـنظرتـُنا إلى التاريخ لا تزال تعكس عـقـلـيـَّتـَنـا اللاتاريخيَّة، أي عدم إدراك السَّيرورة العاديَّة للزمن، وأنَّ اللحظةَ الراهنة تختلف عن أيِّ لحظة سابقة، يستحيل استرجاعها. وهذه السيرورة ترتبطُ بالتغيـيـر والتطوُّر الكونيّ؛ فكلُّ شيء في تغيُّر مستمرّ حتَّى الأشياء التي تبدو ثابتة مثل الجمادات.21

بَيدَ أنَّ التغيُّـرات التي تطرأ على المجتمعات والأفراد تكون أَشدَّ وأسرعَ وتيرةً من التطوُّرات التي تحدثُ في مملكة الجماد والحيوان، ولا سيَّما في العصر الحديث، بعد الثورة العلميَّة الأخيرة، حيث يقطعُ التقدُّمُ العلميُّ والتقـنيُّ خلال عقْدٍ من الزمان ما كان يقطعُه خلال ألف عام قبل القرن العشرين أو أكثر. ومع ذلك، فإنَّ العربَ في غَيبوبة عن هذا التقدُّم المذهِل، بل لا يزالون يستوردون حتَّى غذاءَهم وكساءَهم ودواءَهم من الغرب، فضلاً عن حاجتهم من وسائط النقل والأجهزة والمعدَّات الحديثة التي أصبحت من الضروريَّات في كلِّ الأوساط؛ علمًا بأنَّ عددَ الجامعات في البلدان العربيَّة أصبح يقارب 200 جامعة، خرَّجت ما يزيد على اثني عشر مليون خِرِّيج، منهم حوالى مليونَين من حَمَلة شهادة الدكتوراه و/أو المتخصِّصين في مختلف الفروع العلميَّة والهندسيَّة والتـقـنيَّة22. ومع ذلك، لم يُقدِّم هذا الجيشُ العظيم من الخِرِّيجين إلى الإنسانيَّة أيَّ إنجاز علميّ أو فكريّ خارق23، كما لم يـُـقـدِّم، على الصعيد الوطنّي، أيَّ عمل مُـتميّـِز يُحقـِق إنجازاتٍ عمليَّة يفيدُ منها العربُ على النطاق الإقليميّ أو القُطريّ... وذلك لأنَّ العقل العربيَّ يُعاني من التقليد والثبات وعدم إدراك أبعاد أهمِّـيَّـة الإبداع والتجديد. إنَّ استـيرادَ بعض المناهج الدراسيَّة من الغرب وتطبيقَها في مدارسنا وعلى طَلَبَتِنا يُشكِّلان هما الآخران نمطًا من أنماط التقليد والاتِّباع. إنَّ عقلَنا لم يُدركْ بعد، أنَّ التقليد، مهما كان، سواء تقليد السَّلَف (الأنا) أو تقليد الغرب (الآخر)، يُشكِّل انتهاكًـا لشرف العقل الذي دسناه بأقدامنا، في الوقت الذي نتسابقُ ونتزايد ونتباهى بقتل بناتنا غسلا للعار بمجرد الشبهة لحِفظ شَرفِنا الذي هوى إلى وانطوى، بدون خجل، في عُـذرية بناتنا وحجاب نسائنا، ناسين شرفـَنا الذي يُـنـتَهـَـكُ يوميًّا في فلسطين وفي العراق وفي لبنان وفي جميع أرجاء الأُمَّة العربيَّة، بل شرفنا الذي يُـنـتهَـكُ يوميًّا بفرار الملايين من أبنائنا، نساءً وأطفالاً ورجالاً، من جحيم معظم أجزاء العالَم العربيّ والإسلاميّ، وركوب الأخطار والتعرض للموت، فرارهم إلى ذات الدول التي استعبدتـنا وأذلتنا وانتهكت حرماتنا، طلبا لكسرة الخبز أو فتات الموائد، أو سعيا للحصول على الحرية بأنواعها، وخاصة حرية الفكر والتعبير والنشر والتنظيم والعمل. أو سعيا لمجرد العيش بكرامة دون تهديد أو وعيد.

  • * *

إستعرضنا في هذه الحلقة معانيَ كلمة “العقل” وتعريفاتها في اللُغات العربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة واللاتينيَّة، ثمَّ أتينا على المعنى الاصطلاحيّ لهذه الكلمة المستعمَل في هذا البحث، ثمَّ مـيَّـزنا بين العقل والفِكر، وتساءلنا عن وجود عقلٍ عربيّ مُتميِّز يتَّصلُ بالبيئة العربيَّة وبالتاريخ العربيّ–الإسلاميّ. وتحدَّـثـنا عن العقل العربيّ السجين في زنزانة القَهر الاجتماعيّ والسياسيّ، فضلاً عن التخلُّف والـتـبَعيَّة. ثمَّ انـتـقـلنا إلى صَدمة العقل العربيّ منذ حملة نابُليون على مصر في عام 1798، مرورًا بهزائم العرب أمام إسرائيل، ووصولاً إلى عواصف الصحراء التي أسفرت عن نكوص العقل العربيّ ولجوئه إلى الماضي والسَّلَف الصالح تعويضًا له عن فـشَـلِه وعن واقعِه المُرّ.

وسنُفصِّل في الحلقة القادمة مفهومَ “العقل المُجتمعِيّ اللاشعوريّ” الذي يتحكَّم في “العقل الفرديّ” للإنسان العاديّ، من حيث لا يدري، ويفرض عليه مفاهـيمَه وقـِـيـَمَه التي تمخَّضت عن السَّيرورة التاريخيَّة لذلك المجتمع. ثمَّ نُحاول تبيانَ أهمِّيـَّة استخدام “العقل الفاعل” في تخفـيف “سلطة العـقل المُجتَمَعيّ المطلقة”، من خلال استعراض "نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل"، وذلك استكمالاً لتحـقـيق النَّهج التـنظـيريّ الذي يمكنُ من خلاله النظرُ في تحرير العقل العربيّ، وبالتالي تحرير الإنسان العربيّ.

المراجع والحواشي

1. جميل صليبا، “المُعجَمُ الفلسفيّ” (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1973)، ج 2، ص 84.

2. انظرRaphael Patai, The Arab Mind (New York: Charles Scribner's Sons, 1986) :

3.Paul Edwards, Editor, The Encyclopedia of Philosophy (New York: Macmillan Publishing, 1967), Vols. V & VI, p. 337.

4. مراد وهبة، “المعُجم الفلسفيّ” (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص 457.

5.A. Lalande, Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, (Paris: Presses Universitaires de France, 6ème éd., 1988), article: “Raison”.

6. جميل صليبا، “المُعجَمُ الفلسفيّ”، المرجع السابق، ص 84 و85.

7. نعترف بأَنَّ هذا تعريفٌ تقريبيّ ناقص. ومع ذلك فإنَّنا لا نميل إلى التعريف “الجامع المانع” كما يُريدُه المناطقة التـقـليديّـُون، بل نُـفـضل التعريفَ المُتحرِّك والمُتطوِّر الذي يتقرَّب من مفهوم المعرَّف باستمرار، بل يُحاول أَن يُقدِّمَ فكرةً موجَزة عن المُعرَّف أحيانًا. لا سيَّما ولأنَّ اللغة تظلُّ تلهثُ وراءَ الفكر، وليس العكس، ولأنَّ الكلامَ سيأتي فيما بعد للإيضاح والتعميق. ومن جهةٍ أُخرى لا يسعُنا، في هذا المقام، الدخول في مُناقشات مفاهيم العقل التي بدأَت من هراقليطس وأنكساغوراس مرورًا بكبار الفلاسفة اليونانيِّين والعرَب، وانتهاءً بديكارت وسبينوزا وكانط وهيغِل وغيرهم من الفلاسفة المُحدَثـيـن.

8. أُحيل القارئ إلى المراجع المذكورة أعلاه للاستزادة، فضلاً عن The Cambridge Dictionary of Philosophy.

9. محمَّد عابد الجابريّ، “نقدُ العقل العربيّ: تكوين العقل العربيّ” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 5)، الجزء الأوَّل، ص 11.

10. المرجع السابق، ص 11 و12.

11. المرجع السابق، ص 24.

ملاحظة هامَّة: سنتحاشى الَخوضَ في خضمِّ النقد المكثَّف الذي يضطلع به المفكِّرُ الكبير جورج طرابيشي لأعمال محمَّد عابد الجابريّ، وخاصّةً ‘‘تكوين العقل العربيّ”. ومع أنَّنا قطعنا شوطًا كبيرًا في الاطِّلاع على ذلك النقد ودراسته، إلاَّ أنَّ ذلك لا يُخوِّلُنا تقديمَ أيِّ رأي سريع، أو بالأحرى مُبتسَر فيه، خاصَّةً أنَّ كِلا المفكِّرَين عزيز على نفس كاتِب هذه السطور وفكرِه. فقد أتحفني الطرابيشي من خلال كتابه الهامّ “المثقَّفون العرب والتراث” بحصيلةٍ ممتازة من الأفكار والمعلومات التي رجعتُ إليها في كثير من كتاباتي؛ بل اقتبستُ منه بعض العبارات نصًّا، وأشرتُ إليه في كثير من المناسبات. كما أوحى إليَّ الجابريّ بثروةٍ عظيمة من الأفكار التي لا أزال أعتزُّ بها. على أنَّ مقولةَ الجابريّ هذه التي اقتبسنا منها ما اقتبسنا في المَتن، لم يتعرَّض، على حدِّ علمنا حتَّى الآن، لها الطرابيشي الذي صرفَ ما لا يقلُّ عن عقدٍ من حياته لنَقد الجابريّ، فأخرج لنا مؤلَّفَين مهمَّين يحتويان على ثروة هائلة من الأفكار والمعلومات والمراجع الشديدة الأهمِّـيَّة لكلِّ باحث. انظر “نقد نقد العقل العربيّ، نظريَّة العقل”، و“نقد نقد العقل العربيّ، إشكاليَّات العقل العربيّ”، (بيروت/لندن: دار السافي، 1996، و 1998).

12. جورج طرابيشي، “نقد نقد العقل العربيّ، نظريّة العقل” (بيروت/لندن: دار الساقي، 1996)، ص 57.

13. علاء الأعرجي، “على هامش نظريَّة العقل: اللاشعور المَعرِفيّ للفرد والمجتمع”، دراسة نُشِرت في ثلاث حلقات تحت عناوين فرعيَّة: “فشلَت نهضتُنا لأنَّنا أهملنا استخدامَ عقلنا الفاعل”، و“العقل التاريخيّ عند العرب يكاد يكون مفقودًا” و“نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل وتأثيرها عربياًّ” (انظر صحيفة “القدس العربيّ” لندن في 16 و 17 و 18 حزيران/يونيه 1997).

14. حاولنا مثلاً في الدراسة المُشار إليها سابقًا (في المرجع 13) أن نعملَ على توظيف وتَبيئة التعبير الذي استخدمَه بياجيه Piaget ، نقلاً عن الجابريّ، وهو “L’inconscient cognitif” ، في وضع فرضيَّة “العقل المُجتمعيّ اللاشعوريّ ” (انظر J. Piaget: Problèmes de psychologie génétique, Paris, Deuvêl Gonthier, 1972)، حيث توسَّعنا فيها إلى الحدِّ الذي خرجَت عن مفهومها الأساسيّ وتجاوزَته بل استقلَّت عنه؛ علمًا بأنـَنا على اطِّلاعٍ كافٍ على النقد الذي وجَّهه جورج طرابيشي إلى محمَّد عابد الجابريّ، لدى استخدامه هذا التعبير ومُحتواه المفاهيميّ، الذي لا نرى أنَّه يـُـؤَثـِر على الفرضيَّـة التي توصلناا إليها بشأن “العقل المُجتمَعيّ اللاشعوريّ”. انظر الجابريّ، “ تكوين العقل العربيّ”، المرجع السابق، ص40؛ كذلك، طرابيشي، “إشكاليَّـات العقل العربيّ” (بيروت/لندن: دار السافي)، ص 294 وما بعدها.

15. في سياق تسلُّط القِيَم البدويَّة أنظر الهادي شقرون، "نقد العقلية العربية"(تونس: التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، 1985)، و علي الوردي،"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"(بغداد: مطبعة العاني،1965). كذلك نشرنا عدة أبحاث ودراسات، أنظر الحاشية 21في الفصل الثاني.

16. وفي هذا السياق الذي ينتسب إلى إشكاليَّة السلطة الأبويَّة، انظر كـتـبَ هشام شرابي، وخاصَّة “النقد الحضاريّ للمجتمع العربيّ في نهاية القرن العشرين”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1990)، و“النظام الأبَويّ وإشكاليَّة تخلُّف المجتمع العربيّ” (نفس الناشر، 1993).

17. أنظر الفصل الأول.

18. فصّلنا ذلك في بحث أشرنا فيه إلى خطورة زيادة سعَة هذه الفجوة التي تفصلُنا عن الحضارة الغربيَّة. ففي الوقت الذي قد نتـقدم فيه خـطوات قليلة، يتـقـدمُ العالَمُ الغربيُّ فراسخ عظيمة؛ فالمسافة التي كانت تفصلنا عنه قد تضاعفت عدَّة مرَّات منذ نهاية الحرب العالميَّـة الثـانية، وبعد استقلال البلدان العربيَّة، مِمَّا أسفر عن استعادة النفوذ والاستغلال والسيطرة، على نحوٍ أشدَّ وأدهى وأسهل. وتعتـَبرُ “العَولمة” (أو النظام العالَميّ الجديد) أَحد مظاهر ذلك النفوذ. (انظر “على هامش مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة في المهجر؛ واقعيَّة تخـلـفنا”، لندن: صحيفة القُدس العربيّ، 1/8/1996.)

19. محمد عابد الجابريّ، “نقد العقل العربي" ، الجزء الأوَّل، “تكوين العقل العربيّ”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، جماعة الدراسات العربيَّة والتاريخ والمجتمع، ط 5، 1991)، ص 38 و 39.

20. علاء الأعرجيّ، “على هامش مشروع المؤسَّسة الموسوعيَّة، في سبيل إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ”، (لندن: القُدس العربيّ، 29 و30 آذار/مارس 1997). عالجنا في هذا البحث أهمِّيـَّة إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ، تحقيقًا للبند الرابع عشَر من ورقة العمل الخاصَّة بمشروع الموسوعة العربيَّة الشاملة، التي شدَّدَت على هذه النقطة، لأنَّ التاريخ العربيَّ الإسلاميَّ لم يُكتَب بعد. فأمَّا ما كُتِبَ عنه حتَّى الآن، فإنَّه إمَّا وردَ بأقلام المُستشرفين الأجانب، أو بأقلام العرب المسلمين، وفي كِلتا الحالتَين فإنَّ هذه الكتابات كانت ولا تزال مُتأثِّرة إمَّا بنزعة “الآخَر” أو بنزعة “الأنا”، مِمَّا لم يُسفِر، في معظم الأحيان، عن مُعالجة الوقائع التاريخيَّة وتحليلها بموضوعيَّة علميَّة صارمة، وإصرارٍ على اكتناه أبعد الأعماق، وعلى الإدراك المتعدِّد الأبعاد، للمُكوِّنات المحتَمَلة لكلِّ قضيَّة.

21. النص مقتبس من بحث منشور تحت عنوان "على هامش نظريَّة العقل: اللاشعور المعرِفيّ للفرد والمجتمع" (المرجع السابق المذكور في الحاشية 13 أعلاه).

22.أنطون زحلان، “العرب وتحدِّياتُ العلم والتِّقانة: تقدُّم من دون تغيير” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1999)، ص 28.

23. إنَّ نَيل العالِم العربيّ المصريّ، أحمد زُوَيل، جائزة نوبل في الكيمياء، ما كان أن يَتمَّ لو ظلَّ هذا العالِم عاملاً في الجامعات العربية.


الفصل الرابع: تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربي(2)

مدخل إلى نظرية العقل المجتمعي ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل

أشرنا في الفصل السابق إلى تعريفات العقل وخلصنا إلى تعريفه بقدر ما يتعلَّق بهذه الدراسة، باعتباره تلك المَلكة التي يُمكنُ للفرد أن يقومَ من خلالها بالحُكم على الأمور، أو تلك "الأداة" الفكريَّة التي يستخدمها المرءُ للحُكم والتمييز بين الأُمور، وتقويمها، من حيثُ خيرُها وشرُّها، وحسنـُـها وقبحُها، وصحَّـتـُها وخطأها... وتتكوَّن هذه الأداة تدريجيًّا لدى الفرد، منذ ولادته، وتظلُّ تنمو معه، أو تتضاءلُ حتَّى وفاته. وتـتـشكـَّلُ من عنصرَين أساسيَّين هما الوراثة Genetics ، والبيئة أو المحيط Environment ؛ ويدخلُ في العُنصر الأخير كلُّ ما يتلقَّاه الإنسانُ من مُؤثِّرات خارجيَّة، منذ لحظة ولادته، بما فيها تربيتـُه العائليَّة والمدرسيَّة وعلاقاتُه الاجتماعيَّة والمفاهيمُ والقِيَمُ المُجتَمعيَّة إلخ.

أمَّا الوراثة فنقصدُ بها الخصائصَ المَوروثة من الآباء والأجداد (إلى نهاية غير معروفة) التي تحملُها الصَّبغيَّاتُ الوراثـيـَّة (الكروموسومات) بما فيها من جينات تنطوي على برامجَ مُحدَّدة من الـ"دي.أن.أي" تُشكِّل اللُّغة الإحيائيَّة التي تتحدَّدُ بها خصائصُ كلِّ كائنٍ حَيِّ. 1

إنَّ هذا التفاعُلَ المُعقَّد الذي يجري بين هذين العنصرَين الأساسيَّين (العوامل الوراثيَّة والعوامل البيئيَّة) يتمخَّض عن تكوين "عقل الإنسان" أو بالأحرى عن "الإنسان ذاته"، في صفاته

وخصائصه، ولاسيما في أدوات تفكيره وبالتالي سلوكه بوجهٍ عامّ.


العقلُ المُجتمَعيُّ" ذاكرةُ المجتمع وهُويَّـتُه

وقد افترضنا أنَّ هناك "عقلاً مُجتمَعيًّا لا شعوريًّا" يتكوَّن لدى أيِّ مجتمعٍ نتيجةَ تراكُم الماجَريات التي مرَّت على المُجتمع خلال سَيرورته التاريخيَّة وصَيرورته المُجتمَعيَّة، أي تشَكُّلِه الهيكليّ أو البِنيَويّ، باعتباره مجتمعًا مُتميِّزًا. لذلك فإنَّ كلَّ مجتمعٍ يحملُ في طيَّاتِ كيانه (أو عقله) قِيَمًا وأعرافًا وقواعدَ ومعاييرَ مُتميِّزة تُشكِّلُ خصائصَ ذلك المجتمع.

قد يُعتَرضُ على هذه الفرضيَّةِ/النظريَّة الخاصَّة بالعقل المُجتمَعيّ بأنَّ العقلَ ميزة خاصَّة بالإنسان دونَ غيره، ونابعةٌ من "شخصيَّـته"، فنقول:

إنَّنا نفترضُ كذلك أنَّ للمُجتمع "شخصيَّةً معنويَّة" أو شخصيَّةً اعتباريَّة تُشبه إلى حدٍّ بعيد الشخصيَّاتِ الاعتباريَّة التي تكـتسبـُها الجمعيَّـاتُ والمؤسَّساتُ والشركاتُ التي يؤلـّـِفـها الأشخاصُ الحـقـيـقـيُّون. وهي لا تختلف عن الشخصيَّة الاعتباريَّة التي تكتسبها تلك الهيئاتُ إلاَّ من ناحية كونها موجودةً بحُكم الواقع DE FACTO لا بحُكم القانون DE JURE . وهي في طريقها لاكتساب الوجود القانونيّ، أو بالأحرى قد اكتسبَت الوجودَ القانونيّ أحيانًا. ألا يُعتبرُ "الاتِّحادُ الأوروبيّ" شخصيَّةً اعتباريَّة قانونيَّة، إذ إنـَّـه يُمثِّل مجتمعًا يتميَّـز بصفاتٍ مُشتركة وتاريخٍ مُشترك وثقافةٍ مُعيَّنة، فضلاً عن المصالح الاقتصاديَّة المشتركة؟ ألا تُـشكِّـلُ "الجامعة العربيَّة" كيانًا اعتباريًّا ذا شخصيَّةٍ قانونيَّة دوليَّة تُمثـِّل مجتمعًا يتميَّز بخصائصَ مُحدَّدةٍ وتاريخٍ مشترك ولغةٍ واحدة وثقافةٍ وتُراث إلخ؟ كذلك الأمر بالنسبة لـ"منظَّمة الوحدة الإفريقيَّة"(الاتحاد الأفريقي) أو غيرها من المنظَّمات الإقليميَّة والشعبيَّة أو الأهليَّة، وهلمَّ جرًّا.

وقد يُقال إنَّ للإنسان ذاكرةً تـُشكِّـل الجانبَ الشعوريّ أو اللاشعوريّ لعقله الذي يُشكـّـِل شخصيَّته المتميِّزة، فكيف يمكن أن نتصوَّر أنَّ للمجتمع ذاكرة ً يختـزنُها عقـلُه المزعوم؟ فنقول:

إنَّ للمجتمع ذاكرةً أيضًا، بل إنَّ ذاكرةَ المجتمع أقوى آلافَ المرَّات من ذاكرة الإنسان العاديّ، لأنَّها تحملُ جميع ما مرَّ بالمجتمع من أحداثٍ وتجارب، منذ أقدم عصوره حتى اليوم، بل أكثر من ذلك، إنَّها تحملُ نتائج الأحداث التي لا نعرف عنها شيئا، لأنـَّها ضاعت في بطون التاريخ غير المسجَّل وغير المعروف. وإذا علمنا بأنَّ معظمَ تاريخ البشريَّة مجهولٌ، وأنَّ معظمَ تاريخ أيِّ مجتمعٍ ضائعٌ، فينبغي أن نعلمَ كذلك أنَّ ذاكرةَ المجتمع تحمل جميع هذه الحلقات الضائعة. لذلك علينا أن نـُحلـل ذاكرةَ المجتمع هذه لعلنا نتوصَّل إلى تلك العناصر الضائعة من تاريخ البشريَّة. فهناك آلافُ التقاليد والأعراف والقِيَم والمعتقدات التي يحملُها كلُّ مجتمع لا تزال مجهولةَ الأُصول التاريخيَّة؛ بل يذهبُ عُلماءُ الأنتروبولوجيا للبحث عنها لدى الشعوب البدائيَّة باعتبارها تُمثــِّل فجرَ التاريخ البشريّ.

وقد يُقالُ إنَّ للإنسان عقلاً يـُميّـِزُ به بين الخير والشرّ والصالح والطالح، ويُعبِّر عنه في كلِّ تصرُّفاته، فبأيِّ وسيلةٍ يُميِّزُ "العقلُ المُجتمَعيّ" بين الخير والشرّ والحَسن والقبيح، أي كيف يُعبِّر عن نفسه؟ فنقول:

إنَّ للمجتمع كذلك هذا العقلَ المميِّز. ويعبِّر عن عقله ذاك عن طريق "خلاياه الحيَّة"، وهُم الأفراد المُكوِّنون لجسمِه وكيانِه، الناطقون باسمه، والُمتحدِّثون بلسانه، والمُدافعون عن قِيَمه وإيديولوجيَّته. فهم ينظرون إلى الأشياء بعقل مجتمعهم ذاك، ويُميِّزون بين الخير والشرّ والصالح والطالح والحَسن والقبيح استنادًا إلى ما يراه عقلُ ذلك المجتمع.

والمُفارقة الصارخة، المُضحِكة المُبكِية، أنـَّنا جميعًا ضحايا ذلك العقل الجبَّار والحاكِم المُطلَق، حينما نُدافع عن قِيَمنا وتقاليدنا وتُراثنا ومُعتقداتنا، بل حتَّى عن آمالنا وتطلُّعاتنا، إذْ نتصوَّر أنَّنا نُعبِّر عن آرائنا وأفكارنا. وفي الواقع نحن نعبِّر عن الآراء التي تدور في عقل ذلك المجتمع، إذْ يفرضُها علينا فرضًا من حيث لا ندري ولا نشعر.

ولئن قلنا إنَّ العقلَ البشريّ ما هو إلاَّ المحصِّلة النهائيَّة للعوامل الوراثيَّة والعوامل البيئيَّة، فإنَّ العوامل الأخيرة ما هي في الواقع إلاَّ العقل المُجتمَعيّ الذي يُغذِّي الفردَ منذ طفولته بإيديولوجيَّته ومفاهيمه وقِيَمه. لذلك ينشأ الفردُ خاضعًا لتلك المفاهيم والقِيَم. ونادرًا ما يتساءل عن صلاحيَّتها وهُويـَّتها وعقلانـيَّـتها وجذورها. وهنا هنا يدخل دورُ "العقل الفاعل"، حينما يشرع بهذا التساؤل في مقابل "العقل المنفعل" الذي يخضع للعقل المُجتمَعيّ دون أيِّ اعتراض.


نحو إرساء نظريَّة العقل الفاعِل والعقل المُنفعِل

لدى الشروع بالنظر في كتاب "تكوين العقل العربيّ" لمحمَّد عابد الجابريّ، منذ سنوات، استرعى انتباهي، بوجهٍ خاصّ التميـيـزُ الذي أقامه لالاند A. Lalande بين العقلِ المُكوِّن(بالكسر) أو الفاعل La raison constituante والعقلِ المُكوَّن(بالفتح) أو السائد La raison constituée، حيث عرَّفَ الأوَّل بأنَّه :"النشاط الذهنيّ" الذي يقوم به الفكرُ حين البحث والدراسة، والذي يصوغ المفاهيم ويُقرِّر المبادئ؛ وبعبارة أُخرى إنَّه : "الملَكة التي يستطيع بها كلُّ إنسانٍ أن يستخرجَ من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئَ كـُـلـِّـيِّة وضروريِّة، وهي واحدة عند جميع الناس." أمَّا الثاني، أي العقل المُكوَّن، فهو: "مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالنا،" وهي على الرغم من كونها تميلُ إلى الوحدة، فإنَّها تختلف من عصرٍ لآخر، كما قد تختلف من فردٍ لآخر. يقول لالاند: "إنَّ العقلَ المُكوَّن، والمتغيِّر وإن يكُن في حدود، هو العقل مثلما هو كائنٌ في حقبةٍ زمنيَّةٍ معيَّنة. فإذا تحدَّثـنا عنه بالمفرد (العقل)، فيجبُ أن نفهم منهُ العقلَ كما هو في حضارتنا وفي زمَنِنا"؛ وبعبارةٍ أُخرى إنَّه "منظومةُ القواعد المقرَّرة والمقبولة في فترةٍ تاريخيَّةٍ ما، والتي تُعْطى لها خلال تلك الفترة قيمة مُطلقة."2

ومع أنَّ هذه التعريفات قد تكون مُقارِبة، بعض الشيء، لمفهوم العقل المُكوِّن الفاعل والعقل المكوَّن السائد، إلاَّ أنَّني وجدتُها غامضة، وربَّما تؤدِّي إلى الَخلط بين هذين المفهومَين، وذلك خلافًا لكتابات الجابريّ الأُخرى التي تتميَّز بالدقَّة والوضوح. 3

ولئن عدتُ إلى بعض الأصول التي يعتمدُ عليها الجابريّ ومنها "مُصطَلحُ الفلسفة التـِّـقـنيّ" للالاند،4 وحصلتُ على خلفيَّاتٍ ومعلوماتٍ مفيدةٍ عن هذين المُصطلحَين، غير أنَّ الغموض ظلَّ قائمًا في ذهني بشأن التعريفات المطروحة سابقًا.

ولدى إمعاني النظرَ في كتاب جورج طرابيشي في "نظريَّة العقل"، لاحظتُ أنَّني لستُ وحدي الذي كنتُ أُعاني من هذا الغموض بل التناقض أحيانًا، لأنَّ الطرابيشي نفسه قد لاحظ ذلك، حتَّى بعد العودةِ إلى الأُصول. 5

بيدَ أنَّني حاولتُ الاستفادةَ من هذَين التعبيرَين في تحليل سلوك العقل البشريّ وتفسيره، بعد التصرُّف والتوسُّع في مفهومَيهما، وإجراء التعديل اللازم على اللفظ الثاني، ابتغاءً لقراءتهما على النحو التالي: "العقل الفاعل" La raison active و"العقل المنفعل" La raison passive . وهكذا تجاوزنا مفهوم كل من هذين المصطلحين الوارد لدى لالاند أولا ثم الجابري ، ليُـصبحَ لكلٍ منهما مفهومٌ واضحٌ وجديدٌ يضعنا في طريقِ إنشاءِ نظريةٍ تحللُ وتفسرُ مظاهرَ التقدم ِ والتخلفِ في المجتمعات، وتكمل نظرية العقل المجتمعي وترفدها، بالتفصيل الوارد أدناه.

وسنُحاول أن نُعرِّفَ أوَّلاً "العقل المُنفعِل"، لأنَّه سيُوضِّح مفهوم "العقل الفاعل" على نحوٍ أفضل، فنقول:

هو تلك الملَكة التي يكتسبُها الفردُ من مُحيطه، ويستخدمُها في التفكير والتعامُـل مع الآخرين، واتِّخاذِ قراراته التي يُميِّز بها بين الصالحِ والطالح، والصحيحِ والخطإ، والخير والشرّ، في إطار مجتمعٍ مُعيَّن، وفي حدود زمنٍ معيَّن؛ أو هو مجموعةُ المبادئ والمعايير التي يفرضُها "العقلُ المُجتمَعيّ" (كما حددَّناه سابقًا)، والتي يتَّخذُها الفردُ مِقياسًا لمعظم أحكامِه وقراراتِه.

فنحن حين نُفكِّرُ أو نتعاملُ مع الآخرين، أو نتَّخذُ قراراتِنا، نضعُ غالبًا في اعتبارنا، شعوريًّا أو لا شعوريًّا، المُستلزَماتِ والقـيّم التي يفرضُها المجتمع،ُ والتي نخضعُ لها عادةً أو نحترمُها في الغالب، شئنا أو أبَينا، وهي مُتغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.

أمَّا تعبيرُ "العقل الفاعل"، فإنه يدلُّ على تلك الملَكة الذهنيَّة الطبيعيَّة التي تولَد مع الإنسان، ثمَّ تَضمرُ تدريجيًّا، بسبب تأثير العقل المُنفعِل وسيطرته على العقل الفاعل، وقد تنمو لدى بعض الأشخاص، فتـُؤَدِّي إلى تساؤلِها عن قيمة مبادئ المجتمع وأعرافِه ومُعتـقـداتِه ومدى مِصداقـيَّـتها وصلاحيَّـتها للعـقـل الفاعل وللمجتمع؛ أو قد تـُحاور، لِمامًا، "العقلَ المُنـفعـِل" و/أو تـُجادلُه، و/أو تحـلِـلـُه وتحاسبُه على ما يحملهُ من قِيَمٍ ومفاهيم ليست من مُبتكَراتِه، بل ممَّا فرضَه عليه العقلُ المُجتمَعيّ.

يُلاحَظُ من ذلك أنَّ "العقل الفاعل" يُمثِّلُ الجانبَ الطبيعيّ "الحُرّ" من عقل الإنسان، الجانب المُتحفِّز المُتسائل والمُشكِّك والمُبدِع والمُتطلِّع نحو اكتشاف آفاقٍ جديدة في كلِّ شيء، سواءٌ على صعيد الإنسان ذاته أو في ميادين مجاهيل الحياة والطبيعة والكون، أو على صعيد مجتمعه.

وانطلاقًا من هذَين التعريفَين، وإيضاحًا واستكمالاً لفرضيَّة أو نظرية العقل الفاعل والعقل المُنفعِل، وأهمِّـيَّتها على الصعيد الفرديّ والاجتماعيّ، لا بدَّ من إيرادِ هذه المُلاحظات الاستقصائيَّة المُختصرة:

1- يولَدُ كلُّ فردٍ بعقلٍ واحد هو "العقل الفاعل"، الذي يكون في مُنطلقاته الأُولى عقلاً "بِدائيًّا" أقربَ إلى الغريزة منه إلى "العقل الناضج"، ولكنَّه قد يزدادُ نموًّا خلال سنوات العُمر التالية.

ولدى اختلاط الفرد بأعضاء المجتمع الآخرين، بأبوَيه أوَّلاً، ثمَّ رفاقِه ومُدرِّسيه فيما بعد، يبدأُ الصراعُ بين العقل الفاعل الطبيعيّ والعقل المُجتمَعيّ المُكتسَب، الذي يُغذِّي العقلَ المُنفعِل، وتكون الغَلبةُ للعقل المُنفعِل عادةً، لأنَّه هو العقلُ السائد. فيبدأ الطفلُ في تعلُّم الخضوع للقواعد التي يسلُكها المجتمع، لأنَّه سيُعاقَبُ لو عصاها، بشكلٍ أو آخر، وإذا اتَّبعها فإنَّه سينال رضا أبوَيه ومُعلِّميه أو اعجابهم ؛ لذلك فلا مفرَّ من اتِّباعها في العادة.

وفي هذا السياق، فإنَّ المُجتمعات تتفاوتُ في مدى فَرضِ تلك القواعد واحترامها؛ فكلَّما ارتفعَ المجتمعُ في سلَّم التطوُّر والتقدُّم والديمقراطيَّة، بالمعنى الحديث، مُنِحَ الطفلُ قَدرًا أكبر من الحرِّيـَّة والاختيار. وكلَّما انخفضَ في ذلك السلَّم، كان العكسُ صحيحًا. ومع مُراعاةِ النتائج الإيجابيَّة والسلبيَّة لهذه الحُرِّيـَّة، وتفاوُتِ الأفراد في الاستفادةِ منها أو إساءةِ استعمالها، فإنَّ نتائجَ الأبحاث النظريَّة والعلميَّة الحديثة رجَّحتْ أنَّ منحَ الطفل قَدْرًا مُعيَّـنًا من حُرِّيـَّة التصرُّف -أي استخدام عقله الفاعل- المصحوبة بحُسن التوجيه والـتـثـقـيف والتعليم دون ضغطٍ أو تلـقـين، يُؤدِّي، بالنسبةِ للأغـلبـيَّة العُظمى من أفراد المجتمع، إلى بناءِ شخصيَّة الفرد، وحَـفـْـزِ قُدراته الذاتـيَّـة للخلقِ والإبداع.6

وعلى صعيدِ المجتمع العربيّ، فقد تعوَّدنا منذ نعومة أظفارنا الخضوعَ لـ"العقل المُجتمَعيّ"، أو بالأحرى تعزيزَ عقلنا المُنفعِل على حساب عقلنا الفاعل. وذلك أسفرَ عن إنشاءِ جيلٍ واهن قـلما يُحقـِق مُنجَزاتٍ كبيرة، سواءٌ على الصعيد الشخصيّ، أو على الصعيد المُجتمَعيّ. لذلك فإنَّ إنشاء 200 جامعة في الوطن العربيِّ، وتخريج قرابة 12 مليونا من المتعلِّمين والمتخصِّصين، لم يتمخَّض عن تحقيق نتائجَ كافية سواءٌ على الصعيد الاقتصاديِّ أو الاجتماعيِّ أو العلميِّ، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة(الفصل السابق)7.

إنَّ الضغطَ المُجتمَعيّ والسياسيّ والإعلاميّ الذي يتعرَّضُ له الناشئُ في مختلف مراحل حياته، يُؤدِّي إلى قَتل روح الاستقلال والتـفـتُّح والإبداع. وهذه هي الخطوة الأولى التي يجب أن نهتمَّ بها لدى بحثنا في تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربيّ (وأحدُهما يرتبطُ بالآخر ارتباطًا عُضويًّا)، وأعني التربية أو التعليم القائم على تشجيع إعمال الفكر وحَفز القـُدرات الإبداعيَّة في مُختلف المراحل، بدلاً من التـلـقـين والحِفظ والـتـقـليد.

2- في بداية سنوات العُمر يُغذِّي العقلُ الفاعل العقلَ المنفعل بنتائج انطباعاته وتجاربه المُستخلَصة من اتِّصالات الفَرد بالآخرين، أُسرتِه أوَّلاً ثمَّ مدرستِه ورفاقِه فيما بعد؛ وهذا العـقـلُ الفاعل هو الذي يُـقرِّر أوَّلاً ما يجبُ أن يُغذِّيَ به العقلَ المنفعل من قواعدَ ومبادئ. ولئن يُلاحظ الفردُ أنَّ هناك أمورًا مقبولة ومُـتـَّبعة من قـِـبـَل الآخرين، غير أنَّه لا يُحبُّها، وأُمورًا غير مقبولة من جانب الآخرين، بيدَ أنه يُحبُّها، فأنـَّه يُحاول أن يُوازنَ ويُقارنَ ويُعادل، من خلال عقله الفاعل، مقدارَ ما يحصلُ عليه إن تخلَّى عن رغباته المُحبَّبة، إكرامًا لرغبات الآخرين، أو بالأحرى إكرامًا للقواعد التي يفرضُها المجتمع - قبولُ الآخرين له و/ أو إعجابُهم به- أو ما يفـقـدُه أو يُعانـيه إن اتَّبع أوامرَ عقلِه الفاعل التي تُمثــِّل رغباتِه: غضب الآخرين عليه أو مُعاقبته.

إنَّ حصيلةَ هذه المُوازنة الصعبة والمعـقـدة، والتـلقائـيَّة أحيانًا، هي التي تحدِّد وتـُـقـرِّر مدى التزام الفرد اتـِّباعَ قواعد "العقل المُجتمَعيّ"، وبالتـَّالي مدى تغلـُّب العقل المُنفعِل على العقل الفاعل، أو ضمور العقل الفاعل لمصلحة العقل المنفعل. وفي الأحوال العاديَّة فإنَّ العقل المنفعل هو الذي يكسبُ هذا السباق.

3- وتدريجيًّا يحلُّ العقـلُ المُنـفعـِل محلَّ العقل الفاعل في ميدان التمييز بين الأُمور، أي إنَّ "العقلَ المُجتمَعيّ" يُسيطرُ بالتدريج على عقل الفرد عامَّةً وعلى عقلِه الفاعل خاصَّة، لمصلحة عقله المنفعل، الذي يبدأ بالتطوُّر تدريجيًّا حتَّى يصلَ إلى المرحلة التي يصبح فيها الفردُ الناضج يُدافعُ عن قِيَمِ مُجتمَعِه ومعاييرِه وقواعدِه بحماسٍ وإخلاص، لأنَّ عقلَه المنفعِل قد أدرك مرحلة النضوج بل الازدهار. يُدافع عنها باعتبارها تـمثــِّل عقلَه هو لا عـقـلَ المجتمع الذي يعيش فيه. وفي هذه الحالة، وهي السائدة والغالبة في مُختلفِ المُجتمعاتِ، وفي مُجتمعاتـِنا العربـيَّـة والإسْلاميَّـة خصوصا ً، يُصبحُ الفردُ ناطقا ًبلسان مجتمعهِ، أو يتحوّل بالأحرى إلى دُميةٍ يُحرِّك خيوطـَها العقـلُ المُجتمَعيّ.

4- ومع ذلك، فإنَّ العقـلَ الفاعل قد لا يموت نهائيا ً لدى فئةٍ من الأشخاص، بل يظـلُّ قابعًا ومُنـزويًا في أعماق ذات الإنسان، في جزءٍ ممَّا يُسمِّيه فرويد "العقل الباطن"، أو ما يُسمِّيه أرسطو بالوجود بـ"القوَّة" لا بـ"الفِعْل". وقد يظهر بين حين وآخر لدى أفراد هذه الفئة حين اعتراضهم أو ثورتـهم على القواعد والمبادئ المُتعارَف عليها في المجتمع، أو يظهر بشكلٍ واضح ٍ ومركـَّـز لدى قلائلَ جدًّا من الأفراد الذين يشرعون، عن طريق استخدام "عقلهم الفاعل" هذا، بتحليلِ وتقويمِ مفاهيم المجتمع، أو "العقل المُجتمَعيّ"، و/ أو قِيَمه، أو معارفه، أو مبادئه، ويتساءلون عن مِصداقيـَّـتِها وصلاحيَّتها، تمهيدًا لمحاولة تعديلها أو تكييفها أو إلغائها.

ويدخلُ في هذا الرَعيل الأنبياءُ والعباقرةُ من العُلماء والفلاسفةِ والمصلحين الاجتماعيِّين مِمَّن تمكـَّـنوا من تغيـير وجه المجتمع والتاريخ بفكرهم أو بمُكـتـشـفاتهم وكفاحهم. وقد لقيَ هؤلاء البارزون من الأشخاص، على مرِّ التاريخ، صنوفا ً من الصَّدِّ والردِّ والعقاب والتعذيب، بل القتلِ أحيانا.ً

5- ومعنى ذلك أنَّ هؤلاء الأشخاص قد أخذوا باستخدام عقلهم الفاعِل لِمُحاسبة عقلهم المُنفعِل، وتحليل مفاهيمه وقِيَمِه ومُعتقداته، والتمييز بين صالحها وطالحها، وتبعا ً لِمِصداقـيـَّـتِـها وصلاحيَّتها، بالنسبة لهم، ولحاضر المجتمع الذي يعيشون فيه ومستـقـبله.

وبعبارةٍ أُخرى فإنـَّهم قد أدركوا شعوريا ً أنَّ لعقلهم وجهـَيـن، وجهًا "مُنفعلا ً" ووجهًا "فاعلا ً". فراحَ الوجهُ الفاعل ينظر في وجهه المقابل "المُنفعِل"، يُحاورُه ويُجادلُه، وربَّما يعترضُ أو يثورُ عليه، كما أشرنا إليه في تعريف "العقل الفاعل".

وفي هذه المرحلة نفسها نصلُ إلى ما أسماه الجابريّ خاصَّة "التفكير بالعقل في العقل". يقولُ في هذا السياق: "التفكير في العقل درجةٌ من المعقوليَّة أسمى بدون شكٍّ من درجة التفكير بالعقل..."8

وليس الجابريّ وحده الذي ينطقُ بهذا الرأي، بل يوافـقه في ذلك عدة كُــتـَّاب وفلاسفة يُشيرُ إليهم جورج طرابيشي، بعنايةٍ مشكورة، في كتابه المُكرَّس لنَقد آراء الجابريّ بل تفـنيدها.9 منهم على سبيل المثال: أحمد فؤاد الأهواني الذي يقول، في مقدِّمة الجزء الرابع من "ظُهر الإسلام" لأحمد أمين، إنَّ "النظرَ بالعقل في العقل هو الفلسفة على وجه التحقيق"؛10 ومحمود قاسم الذي يقول: "إنَّ تفكير العقل في مفاهيمه يُمثـلُ درجةً من المعقوليَّة أسمى من تفكير العقل بمفاهيمه"؛ ولالاند نفسُه الذي يتحدَّث عن انتفاضةِ العقل على نفسه وانعتاقِه من العقل المكوَّن (أي المنفعِل بتعبيرنا)، ليُعاد اشتغالُه كعقلٍ مُكوِّن (أي فاعل)11. كما أتذكَّر أنَّني قرأتُ نفسَ الرأي لألبرت اشفـَيتـزِر Albert Schweitzer، في كتابه "فلسفة الحضارة" The Philosophy of Civilization.

إنَّ "التفكيرَ في العقل" يُمثِّلُ نوعًا من "انعكاس الفكر على ذاته"، فتُصبحُ "الذات" موضوعًا للإمعان الفكريّ، بدل أن يكونَ "الموضوع" ميدانًا للعمل الفكريّ في الأحوال الاعتياديَّة. فنحن نفكِّر عادةً في أمورٍ خارجةٍ عن ذواتنا تُسمَّى "الموضوع"، مثل الأحداثِ الجارية والأشخاصِ الآخرين، والأفكار الصادرة عنهم. أمَّا إذا فكَّرنا "في عقلنا"، فمعنى ذلك أنَّ العقل أصبحَ "موضوعًا" للتفكير. وهذا ما يُسمَّى "التفكير بالعقل في العقل". ونظريَّـة "العقل الفاعل والعقل المنفعِل" تـُنـَظـِّرُ Theorizes وتـُعَـقـْـلـِنُ Rationalizes وتـُـقـرِّبُ إلى الأذهان "نظريَّةَ انعكاس الفكر"12 التي ترتبطُ بتلك النظريَّة بوثوق، من حيثُ أنَّ العقـلَ البشريّ ينعكسُ أحيانًا على ذاته كعقلٍ فاعل، أو من خلال جانبه "الفاعل" ليتأمَّـلَ جانبَه الآخر "المنفعِل". وهكذا نرى أن العقلَ الفاعل يضطلعُ بأدوارٍ ثلاثة أساسيَّة هي:

أ- التفكيرُ في ذاته هو كـ"عقلٍ فاعل"، يتأمـلـُها ويستقصيها ويستبطـنـُها، ويُلاحظ مدى استقلالها عن العقل المنفعِل، من جهة؛ ومدى قُدرةِ الذات العاقلة الفاعلة على استخراج المبادئ الكـُـلـِّـيَّة والضروريَّة من إدراك العلاقات بين الأشياء، فضلاً عن استنباط الدليل لإثبات المدلول أي الوصول إلى الاستدلال Inférence الصحيح، قدر الإمكان، دون التـأثــُّر بأيِّ تأثيرٍ مُسبقٍ أو بعامل اجتماعيٍّ أو إيديولوجيٍّ خارجيّ. ونحنُ نعتبرُ هذه المرحلة من أصعبِ وأدق ِ ما يمرُّ به العقلُ الفاعلُ في بحثه عن الذات الفاعلةِ لتحريرها من قهر العقل المنفعلِ الخاضع للعقل المجتمعيِّ، من جهة، وتحريرها، من جهة أخرى، منه بالذات، أي من العقل الفاعلِ نفسه، في حالة إيمانه بمُسَلماتٍ مقبولةٍ على نطاقٍ عام حتى في الأوساط العالِـمةِ أو التي تـُعتبر موثوقة ً، أو مقبولة لدى الطبقة المثـقـفة، كنظريات كبار العلماء والفلاسفة. فباستـثـناء بعض النظريات العلمية التي وصلتْ إلى حدّ اليقـينِ وسُميت "قوانينَ"، ينبغي أن تظل جميع الأمور الأخرى خاضعة للشك والبحث.

ب- التفكير في "العقل المنفعـِل": يُسائـله ويُحاورُه ويُجادلُه و/أو يُحاسبُه ويُـقوِّم مفاهيمَه وقِيَمَه ومعاييرَه -أي ينقدُه- ليكشفَ عن مدى تأثر ذلك العقل بالمجتمع أو بـ"العقل المُجتمَعيّ"، الذي شرحناه آنفا ً، أو مدى خضوعِه له. ثمَّ يُحاول أن يُعدِّـلـَه و/ أو يُغيِّرَه، ليصبحَ، على الأقلّ، عقلاً "مُنفعلاً" على نطاقٍ عالَميٍّ أو شموليٍّ بدلَ أن يكون محلـِّـيا ً أو قـُطريّا ً أو قوميّا ً، أو لِيغدوَ عقلاً يتجاوز إيديولوجيَّته نفسَها، لينظرَ في الإيديولوجيَّات الأُخرى ويُراعيَها ويتفهَّمها، ويتعلـَّم منها.

ج- التفكير في "العقل المُجتمَعيّ" باعتباره ظاهرة ً مستـقـلـَّة ًخارجة ًعنه وعن "العقل المنفعِل"؛ أي ينظر في أحوالِ المجتمع وظواهره وخصائصه وصفاته وقِـيَمِه ومعاييره، ثمَّ يستخرجُ منها فرضيَّات فنظريَّات ثمَّ قوانين، قد تصدق على كلِّ المجتمعات أو على مجتمعات معـيَّـنة فقط. ثمَّ يدرس تأثـيَر ذلك "العقل المُجتمعيّ" على "العقل المنفعل".

  • * *

وبقدر ما يتعلَّق بموضوعنا الخاصّ بتحرير العقل العربيِّ لتحرير الإنسان العربيّ، فإنـَّـنا أحوجُ ما نكون إلى "عقول فاعلة" تضطلعُ بهذه الوظائف الثلاث، المذكورة أعلاه، بدقـَّةٍ وإخلاص. فـ"عقلُنا المُجتمَعيّ" لا يزال يعيشُ عالةً على أمجاد ماضينا التليد. وأدهى من ذلك أنَّه لا يستـنير بنوره وناره، بقدر ما يتعـفـَّر برماده. فنحن لم نتمكـَّـن حتى من كتابةِ تاريخنا وتـُراثـنا وتحليله ونقده بقَدر ما تمكـَّن منه "الآخر". لننظرْ مثلا في المؤلَّفاتِ والكتبِ التي حقَـَـقها أو ألـَّـفها الأجانب بشأن تاريخنا وفنوننا، وفي تميُّـزِها من حيث الكمّ والكَيف بوجهٍ خاصّ، وأُقدِّم نموذجَين لذلك فقط: "دائرة المعارف الإسلاميَّة"،13 والمؤلـَّفَ القـَيّـِم "الإسلام والفنّ الإسلاميّ" لأَلكسندر بابا دوبولو.14 ويا ليت ذلك "العقلَ المُجتمَعيّ" يعيش عالةً على رماد أمجاد الماضي التليد فقط، بل إنَّه يعيش على أورامه، بما فيها خلافاتـُه الإيديولوجيَّـة، وخاصة والمذهبيَّـة والطائفـيَّـة، التي تـُعتـبَـر من بقايا الصراع الـقـَبـَـلي على الخلافة منذ وفاة الرسول. فضلا عن تقاليدُه البدويَّـة وعصبيَّـتـُه القـَبليَّـة التي لا تزالُ قائمةً في مجتمعاتنا على قدمٍ وساق، بحيث إنَّ أكبرَ دولةٍ عربيَّة من حيث المساحة والثروة تُسمِّي نفسَها باسم العشيرة أو الأسرة التي تحكم البلدَ منذ تأسيسها. ومعظمُ الحكـّام العرب إن لم يسمُّوا أنفسهم بأسماء عشائرهم، فهم يُكرِّسون هذا المفهوم في اختيار بطانتهم ومسؤوليهم. 15

وجدير بالذكر أنَّ "العقلَ المُجتمَعيّ العربيّ الإسلاميّ " متأثرٌ بالفترةِ المظلمة من تاريخنا التي استمرَّت أكثر من 700 عام ( منذ سقوط بغداد) بكلِّ ما تتضمَّـنُه من سلبيَّات وتخلف، أكثر مما هو متأثر بفترة الحضارة العربية الإسلامية.

ومن الواضح أنَّ العقلَ المُجتمَعيّ هو الذي يُغذِّي "العقلَ المنفعِل" بالمعلومات والقِيَم والأعراف والمعتقدات. لذلك فإنَّ العقلَ المنفعل لدى الفرد ينمو تدريجيًّا في مجتمعنا متأثرًا بـ"العقل المجتمَعيّ".

وكمثال على ذلك، فإنَّ نهضتـَنا قد فشلَت لأنـَّنا التزمنا منذ أوائل اصطدامِنا بالحضارة الحديثة (أنظر الفصل السابق)، بالتفكير بعقلنا المنفعِل بدلاً من عقلنا الفاعِل لوضع الحلول لمعضلاتنا. فالعقلُ المنفعل بـ"العقل المجتمَعيّ"، قد أوهَمنا، مثلاً، أنَّ بإمكاننا أن نحتفظَ بقِيَمنا ومبادئنا، واختيار ما يُلائمنا من حضارة الغرب الصاعدة دون التفريط بتلك "الأُصول" التي تربطنا بماضينا المجيد. فأصبحنا بذلك نحمل شخصيَّاتٍ ضعيفةٍ مزدوجة؛ ففي الوقت الذي نؤمنُ بقـِـيَمنا ونقدِّسُها أحيانا ً، ونحتـقرُ قـِـيَمَ "الآخر" ونفضحُها في كلِّ مناسبة، فإنـَّنا نلجأ ُ إلى "الآخر" في كلِّ أمورنا الكبيرة: الغذاء والكساء والدواء وخدمات الاتِّصالات، مثل الهاتف الخلـيَويّ والفاكس والحاسوب والتليفزيون، والمواصلات بواسطة السيَّارات والطائرات والقطارات... بل حتَّى في حلِّ المشاكل التي تحدثُ بيننا، وفي أمورنا الصغيرة والتفصيليَّة: الأزياء الرجاليّة والنسائية، والتقويم الميلاديّ الذي أصبحنا نحتفل به، وأعياد الميلاد الفرديَّة، بل حتَّى آداب الجلوس والتصرُّف في الحفلات واللقاءات والاجتماعيَّات؛ أي أصبحنا مُستهلِـكـين لمُنتَجات الحضارة الحديثة - حضارة الآخر- دون أن يكون لنا أيُّ دور في إنتاجها؛ الأمر الذي أسفرَ عن زيادة نفوذ ذلك "الآخر" الذي أصبح يستعبدُنا ويُذِلـّـُـنا، لأنه يعرف تمامًا درجة ضعفنا، وحاجتَنا الماسَّة إليه؛ ونحن بدورنا نزداد خضوعًا له، لأنَّنا نحتاجُه إلى أقصى حدّ. وهذا يؤدِّي فعلاً إلى انتهاك أهمِّ مبادئنا التي كنَّا نريد المحافظة عليها ابتداءً، وخاصَّةً شرفنا وكرامتنا التي تُراق كلَّ يومٍ على موائد المفاوضات واستجداء المُساعدات أو استعادة أشبارٍ من أرضنا المُغتصَبة.

إنَّ الحضارة الحديثة قائمةٌ على فلسفة، وبالتَالي على علمٍ وتـقـنيَّة؛ فإمَّا أن نفهمَ هذه الفلسفة بدقـَّةٍ من خلال عقلنا الفاعل ونـُبـيـِّـئـُها لمتطـلـَّباتنا، أو نكون قادرين على خَلقِ فلسفةٍ عربيَّةٍ جديدةٍ تنسجمُ مع عصرنا ومُستلزَماته. ولكننا لم نتمكـَّن من القِـيام بأيٍّ من هذَين الأمرَين. يقول حسن حنفي: "لقد تعثــَّرت الفلسفة لدينا لأنَّ البُعدَ الثالث في موقـفـنا الحضاريّ، وهو الموقفُ من الواقع، قد أُزيح جانبًا وأُسقِط من الحساب، فتحوَّلت الفلسفةُ لدينا إلى نقل، نقلٍ عن القدماء، أو نقلٍ عن المُحدَثين، وغابَ التنظيرُ المباشر للواقع." 16

ولئن نستميح القارئَ الكريم عذرًا لاستطرادنا في هذه النقطة الأخيرة لأهمِّـيَّتها، فإنَّ العبارةَ الأخيرة فيها تنقلُنا إلى النقطة الخطيرة التالية:


الإبداعُ في الفكر، فلسفةً وعلمًا، من نتائج العقل الفاعل

كان "العقلُ الفاعل" هو العامل الحاسم المُؤسِّس والمُنتِج والمُطوِّر والمُزهر لكلِّ فكرٍ فلسفيٍّ أو علميٍّ ناضج، ابتداءً من طاليس وأنكسمندريس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، مرورًا بالكِنديّ والفارابيّ وابن سينا والخوارزميّ وجابر بن حيَّان وابن الهيثم وابن رُشد وابن خلدون وغيرهم، وانتهاءً بالعصر الحديث ابتداءً من كوبرنيكس وغاليليو وديكارت ونيوتن وآينشتاين وغيرهم.

وينبغي، قبل كلِّ شيء، أن نَعي بدقَّة وعُمق أنَّ أيَّ تقدُّمٍ حضاريّ، لا سيَّما في هذا العَصر الحديث، لا يُمكن أن يتحقـق إلاَّ من خلال إرساءِ أُسُسٍ ومبادئَ فلسفيَّـة وعلميَّـة وتراكـُمِها. فالحضارةُ الغربيَّـة الحديثة قامت على هذه الأُسُس. حتَّى النهضة التي حدثَت ابتداءً من منتصَف القرن التاسع عشر، في اليابان، قامت استنادًا إلى تــَبـْيـِئة الفلسفة الغربيَّـة والعقل الغربيّ العلميّ والثقافيّ لمتطلَّبات المجتمع اليابانيّ، إلى الحدِّ الذي صرخ فيه المثقَّفون الشَّباب من الساموراي، منذ ستـينات القرن التاسع عشر: "ليس هناك تاريخٌ ماضٍ، فتاريُخنا يبدأُ اليوم!"

ويقول فرانك غيبني F. Gibney في هذا الصدد: "لم يحدث في مناسبة أُخرى من التاريخ الحديث أنَّ أمَّةً كبيرة، غيرَ اليابان، غيَّرت بهذا الشكل الجذريّ، مجتمعَها وعاداتِها وأُسُسَها الاقتصاديَّة بالإضافة إلى بـِنيتها السياسيَّة... ومع ذلك، لم يفقد اليابانيـُّون هُويَّـتهم القوميَّة خلال هذه العمليَّة، بل على العكس، فقد قَوَّوا هذه الُهويَّة..."17

أمَّا نحن فقد أَضَعنا، بسبب عَدَم وعينا بأهمِّـيَّة استخدام عقلنا الفاعل، وترددنا، بل رَفـضِنـا لاستيعابِ وتـفهُـم أسباب الحضارة الحديثة وأُسُسها، وفلسفتَها، وعلمها، ولعجزِنا عن تَـبـْـيـِئـَتـِها لظروفنا واحتياجاتنا وعقـليَّـتـنا ـ أقولُ أضَعنا، بسبب ذلك، كِلا الأمرَين: فقد فشلَت، اولا، نهضتـُنا فشلاً ذريعًا، بدليل واقعيَّة إعادة احتلال أراضينا، وتَوالي نكباتنا في فلسطين ولبنان والعراق والجزائر والسودان وغيرها، فضلاً عن التخلُّف الاقتصاديّ والإنمائيّ والفكريّ والعِلميّ، كما بدأنا، ثانيا، بفَقدِ هُويَّـتـِنا تدريجيّا ً، بسبب سيطرة الأجنبيّ المباشرة على مُـقـدَّراتنا، التي تظهرُ خاصَّةً من خلال الحصار المباشر أو الاحتلال المفروض على بلدانٍ عربيَّةٍ . وهذا يُؤدِّي إلى فـقـدان كلِّ شيء، بل الكفر بكلِّ المبادئ والقِيَم والأخلاق، طلبًا للُقمةِ العَيش. يقول الإمامُ عليّ :"كادَ الفقرُ أن يكون كفرًا."18 فأين أصبحتْ عقيدتـُنا وهُويَّـتـُنـا وكرامتـُنا وقِيَمُنا وثقافـتـُنا وشرفـُنا، ونحن نشهدُ ما وصلنا إليه اليوم من ذلٍّ ومَهانة أمامَ الجيوش الأجنبيَّة الغازية، وذلٍّ ومهانةٍ ونحن نتفاوضُ على استرجاع أشبارٍ من أراضينا المُغتصَبة؟ فضلا عن أن أمريكا، ومن ورائها إسرائيل، أخذتْ تتدخل حتىُ في تغيير ِمناهجِنا الدراسيَّة بل وتغيير النصوص الدينيَّة، لجعلِها ملائمة لتقبلِ أو تجرع ِذُلـِّنا واحتلالِ أراضينا.

هذا على صعيد النفوذ المباشر؛ أمَّا النفوذُ الأجنبيُّ غير المُباشر الذي يُؤدِّي إلى إضاعة هُويَّـتـنا بما فيها قـِيَمُنا وثقافـتـُنا، فيتجلَّى بحاجتنا الماسَّة إلى كلِّ ما يُقدّمه لنا الآخر من منتجات تكنولوجية جاهزة، فضلا عن الغذاء والكساء والدواء. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ تيَّارَ "العَولمة"، الذي يتغلغلُ كلَّ يومٍ في جميع أجزاء وطننا، سيقضي تدريجًا على البقيَّة الباقية من هُويـَّـتـنا، وسنصبحُ أُمَّـة ً تابعة ً خانعة ً قد ينتهي مصيرُها إلى مصيرٍ مُشابه لسُكـان أمريكا الأصليـِّيـن في بلادهم. في حين أنَّ اليابان، التي دُمِّرت أثناءَ الحرب العالميَّة الثانية، أصبحَت تُنافسُ أمريكا في إنتاجها، فدَعَتها أن تخطبَ ودَّها19.

يقول أَرنولد توينبي: "حاربوا الغرب بذات أسلحته"؛ وهو يقصدُ بأسلحته من المعرفةَ والفلسفة والعلمَ والتكنولوجيا والتقدُّمَ الحضاريّ بوجهٍ عامّ. فلماذا فشلنا في تحقيق ذلك؟

لأنـَّنا فشلنا في تحرير عقلنا الفاعل من سيطرة عقلنا المُنفعِل؛ الأمر الذي أدَّى بنا إلى هذه النتيجة والحالة المأساويَّة الراهنة.

كلمة ختاميَّة

جميعُ المحاولات التي بُذِلَت لإصلاح شأن هذه الأمـَّة باءت بالفشل، لأنـَّها أهملَت، إلى حدٍّ بعيد، إصلاحَ "عقلها" قبل شَهرِ السيوف لمقاومة المُحتـلّ أو الغاصِب.

لقد تنوَّعت الآراءُ والاتِّجاهاتُ في تشخيص أدواءِ الأُمـِّة ومعالجتِها؛ منها الاتِّجاهُ السَّلَفيّ، والاتِّجاهُ الليبراليّ، والاتِّجاهُ القوميّ، والاتِّجاهُ الماركسي. وكلُّ واحدٍ من هذه الاتجاهات يُحلِّلُ الخَلَل ويُعالجُه بمنظاره المنفرِد. "بفكر" يرى أبعادَ الخلل، لا بالشكل الذي تكون عليه تلك الأبعادُ بالفِعل، بل بالشكل الذي يُصوِّره له ذلك "الفكر" الملوَّن بالاتِّجاه المسبَق. أي أنه صادرٌ عن عقل مُـنـفعلٍ إما بـ"الأنا" الذي فاتـَه قطارُ الحضارةِ السريع منذ عدة قرون (الاتجاه السلفي)، أو بـإيديولوجية مقتبسة بل منقولة "الآخر"( الاتجاه الليبرالي أو القومي أو الماركسي).

ونادرًا ما اتَّجهَ "الفكرُ"، قبل أن يُمعنَ النظرَ في نقدِ الأوضاع وتشخيص الداءِ لوصفِ الدواء، إلى النظر في ذاتِه هو. فلئن شهَرنا "سلاحَ النقد" ضدَّ أوضاعنا، فما أحرانا بأن ننقدَ، أوَّلاً، ذلك السلاحَ نفسه الذي نستخدمُه في نَقد الأوضاع. وبعبارةٍ أُخرى، ننقدُ "العقل" الذي يتوجَّهُ بالنقد إلى الأوضاع، كما يقول الجابري. فإذا كان "سلاح النقد" نفسه معطوبًا -أي مُنفعلاً- فإنَّ نتائجَ نقده ستكون ناقصة، بل باطلة. وبالتالي فإنَّ تشخيصَه للداءِ سيكون خاطئًا، ووصفَه للدواء سيصبح قاتلاً، أحيانًا!

فقد واجهنا مُعضلاتِنا إمَّا بعقلٍ مكرسٍ للماضي، وإمَّا بعقلٍ تشبَّعَ بمفاهيمِ "عقلنا المُجتمَعيّ" الحاضر، المتأثرةِ بعقلٍ مُجتمَعيٍّ آخر؛ أي إنـَّنا لم نتمكـن، حتَّى الآن، من مُواجهة مشكلاتنا بابتكارِ حلولٍ نابعةٍ من "عقلنا الفاعل"، لا "عقلنا المنفعل"، أي المنفعل سواء بآراء "الأنا" الماضي أي السَلَف، أو بآراء "الآخر" الحاضر أي الغرب.

فإذا أردنا حقا ً تحريرَ الإنسان العربيّ لإنجاز نهضته وتقدُّمه، فينبغي علينا أوَّلاً، وقبل كلِّ شيء، تحريرُ عقله الذي تعرَّض للقهرِ على مرِّ العصور، فأصبح خاضعًا خانعًا تابعًا، مُقـلـِّدًا مُردِّدًا لا مُجدِّدًا.

  • * *

ولا شكَّ بأنَّ القارئَ المتأمِّلَ والمُدقّـِق لا يفهمُ من كلامي أنَّني أُريد "التغريب" ولا أُريد "التعريب"، لأنَّ من الواضح جدًّا أنـَّني انتقدتُ "التغريب" الذي اعتبرتـُه هو الآخر واحدًا من مُنتَجات "العقل المنفعِل" بتقليد الغرب، بنفس القدر الذي يكون عقلُنا منفعِلا بتقليد السَلَف.

ولكنني أدعو مع ذلك إلى استيعابِ مُـقوِمات الحداثة التي لمْ تـَعُـد مِلكاً للغربِ، بل للبشرية أجمع، خاصة أن بلداناً شرقية ً متعددة ً تبنتْ أسسَ الحداثةِ وأتقـنتها بلْ تفوقتْ على بعض البلدان الغربيةِ مع احتفاظها بثقافتِها.

ولئن أدعو إلى استيعابِ مُقومات الحضارة الحديثةِ وتفهُّمها، فإنـَّني أقصدُ بذلك علمَها ومُـكتـَشَـفاتِها وتِـقـناتها ومناهِجَها البحْـثـيـَّة ومَـفاهيمَها الإبسْـتمولوجيَّـة وديمقراطيَّـتـَها القائمة على حكم الأغلبـيَّـة وفصل السلطاتِ واحترامها الرأي الآخر، إلخ ، أي أُسسها وبُـناها التحتيّْـة. ومع ذلك فلا يعني ذلك تقليدَها، بل تـَبْـيـئـتها لظروفنا واحتياجاتنا وثقافتنا، فضلاً عن أنـَّني أدعو إلى تمحيصها وتلَـمُس ِ نقاطِ ضَعْـفها، أي نقدها بعقلٍ فاعلٍ لا مُنفعِل.

في كتابه نقد العقل الغربي، يقول المفكر مُطاع الصَّفدي: "مع ذلك إنَّ قصَّة العقل الغربيّ مع ذاته ليست أُمثولة للآخرين، ولا نمَوذجًا للتقليد، ولا بضاعةً للاستيراد والتبادُل. لكنَّها هي كذلك قصَّة للعقـل قابلة لأن تـُكتَب بغير حروفيـَّـتـها الأصليَّة، وأن تـُقرأ بغير عيون وألسنة أبطالها وحدهم. فهي، لشدَّة دراميـَّتها وشموليَّة معانيها، تبدو كما لو كانت قصَّة لكلِّ عقل يُفارق الامتثال مع أصنامه، ويُقرِّرُ المغامرة في مجهوله الخاصّ" 20(أي يُصبح "عقلاً فاعلاً" بعد أن كان "مُنفعِلا ً بأصنامه). لا سيَّما أنَّ أُسُسَ الحضارةِ القائمةِ ليست مُلكًا لأحد، كما أسلفنا بل للبشريَّةِ جمعاء، تمامًا كما كانت الحضارةُ اليونانيَّة والحضارةُ العربيَّة الإسلاميَّة تُراثًا مُشتركًا للبشريَّة بأكملها.

وعلى نفس المنوال، فإنَّ التعريب الذي أدعو إليه لا يَعني اجترارَ مُنتَجاتِ الحضارةِ العربيَّة الإسلامية أو ترديدَ مفاهيمها ترديدًا ببَّغائيًّا، كما يحدث اليوم، بل يعني بحثَها واستقصاءَها وتفهُّمَها واستيعابَها ونقدَها بموضوعيَّة وبمنهجيَّة علميَّة صارمة، وبعقلٍ مُتـفـتِّحٍ فاعل، لا بعقلٍ مُنغلِقٍ مُنفعِل، لا يَرى إلاَّ بعضَ جوانبها السطحيَّة.

وسيُؤدِّي بنا ذلك إلى أن نفهمَ أنَّ المعايير والمبادئَ التي كانت تَسُود تلك الحضارة وُضِعَت لذلك الزمان، وأنَّ زمانَنا بحاجةٍ إلى استنباط مفاهيمَ ومبادئَ جديدة تنسجم مع ظروفه وأحواله.

ومن خلال هذا الفِعل والتفاعُل بين استيعاب الحضارتَين قد يتوصَّلُ عقلُنا الفاعل إلى إبداع نهجٍ لإنقاذ هذه الأُمـَّة من هذه الغمَّة.

المراجع والحواشي

1. قد يحتاجُ موضوعُ نسبة التأثير الذي يُحدثُه كلٌّ من البيئة والوراثة في عقل الإنسان إلى بحثٍ مُستفيض ومستقلّ يتجاوز حدودَ هذه الدراسة، عِلمًا بأنَّ الجدلَ بشأن هذا الموضوع كان ولا يزالُ قائمًا دون الاتِّفاق على نتائجَ نهائيَّة حاسمة، خاصَّةً لأنـَّه يرتبط بإشكاليَّات إبستمولوجيَّة وإيديولوجيَّة: علميَّة وفلسفيَّة وأخلاقيَّة واجتماعيَّة متعدِّدة، بما فيها مدى حرِّيـَّة الإنسان ومقدرته في التحكُّم بحياته ومصيره، أو بالأحرى، حرِّيـَّة إرادته وعقله، وتراتُب الأجناس البشريَّة من حيث التفوُّقُ الحضاريُّ والفكريُّ وبالتالي العقليّ، مع أنَّ هناك دراساتٍ حديثةً ومتعدِّدةً تُرجِّح تأثيرَ العوامل الوراثيَّة. أُنظر مثلا:

D. Hamer  & P. Copeland. Living With  Our Genes.(New York: Doubleday).     L. Wright. Twins. (New York: J. Wiley & Sons, Inc.)  

2. محمَّد عابد الجابريّ، "نقدُ العقل العربيّ"، الجزء الأوَّل: "تكوين العقل العربيّ"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، جماعة الدراسات العربيَّة والتاريخ والمجتمع، ط 5، 1991) ص 15.

3. ناقشنا هذا الغموضَ والخلط في مقالةٍ سابقة تحت عنوان: "خواطرُ في العقل الفاعل والعقل المنفعِل من لالاند إلى الجابريّ"، في صحيفة "القُدس العربيّ"، لندن، 18/2/1997

4 André Lalande: Vocabulaire technique et critique de la philosophie, (Paris: Presses universitaires de France, Ed. 16, 1988), Vol. II, Art.: Raison.

5. جورج طرابيشي، "نقدُ ’نقدُ العقل العربيّ‘، نظريَّة العقل"، (بيروت/ لندن؛ دار الساقي، 1996)، ص 14. يُعيد الطرابيشي التعريفات التي أوردها الجابريّ إلى "مُعجم اللغة الفلسفيَّة" لـ"بول فوكييه" لا إلى لالاند كما يقول الجابريّ، ويُلاحظ أنَّ تعريف فوكييه للعقل المكوَّن، "لا يخلو من التباس" كذلك، ونحن نوافـقـه على ذلك.

6. في هذا الميدان عدَّة مراجع عربيَّة جديرة بالاهتمام؛ من أهمِِّّها: محمَّد جواد رِضا، "العربُ والتربية والحضارة، الاختيار الصعب"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط2، الكُوَيت، 1987)؛ ومؤلَّفات هشام شرابي المذكورة في مراجع الفصل السابق، خاصَّة "النظام الأبَويّ وإشكاليَّة تخلُّف المجتمع العربيّ".

7. أنطوان زحلان، "العربُ وتحدِّياتُ العلم والتِّقانة، تقدُّم من دون تغيير" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1999)، ص 28. ويُشيرُ هذا المؤلَّف الهامّ إلى أنَّ الوطنَ العربيّ يملكُ اليوم مئةً وخمسًا وسبعين جامعة ومئةَ ألف مؤسَّسة استشاريَّة، وألفَ مؤسَّسة بحثيَّة، وخمسين ألف أستاذٍ جامعيٍّ، وحوالى مليوني مهندس واختصاصيّ من حَملة الدكتوراه. كما أصبح عددُ الخرِّيجين يتجاوز عشرة ملايين. ومع ذلك ظلَّ الوطن العربيّ مُتخلِّفًا علميًّا وتِقنيًّا واقتصاديًّا وصناعيًّا، بصورة خاصَّة، عن إسرائيل التي لا تملك سوى ستّ جامعات. وقد لاحظت من مراجع أخرى إلى أن عدد الجامعات قد ارتفع إلى 200جامعة تقريبا.

8. محمّد عابد الجابريّ، المرجع السابق، ص 18. أشرنا إلى هذه النقـطة بإيجاز مُتعمَّد في الحلقة الأولى( الفصل السابق) ، ريثما نتـقـدَّم في هذه الدراسة على نحوٍ أكثر، حيث سنفصل بعض أبعادها المتعددة، بقدر ما يسمح به المقام، لأهـمِّــيتها، وصِلتها الوثيقة بكلّ ٍ من العـقـل الفاعل والعقـل المنـفـعـل.

9. جورج طرابيشي، المرجع السابق، ص 27، وما بعدها.

10. أحمد أمين، "ظُهرُ الإسلام"، (بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ، ط 5، الجزء الرابع)، ص 7 (نقلاً عن الطرابيشي).

11. أنظر طرابيشي، المرجع السابق، ص 28.

12. فصَّلنا مسألة انعكاس الفكر على ذاته في بحث نُشر، في عدَّة حلقات، تحت عنوان رئيسيّ هو مسألة "إعجاز الفكر البشريّ"، وعناوين فرعيَّة أُخرى منها: "التفكير هو القدرة التي يكتسبُها الوعيُ الذي يتَّخذُ من ذاته موضوعًا"، و"ظاهرةُ انعكاس الفكر"، و"غريزةُ البقاء والنـزوع نحو الموت"، و"إدراك النقيضَين: الوجود والفناء"، و"الكوجيتو: أنا أفكِّر فأنا موجود". (أُنظر صحيفة "القدس العربيّ"، لندن: في 4 و 5 و 6 نيسان/ إبريل 1998)؛ فضلاً عن دراسة أُخرى نُشِرت تحت عنوان رئيسيّ هو "العرب لا يفكِّرون فهل هم موجودون؟" وقد انطلقتُ فيها من "كوجيتو" ديكارت الأخيرة التي تربطُ الفكرَ بالوجود ولا سيَّما التفكير بالعقل في العقل. أي تفكير العقل الفاعل في العقل المنفعِل. (أُنظر "القُدس العربيّ"، لندن، في 5/5/1998).

13. Encyclopedia of Islam,( Leiden, Netherlands: Brill), 1913-1936.

وقد أشرتُ إليها بتفصيلٍ كافٍ في حواشي الفصل الثاني. وأودُّ أن أُشدِّد مرَّةً أُخرى على أنـَّنا لم نتمكَّن، حتَّى الآن، من أن نُخرجَ موسوعة عربيَّة شاملة واحدة، بالمعنى الصحيح كهذه، أو كالموسوعة البريطانيَّة. لذلك طرحنا فكرةَ مشروع الموسوعة العربيَّة الجامعة، منذ فترة، بُغيةَ إعادة كتابة تاريخنا بعِلميَّة وموضوعيَّة، بين أمورٍ أُخرى، ونشرنا بشأنه عددا من المقالات في صحيفة "القدس العربي"(لندن) .

14. Alexandre Papadopoulos, Islam and Muslim Art, (New York: Harry N. Abram, Inc., Publishers), 1979.

وأصلُ الكتاب بالفرنسيَّة، والمؤلِّف أُستاذ في "السوربون" ومُدير مركز الفنّ الإسلاميّ في باريس. ويتألَّف هذا الكتاب من حوالى 630 صفحة من الحجم الكبير جدًّا، ويضمُّ مئات اللوحات والخرائط، والمخطَّطات، والرسوم، والصوَر المُجسَّمة والملوَّنة الرائعة لنماذج الفنّ الإسلاميّ. ومن فصوله البارزة: الإسلامُ والحضارة الإسلاميَّة، تكوُّنُ الإسلام والحضارة، الفتوحاتُ الإسلاميَّة، التراثُ العربيّ-الإسلاميّ ومُكتسباتُ الحضارات الأُخرى، نظرةُ الإسلام إلى العالم، الفنون الإسلاميَّة إلخ. ولئن تضمَّن هذا الكتابُ بعضَ المآخذ التي قد لا يُقرُّها بعضُ المسلمين، فلا عليهم إلاَّ أن يلوموا أنفسَهم لأنَّهم لم يتمكَّنوا من إخراج عمَلٍ من هذا النوع.

15. نشرنا عدَّةَ أبحاثٍ ودراساتٍ بشأن أثَرِ البداوة في العقل العربيِّ والسلوك المُجتمَعيِّ(أنظر الحاشية 21من الفصل الثاني).

16. حسَن حَنَفي، "موقفُنا الحضاريّ"، الوارد في المؤلَّف الهامّ، تحت عنوان "الفلسفة في الوطن العربي المعاصر"، بحوث المؤتمر الفلسفيّ العربيّ الأوَّل الذي نظَّمته الجامعة الأُردنيَّة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 2، 1987)، ص 19.

17. فرانك ب. غيـبني Frank B. Gibney (من أعضاء الموسوعة البريطانيَّة)، "المايجي: ثورة ثقافيَّة" في كتاب "نهضة اليابان، ثورة المايجي إيشين، دراسات وأبحاث التجربة الإنمائيَّة اليابانيَّة، الجذور التاريخيَّة والإيديولوجيَّة والحضاريَّة لهذه النهضة"، الترجمة العربيَّة، (طوكيو: جامعة الأُمَم المتَّحدة، بيروت: مركز بحوث التجربة الإنمائيَّة اليابانيَّة)، ص 161. هذا الكتاب الهامّ صدرَ في أعقاب المؤتمر الدوليّ الخاصّ بتقويم تجربة تحديث اليابان، برعاية جامعة الأُمَم المتَّحدة في طوكيو.

18. أثناء الحصار الذي فرض على العراق، واستمر قرابة 12عاما، أصبح الوَضعُ الاقتصاديّ والاجتماعيّ القائم مأساويًّا، إلى حدٍّ صار فيه كلُّ شيء قابلاً للبَيع، بما فيه الأطفال والنساء والذمَم وأعضاء الجسد (الكِلية والرئة وغيرهما)، من أجل البقاء على قيد الحياة.

19. أُنظر تفسير ظاهرة تقدُّم اليابان ورأي المؤرِّخ آرنولد توينبي فيها في الفصل الثاني.

20. مُطاع الصَّفدي: "نقدُ العقل الغربيّ" (بيروت: مركز الإنماء القوميّ، 1990)، ص 14.

الفصل الخامس: ثـُنائـيَّةُ الإبداعِ والاتِّـباع وأَزمةُ العقلِ العربيِّ المُعاصِر

بعد أن تناولنا مسألةَ "تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربيّ" في الفصلين السابقين، سنتصدَّى، في هذه الدراسة، لمسألة الإبداع والاتِّباع وعلاقتها بأزمة تحرير العقل العربيّ. ونحن نفـترض مُـقدَما ً أنَّ العقلَ العربيَّ المعاصر، بوجه عامّ، يميلُ نحو الاتِّباع أكثر مِمَّا يميلُ نحو الإبداع، لا لنقصٍ مُتأصِّلٍ فيه، بل لأسبابٍ طارئة وظروفٍ تاريخيَّة معيَّنة. ويرتبط ميل العقل العربي إلى الاتــِّباع بنظرية العقلِ المجتمعي التي شـَرحْـنا قليلا ً من أبعادِها في الفصلِ السابقِ، كما يرتبط بوثوق بنظريةِ العقلِ الفاعلِ والعقل المنفعل.

وسنحاول في هذا البحث تعريفَ الإبداع وتأصيلَ كلٍّ من الإبداع والاتِّباع، ونربطَهما بغريزة المحافظة على البقاء. ثم نستعرضُ بعضًا من أهمِّ الآراء المتعلـّـِقة بالإبداع والاتِّباع عند العرب، كما نطرح رأيـَنا الخاصَّ في المسألة، من حيث ربطُها بفرضيَّتي "العقل المُجتمعيّ" وثــُنائيَّة "العقل الفاعل والعقل المنفعل." وتستغرقُ هذه الدراسة ثلاثَ حلقات.

أوَّلاً - مقدَّمة

في مطلع القرن الحادي والعشرين تتعرَّضُ الأُمَّةُ العربيَّة لتحدِّياتٍ هائلة، قد تـقرر مصيرها. ويُمكن أن يُعتبَرَ معظمُها امتدادًا وتطوُّرًا للتحدِّيات التي واجهَتها منذ مطلع القرن التاسعَ عشَر، حينما حدثَ أوَّلُ اصطدام مُباشر بين العالَم الغربيّ والعالَم العربيّ.

بَيدَ أنَّ التحدِّياتِ التي نُواجهُها، ونحن في مطلع هذا القرن الجديد، تتميَّزُ عن سابقاتها قبل قرنَين. فـقد تضاعفَ حجمُها مئاتِ المرَّات وتعدَّدت أنواعُها. ومن أهم هذه التحديات، إن لم تكـُنْ أهمها جميعا، الثورة الفكريَّـة والمَعَارِفيَّـة، المتجسدة في سُرعِة حَرَكة العِلم والتكنولوجيا ووَتـيرتِها المُتصاعِدةِ، في جميع الميادين، وخاصة في مجال علوم الاتِّصال والتحكُّم CYBERNETICS، بما فيها ثورةُ المعلومات والاتِّصالات عبر الفضائيَّة؛ والعَولمة GLOBALIZATION الاقتصاديَّة، والثقافيَّة، والفكريَّة، والفنِّـيَّة؛ وغَزو الفضاء، وعلوم الطبّ، والجراحة، والهندسة الوراثيَّة، والاستنساخ الإحيائيّ CLONING، واكتشاف اللُغة الإحيائيَّة، إلى آخره... وقد أصبح التقدُّمُ العلميّ والتقنيّ الذي يحقـِّـقه العالَمُ المتقدِّمُ، في كلِّ عقدٍ من الزمان، يُعادلُ ما حقـَّـقَـته البشريَّةُ خلالَ مئات الأعوام ، بل ربَّما آلافها .(1) علما ً أن الوطنَ العربيَّ، بوجهٍ عام، غائبٌ عن الإسْهامِ في هذه الثورةِ المتصاعدة، وسأبيّـن أثر ذلك على أوضاع الأمة.

ومن جانبٍ آخر، فإنَّ لهذه الوتيرة المتسارعة من التقدُّم أهمِّـيَّـتَـُها الخطيرة ُ في جميعِ مناحي، الحياةِ في كلِّ جزءٍ من أجزاء العالَم، ولدى كلِّ إنسان يعيش على هذا الكوكب، بنسَبٍ وأشكالٍ مختلفة، فضلاً عن تأثيرها في نسَبِ الفوارق والتشابُه بين الشعوب والأمَم بوجهٍ عامّ، وفي سرعة زيادة سعَةِ الفجوة بين البلدان المتقدِّمة والبلدان الأقلّ تقدُّمًا أو النامية أو المتخلِّفة، فضلاً عن أهمِّـيَّتها في صدام الحضارات أو الثقافات، وفي نتائج "العَولمة" وعواقبها.

وهكذا فقد تضاعف حجمُ الفجوةِ الحضاريَّة وعمقُُها–إذا قيست الحضارةُ اليوم بالتقدُّم العلميّ والتكنولوجيّ ومستوى المعيشة–بين العالَم الغربيّ والعالَم العربيّ، عدَّةَ مرَّات. وإذا قيست تلك الفجوةُ بالمقياس العدَديّ، فإنَّها كانت تُقْدَر في مطلع القرن التاسع عشر بـ 1 إلى 10، فأصبحت الآن تُقدَر بـ 1 إلى 100 أو أكثر بكثير من ذلك.(2) وقد تـَصلُ إلى 1إلى الف ٍ، أو أكثر في بعض ميادينِ العُـلومِ والتكنولوجيا. ففي ندوة ٍنـَظمَتـْها مَحطة ُ " الجزيرةِ" الفضائيَّـة، بـِمُناسبةِ صُدور تقرير التنميَّة الإنسانيـَّة العربيِّ للعام 2002، صَرَحَ الدكتور نادر فـرْجَانِي، رئيسُ تحرير التقرير، بأن الفجوة َ التـِقانـيَّة بين الأمةِ العربيةِ وإسرائيل قد تـَصلُ إلى أكثر من 1إلى الف، في بعض الميادين.

وكلَّما تزايدت هذه الفجوةُ سعَةً وعُمقًا تتزايدُ التحدِّيات، وبالتالي تتزايدُ الأزماتُ والكوارثُ التي تُصيبُ الأُمَّة، والتي نُمثِّلُ لها بكارثة تشريد شعبٍ كامل وإحلال شعبٍ آخر مكانه في فلسطين؛ وكوارث حروب الخليج وعواقبها: التنكيل بالشعب العراقي ،(3) ثم أحتلال البلد بكامله، والحصارات المفروضة على الأمَّة، بما فيها الاقتصاديَّة والمائيَّة إلخ. هذا فضلاً عن النفوذ الأجنبيّ المتصاعد، المباشر وغير المباشر، وغير ذلك من النتائج المتشعِّبة والمتوالدة.

لماذا حدثَ كلُّ ذلك؟ وهل يمكن أن نُحدِّدَ ونحصرَ أهمَّ الأسباب التي أدَّت إلى تلك النتائج؟

كأَيَّة ظاهرة اجتماعيَّة وتاريخيَّة، فإنَّ هناك عددًا من الأسباب، المباشرة وغير المباشرة لهذه الأزمة التي تمرُّ بها الأُمَّةُ العربيَّة، بَيد أنَّنا قد لا نبتعد عن الحقِّ إذا قلنا إنَّ معظمَ تلك الأسباب تصبُّ، على الأرجح، في سببٍ رئيسيّ واحد هو: تخلُّف الأمَّة العربيَّة عن رَكب الحضارة الحديثة. وقد عالجنا هذا السبب وتفرُّعاته في مناسبات سابقة.(4)

وسنبحث هنا في أحد الأسباب الرئيسيَّة لهذا التخلُّف ومدى ارتباطه بأزمة العقل العربيّ. وينصب هذا السببُ على فرضيَّةٍ مفادُها أنَّ العقلَ العربيَّ المعاصر يميل، بوجهٍ عامّ، نحو الاتـّـِباع أكثر مِمَّا يميل نحو الإبداع، لعواملَ طارئة وظروفٍ اجتماعيَّة وتاريخيَّة سنحاول أن نتعرَّض لها في ثنايا هذا البحث.

ثانيًا - مُلاحظات تحفُّظيَّة

1 - لدى معالجتنا التحدِّيات التي تُواجهها الأُمَّةُ العربيَّة، نحاول أن نتصدَّى لها بمنهجيَّة علميَّة (إبستمولوجيَّة) قدرَ الإمكان، بعيدًا عن الميل العاطفيّ، و/أو التعصُّب العرقيّ أو الإثنيّ أو الدينيّ أو الأيديولوجيّ إلخ.

2- إذا كانت بعض التعابير تتضمَّنُ معنًى تبخيسيًّا أو هجائيًّا مثل تعبير "التخلُّف" وتعبير "أزمة العقل العربيّ"، فإنَّنا لا نقصدُه بهذا المعنى إطلاقًا. ونرجو بوجهٍ خاصّ أن لا يقترنَ ذلك في ذهن القارئ بأيٍّ من المعاني المعروفة والمتداوَلة لدى بعض المستشرقين ضدَّ الأُمَّة العربيَّة والدين الإسلاميّ.

3- وعلى العكس من ذلك تمامًا، فإنَّنا نُحاول، لدى تعرُّضنا لهذه القضايا الحسَّاسة، وصفَها وتحليلَها وتأصيلَها، لخدمة أُمَّتنا العربيَّة، التي تتعرَّض لأعظم تَحدٍّ واجهَته في تاريخها. وقد يتوقَّف مصيرُها على مدى قدرتها على مجابـهته ثمَّ تجاوُزِه.

4- إنَّ طرحَ قضايا الأُمَّة بصراحة وموضوعيَّة وعِلميَّة، يستهدفُ تنبيهَ الجمهور إلى أبعادِ الأزمة التي نتعرَّضُ لها وخطورتِها، والتفكيرَ الجدّيّ بمعالجتها، بالنهج الملائم بعيدًا عن المَيل العاطفيّ، وعن الكلام المتسرِّع و/أو المتأجِّج، سواء من حيث تحميل "الآخر" كلّ الذنب في الكوارث التي تعرَّضت لها الأُمَّة، أو المُزايدة على تمجيد الذات والسَّلَف؛ ورحمَ الله جمال الدين الأفغانيّ الذي سنستعيد ونكرر ما قاله : "العربُّي يُعجَبُ بماضيه وأسلافه، وهو في أشدِّ الغفلة عن حاضرِه ومُستقبلِه."

5- عندما نتعرَّضُ لأزمة الإبداع ونربطُها بإشكاليَّة التخلُّف ثمَّ بأزمة العقل العربيّ، فإنَّنا نقصدُها في وضعها القائم اليوم، بعيدًا عن تعميمها على حال العرب على وجهٍ شامل، وفي مختلف مراحل تطوُّرهم الحضاريّ. بل إنَّنا نُنوِّهُ ونعتزُّ بالعقل العربيّ في مرحلة العصر الذهبيّ للحضارة العربيَّة–الإسلاميَّة، الذي أَنجبَ مئاتِ المفكِّرين والعُلماء والفلاسفة مثلما أَنجبوه، مع أنَّنا قد نتعرَّض لبعض الآراء التي تتَّهمُ العقلَ العربيَّ مُطلقًا.

6- لذلك، فإنَّنا نميل إلى القول إنَّ أزمةَ العقل العربيّ ليست متأصِّلة بل طارئة أو مُكتسَبة، خلَّفَتها فترةُ الانحطاط التي أعقبَت فترةَ العصر الذهبيّ التي مرَّت بها الأُمَّةُ منذ حوالى سبعة قرون، بوجهٍ خاصّ.

7- خلافًا للظواهر الطبيعيَّة، يتعذَّرُ إخضاعُ الظواهر الاجتماعيَّة للبحث التجريـبيّ العلميّ المُختبَريّ، لذلك فإنَّ طروحاتِنا لا تتجاوزُ محاولاتِ التقرُّب نحو سَبْرِ الإشكاليَّة وتحديدِ أبعادها وآثارها، بعيدًا عن أيِّ ادِّعاء بإصابة "كبد الحقيقة" كما يُقال؛ لذلك تظلُّ هذه الطروحات عرضةً للمناقشة والتعديل والتحوير، ويُرحِّبُ كاتبُها بكلِّ الملاحظات والتعقيبات، بل الردّ والتفنيد، مِمَّا يعتبرُه حَفزًا لإعادة النظر، واستئناف البحث. وهذا يُؤدِّي في النهاية إلى إثراءِ الموضوع، وتنويرِ كاتبِه المتطلِّع دائمًا إلى "الرأي الآخر." ولئنْ نـُكررُ هذه النقطة في عدةِ مناسباتٍ، فإننا نـَتـَوَخى تأكيدَها والتذكير بأهميَّـتِها.

8- هناك عقَبتان رئيسيَّتان بين فكر الكاتب وذهن القارئ من حيث استيعابُ النصِّ وتفهُّمُه، بما فيه هذا النصّ. فهناك، أوَّلاً، الفجوةُ الموجودة بين فكر الكاتب وتعبيره، بسبب الفجوة الكامنة بين الفكر واللغة مُطلقًا. وهناك، ثانيًا، الفجوةُ القائمة بين تعبير الكاتب (النصّ) وذهن القارئ، لأنَّ القارئ يُضفي على معنى النصِّ طابعَه الخاصّ. فالمقروء يختلف باختلاف القارئ، في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من ذلك، ومع أنَّ تفصيلاتِ الأفكار ودلالاتها المختلفة والمتفاعلة قد لا تنتـقـلُ إلى ذهن القارئ بنفس الكَيْف والقَدْر اللذَين يُريدُهما الكاتب، فإنَّ التواصلَ بين الكاتبِ الجيدِ والقارئ الدقيق يظلُّ قائمًا في الغالب إذا نجح الكاتبُ في التعبير عن الفكرة بأسلوبٍ واضح ٍ ومُتسلسِلٍ منطقيًّا. ولا ندري إلى أيِّ حَدّ سيُحالفنا التوفيقُ في هذا الميدان.

ثالثًا- تعريفاتُ الإبداع

Creation (E), Création (F), Creatio (L), Schöpfung (G)

لُغَةً: ب د ع: "أبدعَ الشيء" اخترعَه لا على مِثالٍ سابق. والله تعالى "بديعُ السموات والأرض" (البقرة 117). والبديع: المبتدِع والمبتدَع؛ وأبدعَ الشاعرُ: جاء بالبديع. وشيء بِدْع أي مُبتدَع ("الصحاحُ" للجوهري)ّ.

والإبداع في "التعريفات": هو إيجادُ الشيء من لا شيء. وقيل الإبداعُ تأسيسُ الشيء عن الشيء. أَمَّا الخَلق فإيجادُ شيءٍ من شيء. قال تعالى "خلقَ الإنسانَ من نُطفة" (النحل 4). والإبداع أعمُّ من الَخلق، ولذا قال تعالى "بديعُ السموات والأرض،" وقال "خلقَ الإنسان"، ولم يقل بديعُ الإنسان.(5) ويقصد بذلك أنَّ الإبداع في هذه الحالة هو إخراجٌ من العدَم إلى الوجود.

والإبداع، عند "ابن سينا"، "أن يكونَ من الشيء وجودٌ لغيره مُتعلِـقٌ به فقط، دون مُتوسِّطٍ من مادَّة أو آلة أو زمان... والإبداعُ بهذا المعنى أعلى رُتبةً من التكوين والإحداث، فإنَّ التكوين هو أن يكون من الشيء وجودٌ مادِّيّ، والإحداثُ أن يكون من الشيء وجودٌ زمانيّ. وكلُّ واحدٍ منهما يُقابل الإبداع. فالتكوين يُقابلُه لِكـونه مسبوقًا بالمادَّة، والإحداثُ يُـقابلـه أيضًا لِكـونه مسبوقًا بالزمان. والإبداع أقدمُ منهما، لأنَّ المادَّة لا يُمكن أن تحصلَ بالتكوين، والزمانُ لا يمكن أن يحصلَ بالإحداث. إذن التكوينُ والإحداثُ مُترتِّبان على الإبداع، وهو أقربُ منهما إلى الله."(6) مِثالُه "أن يكونَ من الشيء وجودٌ لغيره من دون أن يكونَ مسبوقًا بمادَّة ولا زمان، كالعقـل الأوَّل... الذي يصدرُ من واجِب الوجود من دون أن يكونَ صدورُه عنه مُتعلِّقًا بمادَّة وزمان."(7)

أَّمَّا مفهومُنا لتحديد معنى "الإبداع" بقدر ما يتعـلق بهذا البحث، فإنه يقـترب من "التكوين والإحداث" في مفهوم ابن سينا، خاصَّةً أَنـَّنا نتحدَّث عن "الإبداع" البشريّ لا الإبداع الإلهيّ؛ علمًا بأنـنا ندمجُ "التكوين" في "الإحداث"، استنادًا إلى نظريَّة آينشتاين في النسبيَّة، التي تـُضيف "الزمان" كبُعدٍ رابع للأشياء، باعتبار أنَّ "التكوين" هو "حَدَث"، والَحَدثُ لا يحصلُ إلاَّ في زمان. ويطول الحديثُ عن فكرة الزمان عند آينشتاين، الأمر الذي يخرجُ عن نطاق هذا البحث.وسنأتي على تعريفِنا المقترحِ للإبداع فيما بعدُ.

والإبداعُ الفنِّيّ أو الأدبيّ: في "المُعجَم الأدبيّ" لعبد النور، هو الابتكار INVENTION (F) (E) ، وهو على فرعَين:

"1- مرحلة من التأليف قوامُها تخيّـُـلُ الموضوع ورسمُ مُخَطَّطِه، ووَضعُ حَبْـكـته، وتعيينُ مراحل تطوُّره...

2- الابتكار في حَدِّ ذاته عمليَّة ذهنيَّة، الغايةُ منها الاهتداءُ إلى أفكارٍ تتعلَّقُ بموضوع معيَّن. والنهجُ المُتَّبَع فيها هو نفسه لدى الفنَّان العبقريّ والفنّان المُبتدئ، لأنَّ الناسَ جميعًا يبتكرون بطريقة متشابهة، ويتفاوتون فيما بينهم بالنوعيَّة والعُمق..."(8)

والإبداع في مجال العِلم: هو اختراع و/أو اكتشافٌ يجري بمراحلَ عمليَّة و/أو نظريَّة تتمُّ على نحوٍ مُتكامل أو مُتعاقب، تتميَّزُ بأنَّها تقبلُ التحقـُـق إمَّا بالتجربة وإمَّا بجملةٍ من عمليَّات المراجعة والمراقبة أو الرَّصد يقودُها منطقٌ معيَّن، أي جملةٌ من القواعد يتـَخذها العقلُ ميزانا ً للصواب والخطإِ.

الإبداع، كتعبيرٍ أو مُصطَلح، قد يُرادفُ أو يُداخِلُ تعابيرَ أُخرى أو يختلفُ عنها، منها: إختراع INVENTION، واكتشاف DISCOVERY، وابتكار INNOVATION، وبِدعة. سنُحاولُ التمييزَ بين المصطلحات الثلاثة الأولى، ونُؤجِّل إيضاحَ مدلولِ "البِدعة والإبداع" إلى ما بعد "المداخلة والتعريف المقترَح."

"الاختراع" هو إيجادُ أداةٍ أو آلةٍ أو طريقةٍ أو نَهْجٍ لم يكن له وجودٌ سابق يسدُّ حاجةً من حاجات الإنسان أو يُؤدِّي إلى تسهيل عملٍ أو التوصُّل إلى نتائجَ جديدة، أو فهمٍ أفضل لبعض الظواهر. فيُقالُ مثلاً "اخترع" نيوتن حسابَ التفاضُل والتكامُل، واكتشف قوانينَ الجاذبيَّة (هناك رأي مفادُه أنَّ العربَ هم أوَّلُ مَن اخترعوا حساب التفاضُل والتكامُل).

و"الاكتشاف" هو التعرُّف أو التوصُّل إلى معرفة شيءٍ له وجودٌ سابق يُؤدِّي إلى فائدةٍ ما. فيُقالُ مثلاً "اكتشف" الإنسانُ النار منذ عشرات الآلاف من السنين، وظلَّ يُحاول أن "يكتشف" وسائلَ تطويعها أو تأهيلها أو توجيهها، لتحقيق أفضل النتائج والخدَمات، حتَّى "ابتكر" طريقةَ استخدامها في الحركة الذاتيَّة AUTOMATION عن طريق أجهزة الوقود الأُحفوريّ، في العصر الحديث. كما استخدمها، من جهةٍ أخرى، في الدمار والإبادة الفرديَّة والجماعيَّة، في المتفجِّرات. كما يُقالُ اكتشفَ كـُرُسْـتوف كـُولومبُوس العالمَ الجديدَ.

رابعًا- ُمداخَلة وتعريفٌ مُقترَح

كانت هذه تعريفاتٍ تقليديَّة؛ ومع أهمِّـيَّتها ومشروعيَّة الإحاطة بها، فإنَّها قد تُقصِّرُ عن الاستجابة لمفهوم الإبداع الذي يتميَّزُ هو ذاته بمفهومٍ حَرَكيّ (ديناميكيّ) مُتطوِّر.

من جهةٍ أُخرى، فإنَّنا سنتجاوز المفهومَ التقليديَّ لمُصطَلح "التعريف" ذاته بوجهٍ عامّ، من ناحية كَونه يتميَّزُ بأنَّه يجمع عناصرَ المعرَّف أو الموضوع، ويمنعُ دخولَ أيِّ عُنصرٍ آخر غريب عنه فيها، وهو ما يُطلَقُ عليه "التعريف الجامع المانع." ذلك لأنَّنا نعتقد أنَّ هذا المفهومَ الخاصّ بلفظ "التعريف" هو مفهومٌ يدلُّ على الجمود والثبات. وهو ما يُخالفُ فكرةَ الإبداع الأساسيَّة، لأنَّ مفهومَ الإبداع ذاته مفهومٌ حَرَكيّ كما أسلفنا.

والتعريفُ المقترَح التالي هو من هذا النوع، أي إنَّه يكتفي بإعطاء فكرة عن الإبداع. ومع ذلك فهو يحاول أن يستوعبَ أهمَّ عناصره، وفي أيِّ حال، فإنَّه ليس نهائيًّا، بل سيظلُّ مفتوحًا للتعديل والتحوير والإضافة، أي إنَّه تعريفٌ حَرَكيّ مَرِن يستجيبُ لمختلف المُستجدَّات.

يُمكنُ القول، على الصعيد البشريّ الفرديّ والجماعيّ، إنَّ الإبداعَ هو عمليَّةُ إنتاج نوعٍ جديدٍ من الوجود المادِّيّ أو المعنَويّ من وجودٍ سابق، بواسطة إعادة تركيب عناصره القائمة، أو إضافة عُنصر أو عناصرَ أُخرى جديدة، أو حَذف بعضها، أو إعادة تشكيل العلاقات القائمة بينها.

وقد يجوز التفريقُ بين الإبداع المادِّيّ والمعنويّ. فالمادِّيّ، مثلاً، إنتاجُ أداةٍ أو آلة جديدة أو تحقيقُ إضافةٍ أو تطوير فيها لتحقيق واحد أو أكثر من الأغراض التالية: 1) نوعيَّة أعلى، 2) أداء أفضل، 3) أداء إضافيّ جديد،4) كِلفة أقلّ ... إلخ.

أمَّا الإبداعُ المعنويّ، الذي تدخلُ فيه الفنونُ والرياضيَّات والعلوم الصِّرف والعلوم الإنسانيَّة عامَّةً (مثل الآداب وعلم الاجتماع)، فيعتمدُ فيه الإبداعُ على الفكر وآثاره المباشرة أو غير المباشرة؛ علمًا بأنَّ الفكرَ هو الأداةُ الأُولى للإبداع سواءٌ كان مادِّيـًّا أو معنويًّا. وفي ميدان الفكر النظريّ بوجهٍ عامّ، "فإنَّ الإبداعَ نوعٌ من استئناف النظر، أصيلٌ، في المشاكل المطروحة، لا بقَصد حلِّها حلاًّ نهائيًّا—ففي الفلسفة والفكر النظريّ ليست هناك حلولٌ نهائيّة— بل من أجل إعادة طَرحها طرحًا جديدًا يُدشِّن مقالاً جديدًا يستجيبُ للاهتمامات المُستجدَّة، أو يحثُّ على الانشغال بمشاغل جديدة."(9)

نُضيفُ إلى ذلك أنَّ الإبداعَ، في ميدان الفكر النظريّ، هو استنباطٌ جديد من ملاحظاتٍ قد تكون معروفةً ومألوفة، أو استنتاجُ فَرضيَّة جديدة من "استقراء"، أو ملاحظاتٌ متعدِّدة تتحوَّلُ بالتدريج إلى نظريَّة إذا ثبتَت بالبراهين المُرجِّحة؛ وبعبارةٍ أُخرى فإنَّ الإبداع، في هذا الميدان، هو إدراكُ العلاقات بين الظواهر الاجتماعيَّة، أو الفكريَّة، وعَقلنتُها ثمَّ استخراجُ مفهومٍ عامّ بشأنها يتطوَّرُ إلى فرضيَّةٍ ثمَّ إلى نظريَّة.


مفهومُ الاتِّباع

يُمكنُ القول إنَّ مفهومَ "الاتِّباع" هو المفهوم المخالف لـ"الإبداع". ففي الوقت الذي يرتبطُ الإبداعُ بالبحث عن كلِّ جديدٍ أو ُمحدَث أو مُبتكَر للاستفادة منه، فإنَّ "الاتِّباع" يرتبطُ بالبحث عن كلِّ ما هو قديمٌ أو معروف أو مألوف لاتِّباعه. ويدخلُ في مجال الاتِّباع الأعرافُ والتقاليدُ والعاداتُ واتِّباعُ السُنَّة في الدين الإسلاميّ. وفي هذا المجال هناك خلافاتٌ كثيرة حول مفهوم الاتِّباع والإبداع. فيقول أبو حامد الغزالي مثلاً: "لازِمْ الاقتداءَ بالصحابةِ—رضي الله عنهم—واقتصِرْ على اتِّباع السُنَّة، فالسلامةُ في الاتِّباع، والخطرُ في البحث عن الأشياء والاستقلال، ولا تـُكـثِـر اللـَجَجَ برأيك ومعقولك، ودليلك وبرهانك وزعمك إنِّي أبحثُ عن الأشياء لأعرفَها على ما هي عليه..."(10)

ويكاد أن يكونَ هناك اتـِّفاقٌ عامّ بين جمهور الفـُـقهاء على أنَّ "الاتِّباعَ " واجبٌ في "العبادات". أمَّا في "المعاملات"، فهناك اختلافاتٌ كثيرة نُلمِحُ إليها في الفقرة التالية، وسنحاول تفصيلَ بحثها في الحلقة القادمة.

خامسًا- البِدعةُ والإبداع

يقول الجرجانيّ: البِدعة "هي الفِعلة المخالفة للسُّـنَّة. سُمِّيَت البِدعة لأنَّ قائلَها ابتدعَها من غير مقالِ إمام. وقيل هي الأمرُ المُحدَث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون، ولم يكن مِمَّا اقتضاه الدليلُ الشرعيّ."(11)

وعلى صعيد العلوم الإسلاميَّة، يختلف الفقهاءُ في تحديد معنى البِدعة تفصيلاً. فقد ميّـَزوا أوَّلاً في البـِدَع— أي في المُستجدَّات—بين ما هو مُفيدٌ للناس أو فيه صلاحٌ للسلوك، فهو محمود، وبين ما فيه ضَرَرٌ للناس أو انحرافٌ عن السلوك الصحيح، فهو مذموم.

وقد غالى البعضُ في سَريان معنى البِدعة بمعناها المذموم، خاصَّةً في عصر الجمود والانحطاط، على كثيٍر من المُستجدَّات. فقد اعتبروا مثلاً بناءَ المدارس بـِدعة، لأنَّ العلم كان يُـتـلـقَّى في عهد السَّلَف الصالح في المساجد، كما اعتبرَ البعضُ بناءَ القناطر بِدعة بدعوى أنَّ الصحابة لم يُعرَف أنـَّهم شيَّدوها.

بَيدَ أنَّ الفقيهَ الأندلسيَّ المجتهد، الإمامَ الشاطبيّ، المُتوفَّى 790 هـ، يُميِّزُ بين البـِدَع "التي تتعلَّقُ بالأُمور التي تجري مجرى العاديَّات، أي التي تقتضيها الحياةُ الاجتماعيَّة وتطوَّرُها، والبـِدَعِ في العبادات. ويُشير إلى أنَّ كلَّ ما لا يُؤدِّي إلى تَرك عبادةٍ من العبادات التي نَصَّ عليها الإسلام ولا إلى إحداث عبادة لم ينصَّ عليها، فهو ليس بـ"بـِدعة" بالمعنى المذموم للكلمة. ويقول مُعارضًا آراءَ المُتزمِّتين في البِدعة: "إن عَدُّوا كلَّ مُحدَثِ العادات بِدعة، فيعدُّوا جميع ما لم يكن فيهم (أي الصحابة) من المأكول والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهدَ بها في الزمان الأوَّل—زمان الصحابة—بِدعة. وهذا تشنيع. فإنَّ من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والأُمَم، فيكون كلُّ مَن خالف العربَ الذين أدركوا الصحابة اعتادوا مثل عوائدهم غير مُتَّبعين لهم. وهذا من المُستنكَرات جدًّا."(12)

سادسًا- تأصيلُ الاتِّباع والإبداع

1- يُمكنُ القول إنَّ الإنسانَ العاديَّ يميلُ عادةً إلى الاتِّباع أكثرَ مِمَّا يميلُ إلى الإبداع. ألا نُلاحظُ أنَّ الطفلَ يُحاولُ أن يُقلِّدَ أبوَيه أوَّلاً، ثمَّ يُقلِّد زُملاءه فيما بعد؟ بل إنَّ الناشئَ يقتبسُ معظمَ عاداتِه وقِيَمِه، إن لم يكن جميعها، من بيئته في أُسرته أوَّلاً ثمَّ من مدرسته وأصحابه ثانيًا، كما يقتبس الطفلُ دينَه ومُعتقَدَه من أُسرته، فيكون مُسلمًا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا أو بوذيًّا تبعًا لذلك. كما يمكن افتراضُ أن تقومَ أُسرةٌ مُسلمة بتنشئة طفلٍ وُلِدَ في أُسرة مسيحيَّة أو يهوديَّة، فيكون مُسلمًا، والعكس صحيح. فلو تصوَّرنا أنَّ هناك والدتَين من دينَين مختلفَين أنجبتا طفلَين ذكرَين في وقتٍ واحد، في مستشفى—وكثيًرا ما يحدثُ ذلك اليومَ—ثمَّ أخطأت القابلةُ في تعيين الأُمّ، فأعطت للأُولى وليدَ الثانية وأعطت للثانية وليدَ الأُولى؛ فينشأ الطفلان على دينَين مختلفَين عن دين أبوَيهما الأصليَّين. والمفارقةُ التي قد تحصل، وربَّما تحصلُ فعلاً، أن يُصبحَ الناشئان رجلَين، كلاهما مُلتزِمٌ دينَه، بل متعصِّبٌ له، ويلتقيان في مناسبة قد تُؤدِّي إلى النقاش الحادّ بشأن الأديان. فلا شكَّ بأَنَّ كلاًّ منهما سيكون مُتحمِّسًا لدينه الذي هو في الواقع دينُ الآخر (لو لم يحصل ذلك الخطأ)، وكلاًّ منهما يعتقدُ يقينًا أَنَّ دينَه هو الأصوبُ والأفضل والأعقل ... فتأمَّلْ!

وهناك كثيرٌ من الأمثلة التي تُشير إلى أنَّ الاتِّباعَ سلوكٌ مألوفٌ وعامٌّ وقديٌم ومُتأصِّلٌ في أيِّ مجتمع من المجتمعات؛ ومن مظاهره:

أ- العاداتُ والتقاليدُ والأعرافُ والقِيَم التي نراها مُنتشرةً في مختلف المجتمعات المتخلِّفة والمتقدِّمة على السواء. ولدَينا في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة عددٌ كبيرٌ منها، وهي قد تكون مُتوارَثة من الآباء إلى الأبناء فإلى الأحفاد إلى ما لا نهاية. أو قد تتكوَّنُ العاداتُ أو التقاليدُ أو تتغيَّر خلال جيلٍ واحد أو أقلَّ أحيانًا، إن حدثَ تطوُّرٌ سريع في مجتمع ما بسبب عواملَ داخليَّة أو خارجيَّة. فمثلاً أذكرُ أنَّ والدتي وأخواتي الشابَّات كُنَّ، في طفولتي، لا يخرجنَ إلى الشارع إلاَّ بالحجاب الكامل، أي بالعباءة والبرقُع الذي يُخفي الوجه تمامًا، شأنُهنَّ شأنُ أَيَّة امرأة مسلمة محترمة من نفس طبقتنا المتوسطة، التي نُسمِّيها اليوم "البرجوازيَّة الصغيرة". وتدريجيًّا بعد الزواج اختفى البرقُع. ثَّم استقبلَتني الأسرةُ عندما عدتُ من دراستي في فرنسا بدون عباءات. ولم يكن هذا الأمر قاصرًا على أُسرتي بل على المجتمع العراقيِّ بكامله تقريبًا، وخاصَّةً الطبقة الوُسطى والعُليا. كذلك المجتمع السوريّ-اللبنانيّ الذي عرفتُه صبيًّا صغيًرا ثم شابًّا. ولاحظتُ مدى التطوُّر الذي حصلَ للحجاب والسفور خلال عشرين أو ثلاثين عامًا تقريبًا. والمفارقة المفاجِئة التي لاحظتُها، وأنا أزورُ بلدي العراق في مطلع عام 2000، بعد غياب 15 عامًا، أنَّ بعضًا من بنات أخواتي المتزوِّجات وبناتهن الشابَّات، عُدْنَ إلى ارتداء الحجاب، لا المعروف سابقًا بشكل عباءة وبُرقع، بل الرداء الطويل وغطاء الشعر والرقبة دون الوجه. وكلُّ ذلك من مظاهر "الاتِّباع" التي تتطوَّر بتطوُّر "العقل المُجتمَعيّ" الذي سنتحدَّثُ عنه من حيث علاقتُه بالإبداع والاتِّباع في الحلقة الثانية.

ب- أصبحت عمليَّاتُ الترويج لـ"الاتِّباع" منتشرةً على نطاقٍ واسع في مختلف أرجاء العالم، لكنَّها تُشكِّلُ في البلدان الغربيَّة حجمًا هائلاً من الأعمال التجاريَّة المُدِرَّة للبلايين. وأقصدُ بهذه العمليَّات وسائلَ الإعلان والدعاية لآلاف المنتَجات أو المستحضَرات بما فيها الموادُّ الغذائيَّة والترفيهيَّة. فأنت تكاد لا تفتح التلفزيون أو الراديو إلاَّ ترى أو تسمع عشرات الإعلانات عن هذا المنتوج أو ذاك. وكلَّما كان الترويجُ منصبًّا على كثرة عدد الأشخاص الذين يستخدمون ذلك المنتوج، كان الإعلانُ أكثرَ نجاحًا والمنتوجُ أوسعَ استخدامًا ورواجًا. وتعتمدُ عمليَّاتُ الإعلان هذه على الإيحاء المباشر أو غير المباشر بـ"الاتِّباع": اتِّباع البَطَل، أو نجوم التمثيل، أو تقليد المرأة الجميلة، أو الجمهور العامّ الواسع. وتُؤثِّرُ هذه الأساليبُ على الأطفال والناشئة خصوصًا لأنَّهم أكثرُ تأثـُرًا بالإيحاء وأعداد الأشخاص الذين يستخدمون المنتوج من نفس السن تقريبا. لذلك مُنِعَ الترويج للدخان والمشروبات الكحوليَّة، في أمريكا خاصَّة، حمايةً لملايين الناشئة من أخطارها. فإذا شاهدَ الناشئُ أحدَ نجوم ِالرياضةِ أو الأفلام السينمائيـَّة يُـدخـِّن نوعـا ً معيَّـنا من السكائر، فإنه يُـقـَـلِدُه تِـلقائيا.ً وهذه مشكلة ٌ خطيرة ٌ تواجـِهُ المجتمعَ الرأسماليَّ القائمَ على المُـنافـَسَةِ والربحِ.

2- لماذا يميلُ الإنسان العاديّ إلى الاتِّباع أكثرَ مِمَّا يميلُ إلى الإبداع؟ ربَّما لأنَّ الاتِّباع يعني اليقين. وينحو الإنسان إلى اليقين أكثرَ مِمَّا يميل إلى الشكّ، لأنَّ في اليقين راحةَ البال، والاطمئنانَ إلى أنَّ السلوك الذي يتَّخذُه الفردُ هو السلوك الأصحُّ والأصلح. والسلوكُ "المـتَّبَع" والسائد هو السلوك الذي يوحي باليقين. بينما السلوك غير السائد سلوكٌ مشكوكٌ فيه، بل قد يكون محفوفًا بالمخاطر أو التهلكة، كما يقول الغزالي. من هنا نصلُ إلى غريزة الإنسان الأساسيَّة والطبيعيَّة الأهمّ، ألا وهي غريزةُ المحافظة على البقاء. ومعنى ذلك أنَّ التقليد و"الاتِّباع" يرتبطان بتلك الغريزة التي تسيطر على جميع الأحياء.

3- قلنا إنَّ الإنسانَ العاديَّ يميل إلى التأكـُّـد من مواضع أقدامه، لذلك فهو يسيرُ في الطريق المطروق الممهَّد، بدلَ أن يسلكَ الطريقَ غير المعروف، الذي قد تتخلـلـُه بعضُ العقبات أو حتَّى بعضُ العثرات، أو قد يقودُه إلى الهاوية. ومن هنا استنتجنا أنَّ "الاتِّباع" يرتبطُ بغريزة المحافظة على البقاء.

بَيدَ أنَّ هناك غريزةً أُخرى قد تُعدِّلُ من سيطرة الغريزة الأُولى لدى بعض الأشخاص، وبدرجات متفاوتة. أعني بها غريزةَ "حُبِّ الاطِّلاع" أو "حُبِّ الاستطلاع" أو "الفضول" التي ترتبط، وتنتهي بحبِّ المعرفة وحبِّ الاستكشاف أو الاكتشاف، وتـقـتضي في كثير من الأحيان "المغامرة". وتلتصقُ هذه الغريزةُ بالإنسان أكثر من الحيوان، مع وجود خلافٍ حول وجودها لدى الحيوان أصلاً.

4- و تظهر هذه الغريزة، في أبسط أشكالها، لدى العامَّة، لحظةَ التوقُّف عند حدوث ضجَّة أو حركة غير طبيعيَّة في الطريق العامّ لتعرُّفِ ما يدور هناك. كما قد تظهرُ من خلال تنسُّم أخبار المعارف والأصدقاء وما يُسمَّى بـ"القيل والقال" (gossip)، واصطياد الإشاعات وتعزيزها إلخ. ويعتمد كثيرٌ من المجلاَّت والصحُف، في أُوروبَّا وأمريكا خاصَّةً، على بَثِّ الأخبار والإشاعات عن كِـبار الشخصيَّات ونجوم السينما استغلالاً لغريزة الفضول الراسخة في نفوس الناس. ويُنفقُ الجمهور في تلك البلدان البلايينَ من الدولارات في سبيل الاطِّلاع على الفضائح والإشاعات والتحدُّث عنها، الأمر الذي يُؤدِّي إلى استخدام جيشٍ من المُخبِرين والصحفيِّين؛ ويدرُّ كلُّ ذلك أرباحًا هائلة على شركات الصحافة الشعبيَّة الرائجة. وليست بعيدةً عنَّا ذكرى مأساة الأميرة دَيانا وخطيبها الفايد، التي قد تكون حدثَت بسبب ملاحقة المُخبِرين الصحافيِّين.

5- كما تظهر تلك الغريزةُ، أي غريزة حب الاستطلاع، في أشكالها الأُخرى والأهمّ، مُتدرِّجةً من حبِّ المعرفة بوجهٍ عامّ، كما أسلفنا، إلى ركوب المخاطر لاستكشاف الأرض والفضاء الخارجيّ وعُبور المحيطات، والغَوص في الأعماق السحيقة في الأرض والبحر، وتسلـّــُـق الجبال الشاهـقة. كلُّ هذه الأنشطة، التي تُؤدِّي أحيانًا إلى التهلكة وفقدان الأرواح، تُعتَبرُ مظاهرَ متقدِّمة من أشكال "الإبداع" تحدِّيًا لـ"الاتـِّباع" والتقليد، والسَّير في الطريق المألوف والمطروق المؤدِّي إلى السلامة.

كما تتجلَّى هذه الغريزةُ المعاكسة لغريزة "الاتِّباع" في مُحاولات العلماء والمفكِّرين لاكتشاف الفرضيَّات ثمَّ النظريَّات فالقوانين التي نوَّرَت عقولَ البشريَّة وثوَّرتها، وأدَّت إلى تحقيق جميع هذه المنجَزات العلميَّة والعمليَّة الراهنة، بل إلى انبثاق هذه الثورة العلميَّة والتِّقانيَّة المتفجِّرة في العصر الحديث. وقد لقيَ كثيرٌ من العلماء والمفكِّرين مصاعبَ جمَّة من جرَّاء نَشر أفكارهم، بل تعرَّضوا لعقوباتٍ صارمة تصلُ إلى حدِّ الإعدام، لأنَّها كانت خارجةً عن المألوف والمعروف (اتِّباع)، بل متقحِّمة في قلب المفاهيم و/أو القِيَم و/أو النظريَّات السائدة (إبداع) .(13)

ويلاحَظُ أنَّ الذين يندفعون وراء غريزة حبِّ المعرفة، و/أو طَرْق باب المجهول، و/أو إعادة النظر في قِيَم المجتمع ومفاهيمه ومعارفه، هم فئةٌ صغيرة جدًّا من أفراد كلِّ مجتمع، في كلِّ زمان ومكان، مُقابل الأغلبيَّة الساحقة من أفراد المجتمع التي تخضع لغريزة "الاتِّباع" التي ترتبطُ بغريزة المحافظة على البقاء، على النحو المشروح أعلاه. وهذه الفئة، التي سنُطلق عليها تعبير "النخبة" هي التي قادت وستقود أيَّ مجتمع إلى الارتقاء في سَُـلـَّم الحضارة والتقدُّم. كما إنَّها هي التي ضحَّت بالغالي الكثير في سبيل إثبات مفاهيمها ونظريَّاتها الغريـبة والجديدة( المُبْدِعَـة)، والفاتحة على المجتمع أبوابَ التقدُّم والرقيّ.

6- وكلَّما ارتقى المجتمعُ في سُلَّم التقدُّم، زاد عددُ أفراد هذه النُخبة المتميِّزة، والعكسُ صحيح؛ أي إنَّ هناك علاقةً جَدَليَّة وثيقة بين التقدُّم المُجتمَعيّ ونُمُوِّ هذه النخبة كَمًّا وكَيفًا. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ المجتمعاتِ المتخلِّفة يقلُّ فيها عددُ هذه النُخبة ويضعفُ تأثيرُها، إلاَّ إذا ظهرَ فيها بطلٌ يخرقُ أهمَّ سدودِ "الاتِّباع"، ويصمدُ لكلِّ الأعاصير والعواصف، مثل الرسول محمَّد .


مدى ارتباطِ "الإبداع" بغريزةِ المحافظة على البقاء

قلنا إنَّ "الاتِّباعَ" يرتبطُ بغريزة المحافظة على البقاء، لأنَّ الفردَ العاديَّ يَنشدُ "اليقين" فالسلامة، بدلاً من "الشكّ" فالمجازفة. بينما حين تطرَّقنا إلى عَرض "غريزة حبِّ المعرفة أو الفضول"، ربَّما تركنا انطباعًا لدى القارئ بأنَّ هذه الغريزةَ مُناقِضة للأُولى لأنَّها تـُقابِلها "وتُعدِّلُ من سيطرتها وتظهر لدى بعض الأشخاص بدرجات متفاوتة"، وبالتالي فهي مُفارِقة أو مُناقِضة لغريزة المحافظة على البقاء.

والواقعُ أَّنَّ غريزةَ حبِّ المعرفة ترتبطُ هي الأُخرى بغريزة المحافظة على البقاء. ولكن كيف نفسِّرُ أنَّ غريزةَ حبِّ المعرفة والفضول، التي قد تُؤدِّي بصاحبها إلى التهلكة، مرتبطةٌ بغريزة المحافظة على البقاء هي الأخرى؟

أوَّلاً- لأنَّ جميعَ الغرائز التي يحملُها الإنسانُ والحيوانُ ترتبطُ بغريزة المحافظة على البقاء، بل تُعَتَبرُ تفرُّعاتٍ منها. فالغريزةُ الجنسيَّة وغريزةُ البحث عن الطعام وغريزةُ رعاية النَّسل، كلـُها غرائزُ تتفرَّعُ من غريزة المحافظة على البقاء، وترتبطُ بها، لأنَّها تهدفُ في النهاية إلى المحافظة على بقاء الذات أو النوع. وقد يتميـَّـزُ الإنسانُ ببعضِ الغرائز الإضافيَّة الأُخرى، منها غريزةُ حبِّ الاستطلاع أو المعرفة أو الفضول وغريزة الاجتماع، وكلاهما يرتبطان بغريزة البقاء. فالاجتماع هو نوع من المحافظة على البقاء، إذ بدونه يتعذر على الإنسان الفرد أن يعيش. ومع أنَّ هناك بعض الدلائل على وجود هاتَين الغريزتين لدى بعض الحيوانات، خاصَّة القرود العُليا. بَيدَ أنَّ غريزةَ حبِّ المعرفة تتركَّزُ لدى الإنسان بوجه خاصّ، بل تظهرُ لدى بعض أفراده الذين أطلقنا عليهم "النخبة"، على نحو أكبر.

ثانيًا- لأنَّ الفضولَ أو حبَّ المعرفة ذاتَه هو دافعٌ غير مباشر للمحافظة على البقاء. فأَصلُ هذا الدافع لدى الحيوان أحيانًا والإنسان القديم غالبًا هو مُحاولةُ اكتشافِ الخطَرِ الوشيك لتجنـّـُبِه، ولدى الإنسانِ الحديث هو مُحاولةُ اكتشافِ الحقائقِ المُؤدِّية إلى تحقيقِ حياةٍ أفضل. وهكذا فإنَّ الرقيَّ البشريَّ الناتجَ عن المعرفة يُساعد على المحافظة على الذات والنَّوع. لذلك نُلاحظ أنَّ مُعدَّلَ العُمر يزداد باستمرار في البلدان المتقدِّمة حضاريًّا بسبب المعارف العلميَّة والصحِّيَّة المتُوافرة فيها أكثرَ مِمَّا في البلدان الأُخرى حيث ينخفضُ معدَّلُ عُمر الإنسان كلَّما تردَّى المجتمعُ في هاوية الجهل والتخلُّف، كما إنَّ مُعدَّلَ وفَياتِ الأطفال يقلُّ كلَّما ارتفعَ مُستوى المعيشة.

وفي الواقع، فإنَّ تاريخَ تقدُّمِ الحضارة وتطوُّرِها إلى الحدِّ الذي وصلَت إليه في الوقت الراهن ما هو إلاَّ تاريخُ كيفيَّةِ سيطرةِ الإنسان على الطبيعة وتسخيِرها لخدمته عن طريق حُبِّ الاستطلاع والعلم والمعرفة، وبالتالي زيادة التمتُّع بنتائج هذه السيطرة لإسعاد الإنسان؛ مع أنَّ هناك تحفُّظاتٍ على مدى استنـزاف الإنسان للطبيعة الأمر الذي أدَّى إلى التلوُّث ونضوب مصادر الطاقة. لكنَّ هذا الأمرلا يدخلُ في موضوعنا.

سابعًا- موجَزُ ما تقدَّم

التحدِّياتُ التي تُواجه الأُمَّةَ العربيَّة قد تُقرِّرُ مصيرَها، خاصَّةً أَّنَّ الفجوةَ الحضاريَّة بين "الآخر" والـ"أنا" تزدادُ اتِّساعًا في كلِّ لحظة، وهذا يُؤدِّي إلى زيادة التحدِّيات التي أسفرَت عن هذه الكوارث التي تتعرَّضُ لها الأُمَّة، والتي يُعيد الكاتبُ سببَها الرئيسيَّ إلى تخلُّف الأُمَّة عن رَكْبِ الحضارة الحديثة، هذا التخلُّف الذي يُفترَضُ أنَّ من أهمِّ أسبابه تمسُّكَ العرب بـ"الاتِّباع" بدلَ "الإبداع"، الأمرُ الذي يزيدُ من سعة الفجوة الحضاريَّة وعمقها، تلك الفجوة التي قد يتوقَّف عليها مصيرُ هذه الأُمَّة في المدى البعيد.

ونلاحظ هنا ظاهرةَ "الدَّور" أو "الحلقة المفرَغة" التي نُحاول كَسرَها من خلال مُعالجةِ ثــُنائيَّة الإبداع والاتِّـباع وربطِها بـ"أزمة العقل العربيّ"، (التي ترتبط بدورها بالتخلُّف وهكذا نعود إلى "الدَّور". ونُؤَكِّدُ هنا، هذا الترابطَ المتبادَل والتفاعُلَ بين هذه الأسباب والنتائج المتوالدة والمتصاعدة).

فبعد أن حدَّدنا معانيَ الإبداع، والفرقَ بين البِدعة والإبداع، انتقلنا إلى تأصيل كلٍّ من الإبداع والاتــِّباع، واكتشفنا أنَّهما يرتبطان بغريزة المحافظة على البقاء. ولهذا الأمر أهمِّـيَّتُه لأنَّه يدلُّ على أنَّ "الاتـِّباعَ" مظهرٌ سائدٌ في كافـَّة المجتمعات تقريبًا، ولا يقتصرُ على المجتمع العربيّ أو المجتمعات النامية أو المتخلـِفة حَصرًا. بَيدَ أنَّ هناك اختلافاتٍ ودرجاتٍ في اتِّباع "الاتـِّـباع" سنبيـّـِنـُها في الحلقة القادمة. وستتضمَّنُ الحلقة القادمة كذلك استعراضًا لأهمِّ آراء بعض المفكِّرين في الإبداع والاتـِّباع عند العرب، ومنهم ابن خلدون، ومحمَّد عابد الجابري. ثمَّ نشرحُُ رأينا في ثُنائيَّة الإبداع والاتِّباع، ونربطُها بنظريتي "العقل المُجتمَعيّ" و"العقل الفاعل والعقل المنفعل"، ونخلصُ إلى أهمِّـيَّة تحويل العقل العربيّ من عقلٍ مُنفعِل إلى عقلٍ فاعل، عن طريق الإبداع لا الاتِّباع.

المراجع والحواشي

1. كمثالٍٍٍٍٍٍ بسيط على زيادة وتيرة التقدُّم نذكرُ أنَّ مُؤَسَّسة FORRESTER RESEARCH، تتوقَّع نموًّا في خدمات الإنترنت من سبعة بلايين دولار، في عام 1997، إلى 327 بليون دولار في عام 2002، أي بزيادة ستة وأربعين ضعفا ً في خمس سنوات.

2. انطوان زحلان، تقرير "حال الأُمَّة 1999، الدراسات الأساسيَّة، العلم والتِّقانة" (المؤتمر القوميّ العربيّ، الدورة العاشرة، الجزائر 3-7 أبريل 2000، توزيع محدود بأعضاء المؤتمر)، ص 7.

3. J. Simons, The Scourging of Iraq: Sanction, Law and Natural Justice, (London: Macmillan Press, second edition. 1998) ترجمه إلى العربيَّة مركزُ دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت 1998. وجاء في إهداء الكتاب العبارة التالية: "إلى المليون طفل عراقيّ الذين قتلَتهم الحرب البيولوجيَّة الأمريكيَّة في عقد التسعينات، وإلى مئات الآلاف الآخرين الذين سيلحقون بهم في الأشهر والسنوات القادمة."

ونحن نرى أن التنكيل بالعراق جرى من عدة جهات بما فيها ما يسمى بالحكومات الوطنية التي قادت البلاد بعد تخلصها من الاستعمار ووصلت إلى الحكم بالقوة، مما يعكس تخلفنا الحضاري أيضا. فضلا عن أنَّ الدول الأمبريالية الكبرى دأبت على إسناد وحماية تلك الحكومات ما دامت تخدم مصالحها على حساب شعوبها. وبعد أن تتوقف تلك الحكومات عن تعاونها مع تلك الدول الكبرى أو تعارضها في سياستها، تصبح تلك الحكومات "مارقة" تستحق العقوبة هي وشعوبها. لذلك تظل معظم الشعوب العربية ممزقة بين مطرقة الاستعمار أو الهيمنة الخارجية وسندان الحكم الوطني الفاسد.

4. في مقالات ودراسات نُشِر معظمُها في صُحُف ومجلاَّت من أمثال "القُدس العربيّ" (لندن) و "الحياة" (لندن)، و "المنصَّة العربيَّة" (نيوجرسي – نيويورك)، ومجلّة "صوت داهش" (نيويورك).

5. علي بن محمد الجرجاني، تحقيق عبد المُنعِم الحفني، "كتاب التعريفات"، (القاهرة، دار الرشيد، بلا تاريخ)، ص 18.

6. جميل صليبا، "المعجمُ الفلسفيّ"، (بيروت: دار الكتاب اللبنانّي، ط 1، 1971)، مادَّة "إبداع".

7. الشيخ الرئيس ابن سينا ابن سينا، "الإشارات"، طبعة فورجت، النمط الخامس، ص 153. نقلا عن المعجم الفلسفي.

8. جبُّور عبد النور، "المعجم الأدبيّ"، (بيروت: دار العلم للملايين، ط 2، 1984) مادَّة "ابتكار".

9. محمد عابد الجابري، "إشكاليَّاتُ الفكر العربي المعاصر"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 2، 1990)، ص 53.

10. أبو حامد الغزالي، "إحياء علوم الدين" (القاهرة: دار الشعب، بلا تاريخ)، 1/52-53. نقلا عن "أدونيس"، ضمن عدة أبحاث أخرى في كتاب ندوة، "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي"،(الكويت:جامعة الكويت، 1974)، ص186.

11. عليّ بن محمَّد الجرجانيّ، المرجع السابق، ص 52.

12. معظم ما ورد في هذه الفقرة مقتبس بتصرف من كتاب "محمَّد عابد الجابريّ"، "الدينُ والدولةُ وتطبيقُ الشريعة" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 1، 1966)، أنظر خاصة ص 132.

13. والأمثلة على التنكيل بأبطال الإبداع في العالم تضيقُ بها صفحاتُ التاريخ. منهم، ابتداءً من الأنبياء: موسى وعيسى ومحمَّد (عليهم السلام)، ومرورًا بأبي عمر بن العلاء الذي ضُرِب خمسمئة سَوط، وبشَّار بن بُرد الذي قـُطِعَ رأسهُ، وابن المقـفـَّع الذي قـُطِـّعَ إربا، وابن رُشد الذي أُحرِقت أعماله، وجوردانو برونو الذي أُحرِقَ حيّـا ً، وغاليلو غاليلي الذي حوكِمَ وكاد يدفعُ حياتَه لأنَّه حاول أن يُثبِتَ النظامَ الفلكيَّ الذي اكتشفَه كوبرنيكس بوسائل علميَّة، وانتهاءً بطه حسين وعلي عبد الرازق، وفَرَج فوده، الذي اغتيل، ونصر أبي زيد ولويس عوض... وهذا غَيضٌ من فَيض.

الفصل السادس: ثنائيـّة الإبداع والاتـّباع وأزمة العقل العربي (2)

حقائقُ وتَساؤُلات

ارتفعَ عددُ الجامعات في البلدان العربيَّة إلى قرابة 200 جامعة، وتجاوزَ عددُ الخِرِّيجين العشرةَ ملايين، وبلغَ عددُ المُهندِسين وحَمَلةِ الدكتوراه حوالى المليونين، وفي الوطنِ العربيِّ اليومَ حوالى ألفِ مُنظَّمة تقومُ بنشاطاتِ البحثِ والتطوير.1 ومن التساؤلات التي تَرِد:

- مع وجود هذا الجيش العظيم من الخِرِّيجين والمُتخصِّصين، ماذا قدَّمت الأُمَّةُ العربيَّة للعالَم من مُنجَزاتٍ علميَّة أو تِقانيَّة أو فكريَّة؟

- وماذا قدَّمت تلك الجامعات من مُنجَزاتٍ حضاريَّة لبلدانها أو، على الأقـلّ، من خدماتٍ في مختلف الميادين، ومنها، خَفْضُ نسبةِ الأُمِّـيَّة الآخِذة بالتزايُد؟ (بلغت45 في المئة في البلدان العربيَّة، وهي أعلى نسبة بين بلدان العالم، مقابل 5 في المئة في إسرائيل.)، ونشر الوعي الثقافي والعلمي، وتحسين الأداء الاقتصادي والصناعي والزراعي والتقـني؟

- منذ عام 1970، أُضيفَ إلى تكوينِ رأسِ المالِ العربيِّ الثابت نحو ثلاثة آلاف مليار دولار.2 والسؤال:

- ماذا حقـَّـقـنا على صعيد تخفـيف الفَقر (75 في المئة من العرب يعيشون تحت خطِّ الفقر)، وزيادةِ الناتجِ المحلِّيِّ الإجماليّ الذي بلغَت نسبتُه صِفرًا أو أقلَّ في بعض البلدانِ العربيَّة، بينما بلغَ في بعض بلدانِ ”النمور الآسيويَّة“ أكثرَ من 8 في المئة؟3

ومُقابل ذلك: ارتفعَ مُعدَّلُ الناتجُ المحلِّيِّ الإجمالِّي في إسرائيل، خلال العقود الثلاثة الماضية، فأصبح يزيدُ على نظيرِه في الوطنِ العربيِّ سبعَةَ أَضعاف، بعد أن كان الفارقُ ثلاثةَ أَضعاف في عام 1970. 4 ذلك مع إيلاء الاعتبار اللازم للثلاثة آلاف مليار دولار التي استـُـثمِرتْ، خلال نفس الفترة، كما ورد أعلاه. وعلى الرغم من وجود هذه الأعداد الكبيرة من الخِرِّيجين (الذين يتجاوزُ عددُهم ضعفَ عددِ سكَّان إسرائيل)، فإنَّ علاماتِ بَراءات الاختراع التي سجَّلتها البلدانُ العربيَّة مجتمعةً بلغَت 24 علامة، في عام 1998، أي بواقع عـُـشـْرِ علامة لكلِّ مليون نسمة، بينما سجَّـلـَت إسرائيل 577 علامة خلال نفس الفترة، بواقع مئة علامة واثـنـتَـين لكلِّ مليون نسمة.5 وإذْ كـُنـّـا فَخورين بشراء بعض الدول العربية أقمارا اصطناعية للبَثِّ التلفزيونيّ، فقد شرَعَت إسرائيل بإطلاق أقمارٍ اصطناعيَّة من إنتاجها، وبواسطة صواريخَ من صُنعها أيضًا، منذ عام 1988. 6 ذلك مع العلم بأنَّ عددَ سُكاَّن الوطنِ العربيِّ بلغَ 300 مليون (5 في المئة من سُكَّان العالَم)، في مساحةٍ تبلغُ 13 مليون كيلومتر مربَّع (حوالى 9 في المائة من مساحة العالَم )، بينما بلغَ عددُ سُكَّـان إسرائيل حوالى خمسة ملايـين، في مساحة 20 ألف كلم مُربَّع. فلنتأمَّلْ!...

في ضَوءِ هذه الحقائق وكثيرٍ كثيرٍ غيرها مِمَّا يُؤكِّدُ وجودَ فجوةٍ مُتزايدةٍ سعَةً وعُمقًا بيننا وبين إسرائيل، من جهة، وبيننا وبين العالَم المتقدِّم، من جهةٍ أُخرى، نتساءل مع القارئ: ما هي الأسبابُ الجَذريَّة لاستمرار تخلـُّـفنا وتَزايُده، مع توافـُرِ أهمِّ مُـقوِّمات التقدُّم: الثرواتِ الطبيعيَّة والثرواتِ البشريَّةِ والثرواتِ النقديَّة؟7 هذه التساؤلاتُ وغيرُها تثورُ في وجه الباحث، فيجدُ نفسَه أمام شبكةٍ من الإشكاليَّات المُعقَّدة والمُتشابكة والمُعضلاتِ المُتوالدة والمُتفرِّعة التي بحثَها العديدُ من المُفكِّرين العرَب، بقَدرٍ قليلٍ أو كثيرٍ من العُمق والكفاءة الموضوعيَّة. ومع ذلك فإنَّه يظلُّ يشعرُ بمسؤوليَّة الإدلاء بدَلوِه الصغيرة، حين تُراوِدُه بعضُ الأفكار التي يُمكنُ أن تُضيفَ شيئا ً إلى الموضوع. وهو لا يطمحُ إلى حَلِّ تلك المعضلات بقَدرِ ما يسعى، من خلال مُحاولةِ الكشفِ عن أسبابها الجذريَّة، إلى التخـفـيـف من تشَوُّشِ رؤيتها. لذلك كنَّا قد عالجنا في الفصلين الثالث والرابع قضيَّةَ ” تحريرُ العقلِ العربيِّ لتحريرِ الإنسانِ العَربيّ“، كمُحاولةٍ لتحليل بعض المعضلات وتفسيرها. ونحن هنا بصَدد بحثِ مسأَلة ” ثــُنائيَّة الإبداع والاتّباع وأزمةِ العقل العربيِّ المعاصر“، باعتبارها تـُشكـِّـلُ واحدة ً من القضايا المُرتبطة بالمُعضلات المطروحة ارتباطًا عُضويًّا وثيقًا؛ لذلك فإنَّ بحثَها قد يـُـلقي بعضَ الضوءِ على جوانبِ تلك الإشكاليَّات.

وكنَّا في الحلقة السابقة(الفصل الرابع) قد تناولنا مسألةَ الإبداع والاتـِّباع من حيث علاقـتـُها بالكوارثِ التي يتعرَّضُ لها الوطنُ العربيّ، وافترَضنا أنَّ الأُمَّةَ تُعاني من أزمةِ إبداعٍ واكَبَتها منذ انحسارِ الحضارةِ العربيَّة الإسلاميَّة، قبل حوالى سبعة قرون. فبعد أن ربَطنا بين تلك الكوارثِ التي أحاقت بنا، خاصَّةً في الخمسين سنةً الأخيرة، وحالةِ التخلُّف التي يُعانيها الوطنُ العربيّ، أشرنا إلى أنَّ تَوَسُّعَ الفجوةِ الحضاريَّة بين العالَمِ المتقدِّم وعالَمنا المُتخلِّف، الذي يتواصلُ بوتيرةٍ مُتسارعة، يُعتبَرُ أهمَّ عامِلٍ من عواملِ تفاقُمِ التحدِّياتِ التي تُواجهُ الأُمَّة.8 فبعد أن حاولنا تعريفَ كلٍّ من الإبداع والاتِّباع، وميَّزنا بين البِدعة والإبداع، ربَطنا بين الاتِّباع وغريزةِ المحافظة على البقاء، لدى العامَّة بوجهٍ خاصّ، وبين تلك الغريزةِ والميلِ إلى الإبداع لدى بعض الأشخاص. وسنُحاول في هذه الحلقة أن نتعرَّضَ لآراء بعضٍ من المُفكِّرين في مسألة الإبداع والاتِّباع عند العرب، وعلاقةِ هذه الثـُّنائيَّة بالعقل العربيّ، ومن ثَمَّ رأي الباحث، الذي يتركَّز على ربطِها بفرضيَّاتِ ”العقل المُجتمَعيّ“ و”ثــُنائيَّة العقلِ الفاعِل والعقلِ المُنفعِل“ و”إحراق المراحل: عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة“.

أَوَّلاً- العربُ ومسألةُ الإبداع والاتِّباع

هناك عدَّةُ نظريَّاتٍ و آراء في مسألة الإبداع والاتبِّاع عند العرب، تختلف أو تتعارَضُ باختلاف المُفكِّرين واتِّجاهاتهم. ومع أهمِّـيَّةِ هذا الموضوع، فإنّني لا أعرفُ إلاَّ كتابًا واحدًا بالعربيَّة يتضمَّنُ هذا التعبير ذاتَه، هو كتاب ”أدونيس“ المعنوَن ”الثابتُ والمُتحوِّل: بحثٌ في الإبداع والاتِّباع عند العرَب“؛9 علمًا بأنَّ هناك عشراتِ الكتُب، التي تبحثُ هذه المسألة، بشكلٍ أو آخر، ولاسيَّما الكتَبُ التي تتناولُ الحداثةَ والأصالةَ والتجديدَ والتُّراث. بَيد أنَّ مفهومَ الإبداع الواردَ في هذا المقال جاء في كثيرٍ من الكتابات. ويمكنُ تقسيمُ آراءِ الكـُتـَّاب، في ما يتعلـَّـق بالإبداع عند العرب، إلى فرعَين أساسيـَّين: أوَّلُهما ما قيلَ عن العرَب في تاريخهم السابق، وثانيهما ما قيلَ عنهم اليوم.

1- ما قيلَ عن العرَبِ في تاريخهم الماضي

يتعرَّضُ ابنُ خلدون للفِكر العربيِّ بصِيَغٍ تبخيسيَّة وردَت في مُقدّمتِه المعروفة. وكنَّا قد ذكرنا ذلك، في مناسبةٍ سابقة، مع رُدودِ بعض الكُتّابِ عليها، ورأيِ الكاتب في هذا الشأن.10

وفي سياقٍ آخَر يورِدُ الجاحظ، في إطار إشادته بالعرَب والردِّ على هجوم الشعوبيَّة، وبمناسبةِ المقارنة بين العرَبِ والعَجَم، قولاً مشهورًا مَفادُه أنَّ ”كلَّ كلامٍ للفُرس، وكلَّ معنًى للعَجَم، فإنَّما هو عن طولِ فِكرة، وعن اجتهادٍ وخَلوةٍ ومُشاورةٍ ومُعاونة، وعن طولِ تفكُّرٍ ودراسةِ الكُتُب... وكلُّ شيءٍ عند العرَب، فإنَّما هو بديهةٌ وارتجال، وكأنَّه إلهام، وليس هناك مُعاناةً ولا مُكابدةً ولا إجالةَ فِكرٍ ولا استعانة، وإنَّما هو أن يصرفَ وهمَه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام...“11

هناك عدَّةُ تفسيراتٍ لهذا النصّ؛ منها أنَّه أراد أنَّ العقلَ العربيَّ " قوامُه البداهةُ والارتجال، وهو يُريدُ بذلك سرعةَ الفهمِ وعدمَ التردُّد في إصدارِ الأحكام." "ولكـنـَّه لمْ يكنْ مُنتبها ً إلى أنه يَسلبُهمْ القـُدرةَ على التعَـقـُّـل، بمعنى الاستِدلال والمُحاكمة العقليـَّة"12، كما يقول الجابري. وأرى أنَّه قد ذمَّهم من حيث أراد أن يُدافعَ عنهم أو يمتدحَهم، لاسيَّما بالمُقارنة مع الفُرس الذين يتمتَّعون بقَدرٍ كبيرٍ من العُمْـق الفِكـْري والنـَظر المَـنطقيّ والتفاعُل والتواصُل والتكامُل، في مَجالِ البحثِ والتحقيق؛ لذلك تُصبحُ "حكاية الثاني عِلمَ الأوَّل، وزيادةُ الثالث في عِلم الثاني، حتَّى اجتمعَت ثمارُ ذلك الفِكرِ عند آخرِهم" كما يقول الجاحظ.13

ودفاعًا عن العقل العربيّ، وإثباتًا لإبداعاته، يُعدِّدُ الدكتور حسام الآلوسيّ، أستاذُ الفلسفة في جامعة بغداد، بعضَ العلوم التي ابتدعَها العربُ، فيذكر: ”النَّحْوَ، والبيانَ والبديع، وفِقهَ اللغة، والنقدَ الأدبيّ، ودراسةَ النصوص، والقواميسَ، والشروحَ، والعَروض؛ ومن علوم الدين: الفِقْهَ وأُصولَه، وعِلمَ الحديث، والجَرحَ والتعديل، والتفسير، والسُّنَن، والسِّيَر، والحِكَميّات، والناسخَ والمنسوخ، وأسبابَ النزول؛ وفي ميدان العِلم البَحت: علمَ الجَبر، وعلمَ التفاضُل والتكامُل، وعلمَ حساب المُثلَّثات، وعلمَ اللوغاريتمات، وعِلمَ البَصَريَّات، وعلمَ الضوء، وعلمَ الكيمياء، وعلمَ الاجتماع... وعلمَ مُقارنة الأديان“؛ ويقول إنَّ ”غولدزيهر اعتبر ظهور هذا العِلم عند المسلمين دليلاً على اتِّساع أُفُقِهم ورحابةِ صدرِهم. يُضاف إلى ذلك أدبُ الرحلات، والقَصَصُ الخياليّ مِثل حَيّ بن يقظان، والقَصَصُ الرمزيُّ والحِكَمِيُّ عند الإخوان، وابنِ سينا والسَّهروردي وسواهم.“14

وهنا يعترضُ ابنُ خلدون قائلاً: ”من الغريبِ الواقع أنَّ حَمَلةَ العِلم، [أي المُبدعين]، أكثرُهم العَجم، لا من العلوم الشرعيَّة ولا من العلوم العقليَّة000 والسببُ في ذلك أنَّ المِلَّة في أوَّلِها لم يكنْ فيها عِلمٌ ولا صناعة لمُقتضى أحوالِ السذاجةِ والبداوة...“15 ويمضي قائلاً: ”وقد كنَّا قدَّمنا أنَّ الصنائعَ من مُنتَحَلِ الَحَضر، وأنَّ العرَبَ أبعدُ الناسِ عنها، فصارت العلومُ لذلك حَضَريَّة، وبَعُدَ عنها العربُ وعن سوقها. والحضَرُ لذلك العهد هم العَجم، أو مَن هم في معناهم من الموالي... فكان صاحبُ صناعة النَّحْوِ سيـبَوَيه والفارسيَّ من بعده، والزجَّاجَ من بعدهما. وكلُّهم عَجَمٌ في أنسابهم... وكان عُلَماءُ أُصول الفِقهِ كلُّهم عَجَمًا كما يُعرَف، وكذا حَمَلةُ عِلمِ الكلام، وكذا أكثرُ المُفسِّرين. ولم يقُمْ بحِفظ العِلم وتدوينِه إلاَّ الأعاجمُ؛ وظهرَ مِصداقُ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”لو تعلَّقَ العِلمُ بأكناف السماء لَنالَه قومٌ من أهلِ فارس.“16

وقد تصدَّى لرأيِ ابنِ خلدون هذا عدَّةُ كُتَّاب؛ من أهمِّهم الدكتور ناجي معروف في كتابه الذي بحثَ فيه في أُصول ما يزيدُ على ألف عالِمٍ وعالمة في المشرقِ وحده، لإثباتِ أُصولهم العربيَّة، كما ورد ذلك في فصل سابق.17

وأرى أنَّ المنهجَ المُتَّبعَ في بحثِ مِثلِ هذه المسائل هو المنهجُ الإيديولوجيّ الذي ينطلقُ من مُسَلَّماتٍ فكرويَّة مُسبقة، خلافًا للمنهج العِلميّ الذي يفترضُ أن ينطلقَ من ملاحظات (استقراء أوَّليّ)، مُعرَّضةٍ للشكِّ والبحثِ والتمحيص، دون التـَسليم بالنتائجِ المفتَرَضة مُسبقًا. ومِمَّا يزيدُ من تفاقُم المشكلة أنَّ معظمَ الكُتَّاب يتَّخذون موقفًا دفاعيًّا لدى تعرُّضِ أيِّ جهةٍ للتقليل من شأن العرَب ونقدهم، حقًّا أو باطلاً. ونحن العرب نتفهَّمُ ذلك إلى حدٍّ بعيد، لأنَّنا كنَّا ولا نزال نتعرَّضُ لهجماتٍ مسعورةٍ أحيانًا- سابقًا، عندما أراد بعضُ الفُرس الانتقامَ من العرَب الذين قَضَوا على إمبراطوريَّتهم فأصبحوا تابعين بعد أن كانوا متبوعين، كما قال قائلُهم:

                      كنتُ أُحكى وأُغنَّى         صرتُ أحكي وأُغنِّي.

ولاحقًا، حينما تعرَّضنا لهجمات ”الآخَر“، سواءٌ من بعض المُستشرقين أو السياسيِّين، خاصَّةً بعد تفاقُم القضيَّة الفلسطينيَّة.

ومع اعتبارِ كلِّ ذلك، فإنَّنا نرى أنَّ هذا النهجَ قد أدَّى إلى عَكس المطلوب، لأنَّه أغفَلَنا عن رؤية حقيقتنا وفَهم أنفُسِنا وإصْلاحِها، بل أدَّى إلى التنويه بالذات، والتغنِّي بالأجداد والتُّراث، حقًّا أو باطلاً. لذلك أرى أن نلتزمَ صرامةَ النهجِ الموضوعيّ الإبستمولوجيّ بصَرف النظَر عن النتائج المستحصَلة، وأن نسعى للردِّ على الآراء التبخيسيَّة غير الموضوعيَّة بمَنهجيَّةٍ موضوعيَّة، مع الاعتراف بالنقص الذي لا يسلم منه أي مجتمع، بما فيه المجتمعات المتقدمة، باعترافِ بعض المفكرين والسياسيين الغربيين أنفسهم الذين ينتقدون ماضيهم بل وحاضرهم أحيانا بشدة. ويُـعتبرُ هذا النقد الذاتيّ علامة َ صحةٍ وتقدمٍ وتطلع ٍ نحو الأفضل، ونأمل أن نتعلـّمَ من هذا التوجّه.

  • * *

ويطولُ الحديثُ عمَّا قيلَ عن العرَب، في مجال ”الإبداع والاتِّباع“، في تاريخهم الماضي، وخاصَّةً في حقبةِ الحضارة العربيَّةِ الإسلاميَّة. ويسوقُنا ذلك، طبعًا، إلى ميدانِ النقاشِ الواسع الذي كان ولا يزال قائمًا، بل مُحتدمًا ومُشوِّقًا، بين المُستشرقين وبعضِ المُفكِّرين العرَب. ولئن يتعذَّر استعراضُ تلك الأعمال الواسعة في هذا المجال وتحليلُها، مع احتمالِ مُعالجتِها في مناسبةٍ أُخرى، إلاَّ أنَّني سأُحاول وَضعَ بعض المحاور التي تدورُ حولها تلك المناقشاتُ بصيغة الاستفهام:

1- هل أضاف العربُ شيءًا يُذكَرُ إلى الفكر اليونانيّ، أم كانت الفلسفةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ مُجرَّدَ صورةٍ مُعدَّلةٍ أو مُشوَّهة للفلسفة اليونانيَّة، كما يدَّعي بعضُ المستشرقين؟

2- هل كان الفكرُ العربيُّ الإسلاميُّ يدور، بوجهٍ خاصّ، حول نصوصٍ مُقدَّسة، تُعتَبَرُ من المُسلَّمات، يسعى إلى تبريرها أو عَقلَنتِها؟

3- هل كان المُستشرقون مُنصِفين وموضوعيِّين في معالجة تلك القضايا، أم كانوا مُتحاملين على العرَب بشكلٍ واضح؟

ويقودُنا كلُّ ذلك إلى طَرحِ إشكاليَّةِ العلاقة بين المعرفة والسلطة، التي نضعها بالصيغة التالية:هل يمكنُ أن تقومَ معرفةٌ بدون سُلطةٍ تُؤَثِّرُ فيها؟ وهل يمكنُ أن تقومَ حقيقةٌ مُنزَّهةٌ من جميع علاقات الهيمنة والسلطة؟ وكيف يمكن للإنسان، بوجهٍ عامّ، والمثقَّف/المُفكِّر، بوجهٍ خاصّ، أن يستقلَّ عن، أو يتحرَّرَ من جميع النظريَّات المعرفيَّة/السُّلطَويَّة؟

وهنا أودُّ أن أُقدِّمَ ”العقلَ الفاعل“ باعتباره ينحو لتحقيق هذا الاستقلال، بينما يُمثِّلُ ”العقلُ المنفعِل“ الخضوعَ لسلطة ”العقلِ المُجتمَعيّ“ الذي يُمثِّلُ مختلفَ تلك السلطات، بما فيها المعرفيَّة والإيديولوجيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، والدينيَّة؛ وهذا ما سأبحثُه فيما بعد.

2- ما قيلَ عن العربِ في حاضرِهم

حين نتحدَّثُ عن علاقةِ العربِ بالإبداع والاتـّباع، في حاضرِهم، فإنَّ ذلك لا يعني الحاضرَ بمعناه الحَرفيّ، بل الحاضر الذي يعكسُ الماضي، إلى حدٍّ بعيد. فنحن، كبشر، امتدادٌ لآبائنا وأجدادنا ومجتمعاتنا وتُراثنا، أي تاريخنا، منذ أقدم العصور إلى هذا اليوم، ولا يمكنُ الانفكاكُ عن هذه الصِّلة الحتميَّة المفروضة والثابتة. لذلك لابدَّ لأيِّ كاتبٍ يتعرَّضُ لثُنائيَّةِ الإبداع والاتِّباع عند العرَب في حاضرهم، من أن يربطَها بماضيهم، وخاصَّةً فترةَ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة وعصر الانحطاط. و يُمثِّلُ محمَّد عابد الجابريّ، الذي سنخصُّه بعنوانٍ مستقلّ، نموذجا ً لذلك النهج. وهذا لا يعني خُلُوَّ الساحةِ العربيَّة من الأصوات المتميِّزة الأُخرى، التي نُقِرُّ بأهمِّـيَّتِها وأحقِّـيَّتِها بالتنويه والتحليل في هذا المجال، بيدَ أنَّني أعترفُ بأنَّ معرفتي بالجابريّ هي أكثر من معرفتي بغيره، في هذا الميدان، على الأقل. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى، أرى أنَّ الجابريَّ قد عالج هذا الموضوعَ بموضوعيَّةٍ أكثرَ وواقعيَّةٍ أكبر، مع مُراعاة ما وُجِّهَ إليه من نقدٍ من جانب عدّةِ مُفكِّرين، خاصَّةً علي حرب وجورج طرابيشي.18

الجابريّ وأزمةُ الإبداعِ عند العرب

تحت عنوان ”أَزمةُ الإبداعِ في الفِكر العربيِّ المُعاصِر: أزمةٌ ثقافيَّة... أزمةُ عَقل؟“ يُعالجُ الجابريّ هذا الموضوعَ فيقول إنَّ أزمةَ الإبداع ”تعمُّ الفكرَ العربيَّ ككُلّ، كأداةٍ وكمُحتوًى،“ 19 ويدعو المُثقَّفين العرَب إلى مُواصلةِ النظر في هذا الموضوع/الأزمة ”إذا أردنا تحقيقَ نهضةٍ فكريَّة مُتواصلة ومُتجدِّدة.“ وهذا يدلُّ بحقّ على جسامة أزمةِ الإبداع وأثرِها على مصير الأُمَّة ككُلّ.

ويَضطلِع، في هذا الإطار، باستعراضِ الخطابِ العربيِّ الحديث والمُعاصِر وتحليلِه، ويُحدِّدُ أنواعَه بالخطابِ النَّهضَويِّ والخطابِ القَوميِّ والخطابِ السياسيِّ والخطابِ الفلسفيّ. ويستنتجُ من تحليله له- في مُؤَلَّفٍ سابق، تحت عنوان ”الخطابُ العربيُّ المعاصر“ -20 أنَّ هذا الخطابَ (الذي يعكسُ معظمُه بتعبيرنا "العقلَ العربيَّ المنفعِل"، كما سأبحثُه فيما بعد) ”لم يُسجِّل أيَّ تقدُّمٍ حقيقيّ في أيَّةِ قضيَّةٍ من قضاياه، منذ ظهرَ كخطابٍ يُبشِّرُ بالنهضة ويدعو إليها، انطلاقًا من أواسط القرن التاسعَ عشر.“ ويرى أنَّه ظلَّ ”يدورُ في حلقةٍ مُفرَغة، لا يتقدَّمُ إلاَّ ليعودَ القهقرى“؛ وُيضيف: ”ومن هنا تجلَّى لنا زمنُ الفكرِ العربيِّ الحديث والمعاصِر زمنًا راكدًا خامدًا ميتًا، أو قابلاً لأن يُعامَل كزمنٍ مَيت،“ أي إنَّه يُعاني أزمةَ إبداع خانِقـَة ً وخطيرة ً، كما هو واضح.

وتحليلاً للعوامل التي أدَّت إلى ذلك، وجدَ الجابريّ ”أنَّه فِكرٌ محكومٌ بنموذجٍ سَلف مشدودٍ إلى عوائقَ ترسَّخت داخلَه، وتتعلَّقُ أساسًا بنوعِ الآليَّةِ الذهنيَّة المُنتِجة له، إضافةً إلى كونِه فكرًا إشكاليًّا ماورائيًّا، يتعاملُ مع المُمكنات الذهنيَّة كمُعطَياتٍ واقعيَّة، ويُكرِّسُ خطابَ اللاعقل في مملكة العقل.“ ويمضي قائلاً: إنَّ ”النموذج/السَّلَف هو الذي يتحمَّلُ القِسطَ الأوفر من المسؤوليَّة، فيما يُعانيه الفكرُ العربيُّ المُعاصر من أزمةٍ وفشَل.“ ويُواصلُ تحليلَه فيقول: إنَّ هذا النموذج ”هو الذي يُغذِّي عوائقَ التقدُّم والإبداع، في الفكر العربيّ، ويصرفُه عن مُواجهةِ الواقع... وهو الذي يجعلُ الذاكرة، وبالتالي العاطفةَ واللاعقل، تـنوبُ عن العقل.“ ويرى ”أنَّ المفاهيمَ المُوظَّفة في الخطابِ العربيِّ الحديث والمعاصِر مُستقاةٌ كلُّها إمَّا من الماضي العربيِّ الإسلاميّ أو من الحاضر الأُوروبيّ، حيث تدلُّ تلك المفاهيمُ في كِلتا الحالتَين على واقع، ليس هو الواقعَ العربيَّ الراهن، بل واقعٌ مُعتِمٌ غيرُ مُحدَّد، مُستَنسَخ إمَّا من صورةِ الماضي المُمَجَّد وإمَّا من صورةِ ’الغرب– المستقبل‘ المأمول.“21

ويخلصُ الجابريّ إلى أنَّ ”الَمهمَّةَ الأُولى والأساسيَّة المطروحة على الفكرِ العربيّ هي تحقيقُ الاستقلالِ التاريخيِّ للذات العربيَّة؛ وليس من سبيلٍ إلى ذلك إلاَّ بالتحرُّر، أوَّلاً وقبل كلِّ شيء، من سلطةِ النموذج/السلف... وهذا يتطلَّبُ إعادةَ بناءٍ شاملة للفكر العربيّ، كأداةٍ وكمُحتوًى، قوامُها تدشينُ ”عصرِ تدوينٍ“ جديد، يقطعُ مع الطريقة التي عولِجَت بها قضيَّةُ النهضة منذ القرن الماضي.“ وينتهي إلى التعبير عن قناعةٍ أساسيَّةٍ مفادُها ”ضرورةُ تدشينِ خطابٍ جدّيّ في نَقد العقلِ العربيّ.“22

ومُجمَلُ القول: يرى الجابريّ أنَّ الخطابَ العربيَّ الحديثَ والمعاصِر، الذي يعكسُ الفكرَ العربيّ، محكومٌ بمَرجعيَّـتَين، الأُولى: النموذج/السلف، والثانية: ”الآخَر“. وبعبارةٍ أبسط: إنَّ المُفكِّرين العربَ عالجوا القضيَّةَ العربيَّة إمَّا بالرجوع إلى الماضي لاستيحاءِ الحَلِّ أو اقتباسِه، عن طريق القياس مثلاً، وإمَّا بالارتكان إلى الحاضر القائم، ولكن من خلال ”الآخر“ (الغرب). ولاحظَ أنَّ هاتَين المرجعيَّتَين تُعالجان واقعَين مختلفَين عن واقعِنا الراهن، لذلك فشلَ الخطابُ العربيُّ وفشلَ مشروعُ النهضة.

تحفظ وتعقيب: ومع احترامنا لرأي الجابريّ، بيد أننا نعتبرُ هذا التشخيص ناقصاً، استناداً إلى الملاحظات التالية:

1- إذا كان الجابريّ يشكو من أنَّ المُفكِّرين العربَ قد وقعوا في فَخِّ إحدى مَرجعيَّتـَين: الأنا/السَّلف، أو الآخَر/الحاضر، فالسُؤَالُ المطروح هو: هل لهم خيارٌ آخَر؟ أي، هل هناك مَرجعيَّة ثالثة؟ وإن كانت موجودة، فما هي ولماذا لم يدلنا عليها؟

2- ومن جهة أخرى، نرى أنَّه هو نفسه قد وقَع، في فَخِّ هاتَين المَرجعيَّتَين معًا، من حيث يدري أو لا يدري؛ لأنَّ منهجَه البحثيّ هو، في المقام الأوَّل، حداثيّ غربيّ في مَرجعيَّتِه وتوجُّهِه، إبستمولوجيّ في مَنحاه، وفي ذات الوقت يتحرَّكُ في فضاءِ ثقافةٍ عربيَّة أصيلة، يعترفُ بها هو نفسُه حين يقول: ”إنَّ عمليَّةَ التفكير ذاتها لا تتمُّ إلاَّ داخلَ ثقافةٍ معيَّنة وبواسطتها. والتفكيرُ بواسطةِ ثقافةٍ ما معناه: التفكيرُ من خلال منظومةٍ مَرجعيَّة تتشكَّلُ إحداثيَّاتُها من مُحدَّداتِ هذه الثقافة ومُكَوِّناتهِا، وفي مقدَّمتها: الموروثُ الثقافيّ والُمحيطُ الاجتماعيُّ والنظرةُ إلى المستقبل، بل النظرة إلى العالَم، إلى الكونِ والإنسان، كما تُحدِّدُها تلك الثقافة.“ 23

3- لذلك نرى أنَّ الانتسابَ إلى مَرجعيَّةٍ معيَّنة، أو التعاملَ ضمن إطارها، ليس هو المشكلةَ الأساسيَّة التي يُعاني منها الإبداعُ العربيّ، من خلال المُفكِّرين العرب، بل المشكلةُ في طريقةِ تناوُل هاتَين المَرجعيَّـتَين:

4- فمَرجعيَّةُ ”الآخَر“/الغرب، كفكر: فلسفة وعلم، ولاسيَّما تَبَنِّي المناهجِ الحَداثيَّة في البحث والتحليل، ليست عَيـبًا، بل مَيِّـزةٌ يُستَحسَنُ مُراعاتـُها، خاصَّةً فيما يتعلَّقُ بوسائل البحثِ الموضوعيّ الإبستمولوجيّ. لأن هذه المرجعيّـة التي توصلَ إليها الفكرُ الحديثُ بعدَ صراع ٍ طويلٍ وشاقٍ، وغالبا، دام ٍ ، مع الفكر المنتمي إلى إيديولوجيةٍ ضيّـقةٍ كانتْ تـَتمَثـلُ بسُلطة الكنيسةِ(العقلُ المجتمعيّ السائدُ في أوروبا القرون الوسطى) ، تـُعتبر السببَ الأولَ لتحرير الفكر البشريِّ وبالتالي تحرير الإنسان ، وانطلاقه في ميادين العلم ِ والمعرفةِ، مما أوصلَ إلى تحقيق المنجزات الحضارية الماثـلة. وقد حدثَ ذلك بسبب انعتاق الإنسان من ُسلطة العقل المجتمعيّ التي تغذي وتدعمُ العقلَ المنفعل، إلى الرِحاب الشاسعة التي أخذ يتمتعُ بها العقلُ الفاعل.

5- ومن جهة أخرى فإن هذه المَرجعيَّة لم تعد مُلكًا لجهةٍ معيَّنة، بل مُلكٌ للبشريَّةِ جمعاء، تمامًا مثلما كانت عليه الحالُ بالنسبة للتُراث الفلسفيّ اليونانيّ والتُراثِ الثقافيِّ العربيّ، الذي كان مشاعًا للجميع، فاغترفَ العربُ من الأوَّل، ونهلََ الغربُ من الثاني، شارعًا في بناءِ نهضتِه، منذ القرنَين الثاني عشَر والثالثَ عشَر الميلاديَّين. ولكنَّ العَيب، كلَّ العَيب، في تَبَنِّي تلك المَرجعيَّة دون مُحاولة نقدِها و/أو تَبْيِئتِها للثقافة العربيَّة. وهنا يأتي الحدُّ الفاصلُ بين الإبداع والاتّباع. ففي حالةِ اتِّباعها بحذافيرها، نكونُ خاضعين للعقلِ المُنفعِل، أمَّا إذا بدأنا بنقدِها وتطويرها وتعديلها أو تَبْـيئتِها، فإنَّنا نكون قد استخدمنا عقلَنا الفاعل، الذي سنتطرّقُ إلى علاقته الوثيقة بالإبداع، فيما بعد.

6- أمَّا مَرجعيَّةُ ”الأنا“/التُراث العربيّ الإسلاميّ/ الثقافة العربيَّة، فإنَّها هي بالأحرى، مَرجعيَّةٌ يتعذ َّرُ الانفكاكُ عنها، لأنَّ الفِكرَ –أيَّ فِكر– لا يمكنُ أن يتحرَّكَ إلاَّ ضمن ثقافةٍ معيَّنة، كما يقول الجابريّ نفسه، أي إنَّ هذا الاتِّجاهَ لا عَيبَ فيه أيضا. ولكنَّ العَيبَ، كلَّ العَيب، في أن نحذوَ حذوَه، حذوَ النعلِ للنعل، كما تقول العرب، أو نخضعَ له خضوعَ العبدِ لسيِّدِه. وتـنطبقُ على هذه المرجعيَّة، كسابقـتها، مُوجباتُ استخدامِ النقدِ والتطويرِ عن طريقِ العقل الفاعِل، ومن بابٍ أَولى.

7- وفي إطارِ هذه المرجعيَّة الأخيرة، الخاصة بالتراث العربي الإسلامي، يُمكنُ القولُ إنَّها تُمثِّلُ ”العقلَ المُجتمَعيَّ“ الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة.24 وسنُفصِّلُ بعضَ جوانبِه فيما بعد.

8- وبما أنَّ هذا العقلَ المجتمعيّ يُشكِّلُ ”سلطةً“ قاهرة يصعبُ، بل يستحيلُ التحرُّرُ منها أحيانًا، خاصة بالنسبة لجمهور المجتمع العربي عامة، بل حتى بالنسبة لجمهور المفكرين والسياسين، لذلك يمكنُ الالتفافُ حولها، بالسعي لنقدِها عِلميًّا وتأصيلِها تاريخيًّا وتحليلِها موضوعيًّا، بغيةَ تفهُّمِها أوَّلاً، تمهيدًا لتطويرها أو تعديلها وتكييفها أو تَبْـيِئَتِها لظروفِنا وهمومنا ومعضلاتنا. ويضطلعُ بهذه المَهمَّة عادةً المُفكِّرون والباحثون والمُؤَرِّخون المبدعون أو جمهرةُ المُثقَّفين الواعين والمُدركين لأهمِّـيَّةِ الأمر. ويُطلقُ الجابريّ على هذه المَهمَّة ”تدشين عصر تدوينٍ جديد.“ والواقعُ أنَّ هذا الأمرَ يتجاوزُ كثيرًا معنى ”التدوين“، وصولاً إلى النقدِ والتفكيكِ وإعادةِ البناء والتجديد. لذلك يُستَحسَنُ أن نُعدِّلَ التعبيرَ ليُصبحَ ”تدشينَ عصرِ خَلقٍ وإبداعٍ جديد.“ وهناكَ فرقٌ شاسع بينٌ التعبير الأول والثاني.

9- وتتضمَّنُ هذه المَهمَّة، بين أُمورٍ أُخرى، إعادةَ كتابةِ التاريخ العربيِّ الإسلاميّ الذي أرى أنَّه لم يُكتَب حتَّى اليوم.25 وربما كُتِب بعضه، ولكنْ إمَّا بأقلامِ المُستشرِقين، بقدرٍ قليلٍ أو كثيرٍ من الموضوعيَّة، أحيانًا، أو بقدرٍ كبيرٍ من التحامُل غالبًا؛ أو بأقلامِ بعضِ العرب، أو المُسلمين من غير العرَب، بقدرٍ قليلٍ من التحليل والموضوعيَّة، وبقدرٍ كبيرٍ جدًّا من مواقفِ الدفاع والتبرير و”التبيـيض“ والتبجيل، أي بعقلٍ مُنفعِل. وأذكرُ، على سبيل المثال فقط، أنَّ الكاتبَ الكبير، محمَّد حُسَين هَيكل“ (لا ”حَسَـنـَين هَيكل“)، في كتابه القَيِّم ”حياةُ مُحمَّد“، مَرَّ على ”حَدث الِهجرة النَبويَّة“، وهو الَـحَدثُ الذي غيَّرَ مجرى التاريخ، مَرَّ الكِرام، إذْ لم يُوفِه حقَّه من التحليل والتفسير، على ما أعتـقد.

10- وهكذا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى إعادة قراءة تاريخنا وكتابته بمنهجية عِلميَّة أكاديميَّة، وبأقلامٍ عربيَّة موضوعيَّة نقديَّة، حريصة على استخدامِ عقلِها الفاعِل بكفاءةٍ وجُرأة. وفي هذا السياق أتَّفقُ مع الجابريّ حين يقول:

”والحقَّ إنَّ التاريخَ الثقافيَّ العربيَّ السائد الآن هو مجرَّدُ اجترارٍ وتكرارٍ وإعادةِ إنتاج، بشكلٍ رديء، لنفس التاريخ الثقافيِّ الذي كتبَه أجدادُنا، تحت ضغطِ صراعاتِ العُصور التي عاشوا فيها، وفي حدود الإمكانيَّات العِلمية والمنهجيَّة التي كانت مُتوافرة في تلك العصور، وبالتالي فنحن ما زلنا سُجَناءَ الرؤية والمفاهيم والمناهج القديمة التي وجَّهَتهم، مِمَّا يجرُّنا، دون أن نشعر، إلى الانخراط في صراعاتِ الماضي ومشاكلِه، إلى جَعلِ حاضرِنا مشغولاً بمشاكل ماضينا وبالتالي النظر إلى المستقبل بتوجيهٍ من مشاكل الماضي وصراعاته... نحن إذن في حاجةٍ إلى إعادة كتابة التاريخ الثقافيِّ العربيِّ بروحٍ نقديَّة وبتوجيهٍ من طموحاتنا، نحن العرب، في التقدُّم والوحدة.“26 

11- وانطلاقًا من هذه النقطةِ الخطيرة التي أثارها الجابريّ ( العبارة المسوّدة) أدخلُ في خِضَمِّ ثلاث فرضيَّات أو نظريات، تحُأولُ أن تُؤَصِّلَ وتُحلِّلَ وتُفسِّرَ ظاهرةَ كَونِنا لا زلنا سُجناءَ الرؤية الماضَويَّة اللاشعوريَّة لحالنا، الأمرُ الذي جعلَ حاضرَنا مشغولاً بمشاكل ماضينا وصراعاته، هي:1) ”العقلُ المُجتمَعيّ“، 2)”العقلُ الفاعِل والعقلُ المنفعِل“، 3)”عدَمُ مرور العربِ في مرحلة الزراعة بالمعنى الكامل قـبل تقدمهم في مرحلةَ الحضارة“، وأبحثُ ترابطَ هذه الفرضيات مع مَيل العرب، في الغالب، إلى الاتِّباع أكثرَ من مَيلهم نحو الإبداع، على الأرجح.

ثانيًا: الإبداعُ والاتّباعُ والعقلُ المُجتَمَعيّ

أوجزنا، سابقا، نظريَّةَ العقلِ المُجتمَعيّ،27 باعتبارها تُفسِّرُ وتوضِّحُ الآراءَ والمعتقداتِ والقِيَمَ السائدة في أيِّ مجتمع. وتذكيًرا سريعًا بتلك النظريَّة نقول: إنَّ لكلِّ مجتمع عقلاً مُتميِّزًا يتشكَّلُ على نحوٍ تِلقائيّ، خلال المسيرة التاريخيَّة لذلك المجتمع، منذ أقدم عصورِه حتَّى اللحظةِ التي يعيشُها حاضرًا، ويتقولبُ نتيجةً لتلك العمليَّة التفاعُليَّة المُعقَّدة بين الإنسان والطبيعة، من جهة، وبينه وبين أبناء جِلدتِه، من جهةٍ أُخرى. وينفصلُ هذا العقلُ اللاشعوريُّ تدريجيًّا عن أُصوله التاريخيَّة ومُكوِّناتِه البيئيَّة والعلائقيَّة، ليُصبحَ كيانًا سُلطويًّا، ذا ”شخصيَّة اعتباريَّة“ مستقلَّة، يفرضُ قِيَمَه ومفاهيمَه ومعارفَه، أي مرجعيَّتَه بوجهٍ عامّ، على الأفراد والجماعات في ذلك المجتمع. ويخضعُ معظمُ أعضاء المجتمع، عادةً، لتلك المرجعيَّة على نحوٍ لاشعوريّ، في الغالب؛ بل يُدافعون عن قِيَمِ مجتمعهم ومفاهيمِه، بحماسٍ وتفانٍ أحيانًا، باعتبارها قِيَمَهم ومفاهيمَهم، هم أنفسهم، لأنَّهم تشرَّبوا بها منذ نعومة أظفارهم. وتصدقُ هذه النظريَّةُ على جميع المجتمعاتِ النامية أو المتخلِّفة والمتقدِّمة، ولكنَّها تظهرُ بشكلٍ أوضح على الأُولى، أكثر مِمَّا على الثانية.

ونظرًا لأهِّمـيَّةِ نظريَّةِ العقل المُجتمَعيِّ مُطلقًا، من جهة، وعلاقةِ ذلك العقلِ الوثيقةِ بظاهرةِ الاتِّباعِ السائدة في أيِّ مجتمع، لأنَّه يُفسِّرُها ويُؤَصِّلُها، وبسبب تأثيرِه السلبيِّ أو الإيجابيّ على مدى ظهور ”الإبداع“ في ذلك المجتمع، من جهةٍ أُخرى، لابدَّ من أن نتوسَّع ولو قليلاً في شرحِ جوانبَ معيَّنة لم تتَّضحْ فيما سبَق.

فحين ينشأُ الطفلُ في المحيطِ العائليّ، يتعلَّمُ تدريجيًّا قواعدَ ”العقلِ المُجتمَعيّ“ من أبَوَيه ومُعلِّميه، أو من الكبار عمومًا، التي تفرضُ عليه القيامَ بكذا أو الامتناعَ عن كذا. وتُشكِّلُ قواعدُ السلوك جزءًا كبيًرا من ”العقل المجتمعيّ“، فضلاً عن كثيرٍ من المعارف والقِيَمِ الأخلاقيَّة والعلاقات الاجتماعيَّة والآراء والمُعتقدات، وتدخلُ جميعُها تقريبًا في باب ”المُسلَّمات“، في المجتمعات عامَّةً والأُسرةِ العربيَّة خاصَّةً، ونخضعُ لها (أي المُسلَّمات) جميعًا على نحوٍ لاشعوريّ.

ويُعبِّرُ أحدُ المُربِّين عن ذلك من خلال العلائقِ بين الطفل والكبار في المحيط العربيّ، فيقول: ”الأطفالُ كثيرًا ما يُزَقُّون أفكارَ الآخرين، فإذا استدخلوها ظنُّوها أفكارَهم الخاصَّة... وهذا هو المُراد بتزيـيف الشعور الإنسانّي...“28

وقد يقتربُ واحدٌ من أبرز المتخصِّصين العرب في عِلم النفس الحديث من مفهوم ”العقل المجتمَعِيّ“، لدى ”تحليله لـبـِنية المجتمع العربيِّ وديناميَّاته“، بالرَّبطِ بين الذات الفرديَّةِ والذاتِ الجماعيَّة، وأهمِّـيَّةِ تفهُّمِ الأخيرة مع تركيبتِها من أجل تفهُّم الأُولى، أي شخصيَّةِ الفرد وأنماط سلوكها. ويُؤَكِّدُ ضرورةَ استكشاف اللاوَعيِ الجَماعيّ بالعودة إلى”طفولة الذات الجماعيَّة وأوضاعِها الأُسَريَّة، وجروحاتها الصادمة، أو الحوادث المكبوتة والمعيقة لـلـتـقـدُّم... وتحليل بعض مشكلاتها الجنسـيَّة والديـنـيَّة، ومُعالجة شبكاتها الفكريَّة والأخلاقيَّة.“29

السِّجنُ المُجتمَعيّ

إنَّ مفهومَ ”الذات الجَماعيَّة“ (الوارد في الفِـقرة السابقة) يـقـتربُ من مفهومنا للعـقـلِ المُجتمَعيّ، وتعبيرُ ”طفولة الذات الجماعيَّة“ تعبيرٌ مجازيٌّ طريف للدلالة على ما نُسمِّيه ”تاريخانيَّة العقل المجتمَعيّ“،30 ونقصدُ بها تراكُمات الأحداثِ والوقائع التاريخيَّة واختلاطاتها وتفاعُلاتها ومُلابساتها، التي مرَّت على ذلك المجتمع منذ أقدمِ العصور المعروفة وغير المعروفة حتَّى اليوم، والتي تشيدُ الصرحَ العظيمَ للعقلِ المُجتمَعيّ، ذلك الصرحَ الذي ندخلُه منذ طفولتِنا المُبكرة ليصبحَ سجنَنا المُؤَبَّد شئنا أم أبَينا. وتكون أُسرتـُنا أوَّلَ مَن يُزَيِّنُ لنا، أو بالأحرى يُرغمُنا على الدخول إلى ذلك السجن، لأنَّها هي ذاتُها من نُزَلائه الدائمين، فضلاً عن مُعلِّمينا وأقراننا، في الغالب. وأوَّلُ ما سنُلاحظُه، ونحن ننشأ ُ وننمو بين أسواره العالية، تلك القواعدَ والأوامرَ والتعليماتِ الكثيرة التي يتحتَّمُ علينا اتِّباعُها دون أيِّ اعتراض، لنكونَ نُزَلاءَ شُرفاءَ ومُحترمين، وإلاَّ فالعقابُ ينتظرُنا، خاصَّةً إذا انتهكنا بعضَها. وتتراوحُ هذه العقوبات، في سِجن العقلِ المُجتمَعيِّ العربيّ، بين اللَوم أو التعزير البسيط، لدى مخالفـتـنا بعض التعليمات، وبين النَّـفْيِ والتشريد (الذي يُرحِّبُ به بعضُ النُزَلاء، أحيانًا، لأنَّه ينقلُهم إلى سجنِ ”أجنبيٍّ“ جديدٍ آخر، يعتبرونه أكثرَ رحابةً وتسامُحًا)، أو حتّى الإعدام، في حالة انتهاك بعض القواعد التي تُعتَبَرُ ذاتَ قوَّةٍ ”دستوريَّة“، ترقى على جميع الأنظمة الأُخرى. ومن أهِّمها القواعدُ المتعلِّقة بالجِنس والمرأة والسياسة والدين السائد، وخاصَّةً دين حُرّاس ذلك السجن (ونقصدُ به مفهومَهم الخاصَّ بتفسير الدين)، فضلاً عن انتـقاد زُعمائه أو الاعتراض على تصرُّفاتهم أو التدخُّلِ في شؤون إدارتهم، التي تمرَّسَ فيها هؤلاء الزعماءُ منذ عشرات السنين، هم وأبناؤهم من بعدهم، في الغالب. وفي هذا الصرح/السجن الشاسع، الذي يحتوي على حُجُراتٍ تجاوزت العشرين، يتراوحُ حجمُها بين الكبيرة والصغيرة، الغنيَّة جدًّا أو الفقيرة جدًّا، والذي بلغَ عددُ نُزَلائه حوالى 300 مليون سجين، لم يُعرَفْ ما يُسَمَّى بـ"الديمقراطيَّة"، ولكنْ قد تُستخدَم بعضُ شعاراتها لمجرَّد الزينة أحيانًا. ومن خصائص هذا السجن الرهيب والعجيب أنَّ حُرَّاسَه لا يأتون من خارجه بل من نُزَلائه الأقدمين هم وزُعماؤهم وحاشيتُهم. ومن جملة مُفارقاته الغريبة أنَّ الغالبيَّةَ الساحقةَ من نُزلائه لا تعرف، أو لا تَعي أنَّها محكومٌ عليها، بدون مُحاكمة، بالسَّجنِ المُؤَبَّد، لأنَّها ألـِـفـَتـه، بل وُلِدَت فيه. هم كالطيور التي تولَدُ في أقفاص الأَسْر، والتي لا تعرفُ للحُرِّيـَّةِ أيَّ معنًى، بل لا تستطيعُ البقاءَ على قَيد الحياة خارجَ ذلك القفَص، وتفقدُ حتَّى قـُدرتَها على الطيران.

يقول هِشام شَرابي: ”... إنَّ التربيةَ والتثقيفَ في العائلة وفي المدرسة إنَّما يهدفان إلى قَولبة الفرد على النحوِ الذي يُريدُه المجتمَع.“31

في مِثل هذا المناخ المشحون بالمُسَلَّمات، لن يبقى للإنسان سوى اتِّباعِ الاتِّباع لأنَّه لا يملكُ غيرَه، بل يُدافعُ عن الاتِّباعِ باعتبارِه غايةَ الإبداع.

تأصيلُ العقلِ المُجتمَعيّ

إنَّ هذه المُسلَّمات، التي تُمثِّلُها القِيَمُ والمعتقداتُ والعاداتُ والتقاليد (أي العقل المُجتمَعيّ)، تُعتبَرُ من الأمور المألوفة لدينا ولدى جميع الشعوب تقريبًا بما فيها المجتمعاتُ المتقدِّمة. وهي تعودُ، على الأرجح، إلى أُصولٍ تاريخيَّةٍ معروفةٍ أو مُفترَضة، سحيقةٍ في القِدَم أحيانًا. فهي معروفةٌ إلى حدٍّ ما من الآثار القليلة المتخلِّفة عن العصرِ الحجَريِّ القديم. ومن الدراسات الأنثروبولوجيَّة المتعدِّدة32 التي أُجرِيَت على المجتمعات البدائيَّة، من أمثال سُكَّانِ أُستراليا الأصليِّين وبعض مجتمعات أواسط إفريقيا وقبائل الهنود الحُمر في الأمريكتَين، الذين حافظوا على أُسلوب حياتهم خلال آلاف السنين.

ويُـفـترَضُ، استنتاجًا من هذه الدراسات، أنَّ الإنسانَ القديَم الذي عاش منذ أكثر من مليون عام كان يشعرُ أنَّه مُحاطٌ بالعجائب والألغاز والأخطار. فكانت الظواهرُ الطبيعيَّة، التي نعتبرُها اليوم عاديَّةً ومُفَسَّرة علميًّا وعَمليًّا—مثل المطر والرعد والعواصف والبراكين، بل النجوم والقمر والشمس—تبدو ألغازًا لا يعرفُ لها تفسيرًا. ومنذ ذلك الحين، لابدَّ من أن يكونَ قد ظهَر، بين أفرادِ القبيلة أو القبائل البدائيَّة، عددٌ من الرُوَّادِ (المُبدِعين) الذين تميَّزوا بخيالهم الخَصب ونظرتهم الثاقبة، فابتكروا تفسيراتٍ مُعيَّنة ”معقولة“ (أي ما يُسمَّى اليوم بالفـَرضيَّة) لهذه الظواهر. وشكـَّـلـَت هذه المحاولةُ الخُطوةَ الأُولى للتقرُّبِ نحو اكتشافِ أسرار هذا العالَمِ الذي لا نزالُ نلهثُ وراء فَكِّ أسراره المُستعصِية على الرُّغم مِمَّا وصلنا إليه من تقدُّمٍ وتحضُّر.33 فتصوَّرَ هؤلاء الرُوَّادُ أنَّ هذه الظواهرَ تُمثــِّـلُ كائناتٍ حيَّة فوق طبيعيَّة أو ”آلهةً“ منها المُسالِمُ المفيد، مثل النجوم والقمر والشمس والنجوم،34 ومنها العنيفُ الذي يغضب، مثل آلهةِ العواصف الرعديَّة والأعاصير المُدمِّرة والبراكين التي تفتكُ بأفراد القبيلة، والتي يجبُ إرضاؤها بالتودُّد إليها بتقديم الأضاحيّ.35

ولا تزال بقايا بعض هذه العادات والعقائد راسخةً في العقل المجتمَعيّ بشكلٍ أو آخَر. ومثالهُا نَحرُ الأضاحيِّ في مُناسباتٍ مُعيَّنة ولدى تقديم النُذور إلى الأئمَّة كما هو مألوفٌ في العراق وغيرِه من البلدان العربيَّة. ولا أزال أذكرُ تلك الحادثةَ التي أثارتني في صِباي، عندما أصرَّ ”الأسطة“ (رئيس العمل)على نَحْرِ كبشٍ في قاعدة البناء لدارنا الجديدة، التي كانت في مرحلة الإنشاء، تجنـُّـبا ً لسقوط الضحايا من العُمَّال، ثمَّ قام بتضريج كفِّه بدَمِ الذبيحة وطَبعِها على دعائم البناء، مع ترديدِ تعاويذَ وأدعيةٍ قائلاً ما معناه: ”إنَّ الدمَ يمنعُ الدم، وإنَّ هذه الكفَّ الدموية ستطردُ الأرواحَ الخبيثةَ من هذه الدار إلى الأبَد.“

ومع أنَّ هذه المعتقداتِ ”الاتِّباعيَّة“، الآتية من بُطون التاريخ القديم أحيانًا، راسخةٌ أكثر في العقل المُجتمَعيّ للشعوب النامية أو المتخلـِّـفة، فإنَّها تلحقُ كذلك العـقـلَ المُجتمَعيَّ للشعوب المتقدِّمة أحيانًا. وكمثالٍ على ذلك نورِدُ أُصولَ إيمانِ مُعظم الأشخاص، في الغرب عامَّةً، بتأثير النجوم على حياة الإنسان. وفي كتابه المُعَنون ”الموجَزُ في التاريخ“، يورِدُ أيج. جي. ويلز أنَّ بعض الشعوب كانت تعتقدُ أنَّ النجومَ تـُمثــِّـلُ مخلوقاتٍ تنظرُ إليها بعيونٍ مُشِعَّة.36

ولا شكَّ بأنَّ هذه تصوُّراتٌ شعريَّة رائعة تـفـتـَّـقَت عنها عقولٌ مُبدِعة، كما إنَّها معقولةٌ إلى حدٍّ بعيد، في إطارها التاريخيِّ المعيَّن. وربَّما كانت هذه هي البداياتِ الأُولى لتصوُّر الأشكال التي ترسُمها النجومُ-الأبراج، مثل بُرج الحَمَل وبُرج الثَّور وبُرج السرطان وبُرج الأسد... التي أصبحت لها دلالاتٌ معيَّنة يؤمنُ بها الملايين من البشر في مختلف أرجاء العالَم، وتُخصِّصُ لها معظمُ الصحُف المعروفة مكانًا معيَّـنـًا؛ علمًا بأنَّ معظمَ هذه المعتقدات لا علاقةَ لها بالدين أو بالعِلم.

ويُلاحَظُ أنَّ قواعدَ العقل المُجتمَعيّ ترقى على قواعد الدين وتجبُّها. وكمثالٍ على ذلك القتلُ غسلاً للعار، الذي لا يزالُ مألوفًا في بعض بُلدانِنا العربيَّة. ويصلُ الأمرُ إلى تنفيذ هذه القاعدة، التي ذهبَ ضحيَّتَها مئاتُ الأُلوف من النساء البريئات، بمجرَّدِ الشُّبهة. وربَّما يعودُ أصلُ هذه العادة إلى العصر الجاهليّ حين انتشرَ وأدُ البنات بوجهٍ خاصّ: ]وإذا المَوءُودةُ سُئِلت بأيِّ ذنبٍ قُتِلت[، ]قد خسرَ الذين قتلوا أولادَهم سَفَهًا بغير عِلم.[37

وللمفهوم ”التاريخانيّ“ Historicis للعقل المُجتمَعيّ أهمِّـيَّةٌ كبيرة في هذا الميدان. فالعقلُ المُجتمَعيُّ الذي يتكوَّنُ تاريخيًّا بمرور الزمن، يتأثـّرُ بانطباعاتٍ مُعيَّنة أكثرَ من انطباعاتٍ أُخرى. فمع أنَّه يحملُ تركةَ التاريخ الطويل الذي مرَّ فيه ذلك المجتمع، فإنه يكون انتقائيّـا ً في اختيارِ بعض الأجزاء أكثرَ من أجزاء أُخرى. فضلاً عن أنَّ الفتراتِ التاريخيَّة اللاحقة قد تُغطِّي على فتراتٍ تاريخيَّة سابقة أحيانًا، رهنًا بمدى تأثُّره بكلِّ فترةٍ وكلِّ حدَث. ويُشبهُ هذا، إلى حدٍّ بعيد، حالَ الفردِ العاديّ، الذي تتأثَّرُ سلوكيَّاتُه بأحداثٍ معيَّنة أكثرَ من أحداثٍ أُخرى، تبَعًا لأهمِّـيَّةِ الحدَث بالنسبة له.

ويبدو أنَّ المجتمعَ العربيَّ الحديثَ مُتأثِّرٌ بالفترة المُظلمة أكثرَ من تأثُّرِه بالفترة الحضاريَّة التي سبقَتها، كما إنَّه مُتأثِّرٌ بمرحلة البداوة القديمة أكثرَ مِمَّا هو مُتأثِّرٌ بمرحلة الزراعةِ فالحضارةِ التي أعقبَتها، كما سيأتي شرحُه في الحلقةِ التالية. وفي كلا الفترتَين يكون العقلُ الاتّباعيُّ هو السائد.

العقلُ المُجتمَعيُّ والحضارة

ويختلفُ العقلُ المجُتمَعيُّ باختلافِ المجتمعات. فكلُّ مجتمَعٍ يحملُ عقلَه الخاصَّ المُتميِّز عن عقول المجتمعات الأُخرى. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ يترتَّبُ مباشرةً على اختلافِ المسيرةِ التاريخيَّة لكلِّ مجتمع. لذلك يُمكنُ القولُ إنَّ هناك عقلاً مُجتمَعيًّا عربيًّا وعقلاً مُجتمعيًّا غربيًّا وعقلاً مُجتمعيًّا صينيًّا أو هنديًّا إلخ. ومن جهةٍ أُخرى، يتطوَّرُ المجتمعُ حضاريًّا بتطوُّرِ العقلِ المُجتمَعيّ، كما يتطوَّرُ العقلُ المُجتمَعيُّ تِلقائيًّا بتطوُّرِ الحضارة. والعلاقةُ بينهما مُتبادَلة ومُتفاعِلة. ولكن هل هناك سابقٌ ولاحق؟ أي أيُّهما أسبقُ ظهورًا، تطوُّرُ العقلِ المُجتمَعيّ أم التطوُّرُ الحضاريّ؟ وإذا كان ظهورُ تطوُّرِ العقل المُجتمَعيّ أسبق، فهل يُمكنُ أن يبدأَ ذلك قبل ظهور بوادرِ التطوُّر الحضاريّ؟ وإذا كانت بوادرُ التطوُّر الحضاريِّ أسبق، فكيف يُمكنُ أن تنشأ أصلاً دون وجودِ عقلٍ مُجتمَعيٍّ مُتسامِحٍ على الأقلّ، أو مُلائمٍ يسندُها؟ وسَعيًا لِكَسرِ هذه الحلقة المُفرَغة (الدور)، هل يصحُّ القولُ بأنَّ العقلَ الفرديَّ الفاعِل (المُبدِع)، الذي قد يظهرُ لدى نُخبةٍ مُعيَّنة من الأشخاص، في زمانٍ ومكانٍ مُعيَّنَين، هو الذي يشرعُ بكسر تلك الحلقة اللعينة بالتمرُّد على العقلِ الفرديِّ المنفعِل أوَّلاً، ثَّم على العقلِ المُجتمَعيِّ السائد، الأمرُ الذي يُؤَدِّي إلى بَعثِ الحركةِ في عجلةِ التطوُّرِ الحضاريّ، وهذا يُسفِرُ بدَوره عن تطوير العقل المُجتمَعيّ؟

(نحن هنا نُحاول أن نتلمَّسَ بوادرَ تحرُّكِ العقل الفاعِل لدى نُخبةٍ من المُثقَّفين العرب، للتمرُّد على العقلِ المنفعِل وبالتالي على العقل المجُتمَعيّ الاتِّباعيّ السائد، لِبَعثِ الروح في حركةٍ حضاريَّةٍ مُستقبليَّة.)

وتقودُنا علاماتُ الاستفهام المهمَّة هذه إلى طرح تساؤلاتٍ أخطر، ذاتِ صِلةٍ وثيقةٍ بموضوعنا؛ منها:

- ما الذي يُحدِّدُ المسيرةَ التاريخيَّةَ لمُجتمَعٍ ما؟

- ما هي العواملُ الأساسيَّةُ الحاسمة التي تجعلُ المسيرةَ التاريخيَّةَ لمجتمعِ ”أ“ تختلفُ عن مثيلتِها لدى المجتمع ”ب“؟ ولماذا تسيُر بعضُ المجتمعات في طريق التقدُّم والحضارة، وتبقى مجتمعاتٌ أُخرى محافظةً على حياتها البدائيَّة منذ آلاف السنين حتَّى يومنا هذا؟ ومُجمَلُ القول: ما هي عواملُ ظهورِ الحضارة وازدهارِها، ثمَّ تدهورِها وانحطاطِها؟

وتُدخِلُنا هذه التساؤلاتُ في فلسفةِ التاريخ وتأصيلِ الحضارة وأسبابِ ظهورها وتقدُّمِها وازدهارِها وتدهورِها، وهو أمرٌ لا يزال مطروحًا على بساط البحث منذ وضعَ ابنُ خلدون مقدَّمتَه المشهورة حتَّى ”دراسة التاريخ“ التي وضعَها توينبي Toynbee، في أواسط القرن العشرين، مرورًا بدراسات فيكو Vico وهيغل Hegel وماركس Marx وشبينغلر Spengler وغيرهم.38

وفي هذا المقام سأسعى إلى توظيف نظريَّةِ ”العقل الفاعل والعقل المنفعِل“، في محاولةٍ متواضعة للتقرُّب نحو تفسير ظهور الحضارة وتطوُّرِها، فضلاً عن كشفِ بعضِ أوجُه الترابُط بين هذه الفرضيَّة وفرضيَّةِ ”العقل المُجتمَعيّ“، في إطار ”ثُنائيَّةِ الإبداع والاتِّباع“، موضوع البحث. وهذا ما سيكونُ مَدارُ بحثنا في الحلقةِ القادمة(الفصل السادس).

خُلاصة

شَرَعنا، في هذه الحلقة، بالردِّ على التساؤلاتِ المطروحة بشأن حالِ الأُمَّةِ الآخذِ بالتفاقـُم، إذا قارنَّاه بسرعةِ التقدُّم المُحرَز في البلدان المُصنِّعة، الأمر الذي يزيدُ من سعةِ الفجوة بيننا وبين تلك البلدان، وبالتالي من سيطرتها علينا، على الرغم من توافُر أهمِّ عوامل التنمية والتقدُّم لدينا: الثروات الطبيعيَّة والبشريَّة والنقديَّة. وذكرنا سابقًا ، ونُؤَكِّدُ، حاليًّا، أنَّ هذه العواملَ تفتقرُ إلى عاملٍ آخَرَ يُعتبَرُ الأكثرَ أهمِّـيَّةً وحَسمًا، ونعني به ”العقل“ الذي يُمكـنـُه استخدامُ العوامل الأساسيَّة السابقة بكفاءةٍ عالية. وقد يُعترَضُ على ذلك بالقول: وماذا عن العشرة ملايين خِرِّيج الذين أفرزَتهم 200جامعة؟ ألا يُمثــِّـلون ”العقل“ بأفضلِ حالاته وأحدثِ مُعطَياته!؟ فأُجيب بأنَّ المفروضَ أن يكون ذلك صحيحًا، لولا أنَّنا نُلاحظُ أنَّ معظمَ تلك العقول تظلُّ إمَّا سجينةَ ”العقل المُجتمَعيّ“ الذي يفرضُ عليها قِيَمَ ”الاتِّباع“ بدلَ انطلاقها في عمليَّةِ ”الإبداع“، أو أنَّها تبقى تُعاني ضآلةَ الإمكانات التي تُوفِّرُها لها الحياةُ الجامعيَّةُ والعمليَّةُ التي لا تُشجِّعُ على البحث والاستكشاف، سواءٌ داخلَ إطار الجامعة أو خارجها، من خلال مراكز الأبحاثِ المتقدِّمة. (يُلاحَظُ أنَّ مُعدَّلَ الإنفاق على الطالب في البلدان العربيَّة يبلغ 340 دولارًا في العام، بينما تُنفِقُ إسرائيل أكثرَ من 2500 دولار، مُقابل 6500 في البلدان المصنّعة. وتـُـنفـِقُ إسرائيل على البحث والتطوير ما يُعادِلُ أكثرَ من ثلاثين ضِعفًا مِمَّا تـُنفـِقـُه البلدانُ العربيَّة مُجتمعة (الحواشي 4 و5 و6).

وعلى نفس المستوى من الأهمِّـيَّة، يُعاني كـلّ ٌ من الطالب والأستاذ في الجامعة فقدانَ ”حُرِّيـَّةِ الفكر“ الضروريَّة لبحثِ المشاكل الاجتماعيَّة الراهنة والقادمة؛ فقد يتعرَّضُ كلٌّ منهما إلى مختلف العقوبات التي تجعلُه يُفضِّلُ السكوتَ والخضوعَ لعقله المُنفعِل (وهناك العديد من الأساتذة الذين حاولوا الخروجَ قليلاً على قواعد العقل المجتمَعيّ باستخدام عقلهم الفاعل، ومنهم على سبيل المثال: طه حسين وعلي عبد الرازق ونَصر حامِد أبو زيد، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، تأكيداً لدورهم وشجاعتهم. وقد كوفئَ هؤلاء المُبدِعون بعقوباتٍ مختلفة، بما فيها التعزيرُ أو الطَّرد من الجامعة أو الإرهاب والتهديد ”والتطليق“ والتشريد. ونحن نُشير إلى ذلك بصَرف النظر عن تأييدنا أو مُعارضتنا لآرائهم)، في حين تـُـكَرَّسُ معظمُ الجهود في الجامعات العالَميَّة لِحَفزِ الطالب أو الأُستاذ على استخدامِ عقلِه الفاعل، والتحرُّر من عقلِه المنفعِل، لأنَّ ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق الإبداع، باعتباره أهمَّ هدفٍ في التعليم الجامعيّ. وتتنافسُ الجامعاتُ المعروفةُ على نَيل قَصَبِ السَّبْقِ في هذا الميدان. لذلك فإنَّ أيًّا من جامعاتنا لم تتمكَّن من الوصول إلى الحدِّ الأدنى من مُستوى الجامعات العالَميَّة المعروفة.

وجديرٌ بالذكر أنَّ جميع تلك العقباتِ والقيود الخارجيَّة―بما فيها ضعفُ الإمكاناتِ وفقدانُ حُرِّيـَّةِ الفكر الخانقة لتَطلُّعاتِ البقيَّةِ الباقية من النُّخبةِ التي تمكَّنت من مُقاومة قِيَم ”العقلِ المُجتمَعيّ“ الداعية إلى الاتِّباع―تدخل هي الأُخرى في إطار ذلك ”العقل“ التليد الذي يفرضُ على مُعظم الساسةِ والمسؤولين والمُخطِّطين قِيَمَه المتحجِّرة وعُقَدَه المُستحكِمة وتقاليدَه الراسخة ومفاهيمَه البالية ومعاييرَه الساقطة، الأمر الذي يجعلُهم يُفضِّلون، مثلاً، إنفاقَ مئاتِ المليارات في شراء الأسلحة البائرة، التي لا تسُـتـَعملُ إلا في قـَمعِ رعاياها، بدلاً من إنفاقها على إنشاء مراكز الأبحاث والتطوير ودَعم الخِرِّيجين والباحثين، مادِّيـًّا ومَعنويًّا، في هذا السبيل.

وسنبحثُ في الحلقة القادمة (الفصل السابع) ثُنائيَّةَ الإبداع والاتِّباع مُقابل ثــُنائيَّة العقل الفاعل والعقل المُنفعِل وترابُط كلٍّ منهما مع العقل المُجتمَعيّ، كما سنتساءَلُ عن مدى مرور العرب، الذين رحلوا من أواسطِ الجزيرة العربيَّة―ومعظمُهم من البَدو―بمرحلة الزراعة، التي تصقلُ الطباعَ البدويَّة، قبل أن يستقرُّوا في البلدان المفتوحة ويأخذوا بأسبابِ الحضارةِ والتمدُّن. وما هي آثارُ هذا الانتقال المُفاجئ على مسيرةِ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة وتوقـُّـفها في مراحلِ نُمُوِّها المتقدِّمة، وهل لا تزال المُركـَّـباتُ الأساسيَّة للعقل المُجتمَعيّ البَدويّ قائمةً في العديد من المجتمعات العربيَّة، وخاصَّةً الطبقاتِ الحاكمة، الأمر الذي يُؤَدِّي إلى ضعف القرارات السياسيَّة، سواءٌ على الصعيد الداخليّ، في إطار التربية والتعليم والتنمية مثلاً―وكلُّها تُعاني أزماتٍ خانقة―أو على الصعيد الخارجيّ، حيث فشلنا في تحقيق أيٍّ من أهدافنا المطروحة، خاصة خلال الخمسين سنة الماضية.

مراجع وحواشي الفصل السادس

1. انطوان زحلان: ”العربُ وتَحدِّياتُ العلم والتِّقانة“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1999 )، ص 28. قام المؤلف بتعديل بعض الأرقام الواردة في هذا الكتاب في مقالات وبحوث نشرها في مجلة"المستقبل العربي"، ومنها تقدير عدد الجامعات الذي يرتفع باستمرار.

2. المرجع السابق، ص 24.

3. محمود عبد الفضيل: ”العربُ والتجربةُ الآسيويَّة“، (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 2000). يقدّم هذا الكتاب أرقامًا وتحليلاتٍ مهمَّة.

4. Human Development Report, 1997.،UNDP أنظر البحثَ الهامّ ”الإمكانات البشريَّة والتِّقانيَّة العربيَّة“ لنادر فرجاني، في كتاب ”العرب ومُواجهة إسرائيل“ (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية،2000)، ص 719.

5. فرجاني: المرجع الأخير، ص 728.

6. المرجع نفسه، ص 734.

7. إن احتجَّ البعضُ بأنَّ إسرائيلَ تُعتبَرُ جزءًا من الغرب، فلا تجوز المقارنة، فما بالُنا ببلدانِ ”النُّمور الآسيويَّة“ (كوريا الجنوبيَّة وماليزيا وتايلانْد وسنغافورة وتايوان)، التي كانت أكثرَ منَّا تخلـُّـفا ً في مطلع السبعينات؟ وهل يمكنُ تحميلُ ”الآخَر“، وحدَه، مسؤوليَّةَ تخلُّفِنا، بحُجَّة أنـَّه يسعى إلى السيطرة على مُقَدَّراتنا للحفاظِ على مصالِحِه الإستراتيجيَّة، فضلاً عن مصالح حُـلفائه في المنطقة؟

8. من هذه التحدِّيات انتهاكاتُ حقوقِ الشعب العربيِّ في فلسطين، والحصاراتُ المضروبة عليها، ومنها المباشرة، مثل حصار العراق والسودان وليبيا، وغير المباشرة التي منها حصاراتُ المياه والعَولمةُ والإعلامُ الموجَّه باتِّجاهٍ واحد.

9. أدونيس: ”الثابتُ والمُتحوِّل، بحث في الاتبّاع والإبداع عند العرب“، (بيروت: دار العودة، 1983).

علما إنَّ معظمَ الكُتَّاب المعاصرين يبحثون هذا الموضوع الهامّ من خلال عناوين مشابهة. أمَّا المُفكِّرون الأوائل، فإنَّهم نادرًا ما يستخدمون هذا التعبيرَ في السياق البشريّ، لأنَّ ”الإبداع“ يختصُّ بالخالق، باعتباره ”إخراجًا من العدَم إلى الوجود“، كما يقول الجرجانيّ في التعريفات. ومع ذلك فقد استُخدِمَ تعبيُر الإبداع بوجهٍ خاصّ، في مجال الشعر، فقيل ”أبدع الشاعر“0

10. أنظر الفصل الأول.

11. أبو عثمان عَمرو بنُ بَحر الجاحظ: ”البيانُ والتبيين“ (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1932 )، ج 3، الصفحتان 20 و21.

12. محمَّد عابد الجابريّ: ”تكوينُ العقل العربيّ“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 5، 1991)، ص 32.

13. الجاحظ، المرجع السابق، ص 20.

14. حسام الآلوسيّ: ”مظاهرُ ونماذجُ من العقل والعقلانيَّة في الفكر العربيِّ-الإسلاميّ: فترة ازدهاره من المشرق والمغرب“، بحث وارد في كتاب ”مكانة العقل في الفكر العربيّ“،بحوث ومناقشات الندوة الفكريَّة، المجمع العلميّ العراقيّ، (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربيَّة،1996)، ص 131 و 0132

15. عبد الرحمن بن خلدون: ” المقدَّمة“ (بيروت:دار الفكر العربيّ، 1997)، ص 421.

16. المرجع الأخير، ص 422.

17. ناجي معروف، أستاذ التاريخ في جامعة بغداد، وضع كتابَه، في عدة أجزاء، تحت عنوان ”عروبةُ العُلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميَّة“ (بغداد: مطبعة الشعب، 1974) . أنظر الفصل الأول .

18. أنظر: علي حرب: ”مُداخلات، مباحثُ نقديَّة...“ (بيروت: دار الحداثة، 1985)، وجورج طرابيشي: ”نظريَّةُ العقل، نَقدُ نقد العقل العربيّ“ (بيروت: دار الساقي، 1996)،.

19. محمَّد عابد الجابريّ: ”إشكاليَّاُتُ الفكر العربيِّ المعاصر“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 1990 )، ص 49 وما بعدها.

20. الجابريّ: ”الخطاب العربي المعاصر“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، ط 4، 1992).

21. الجابريّ: المرجع المذكور في الحاشية19 أعلاه، ص 56.

22. الجابريّ: المرجع الأخير، ص 57.

23. المرجع الأخير، ص 58.

24. انظر الفصل الثاني.

25. بَحثنا موضوعَ إعادة كتابةِ التاريخ العربيِّ الإسلاميّ في ورقة العمل الخاصَّة باقتراحِ مشروع الموسوعة العربيَّة، وفي مقال تحت عنوان ”على هامش مشروع الموسوعة، في سبيل إعادة كتابة التاريخ العربيّ الإسلاميّ“ (لندن: صحيفة "القدس العربيّ"، في 29 و30 آذار /مارس 1997).

26. الجابريّ: ”تكوينُ العقل العربيّ“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، الطبعة الخامسة 1991)، ص 46.

27. الفصل الثالث.

28. محمَّد جواد رِضا: ”العربُ والتربية والحضارة، الاختيارُ الصعب“ (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربيَّة، الطبعة الثالثة، 1993)، ص 233.

29. علي زَيعور: ”التحليلُ النفسيّ للذات العربيَّة: أنماطها السلوكيَّة والأُسطوريَّة“ (بيروت: دار الطليعة،1977)، ص 6 0

30. يُعرِّف معجم كامبريدج الفلسفة ”التاريخانيَّة“ Historicism بأنَّها المذهبُ الذي يعتبرُ المعارفَ البشريَّة تتَّسمُ بصفةٍ تاريخيَّة، كما لا يوجد منظور لاتاريخيّ لفهم الطبيعة الإنسانيَّة والمجتمع (The Cambridge Dictionary of Philosophy. General Editor, R. Audi (N. Y.: Press Univ. Camb., 1995). وبعبارة أخرى فإن أي ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تـُدرس أو تفهم إلا إذا وضعت في إطارها التاريخي.

31. w:ar:هشام شرابي:هشام شرابي: ”مقدّمات لدراسة المجتمع العربيّ“ ( بيروت: دار الطليعة، ط4،1991)، ص 21.

32. من الأعمال المهمَّة التي صدرَت بهذا الشأن كتاب ”الغصنُ الذهبيُّ الجديد Sir James Frazer. The New Golden Bough. Revised by T. H. Gaster (N.Y.: The New Amer. Lib., 1959).

33. حاولنا تفسيرَ ظاهرة إيمان مختلفِ الأفراد والمجتمعات، كثيرًا أو قليلاً، منذ أقدم العصور المعروفة حتَّى يومنا هذا بالخُرافات أو الأساطير في بحثٍ تحت عنوان: ”الإيمان بالخرافات لاكتشاف الذات وعقلنة العالَم“، نُشِر في عدَّة حلقات في الصفحة الثقافيَّة من صحيفة ”العراق“ البغداديَّة، في عام 01982

34. { فـلمَّا جَنَّ عليه اللـيلُُ رَءَا كوكبًا، قال هذا ربِّي، فلمَّا أفلَ، قال لا أُحبُّ الآفِلين. فلمَّا رَءَا القمرَ بازغًا، قال هذا ربِّي، فلما أفلَ، قال لئن لم يَهدِني ربِّي لأكونَنَّ من القوم الضالِّين. فلمَّا رَءا الشمسَ بازغة،ً قال هذا ربِّي، هذا أكبر، فلمَّا أفلَت، قال يا قوم، إنّي بريءٌ مِمَّا تُشركون} (الأنعام، الآيات 75 و76 و77). واضحٌ أنَّ هذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم، على لسان إبراهيم (ع)، تستعرض بعضَ ما كان يُعبَد حتىّ في عهده الذي يُقدَر في حوالى الألف الثاني قبل المسيح.

35. جون ديوي: ”البحث عن اليقين“، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني (القاهرة:دار إحياء الكتب العربيَّة،1960)، ص027 وهناك عدَّة مراجع تتعلَّقُ بهذا الموضوع، منها المرجع المذكور في الهامش 32 أعلاه 0

36. Wells, G. H. The Outline of History (N.Y.: International Collector Library, 1971), p. 105..

37. القرآن الكريم، سورة التكوير، الآيتان،8 و9؛ فسورة الأنعام، آية 140.

38. Feibleman, J. Understanding Civilizations (N.Y.: Horizon Press, 1975).


الفصل السابع: ثُنائيَّة الإبداعِ والاتِّباع وأزمةُ العقلِ العربيّ المُعاصِر (3)

العربُ والبداوةُ وسيادةُ العقلِ المنفعل

في مُحاولةٍ مُتواضعةٍ لاستقصاءِ وتفسيرِ فشَلِ الأُمَّةِ العربيَّة―على الرّغم من إمكاناتها المادِّيـَّةِ والبشريَّة، في مُواجهة ”الآخَر“ وتعرُّضِها للكوارثِ المُتلاحقة، فضلاً عن تدَهوُرِ أوضاعِها المُتزايد، خاصَّةً بالمُقارنةِ مع التقدُّمِ المُتسارِع الذي يُحقِّقُه ”الآخَر“، الأمرُ الذي يُؤَدِّي إلى زيادةِ سيطرته على مُقدَّراتِها―قدَّمنا ثُنائيَّةَ الإبداعِ والاتِّباع، على اعتبار ارتباط الإبداع بالتقدُّم، وارتباطِ الاتّباعِ بالتخلُّف. وخَلُصنا إلى أنَّ أُمَّـتَنا تُعاني أزمةَ إبداعٍ خانقة، كانت ولا تزال غيرَ مطروحةٍ على الصعيدَين العَمَليِّ أو النَّظَريّ على نَحْوٍ كافٍ، وبشكلٍ جِدِّيٍّ ومُكَّثٍف وصارم، بدليلِ التوسُّع في إنشاءِ الجامعات، الذي تضاعف عشرات المرات خلال النصفِ الأخيرِ من القرن الماضي، وزيادةِ عددِ الخِرِّيجين إلى أكثر من عشرة ملايين؛ ومع ذلك لم يُقدِّم الوطنُ العربيُّ أيَّ إبداعٍ خارق، على المستوى العالَميِّ في أَيٍّ من الميادين العلميَّةِ والتِّقانيَّةِ والفكريَّة. لماذا؟ ذلك ما حاولنا شرحَه في هذا البحث، حيث تعرَّضنا لثلاثِ أُطروحات: الأُولى ”نظريَّةُ العقلِ المُجتمَعيّ“ التي تُفسِّرُ لماذا ينحو ذلك ”العقل“ إلى تشجيع الإبداع في المجتمعاتِ المتقدِّمة حضاريًّا، بينما ينحو إلى تشجيعِ الاتّباع في المجتمعاتِ المُتخلِّفة حضاريًّا. وهذا ما عرَضناه في الحلقة السابقة؛ والثانية”نظريَّة العقل الفاعل والعقل المنفعِل“، حيث يقترنُ الأوَّلُ بالإبداع والثاني بالاتِّباع، من جهة، وكلاهما يقترنُ بالعقلِ المُجتمَعيّ، ويتفاعلُ معه، من جهةٍ أُخرى. والثالثة فرضيَّةُ ”عدم مرور العرَبِ بمرحلةِ الزراعة“ لدى انتقالهم من أواسط شِبه الجزيرةِ العربيَّة إلى الأطراف، منذ الفتحِ الإسلاميّ. لذلك ظلَّ العقلُ المنفعِل مُسيطرًا على الفَردِ العربيّ، وظلَّ ”العقلُ المُجتمَعيّ“ مُتأثِّرًا ومُؤَثِّرًا بذلك العقل، حتَّى العصر الحديث. وهذا ما سنُبـيِّـنُه في هذه الحلقة.

وفي أثناء طَرحِ هذه الفرضيَّات أو النظريات الثلاث، نُحاولُ التزامَ النهجِ التَّوصيفيّ والتحليليّ لتفهُّمِ الواقع، ونسعى إلى التركيزِ على تفسيرِ وتأصيلِ الحدَث/الظاهرة، ونربطُ بين أسبابِه الجَذريَّة ونتائجِه الواضحة، دون الادِّعاء بأنَّ ذلك يُمثـِّـلُ حقائقَ مُطلقة، بل إنَّها مُجرَّدُ مُحاولاتٍ للتقرُّب نحو تفسيرِ الأزمة، ودون فرضِ أيِّ ”وصاية“ على أيَّة جهة، ودون التمسك بالفكرة باعتبارها"أُقنوماً يُعبدُ" كما يقول عَليّ حَرب.(1) ومن جهةٍ أُخرى، فنحن نُدركُ تمامًا صعوبة، أو بالأحرى تعذُّر، الإمساك بجميع الأسباب المؤدِّية إلى وجود أيِّ ظاهرة اجتماعيَّة، بسبب تعدُّد تلك الأسباب أوَّلاً، وتفاعُلِها وتكامُلِها ثانيًا. لذلك فإنَّنا نُرحِّبُ بالنقد و/أو الاعتراض الذي نرى أنَّه يُثري البحث، أو قد يُسفِرُ عن إعادة النظر في بعض مضامينِه بل في أُسُسِه.وقد أكدنا ذلك في الحلقاتِ السابقةِ.


ثـُنائيَّةُ الإبداعِ والاتِّباعِ مُقابل ثـُنائيَّة العقلِ الفاعِل والعقلِ المُنفَعِل

تكثيفًا لنظريَّةِ العقلِ الفاعِل والعقلِ المُنفعِل، التي استعرضناها باختصار في الفصل الثالث، ونظرًا للعلاقةِ الوثيقة بين الإبداع والعقل الفاعل من جهة، وعلاقة الاتِّباع بالعقل المنفعِل من جهةٍ أُخرى، نوردُ هذا التعريف المختصَر الذي يقدمُ نفسَ المفهوم بعبارةٍ جديدةٍ توسِّـعُ من فهمهِ من القارئ، وتربطة بثنائية الإبداع والاتـِّباع :

العقلُ الفاعل La Raison Active هو تلك الملَكَةُ الذهنيَّةُ الفطريَّة، التي تحفزُ الإنسانَ على الاستكشافِ والتساؤل والبحث والتعرُّف والتأمُّل والتفكُّر، وبالتالي على التغيير للتحسين والتطوير أو الإبداع، بدرجاتٍ وأنماطٍ مختلفة، تبعًا لقدرات الفرد الموروثة والمكتسبة. ويتوقَّفُ تألـّـقُ هذه الملَكَة على مدى تقدُّمِ العقلِ المُجتمَعيِّ وتفتُّحِه وتحرُّرِه، كما يتوقَّفُ على مدى مُحدِّدات ذلك العقل وقيوده، ومفاهيمِه وقِيَمِه، الأمرُ الذي يُؤَدِّي، في حالةِ تفاقُمِ تلك القيود، إلى ضمور تلك المَلَكة تدريجيًّا لحساب العقل المنفعِل. هذا من جهة؛ ومن جهةٍ أُخرى، يُمكنُ أن تتوقَّفَ تلك الملَكةُ كذلك على قوَّةِ الدوافعِ الذاتيَّة الطبيعيَّة (الموروثة أو الفطريَّة على الأرجح)، التي قد تتحدَّى جميعَ العقبات وتكسرُ أشدَّ القيود التي يفرضُها العقلُ المُجتمَعيّ. وقد يصلُ بعض الأشخاص اللامعين أو العباقرة إلى هذه الدرجة بتضحياتٍ كبيرة في الغالب. ويُؤَدِّي ذلك إلى تعديل قواعد العقل المجتمَعيّ وتطويرِه، وبالتالي تقدُّمِ المجتمع وظهورِ الحضارةِ وتقدُّمِها، في الغالبِ.

أمَّا العقلُ المُنفعِل La Raison Passive فهو تلك الخصائص الفكرية التي يكتسبُها الفردُ من مُحيطِه، أو بالأحرى من ”العقل المجتمَعيّ“، ويستخدمُها في تصرُّفاتِه أو سلوكِه وتعامُلِه مع الآخرين، وفي مُوافـقـتِه ”العقلَ المُجتمَعيَّ“ بالُحكمِ على الأُمورِ بالصحَّةِ أو الخطإِ؛ أو هو مجموعةُ القواعدِ والمبادئ والمعايير والمعتقدات التي يرسمُها ”العقلُ المُجتمَعيُّ السائد“ في مكانٍ وزمانٍ مُعيـَّـنـَين، ويقتبسُها الفرد، بوجهٍ عامّ، على نَحوٍ لاشعوريّ في العادة، ويعتبرُها مبادئَه و معاييرَه ومُعتقداتِه، يُدافعُ عنها ويحتجُّ بها، بل يتحمَّسُ ويتعصَّبُ لها. وفي مجتمعٍ كهذا، تظهرُ على السطحِ عادةً فئةٌ مُعيَّنةٌ تأخذُ على عاتقِها حراسةَ ”العقل المُجتمَعيّ“ من خلال صيانةِ ”العقل المنفعِل“ وتعزيزِه. وقد تتبلورُ هذه الفئةُ وتزداد قوّة لتصبحَ سُلطةً قاهرةً ترتبطُ مصالحُها الاجتماعيَّةُ والاقتصاديَّةُ بهذه العمليَّة؛ وقد تتكوَّنُ لها امتيازاتٌ مُترابطةٌ مع الطبقةِ الحاكمة، أو تُشكِّلُ هي ذاتُها الطبقةَ الحاكمةَ أحيانًا. ومثالُ ذلك سُلطةُ الكنيسة الكاثوليكيَّة في أُوروبَّا القرون الوسطى حتى عصر الأنوار، وسُلطةُ الدولةِ الإسلاميَّة وحُرّاسِها في أعقاب الخلافة الراشدة مُباشرة، وسلطاتُ الأنظمة الشموليَّة وأتباعها، بما فيها الاشتراكيَّة والنازيَّة، وسُلطة العَولَمة والشركاتِ العابرة للقارَّات، وما يتبعُها من سُلطة الإعلام في عالَمنا المعاصِر، وسُلطةُ بعض رجالِ الدين الإسلاميِّ وأتباعِهم من السلفيين المتزمتين، في العصر الحديث، الذين نصّبوا أنفسَهم حُرَّاسًا وقُضاةً يحكمون باسم الدين على أصحاب الرأي الآخَر بالكُفر والموت أحيانًا0

ومُقابل ذلك، قد تظهر، في بعض المجتمعات، فئةٌ صغيرةٌ تسعى من خلال أفرادها إلى استخدامِ عقلِها الفاعِل للتعرُّضِ إلى العقلِ المُجتمَعيِّ السائد أو التمرُّدِ أحيانًا على ذلك العقل. وهنا تبرزُ أشكالٌ من الصراعِ المُستَـتِر أو الظاهر. ويُعتبَرُ معظمُ أجزاءِ التاريخ البشريِّ سجلاًّ لهذه الصراعات التي دارت بين الفريقَين. ويتوقـَّفُ انتقالُ المجتمعِ من حالةِ الثبات static إلى حالة الحركة dynamic على نتائجِ هذا الصراع، ويترتَّبُ عليها اتِّجاهُ المسيرةِ التاريخيَّةِ لذلك المجتمع في سبيل التقدُّمِ أو التخلُّف.

العقلُ الفاعلُ المُبدِعُ يُنشِئُ الحضارات

تساءلنا سابقًا: هل يُمكنُ القولُ بأنَّ العقلَ الفرديَّ الفاعلِ المُبدِع، الذي قد يظهرُ لدى نخبةٍ معيَّنة من الأشخاص في زمانٍ ومكانٍ مُعيَّـنـَين، والذي يشرعُ بالتمرُّد على العقل الفرديِّ المنفعِل أوَّلاً، ثمَّ على العقل المُجتمَعيِّ السائد، هو الذي يُؤَدِّي إلى بعثِ الحركة في عجلةِ التطوُّر؛ مما يُسفِرُ، بدوره، عن تطوير العقل المجتمعيِّ وإنشاء الحضارة؟

سنُحاولُ، فيما يلي، الإجابة عن هذا السؤال، للوصول إلى تحديد أهمِّـيَّةِ الإبداع في نشوء الحضارات ودور الاتِّباعِ في انحسارِها وتدهورِها، وخاصَّةً في مجال الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.

يشهدُ التاريخُ على أنَّ الحضاراتِ قد نشأَت أصلاً، على الأرجح، من جرَّاء مُبادراتٍ اضطلعَ بها أفرادٌ تمكـَّنوا من استخدام عقلهم الفاعل المُبدِع، إمَّا باختراعِ آلةٍ أو أداة تـُغيِّرُ طريقةَ حياة الناس، وإمَّا بالخروج بفكرةٍ مُبتكَرة تُغيِّرُ المفاهيمَ الراسخةَ في العقلِ المُجتمَعيّ. وبالإضافةِ إلى عقلهم المُبدِع، لا بدَّ من أنَّ معظمَ هؤلاء العباقرة، كانوا يتحلَّون بإرادةٍ مُتوثِّبة وعزمٍ راسخ. وفي هذا السياق يقول ”ويل ديورانت“ Will Durant، صاحبُ موسوعة ”قصَّة الحضارة“، في كتابه ”دروس التاريخ“، جوابًا عن سؤالٍ يتعلـَّقُ بتفسيرِ ظهور الحضارةِ في بعض المُجتمعاتِ دون مُجتمعاتٍ أخرى: بإنَّ ذلك يعتمدُ على وجود أو غياب عنصرِ المبادرةِ و وظهور أشخاصِ مُبدِعين يتحلَّون بألقِ الفكر وقوَّةِ الإرادة؛ وهذا هو تعريفُ العبقريّ، على حَدَّ تعبيِره.(2)

ومع أنَّ معلوماتِنا جدُّ قليلة عن العباقرة الذين شرعوا ببناءَ أوائل الحضاراتِ القديمة وتطويرِها، بما فيها السومريَّة والمصريَّة والأكَّدِيَّة والبابليَّة والآشوريَّة والفينيقيَّة، فإنَّ نتائجَ مُبادراتهم تظلُّ تُشكِّلُ نقاطًا مُتألِّقة تُضيءُ علينا حتَّى الآن، بما في ذلك اختراعُ العَجَلة والمِحراث، في حوالى 3500 ق م، في ما بين النهرين، وابتكارُ الشراعِ في مصر في حوالى نفس الفترة، وابتكارُ الكتابةِ والحروفِ الأبجديَّة في فينيقيا إلخ. ويمكنُ أن نعتبرَ گيلگامش گيلگامش (جلقامش) Gilgamesh من أوائل الشخصيَّات الأُسطوريَّة التي تُمثِّلُ ”المُثـقـف“، الذي يُكافحُ بعَزمٍ للبحث عن الحقيقةِ وسرِّ الوجودِ والخلود.

أمَّا إبراهيم الخليل، الذي عاش في حوالى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، فإنـَّه يُعتَبَرُ بحقّ من أوائل المُستنيرين الذين ثاروا على عقائد مجتمعِهم الراسخة، استناداً إلى الكتابُ المقدَّس والقرآنُ الكريم. وتدلُّ الآياتُ الواردة في سورة الأنعام على المحاكمة العقلانيَّة، التي جاءت على لسان إبراهيم، باستخدام عقله الفاعل لمحاسبة عقله المنفعل، قبل أن يثورَ على العقلِ المُجتمَعيّ السائد، فيصرخ في وجه قومه: ]إنِّي بريءٌ مِمَّا تـُشرِكون[ (الأنعام: 75-77) (أنظر الهامش 34 من الفصل الخامس).

وبعد ذلك، يتوالى الأنبياءُ والمفكِّرون والفلاسفةُ والعُلماء، الثائرون على مُسَلَّماتِ العقلِ المُجتمَعيّ، على اعتلاءِ مسرحِ التاريخ، لِيُنشئوا أعظمَ الحضارات المعروفة، ومنها اليونانيَّة والعربيَّة الإسلاميَّة، والأُوربيَّة الحديثة.

والأمثلةُ كثيرةٌ على الصراع الذي كان مُحتدِمًا، على مَرِّ التاريخ، بين حُرَّاسِ العقلِ المُجتمَعيّ، الذين يتمسَّكون عادةً بالاتِّباع، ورُوَّادِ العقل الفاعِل من العباقرة الذين تمرَّدوا على ذلك العقل المجُتمَعيِّ وعلى العقلِ المنفعِل، فعانَوا ما عانَوا من التنكيل والإرهاب والإحراق أحيانًا، خاصَّةً خلال فترة النهضة الأُوروبيَّة.(3)

وانتهى ذلك الصراعُ لمصلحة رُوَّادِ العقلِ الفاعل في أُوربَّا وأمريكا ثمّ في اليابان، وأسفرَ عن انطلاق الحضارة الحديثة، حيث أَصبح لرُوَّاد العقلِ الفاعل المكانةُ العُليا فيها، مهما كانت أفكارُهم مخالفةً للعقلِ المجُتمَعيّ؛ بل تطوَّرَ العقلُ المُجتمَعيُّ مع تقدُّمِ الحضارة، فأصبح أكثرَ رحابةً وقبولاً للرأي المُخالف، مهما كان قاسيًا ومُتهجِّمًا، إلاَّ إذا خالف القانونَ أو النظامَ باستعمال القوَّة.

بَيدَ أنَّ المعركةَ لا تزال محتدمةً في وطنِنا العربيّ، على الرّغمِ من أنَّ نهضتَنا الفاشلة قد انطلقَت قبل نهضةِ اليابان بخمسين عامًا على الأقلّ. ولا يزال حَمَلةُ الفِكرِ الجديد (العقل الفاعل)، المُخالِف للعقلِ المُجتمَعيّ يتعرَّضون لمختلفِ أصناف الإرهابِ والقَهر، بل التنكيلِ والمحاكمةِ والتشريدِ أو الطردِ أو الاعتداءِ أو القتلِ أحيانًا.. تُرى، هل ما زلنا نمرُّ بنفس المرحلة التي مرَّت بها أُوروبَّا، قبل أكثر من خمسة قرون، على الأقلّ؟

رابعًا- إحراقُ المراحل: أثرُ القِيَمِ البَدَويَّة في خَنقِ الإبداع

تتطوَّرُ المجتمعاتُ البشريَّة، على وجهِ العُموم، من مرحلة البداوة الأُولى- التي كان الإنسانُ القديم يعتمد، في معيشته خلالها، على جَمعِ الثمارِ والأعشابِ والجذورِ والقَنصِ والصَّيد- إلى مرحلة البداوة الثانية، حين بدأ الإنسان بتدجين بعض الحيوانات ليستفيدَ منها في الغذاءِ والكساءِ والنقل. ثمَّ ينتقلُ المجتمعُ إلى مرحلة الزراعة حين يبدأُ بالاستقرارِ في الأرضِ للفلاحةِ وإنباتِ الزَّرع.لذلك تحتَّمَ عليه بناءُ المساكن التي تجتمعُ لِـتـُشكـِّلَ قُرًى ثَّم تتوسَّعُ إلى مُدُن. وهكذا انتقلَ بعضُ المجتمعات إلى مرحلةِ الحضارة تدريجيًّا، بينما توقَّفت مجتمعاتٌ أُخرى في مرحلة سابقة.(4)

ومن المعلوم أنَّ معظمَ عربِ شِبهِ الجزيرة، قبل الإسلام، كانوا يمرُّون في دَور البداوة الثانية. وحينما انتقلوا، أو انتقلَ عددٌ كبيرٌ منهم على الأقلّ، إلى الحواضر، بعد الفَتحِ الإسلاميّ، أخذوا ثمارَ الحضارة جاهزة؛ بمعنى أنَّ الفرصةَ لم تكن مُتاحةً لهم للمرور بمرحلة الزراعة التي تصقلُ الطباعَ البدويَةَ الخشنة وتُهذِّبُها. لذلك نرى أنَّ بعضَ هذه الطباع قد لاصقَهم، ليس في القرون التي أعقَبَت ظهورَ الإسلام وحسب، بل حتَّى في يومنا هذا.(5) ونظرًا للعلاقةِ الوثيقةِ بين”العقل المجتمَعيّ البَدَويّ“ والعقل الاتِّباعيّ، الذي نفترضُ أنـَّه لا يزال سائدًا أكثرَ من العقل الإبداعيّ، في مختلف أرجاءِ الوطنِ العربيّ، لذلك سنُحاول أن نشرحَ هذه الفرضيَّةَ بالقدرِ الذي يسمحُ به المقام.

يُمكنُ اعتبارُ اكتشاف الزراعة أهمَّ عملٍ إبداعيّ حقَّقَه الإنسان، وأدَّى إلى نقلِه من مرحلةِ التخلُّف والهمجيَّة إلى مرحلة التقدُّم في السبيلِ المُؤَدِّي إلى الحضارةِ والرفاهيَّة. وقد استغرقَت هذه العمليَّةُ الانتقاليَّة عدَّةَ ملايين من السنين وفقًا للمعلومات العلميَّة التي بين أيدينا،(6) بينما بدأت مرحلةُ الزراعة التي أنبأَت عنها نتائجُ الحفريَّات الأخيرة قبل حوالى عشرة آلاف سنة فقط، في منطقة الهلال الخصيب، ثمَّ انتقلَت إلى أُوروبَّا في حوالى6500 قبل الميلاد، وإلى الجزُر البريطانيَّة في حوالى 4000 ق. م.(7) ويُمكنُ أن نُطلقَ على هذه المرحلة ”ثورة العصر الحجريّ الجديد“، لأنَّ الإنسان عاد لا ينتظرُ مِنَحَ الطبيعة، بل أصبح يحصلُ على قوْتِه من نِتاجها بجهدِه وعَرقِه. ويُمكن اعتبارُ هذه النقلة أوَّلَ خُطوةٍ أساسيَّة لتطويع الطبيعة لخدمة الإنسان.

وقد مرَّ العربُ في مرحلة البداوة الأُولى في أعقابِ العصرِ الجليديِّ الأخير، حين انحسرَ الجليدُ عن الأجزاء الوُسطى من الكُرَةِ الأرضيَّة، وأصبحت الجزيرةُ العربيَّةُ والصحراءُ الإفريقيَّة بقعةً خصبة تُغطِّيها الغاباتُ، وتسكنُها مئاتُ الأنواع من الحيوانات وجماعاتٌ من الإنسان القديم، وذلك قبل حوالى مئةِ ألف عام، كما يقول الباحثُ أحمد سُـوْسَـة.(8) وبدأ الجفافُ يدبُّ إلى هذه الأصقاع في حوالى الألف الخامسَ عشرَ ق م؛ و نتجَ عن ذلك، ندرةُ وسائلِ العيش وانتشارُ المجاعات. فقامت شراذمُ من تلك الجماعات، أو معظمُها، بالهجرةِ إلى المناطق المُعـشِـبة، قريبًا من الأنهار المجاورة للصحراء، حيث صادفَت تحدِّياتٍ قابلةٍ للمُجابهة بقُدراتٍ بشريَّةٍ معقولة، كما يُقرِّرُ المؤرخ آرنولد تُوينبي في نظريَّته المُسمَّاة ”التحدِّي والاستجابة“؛(9) فأنشأت أعظمَ الحضارات الرائدة في العالم، في كلٍّ من وادي الرافدَين ووادي النيل، بعد أن اكتشفت الزراعة وتعلَّمتها، ثمَّ مارستها خلال عدَّة آلاف من السنين، قبل أن تتطوَّر تدريجيًّا إلى مرحلة حضارية متقدمة، بعد أن تكوَّنت المدن واكتشفت الكتابة وغيرها. ولاشكَ أنَّ جميعَ عناصرِ ومظاهرِ هذا التقدم الحضاري الذي أنجزته البشريَّة حتى الفترةِ الأخيرةِ خاصة، ما كان لها أنْ تتحققَ لولا اكتشاف الزراعة وتطورها.

أمَّا الجماعاتُ التي تخلَّفَت في بطون الجزيرة العربيَّة، فإنَّها تأقلمت في هذه البيئة الجافَّة الجديدة، وكـيَّـفـَت حياتَها تبعًا لذلك، فأصبحَت شراذمَ رحَّآلةً تسعى وراء الماء والكلإِ، لتقتاتَ هي وحيواناتـُها (مرحلة البداوة الثانية).

ويُجمِعُ جمهورُ المؤرِّخين على أنَّ الحالةَ السائدةَ للمجتمع العربيِّ قُبَيلَ الإسلام كانت تتَّسمُ بالبداوة على وجه العموم.(10)

ومع ذلك كانت في الجنوب مدن صغيرة من بقايا حضارتَي الحِمْيَريِّـين والسَّبَئيِّـين، ومدنٌ صغيرةٌ أُخرى في الوسطِ الشماليِّ الغربيِّ من الصحراء؛ وكلـُّها أشبهُ ما تكون بقُرًى أو واحاتٍ كبيرة، يشتغلُ بعض أهلُها بالتجارة مثلما في مكَّة، وفي بعض الزراعة مثلما في يثرب والطائف0 وينبغي أن نلاحظَ أنَّ وجودَ بعضِ نقاطٍ حضاريَّة مُعيَّنة لا يعني إلغاءَ فرضيَّةِ سيطرةِ القِيَمِ البدويَّة على الجماعاتِ التي تعيشُ في تلك النقاط، كما شرحناها سابقًا؛ لأنَّ المركّباتِ الاجتماعيَّة، وهي بدويَّةٌ في هذه الحالة، تظلُّ ثاويةً من جهة، وتُغذِّيها القبائلُ البدويَّة المُقيمةُ والزائرةُ والمُتعاملةُ والحاجّةُ (في حالة الحَجّ إلى مكَّة) من جهةٍ أُخرى، خاصَّةً أنَّ التركيبةَ المُجتمعيَّةَ التي كانت سائدةً في تلك النقاط تتَّسمُ بطابعٍ قبائليّ واضح. مع ملاحظةِ أنَّ طبقةَ الأعراب (البَدو) كانت تُشكِّلُ خمسةَ أسداس سُكّانِ شِبهِ الجزيرة العربيَّة، كما يقول ويل ديورانت.(11) وكان الأعرابُ أكثرَ تعصُّبًا وتمسُّكًا بعقائدهم وأعرافهم الموروثة (العقل المُجتمَعيّ)؛ ولذلك لم يؤمنوا بالإسلام، في البداية، بل أسلمَ معظمُهم نفاقًا، حتَّى بعد نجاح الدعوة الجديدة. وفيهم نزلَت الآيتان: ]الأعرابُ أشدُّ كُفرًا ونفاقًا وأجدرُ ألاَّ يعلموا حدودَ ما أنزلَ اللَّـهُ على رسولِه...[(12) و]قالت الأعرابُ آمنَّا، قُلْ لم تؤمنوا ولكنْ قولوا أسلَمنا، ولمَّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم...[ (13)

وفي أعقابِ انتشار الإسلام وإنجاز تلك الفتوحات الواسعة، خلال فترةٍ قصيرةٍ من الزمن، انهالَت على المسلمين الثرواتُ من تلك البلدان. فبعد أن كان بيتُ المال في عهد الرسول يُقْدَرُ بأربعين ألف درهم، بما في ذلك الإبِلُ والخَيل، فقد انبهرَ عُمَر عندما جاءَه أبو هُرَيرة من البحرَين بخمسمئة ألفِ درهم، فاستكثرَها عُمَر وقال: ”أتدري ما تقول؟“ قال: ”نعم، مئة ألف خمس مرَّات.“ فأعلن أنَّه سيُوزِّعُ هذه الأموالَ على المُسلمين عَدًّا أو كَيلاً حسبما يشاءون. ويقول صاحبُ كتاب ”عصر المأمون“ إنَّه: ”بعد أن كان دَهِشًا من هذه الثروة أصبحنا نرى، بعد عهده بقليل، جسامةَ الهِبات مِمَّا لا تُعَدُّ هذه الأموالُ في جانبه شيءًا مذكورًا.“(14)

وتأكيدًا لذلك، ينقلُ واقعةً يُمكنُ أن نستنجَ منها حجمَ الأموال التي أصبحت في حوزةِ المسلمين في عهد الأُمَويِّـين، كما نستطيعُ أن نستنبطَ منها نظرَ مُعاوية إلى المال وإلى مبلغ استعمالِه إيَّاه، ليملكَ به ضمائرَ أهلِ المكانةِ والنفوذ من مُعاصريه: ذكرَ أن أبا منازل قال له حينما أعطاه مُعاوية سبعين ألفًا بينما أعطى جماعةً من الزُّعماء مِمَّن في مرتبته مائة ألف: ”فضحتَني في بني تميم؛ أمَّا حسَبي فصحيح، أوَ لستُ ذا سِنّ ؟ أوَ لستُ مُطاعًا في عشيرتي؟“ فقال معاوية: ”بلى“؛ قال: ”فما بالُكَ بخَست بي دون القوم؟“ فأمرَ له بتمام الجائزة، أي مائة ألف درهم.“(15)

وبالإضافة إلى ما أصاب معظمَ العربِ الفاتحين من غِنًى شخصيّ، بعد الفتوحات، تمَّتعوا بأفضلِ المناصب في الدولة.

تُرى لماذا إذًا يُمارسُ العربُ الفاتحون الفلاحة وقد أصبحوا أسيادًا، لاسيَّما وهم يستنكفون أصلاً، حتَّى حينما كانوا فُقراء، من صَغار المهنة؟ يقول الجاحظ: ”والعربُ لم يكونوا تجَّارًا ولا صُـنّاعًا ولا أطبَّاء ولا حُسّابًا ولا أصحابَ فِلاحة، فيكونوا مَهَنة.“ (16)

ولفظةُ ”الِمهنة“ نفسِها تأتي في العربيَّة من الفِعل ”مَهَن:َ مَهَـنـَه مَهْـنـَا ًوِمهنة ً، أي خدمَه؛ فهو ماهنٌ. ومَهَنَ فلانًا مَهنا ً، أي ضربَه وجهدَه. ومَهُن يمْهُن مهانة، كان مَهيْـنا ً. وأمهنَه: استخدمَه وأضعفـَه؛ والماهِن: العبد والخادم.“(17)

ولا يزال ”العقلُ المُجتمَعيّ“ لدى غالبيَّة أبناء الخليج يحتقرُ المِهَنَ ويتركُ مُمارستَها إلى الأجانب، الذين أصبح عددُهم يُقاربُ عددَ السكَّان الأصليِّـين، وقد يتجاوزُه أحيانًا. وفي هذا الصَّدَد، يورِدُ عليّ الورديّ قصَّةً طريفةً مَفادُها أنَّ الملكَ عبد العزيز آل سعود شتمَ أحدَ شيوخ العشائر البدويَّة بعبارةٍ تُعتَبَرُ مجمعَ السِّباب قائلاً له: ”يا ابنَ الصانع.“ فسمعَت بذلك زوجةُ ذلك الشيخ الأُولى والمفضَّلة، فقالت له: ”لا يمكنُ أن أُعاشرَكَ بعد اليوم لأنَّك من أبناء الصنَّاع لا من أبناء العشائر، وابنُ سعود لا يمكن أن يكذب.“(18)

لذلك يمكنُ القولُ إنَّ ذلك الانتقالَ السريع من البداوةِ إلى الحضارةِ والسيادة قد اختصرَ الطريقَ للعرب، بَيدَ أنَّه لم يتمكـَّنْ من اقتلاعِ جُذورِ القِيَمِ المتشبِّعة والمتأصِّلة في العقلِ المُجتمَعيِّ العربيّ―ومنها العصبيَّة القَبَليَّة―حتَّى بعد فترةٍ طويلةٍ من عمليَّةِ التطوُّر الحضاريّ، إلى حدٍّ انعكست فيه حتَّى على المذاهبِ والفِرَقِ الإسلاميَّة فيما بعد. وفي ذلك يقول إلياس فرَح: ”فالتعدُّديَّةُ في المذاهب والفِرَق، التي كانت نشاطًا وحوارًا ديمقراطيًّا وحيويَّةً للفكر وفاعليَّةً سياسيَّةً وتمسُّكًا بالمبادئ، ومواقفَ مُستندةً إلى خلفيَّةٍ إيديولوجيَّة، تتَّصلُ بشكلٍ أو آخر بروح الثورة، التي دبَّت في المجتمع العربيِّ منذ الإسلام، قد تحوَّلت، تدريجيًّا، من حوارٍ ومن اختلافٍ في الاجتهاد وفي المواقف إلى صراع شأنُه شأنُ العصبيَّة القَبَليَّة في الجاهليَّة التي كانت عاملَ تجزئةٍ في المجتمعِ العربيّ، تلك العصبيَّة التي أخذت بدورها تُطلُّ من جديد خلال الطَّورِ الأُمويِّ، وتأخذُ شكلَ صراعٍ سياسيٍّ بين القبائل اليمانيَّة والقَيسيَّة.“(19)

وأهمُّ من كلِّ ذلك أنَّ تلك القِيَمَ البدويَّة لا تزالُ مُعشِّـشةً في البـِنية الأساسيَّةِ للعقلِ المُجتمَعيِّ العربيّ، وتنعكسُ سَلبًا على الأداءِ العامّ، بما فيه المِهنيّ والفِكريّ، العَمَليّ والعِلميّ، الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ إلخ، وتُؤَدِّي إلى خَنقِ منابعِ الإبداعِ في جميع تلك الميادين، وبالتالي إلى زيادة التخلـُّـف عن رَكْبِ الحضارةِ الحديثة، ومن ثَمَّ زيادةِ العُمق والسعة في الفجوة بيننا وبين ”الآخَر“، الأمرُ الذي يُسفِرُ عن مُضاعفاتٍ مُتكاملة ومُتفاعلة ومُتوالدة، لعلَّ من أبرزها سيطرة ”الآخَر“على مُقدّراتنا ومصيرنا. ويجدرُ أن نلاحظَ أنَّ هذا ”الآخَر“، الذي يقفُ لنا دائمًا بالمِرصاد، يعملُ بجدٍّ لتغذيةِ هذه العصبيَّات وتشجيعها، بما فيها العشائريَّة والطائفيَّة والدينيَّة، ويسعى إلى إشعالها وتصعيدها، تحقيقًا لاستمرار هَيمنتِه السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة. وتدخلُ تلك الاعتباراتُ في معظم مُخطَّطاتِه السياسيَّة والإستراتيجيَّة الهادفة إلى تلك الهيمنة. ولنا من حروب الخليج مِثالٌ على هذه المُخطَّطات - فضلاً عن الحربِ الأهليَّة اللبنانيَّة، والحربِ الأهليَّة في السودان، والمذابح الدائرة في الجزائر إلخ - تلك المخطَّطاتِ التي يقعُ في فخِّها العربُ خاصَّةً والمسلمون عامّةً، بسبب عصبيَّتهم (بداوة)، أوَّلاً، وسذاجتهم (عقل مُجتمَعيّ مُنفعِل)، ثانيًا؛ لأنَّهم لم يفهموا حتَّى الآن قواعدَ اللعبةِ السياسيَّة.

وهناك عددٌ كبيرٌ من الأمثلة الواقعيَّة الحديثة التي تدلُّ على مدى تغلغُلِ بعض القِيَمِ البدويَّة، وخاصَّةً العصبيَّة القَبَليَّة، في كثيرٍ من الأقطار العربيَّة، ولاسيَّما في بلدان الخليج. وقد أفاض الأستاذ الورديّ في شرحها في العديد من مُؤلَّفاتِه.(20)

ونكتفي بالإشارة إلى أنَّ معظمَ الهيئاتِ الحاكمة والدائمة في بلدانٍ من أمثال دُوَلِ الخليج تنتمي إلى قبائلَ كانت قد سيطرت على سائر القبائل بالقوَّة، فأصبحَت أُسرةُ شَيخِ القبيلة هي الأُسرةَ الحاكمة. لذلك نـُلاحظُ أنَّ معظمَ المناصب الهامَّة، وخاصَّةً الوزارات، يشغلُها أعضاء من تلك الأُسرة. وحتَّى إذا نُظِّمَت انتخاباتٌ في أحد تلك البلدان، فإنَّ المنافساتِ أو الصراعاتِ تجري بين القبائل والأُسَر والطوائف، وتُقَرَّرُ نتائجُها على أساس انتماءِ الناخِب إلى عشيرةِ الُمنتخَب أو أُسرتِه أو طائفتِه، أكثر مِمَّا ُتقَرَّرُ على أساس برنامجِ المُنتخَب وإمكاناتِه.(21)

حاولنا أن نصفَ ونُحلِّلَ، بكلِّ إيجاز، ظاهرةَ انتشار الثـقافة البدويَّة (العقل المُجتمَعيّ البَدويّ)، هذه الظاهرةَ التي لا تزال مُسيطرةً على المجتمع العربيّ، بوجهٍ عامّ. ونُرجِّحُ أنَّ معظمَ مشا كلنا وأمراضنا قد نتجَت عنها بشكلٍ أو آخَر. فهي بمنزلةِ الَجذرِ من الشجرة، أو الجوهرِ من العرَض. وغالبًا ما نُعالجُ الأعراضَ وننسى معالجةَ الجذور. ومن عشرات الأمثلةِ والشواهد على تغلغُل هذه الثقافة في عقلنا المُجتمَعيّ سنُركِّزُ، بوجهٍ خاصّ، على تلك الظاهرةِ المُستشرية في جميع بلدان الوطن العربيّ، أعني بها: الوساطات (أو المحسوبيَّات).

الوَساطة، العقلُ المُجتمَعيّ، العصبيَّةُ القَبَليَّة

أتذكَّرُ أنَّني، في حداثتي، كنتُ أذهبُ بصُحبةِ والدي إلى مجلسِ أحدِ وُجَهاءِ محلـَّتِنا، فأستمعُ إلى الكبار يمتدحون مسؤولاً لأنَّه يُساعدُ كلَّ مَن يطرقُ بابَه، وخاصَّة أبناءَ عشيرته، باعتبار أنَّ الأقربـين أَولى بالمعروف، وأنَّ ”خيرَ الناسِ مَن نفَعَ الناس.“ كما أُلاحظُ أنَّهم يذمُّون آخَرَ، لأنَّه تـنكـَّرَ لأصدقائه، بل لعشيرته، بسبب عدمِ تعيينِ أيٍّ منهم في وظيفةٍ رسميَّة، ويتَّهمونه بأنَّه ”ضعيف“، لأنَّه لا يتمكَّنُ حتَّى من تعيين ”فَرّاش“ (حاجب) في الدائرة التي يُشرِفُ عليها. ثمَّ ”ينتخون“ ذلك الوجيه، بعد كلِّ هذه المقدّمات وكَيل المديح إليه، ليتوسَّطَ لهم لدى أحد المسؤولين لتعيين ذلك الشابِّ الفقير، الذي تحتاج أسرتـُه إلى العَون، بصفةِ الوجيه شيخَ المحلَّة وسيِّدَ العشيرة وصاحبَ الأيادي البيضاء، وكذا وكذا...

ولاحظتُ، وأنا أتقدَّمُ في السنِّ والخبرة، أنَّ معظمَ المراكز والوظائف كانت تُقَرَّرُ استنادًا إلى حقوق القرابةِ والانتماءِ العشائريِّ والجيرةِ والصداقةِ وعلاقاتِ النسابة، أو ”الوَساطة“ على وجه العموم. ولا يصْدقُ هذا الأمرُ على العراق وحَسب، بل يسودُ جميع البُلدان العربيَّة.

ويذكرُ الورديُّ أنَّ قبولَ الوَساطةِ وقضاءِ الحاجة، يدلُّ على مروءةِ المسؤول والتزامِه الشهامةَ العربيَّةَ وحقوقَ العصبيَّةِ والدخالة―ويقصدُ بها الاستجارة. وتُعتبَرُ ”الدخالة“ واحدةً من أهمِّ المُكوِّنات الأساسيَّة للثقافةِ البدويَّة، ويقصد بها إجارة المستجير إذا ”انتخى“ المُجير، الذي يكونُ عادةً شيخَ قبيلةٍ أُخرى، حتَّى لو كان قد ارتكب جريمة. ويكون من واجبِ المُجير أن يحميَ المُستجيرَ بأيِّ ثمَن. وكلَّما كان المُجيُر أكثرَ التزامًا وتفانيًا في حمايةِ المُستجير، أصبح أكثرَ احترامًا وسلطة.(22)

لِنُحاوِلْ تحليلَ هذه الظاهرةَ وتبيينَ أُصولِها وفروعِها، من خلال التجربة الشخصيَّةِ التي واجهتُها في مُقتبَلِ حياتي، ولاسيَّما في ضَوءِ الواقعة المذكورة أعلاه، ومدى ارتباطِها بالعقلِ المُجتمَعيّ، وعلاقتِها ببداوةِ العقل العربيّ، وتأثيرِها في المجتمعِ العربِّي الحديث ومدى إسهامِها في تخلُّفِه:

1- هؤلاء الأشخاص، الذين يطلبون الوَساطةَ من ذلك الوجيه، يُمثِّلون "العقلَ المُجتمَعيَّ" بكلِّ وضوح، ويعتقدون بإخلاصٍ أنَّهم يقومون بعملٍ نبيل وعظيم، لأنَّ فيه خيرَ الفردِ والجماعة، بل قد يكون فيه إنقاذُ أُسرة.

2- من جهةٍ أُخرى، فإنَّ ”الوجيهَ“ المذكور يشعرُ بالعزَّةِ والاحترام أمام أبناءِ محلَّتِه، وهو يقومُ بدورِ شيخِ القبيلةِ الذي عليه رعايةُ أفرادِها وقبولُ الاستجارة. يُضاف إلى ذلك شعورُه بإرضاء الله والضمير، لأنَّه ساعدَ إنسانًا ضعيفَ الحال إلخ. وهو يُلبِّي، من خلال كلِّ ذلك، بمفهومِنا، مُتطلِّباتِ ”العقل المُجتمَعيِّ البدَويِّ السائد.“

3- وعلى صعيدٍ آخَر، فإنَّ الوَساطاتِ التي تجري على مُستوياتٍ أعلى، والتي قد تشملُ مُديرين عامِّين أو حتَّى وُزراء، تدخلُ فيها اعتباراتٌ مُتعدِّدة؛ منها: الصداقة، الانتماءُ الطائفيُّ أو الدينيُّ أو العشائريُّ أو الأُسَريّ. ويُلاحَظُ أنَّ جميعَ هذه الاعتباراتِ خاضعةٌ للعقلِ المُجتمَعيّ و/ أو القِيَمِ البدويَّة السائدة. وهنا نـُذكـِّر بما سَبقتْ إليه الإشارة بأنَّ كثيرًا من الدوَلِ العربيَّةِ تحرصُ على أن تكونَ أهمُّ وزاراتها تحت إشرافِ وُزراء من الأُسرةِ الحاكمة، أو العشيرةِ الحاكمة.

4- أمَّا معيارُ الكفاءة فنادرًا ما يؤخَذُ بعين الاعتبار. وهنا تكمنُ الطامَّةُ الكُبرى، التي نَخَّـرَتْ معظمَ مُؤَسَّساتِنا وإداراتِنا الحكوميَّة بوجهٍ خاصّ، لأنَّ الكفاءةَ تُعتبَرُ الأساسَ الأوَّل المُمهِّد لعمليَّة الإبداع. يقول كاتبٌ كُوَيتيّ: ”فما من شكٍّ في أنَّ وزاراتٍ ومُؤَسَّساتٍ عِلميَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة تُعاني من ضعفٍ مُزمِن في إداراتها لِكَونِ مُحدِّداتٍ، مِثلِ القبيلة أو الطائفة أو العائلة، لعبَت الدورَ الرئيسيَّ في تشكيل قياداتها.“(23)

في كتابه الهامّ ”صراع الدولة والقبيلة“ يُشيرُ محمَّد جواد رِضا إلى ”المحسوبيَّة“ باعتبارها ضدًّا للكفاءة، ويقول إنَّها ”سليلةُ القبيلة“، وتُمثِّلُ ”تدبيرًا اجتماعيًّا تُصبحُ بموجِبِه حقوقُ الإنسان مُرتبطةً بعلاقاتِه الاجتماعيَّة أو أصلِه الاجتماعيّ.“ ويُضيف أنَّ المجتمعَ العربيَّ، بما فيه الخليجيُّ المُعاصِر، ”لا يزال يهدرُ حقوقَ الإنسان، الذي لا سندَ له من قوَّةٍ اجتماعيَّة أو قَبَليَّة.“ كما يذكرُ عدَّةَ تناقُضاتٍ تُنخِّرُ جسمَ المجتمعِ الخليجيّ؛ منها: ”التقليدُ (الاتِّباع) ضِدًّا للإبداع، والقبيلة ضِدًّا للتعاقُد الاجتماعيّ، والمحسوبيَّة ضِدًّا للكفاءة الفرديَّة.“(24)

وقد يُقالُ إنَّّ الوَساطاتِ موجودةٌ في جميع البلدانِ بما فيها المتقدِّمة، ومنها الولاياتُ المتَّحدة. فأقول: نعَم، هذا صحيح، وليست بعيدةً عنَّا واقعة ”مونيكا لوينسكي“ التي توسَّطَ لها الرئيسُ الأمريكيّ، بيل كلينتون، للحصول على عمَل، بُحكمِ علاقتِه المعروفةِ بها. غير أنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين أن تكونَ الوَساطةُ سائدةً لدَينا باعتبارها قاعدة، وأن تحدثَ لديهم على سبيل الاستثناء، والتعرُّض للمحاسبة أو العقاب أحيانًا، كما حدثَ فعلاً في هذه الحالة الأخيرة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ مِعيارَ الكفاءةِ يظلُّ مُعتبَرًا كأساسٍ أوَّل، حتَّى في حالة الوَساطة. ومُقابل ذلك فإنَّ في بلدٍ مِثلِ الولايات المتَّحدة مثلاً، يتوافرُ أشخاصٌ مُتخصِّصون في اصطيادِ الأدمغة Heads Hunters، يتركَّزُ عملُهم على اصطيادِ العقولِ الكبيرة، وتقديمِ العُروضِ المُغرية لأصحابِها، لتوظيفِهم في مراكزَ أفضل، وبمُرتَّباتٍ أعلى.

ملاحظاتٌ ختاميَّة

1- إنَّ الفشلَ الذي مُنِيَ به العربُ في مُواجهةِ ”الآخَر“، يعكسُ، إلى حَدٍّ بعيد، فشلَهم في مُواجهةِ ”الأنا“: في فهمِها وتحليلِها بصراحةٍ وإخلاصٍ وموضوعيَّة؛ وهذا ما حاولنا أن نُحقِّقَ بعضَه في الصفحاتِ القليلة السابقة. لذلك نودُّ أن نُؤَكِّدَ، مُجدَّدًا، أنَّنا لا نتوقع وضعَ الحلول، بقدرِ ما نسعى إلى الإسهامِ في إلقاءِ قَدرٍ من الضوء على الظاهرة الإشكالية، أي تشخيصها أولا ً، باعتبار أن تشخيص الداء يمثل الخطوة الأولى والأساسية لوصف الدواء.

2- إنَّ الاعتزازَ بالذات (هُويَّتِنا، شخصيَّتِنا، تُراثِنا، حضارتنا)، لن يتحقَّقَ عن طريق التبجُّحِ الفارغ، الذي يدلُّ على ردَّةِ فِعلٍ غيرِ سَويَّة، أو مَرَضيـّة، ناتجةٍ عن الشعورِ بالدونيَّة الذي أساسُه الشعورُ بالفشلِ الواقعيِّ الراهن، بل يتبلورُ الاعتزازُ وينمو تدريجيًّا من خلال ”التفهُّم“ العميق لأهمِّـيَّةِ تُراثنا، لا باعتبارِه مُـتـَّـكَـأ ً لحاضرِنا، بل من أجل تحليل حاضرنا وتفكيكه، باعتباره امتدادًا لماضينا، بكلِّ ما فيه من سَلبـيَّاتٍ أو إيجابيَّات، ثمَّ إعادةِ بناءِ هذا الحاضر، لتحقيقِ مستقبلٍ أفضل.

3- نحن لا نُريد أن نتخلَّى عن تُراثِنا، أو أن نضعَه في المتاحف لمجرَّدِ ”الفرجة“، بل على العكس نرى أنَّه يجبُ أن يظلَّ مِحورًا لعملِنا الدائبِ لتفهُّمِه وهَضمِه، لا مُواصلةِ اجترارِه، واستعادةِ التنويه به، والتغنِّي بأمجاده فقط، ذلك مع الالتفاتِ إلى مدى علاقتِه بحياتِنا الراهنة، وأوصابـِنا الماثلة، ومُعضلاتِنا المُستحكِمة.

4- بصفتِنا عَربًا ومُسلمين نحن لا نعيشُ تُراثَنا الفكريَّ الَخصب، العلميَّ والأدبيَّ والفنِّيَّ والروحيّ، بقدرِ ما نعيشُ ذلك التراثَ الضارّ كنـزاعات، كانت ولا تزال، قبَليَّةً بدوية في أساسها (خاصة بين الهاشميين والأمويين)، ثَّم ارتبطَت بها نزاعاتٌ على السلطة سرعانَ ما تحوَّلَت لدينا إلى نزاعاتٍ سياسيَّة وطائفيَّة وعقائديَّة وبالتالي فكريَّة متواصلة، نُعاني مضارَّها اليوم بشكلٍ أو آخَر، سواءٌ على الصعيد العربيِّ العربيِّ أو الإسلاميّ الإسلاميّ، أو على الصعيد العربيِّ الإسلاميّ.

5- نرى أنَّ صراعَنا مع الآخَر―بما فيه إسرائيل―هو صراعٌ حضاريّ، في المقام الأوَّل. فهناك حضارةٌ غربـيَّة علمية وتكنولوجية حديثة صاعدة( كانت ولا تزال تستغل الشعوب الضعيفة لفائدتها)، وهنا حضارةٌ عربـيَّة-إسلاميَّة قديمة وعريقة، ولكنَّها مُتداعية هابطة،كما يقول توينبي، وبالتالي مُتـنحِّية. وهذا ما حدثَ دائمًا حينما كانت الحضاراتُ العُظمى القديمة تنهار، لتحلَّ محلَّها حضاراتٌ أحدثُ وأنشط.

6- لا يمكنُ إحياءُ هذه الحضارة، أو إنقاذُها، عن طريق الدعوةِ إلى ما كانت عليه قبل خمسةَ عشرَ قرنًا مضَت، فهذا معناه رجوع إلى الخلف، وعقاربُ ساعةِ التاريخ لن تعودَ إلى الوراء مطلقًا؛ فلم يحدثْ في التاريخ أن استعادت حضارةٌ ما مجدَها القديمَ بالعودةِ إلى الماضي. بل أعادت بعضُ الشعوب مجدَ حضارتها من خلال اقتباسِ نهجٍ جديد، مُستفيدةً من آخِرِ ما توصَّلت إليه الحضارةُ الحديثة من عِلمٍ وتكنولوجيا وفلسفة وفكر، كما حدثََ في اليابان، وكما يحدثُ الآن في بلدان النُّمورِ الآسيويَّة، مثلاً. وهذا ينطبقُ على الحضارة الغربـيَّةِ الحديثة التي لم تُحاول استعادةَ مجدِ حضارتها اليونانيَّة الرومانيَّة كما هي، بل اقتبسَت آخِرَ ما توصَّلَت إليه الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّة، واستمزجَتها بالتراثِ اليونانيِّ العريق، خاصَّةً في مرحلتِها الأُولى، ثمَّ انطلقَت في ”الإبداع“، في المرحلة الثانية، لتتجاوزَ تُراثـَها وتُراثـَنا، وتصلَ إلى ما وصلَت إليه اليوم.

7- ”الإبداع“ هو المِحورُ الأساسيُّ الذي يدورُ حولَه أيُّ تقدُّم. فمراجعةُ التُراث أو إحياؤُه لا يتمُّ بإعادة ”اتِّباعه“، بل بإعادة ”إبداعه“. والانطلاقُ مع مَسيرةِ الحضارة القائمة لن يكونَ بنَقلِ أو استنساخِ نموذجِها كما هو، بل بـ”إبداع“ وسائلَ مُبتكَرة لاستمزاجها بثقافتنا، وتَبْـيِـئـتِها لظروفنا وتربتـِنا، ثمّ الانطلاق، بعد ذلك، إن جاز التمنِّي، إلى إبداعاتٍ خارقة تتجاوزُ جميعَ المُنجزاتِ الأُخرى. (والواقعُ يُثبِتُ أنَّ العقلَ العربيَّ لا يقلُّ شأنًا عن غيره، إن تهيَّـأَت له الظروفُ المُؤاتية للإبداع. ويدلُّ فوزُ أحمد زُوَيل بجائزة نوبل في الكيمياء على ذلك؛ فضلاً عن وجود مئات الآلاف من العربِ المتفوِّقين والمتميِّزين في مختلف المُؤَسَّساتِ العالَميَّة المعروفة في المهجر.)

8- ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ الانطواءَ على الذاتِ والانعزالَ عن العالَم والإصرارَ على العودةِ إلى الماضي (اتِّباع)، كَرَدِّ فِعلٍ مباشر للإحباط الذي نُعانيه اليوم، هو في الواقع اعترافٌ بانكسارِ هذه الأُمَّة واستسلامِها للانهيار الكامل. هذا بالإضافة إلى أنَّنا سنُصبح، في هذه الحالة، لقمةً سائغة لاستغلال ”الآخَر“ إيـَّانا، بل سيطرتِه التامَّة على مُقدَّراتنا، واستعبادِه أهلنَا، ونَهبِه ثرواتِنا وأراضينا. وفي مقابل ذلك، فإنَّ الانتقالَ من واقعِ الانفعال (الاتِّباع/العقل المنفعِل) إلى واقع الفِعل (الإبداع/العقل الفاعل) يُشكِّلُ العاملَ الحاسمَ الذي يُمكنُ أن يُنقِذَ هذه الأُمَّة من هذه الغَمَّة.

9- الواقعُ الذي يعيشُه الوطنُ العربيُّ اليومَ لا يبعثُ كثيرًا على التفاؤل؛ فنحن، أوَّلاً، نُواجهُ خصمًا مُتطوِّرًا من جهة، ومُتطلِّعًا إلى استغلال واستنزاف ثرواتنا الطبيعيَّة والبشريَّة، بما فيها النفطُ والمياه، والأيدي العاملة الوافرة والرخيصة، والسوق التجاريَّة التي تتألَّف من 300 مليون مستهلك إلخ، من جهةٍ أُخرى؛ ونحن، ثانيًا، نُعاني التشرذمَ بل التمزُّقَ والفساد، والاستئثارَ بالسلطة، والاستبداد والحرمانَ من الحرِّيـَّاتِ الأساسيَّة؛ ونحن ثالثًا، نُعاني التخلُّفَ، بما فيه الفقرُ والأُمِّـيَّة والجهل الذي لا يلحقُ العامَّةَ فقط، بل قد يشملُ معظمَ ”المتعلِّمين“، بل كثيرًا من الخرِّيجين، بدليل أنَّ هذا الجيشَ الذي نفَثَـته الـ 200 جامعة(قرابة 12مليون)،لم يُقدِّم أيَّ عطاءٍ علميّ أو تِقنيّ خارق على الصعيد العالمَيّ، لا للبشريَّة ولا لأبناء وطنه.

10- أما ما سُميَّ بالصحوةِ الإسلاميَّة فيرى بعض من المفكرين ومنهم الجابري أنها لا تفي بنظره" بما هو مطلوب من المسلمين في هذه الظروفِ التي تتحداهُم فيها الحياةُ المعاصرةُ بمختلف مظاهرهِا وتعقيداتِها.لأنَّ الصحوةَ انفعالٌ لا فعل، والمسلمونَ محتاجونَ بل مطالبون بالفعلِ وليس بمجردِ الانفعالِ."(25) وهذا ما عبَّرنا عنهُ في غضونِ بحثنِا السابقِ من خلالِ نظريَّة العقلِ الفاعلِ والعقلِ المنفعلِ.

وفي الصفحة التالية نَعرِضُ مخططا يُقربُ للقارئ علاقة الإبداع بالتقدم والاتباع بالتخلف.


النموذج ( أ )



الإبداع

  • العقل المجتمعي المنفتح


  • العقل المجتمعي المنغلق


التخلف الحضاري


  • الاتباع


  • العقـل المنفعل


مخطط إيضاحي لحلقتين: إحداهما سعيدة لأنها تبدأ بالعقل الفاعل والأخرى بليدة لأنها تنطلق من العقل المنفعل.

العقل الفاعل


التقدم الحضاري


تنطبق هذه الحلقة على المجتمعات المتقدمة


إيضاحًا لِما جاءَ في البحث، إلى القارئ المُخطَّط أعلاه. ويَظهِرُ في النموذج (أ) الترابُطُ المُتبادَل بين العقلِ الفاعِلِ والإبداعِ والعقلِ المُجتمَعيّ والتقدم الحضاري، في المجتمعات المتقدِّمة حضارًّيا وديمقراطيًّا. ويظهرُ في النموذج (ب) ما يُقابلُه من ترابُط بين العقلِ المنفعِل والاتِّباعِ والعقلِ المُجتمَعيّ والتخلف الحضاريّ، في المجتمعات المتخلِّفة حضاريًّا وديمقراطيًّا، بما فيها البلدانُ العربيَّة والإسلاميَّة، بوجهٍ عامّ.

ويُلاحَظُ من هذا المخطَّط، أوَّلاً، أنَّ كلَّ عُنصرٍ من عناصر كلِّ حلقة يُؤَثِّرُ في الآخَر ويتأثَّرُ به، على نَحْوٍ فعَّال وحاسم غالبا ً؛ وثانيًا، أَّنَّ النموذجَ (أَ) يُمثِّلُ حلقةً سعيدةً ومُتطوِّرة في سُلَّمِ التقدُّمِ لدى المجتمعات المتحضِّرة ماديًّا، على الأقل. فالعقلُ الفاعل، الذي تحمِلُه فئاتٌ متعددة، متعلـِّمَةٌ ومتميزةٌ، نتيجة تطورات تاريخيَّة معيَّـنة، تعاقبتْ مُنذ بداية النهضة الأوربية، يؤدي إلى الإبداعِ، في وَقتٍ يُشجـِعُ فيه العقلُ المجتمعيّ العام، ولاسيما الخاص، أي المُرتـَبـِط بالوسط العلميِّ أو الفكريِّ، بوجهٍ عام - يُشجع على زيادة البحث والإبداع. ويَنتـجُ عن هذه العمليَّاتِ، في إطار هذا التفاعل المتكامل والمتبادل بين هذه العناصر، محصلات إيجابية متسلسلة، تؤدي بدورها إلى زيادة الإبداع وحفز العقل الفاعل.

فخلافًا لجميع التكهُّنات التي كانت تتوقَّعُ تدهوُرَها، تتزايدُ وتيرةُ ازدهار هذه الحضارة باستمرار، حتىَّ يومِنا هذا على الأقلّ، خاصَّةً في ميادين العلوم البحت والتكنولوجيا وعلوم الفضاء والاتِّصالات والمعلومات والطبّ والاقتصاد وغيرها. والسببُ في ذلك، كما أعتقد، أنَّها، خلافًا للحضاراتِ الأُخرى التي انتهت دورةُ حياتها لأنَّها مالت نحو السكون أو التقاعُس والكسل، كما يقول ابن خلدون، فإنَّ دورةَ حياة هذه الحضارة تتجدَّدُ باستمرار، نظرًا لأنَّها قامت بإحلال الصيرورة محلَّ الثبات، والنسبيِّ محلَّ المُطلَق، والحركةِ محلَّ السكون، كما يقول رينان Renan. لذلك تعلَّمَت هذه الحضارةُ أن تحرصَ بصرامةٍ على مُواصلةِ التجديدِ والإبداع. فالتغييرُ والتطوير، كوحدةٍ مُتكاملة، يُشكِّلُ أبرزَ مُقوِّماتِها. ومع ذلك ينبغي أن لا نتغافل عن وجودِ عناصرَ سالبة قد تُنَخِّرُ كيانَ هذه الحضارة، من أمثال التلوُّث البيئيّ، وانتشار المُخدِّرات، وزيادة سعة الفجوة بين الأغنياءِ والفُقراء، على الصعيد العالمي، وهي فجوةٌ قد تُؤدِّي إلى ثورةِ المحرومين على المُتخَمين كما حدثَ لدى اجتماعات ”مُنظَّمة التجارة العالَميَّة“ الأخيرة في أمريكا وأُوروبَّا وغيرها. وفي هذا السياق نفسه يجب عدم تجاهل صراع الثقافات، وتفرد الدول الكبرى بالثروة والقوة والهيمنة، واحتكارها المعرفة، الأمر الذي أدى إلى أن يصبح عشرة في المائة من البشر يتمتعون بتسعين في المائة من الموارد البشرية، في حين يعيش تسعون في المائة منهم على العشرة في المائة الباقية . فضلاً عن وجودِ احتمالاتٍ استثـنائيةٍ للتعرُّض لكارثة طبيعيَّة، أو بشريَّة، كالتعرُّض لكارثة نَوَويَّة، تقضي على هذه الحضارة ومعظم أفراد الجنس البشري.

وثالثا فإن النموذج (ب) يُمثِّلُ حلقةً بليدةً وعنيدة، تدورُ حول مِحورِ التخلُّفِ والتَّبَعيَّة لسُلطاتٍ داخليَّة وخارجيَّة مُتزايدة، تتركَّزُ في ”العقل المُجتمَعيّ“ الخاضع للسَّلَف من جهة، وللـ”آخَر“، من جهةٍ أُخرى، على النحوِ الذي شرحناه في الفصل السابق. ويتحتَّمُ كسرُ هذه الحلقة اللعينة، لو أردنا الخروجَ من هذا الطريق المسدود، ابتداء من موضعِ القِمَّة ذاته. ونقصدُ بذلك التحوُّلَ من مُمارسة ”العقل المنفعل“ إلى مُمارسةِ ”العقل الفاعل“، من جانب بعض الذين يتميَّزون بألقِ الفكر والشجاعةِ الكافيةِ للتضحية، في سبيل إرساء عمليَّةِ ”الإبداع“ في الفكر النظريِّ والفكر العَمَليّ، التي تُشكِّلُ مِحورَ هذا البحث (أنظر، بوجهٍ خاصّ الفقرة 7 من الملاحظات الختاميَّة)، وتحويل ”العقل المُجتمَعيِّ المُنغلِق“ إلى ”عقلٍ مُجتمَعيٍّ مُنفتِح“، في سبيل الوصول إلى عتبةِ ”التقدُّمِ الحضاريّ“، ثمَّ زيادة فعَّاليَّة ”العقل الفاعل“. وهكذا تستمرُّ الدورةُ بالتعاقُبِ والتحوُّل من ”حلقةِ تخلُّفٍ حضاريّ“ إلى ”حلقةِ تقدُّمٍ حضاريّ“. ونعترف بأنَّ القيامَ بهذه العمليَّاتِ ليس بالأمرِ الميسور ابتداءً، من جهة، وهو بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الدراساتِ والأبحاثِ المتعمّقة التي بدأت بعضُ تباشيرها تظهرُ في الأُفق، من جهةٍ أُخرى ؛ كما أننا سنحاولُ في الكتابِ الثاني أنْ نُعَمِقَ البحثَ في هذه المسائِلِ الخطيرةِ. ونكرر أنَّنا لم نقصد من هذا البحث التوصُّلَ إلى حلولٍ قاطعة، بقدرِ ما كنَّا نُحاولُ إلقاءَ بصيصٍ من الضوء على بعضٍ من الإشكاليَّات التي يُعانيها مجتمعُنا العربيّ، كما ذكرنا سابقًا.

مراجع وحواشي الفصل السابع

1. أثار المُفكِّرُ علي حرب في كتابه ”أوهامُ النُخبة أو نقدُ المثقَّف“ (بيروت: المركزُ الثقافيُّ العربيّ، ط 2، 1998) قضيَّةَ ”وصاية المثقَّف“، فحمَلَ على ”الدَورِ النبَويِّ الرسوليّ، أو الطليعيّ، الذي مارسَ المُثقَّفُ من خلاله الوصايةَ على القِيَمِ العامَّة والمشتركة، المتعلِّقةِ بالحقيقةِ والحُرِّيـَّة والعدالة...“ (ص 14) وقال: ”أنا أعترفُ بأنَّني فتحتُ النارَ على المثقَّف بقدرِ ما أقدمتُ على فتحِ مِلفِّ المثقَّفين أمام النقدِ والمُساءَلة“، خاصَّّةً أنَّ ”المثقَّفَ يشتغلُ بحراسة الأفكار، ومعنى الحراسة التعلُّق بالفكرة كما لو أَّنها أُقنومٌ يُقَدَّسُ أو وَثَنٌ يُعبَد مثلُ هذا التعامُل هو مقتلُ الفكرة بالذات“ (ص11).

2. Will Durant. The Lesson of History

(New York: Simon and Schuster,1968), p. 9.

3. أنظرْ تفصيل ذلك لدى محمَّد العزب موسى: ”حرِّيـَّة الفكر“ (بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، 1979)، ص 119؛ ولويس عوض: ”ثورةُ الفكر في عصر النهضة الأُوربيَّة“ (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1987)، ص 241.

4. يمكنُ الرجوع إلى الفصل الأول لمراجعة تعريفات الحضارة. وللتذكير نورِدُ التعريفَ الذي طرحَه ويل ديورانت: الحضارةُ نظامٌ اجتماعيٌّ يُعين الإنسانَ على الزيادة في إنتاجه الثقافيّ؛ وهي تتألَّفُ من عناصرَ أربعة: المواردِ الاقتصاديَّة، والنُّظُمِ السياسيَّة، والتقاليدِ الخلُقيَّة، ومُتابعةِ العلوم والفنون. وهي تبدأُ عندما ينتهي الاضطراب والقلق.

5. طرحنا نظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة، لدى انتقالهم إلى الحضارة، لأول مرة، في بحث مسهب تحت عنوان:”نقدُ الحسِّ النقديّ عند العرب، مدخلٌ لتحليل بعض جوانب تخلُّفِنا الفكريّ“، نُشِر في صحيفة ”اُلقدس العربيّ- لندن“، في عدَّة حلقات، ابتداءً من 11/ 11/ 1996. وقد تعرضت بسببه لهجوم عنيف من بعض الكتاب. ثم قمت بالرد في نفس الصحيفة( في 21 و22/1/1997)، كما أشرت إلى ذلك سابقاً.

6. يختلفُ العُلماءُ في تحديد عُمر الإنسان على الأرض تبعًا لتعريف الإنسان وخصائصه المتميِّزة؛ فالفترةُ الزمنيَّة التي تفصلُ بين أوَّل شبيهٍ بالإنسان، المُسمَّى Ramapithecus، والإنسان العاقل homo Sapiens، تُقدَرُ بأكثر من 10 ملايين سنة. أنظر: J. Kleibl. Early Man (London: Hamlyn, 1976), p. 16.

7.أنظر المرجع الأخير ص 60و The Times Atlas of World History (New Jersey: Hammond Inc. 1984 ، ص 40.

8. أحمد سوسة: ”حضارةُ العرب ومراحلُ تطوُّرِها عبرَ العصور“ (بغداد: وزارة الإعلام،1977)، ص 70. أنظر أيضًا، لنفس الباحث: ”حضارةُ وادي الرافدَين بين الساميِّـين والسومريِّـين“ (بغداد: دار الحرِّيـَّة للطباعة، 1980)، ص 10.

9. A. Toynbee. Study of History. Abridged (New York: Portland House, 1972), p. 97.

10.p. 157. Will Durant. The story of Civilization(N.Y.: Simon and Schuster, 1950), Part IV,

11. المرجع الأخير، ص157.

12. سورة التوبة، آية 97.

13. سورة الحجرات، آية 14.

14. أحمد فريد رِفاعي، ”عصرُ المأمون“ (القاهرة: المكتبة التجاريَّة الكُبرى، 1928)، ص 2.

15. المرجعُ الأخير، ص 15.

16. ”رسائلُ الجاحظ“، ص41، نقلاً عن أحمد أمين: ”ضُحى الإسلام“، الجزء الأوَّل (بيروت: دار الكتاب العربيّ، 1933)، ص 19.

17. مُعجم ”مُحيط المُحيط“ تحت مادَّة ”مَهَن“.

18. علي الوَرديّ: ”دراسةٌ في طبيعة المجتمع العراقيّ“ (بغداد: مطبعة العاني،1965)، ص 62. وجديرٌ بالذكر أن أُعيدَ الفضلَ إلى أهله، فأُنوِّه بالمُفكِّر الورديّ، باعتباره أوَّلَ مَن نَبَّهَ إلى تفشِّي القِيَمِ البَدَويَّة في المجتمع العراقيّ، تلك الظاهرة التي شرحَها بالتفصيل في كتابِه المُشار إليه أعلاه. وأعترفُ بأنَّني تأثَّرتُ بأُستاذي الورديّ، أوَّل مَن أخذتُ عنه مبادئ ”علم الاجتماع“، في قسم الفلسفة، جامعة بغداد، فوظَّفتُ، على سبيل المثال، نظريَّتَه تلك في تحليل بعض جوانب ”العقل العربيّ“، مُضيفًا إليها فرضيَّة ”العقل المُجتمَعيّ“ وفرضيَّة ”العقل الفاعل والعقل المنفعِل“، فضلاً عن هذه الفرضيَّة الأخيرة حول عدم مرور العرَب بمرحلة الزراعة.

19. إلياس فرَح: ”مقدّمة في دراسة المجتمع العربيّ والحضارة العربيَّة“ (بغداد: وزارة الإعلام، 1979)، ص121.

20. الوردي، أنظر مثلا المرجع السابق، ص 62.

21. حامد أحمد الحمُّود: ”القبيلةُ والطائفةُ والعائلة “ (لندن: صحيفة ”الحياة“،16/6/1999)، والحمُّود كاتبٌ من الكُوَيت، شرحَ أثرَ العصبيَّة القَبَليَّة والطائفيَّة ودورَها الحاسم في تقرير نتيجة الانتخابات، والتعيين في جميع المناصب العالية والوظائف المهمَّة.

22. الوَرديّ: المرجع السابق، ص13.

23. الحمُّود، المرجع السابق.

24. محمد جواد رِضا: ”صراعُ الدولةِ والقبيلة في الخليج العربي، أزماتُ التنمية وتنميةُ الأزمات“ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1992)، ص 83-85.

25. محمد عابد الجابري:"الدين والدولة وتطبيق الشريعة "(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،1996)،ص182.


· بُنيت هذا المقالة على مُحاضرة أُلقيت في مقرِّ الأم المتحدة بنيويورك، في إطار النادي العربيّ، في عام 1995.